أمضى الخواجه نبيل حياته وهو يحدّث جيرانه في أمور الطبّ والطبخ والزراعة والصيد والحياكة والشعر والدين والعلوم والتاريخ والجغرافيا واللغات التي كان يقول أنّه يجيد منها سبعًا على الأقلّ، أمّا الموضوع الذي ادّعى أنّه ضليع به فهو علم الحساب. غير أنّه لم يحسب جيّدًا حين قرّر أن يتزوّج امرأة تخدمه في آخرته. فكانت زوجته قويّة الشخصيّة، تسخر من زوجها وتسكته حين لا يحسب لوجودها حسابًا أو حين يحاول أن يروي أخبارًا حدثت معه ولا أحد في القرية يصدّق وقوعها، وعلى هذه المبادئ ربّت أولادها وأحفادها، حتّى صار الخواجه يصمت في وجود أحد أفراد عائلته وينطلق، متى خلا له الجوّ وانفرد ببعض جيرانه، في حكايات أين منها حكايات ألف ليلة وليلة.
وكان المستمعون إلى الخواجه المتعدّد المواهب ينقلون هذه القصص وكلّ واحد منهم يضيف كلمة أو جملة أو صفة حتّى صارت روايات يتسلّى بها السامرون قرب المواقد شتاء، وتحت العرائش صيفًا، يجدون فيها متعة وطرافة لم يجدوا ما يشبههما في حكايات الزير سالم وأبي زيد الهلالي وسيرة عنترة.
قاد الخواجه نبيل مرّة مجموعة من الأولاد إلى حقل فيه صخرة ملساء قال إنّه أمضى الأشهر الأخيرة وهو يدرس تاريخها. وسألهم إن كانوا يعلمون ما هي فضحك الأولاد وأجابوا بصوت واحد: صخرة! فابتسم الرجل ابتسامة المتسامح أمام جهل الصغار، وهزّ رأسه متأسّفًا وقال في صوت عميق: هل تذكرون حكاية سندباد التي رويتها لكم وكيف وجد بيضة الرخ؟ هذه بيضة مثلها بقيت مجهولة حتّى وجدتها وأجريت عليها الدراسات وتأكّدت أنّها بيضة عملاقة، ما يعني أنّ الرخّ لم يكن طائرًا وهميًّا كما يحاول أن يوحي لكم شارحو الكتب.
وبعد أقلّ من شهر، التقت مجموعة الأولاد نفسها بالخواجه وهو يحمل حجرًا يشبه كلّ الحجارة التي يجلسون عليها تحت السنديانة أو في الحقول التي تحيط ببيوتهم الترابيّة واستغربوا منه أن ينقله من مكان إلى آخر، فصرخ به أصغرهم: هل هذه بيضة رخّ صغير؟ فأحنى الخواجه رأسه خجلاً وهو يتأمّل في الدَرك الذي انحدرت إليه مستويات الأجيال ثمّ قال في هدوء: يا أولادي هذا نيزك سقط البارحة في الحقل وكان لا يزال ملتهبًا حين وقع بالقرب منّي ولولا رحمة الله لأصابني وقتلني.
ولا يزال الناس في القرية يتناقلون إلى اليوم حكاية سفر الخواجه نبيل إلى فرنسا ثمّ إلى لندن خلال الحرب العالميّة الثانية ليعلّم الجنرال ديغول قراءة الخرائط ووضع الخطط الحربيّة، وكيف أنّ طائرة خاصّة كانت تأتي لتنقله وتعود به سريعًا قبل أن يفطن أحد إلى غيابه خوفًا على حياته، وكيف أنّه أقام مرصدًا فلكيًّا من أدوات المطبخ التي رمتها زوجته حين جدّدت أثاث البيت واتصل بمخلوقات تعيش في كواكب أخرى وشارك في أحد اجتماعات قادتهم، وكيف أنّ كلبيه " نيوتن" و"باستور" ساعداه في التأكّد من صحّة أبحاثه العلميّة حين كانا يهزّان ذنبيهما موافقين على تجربة أو فكرة. ويستعيد القرويّون في مرح كيف أكّد لهم أنّه شعر بإحدى الهزّات الأرضيّة القويّة قبل حصولها وذلك حين وقف شعر رأسه فجأة ومال نحو الجنوب الذي انتقلت منه التموجّات والذبذبات إلى قريتهم ثمّ إلى قدميه وصعدت بعد ذلك إلى رأسه. وقبل أن يتاح لأحد التشكيك في كلامه دعاهم إلى سؤال حفيدته عن الأمر إذ رأته على هذه الصورة وخافت وعلا صوت بكائها مع بدء الهزّة. طبعًا لم يذكّره أحد بأنّ حفيدته طفلة في الثانية من عمرها، فلقد كان هناك اتفاق غير معلن على ترك الخواجه يحكي ما يشاء.
لقد عاش الرجل المسكين طوال حياته في عالم آخر لا علاقة له بما يجري حوله، وكانت حكاياته الطريفة وسيلته الوحيدة لإيجاد مكانه الآمن. وعندما مات كان كلّ واحد من أهل القرية يتذكّر حكاية أضحكته أكثر من سواها إلاّ أنّهم أجمعوا كلّهم على سؤال واحد: هل كان الخواجه نبيل يصدّق حكاياته؟
وكان المستمعون إلى الخواجه المتعدّد المواهب ينقلون هذه القصص وكلّ واحد منهم يضيف كلمة أو جملة أو صفة حتّى صارت روايات يتسلّى بها السامرون قرب المواقد شتاء، وتحت العرائش صيفًا، يجدون فيها متعة وطرافة لم يجدوا ما يشبههما في حكايات الزير سالم وأبي زيد الهلالي وسيرة عنترة.
قاد الخواجه نبيل مرّة مجموعة من الأولاد إلى حقل فيه صخرة ملساء قال إنّه أمضى الأشهر الأخيرة وهو يدرس تاريخها. وسألهم إن كانوا يعلمون ما هي فضحك الأولاد وأجابوا بصوت واحد: صخرة! فابتسم الرجل ابتسامة المتسامح أمام جهل الصغار، وهزّ رأسه متأسّفًا وقال في صوت عميق: هل تذكرون حكاية سندباد التي رويتها لكم وكيف وجد بيضة الرخ؟ هذه بيضة مثلها بقيت مجهولة حتّى وجدتها وأجريت عليها الدراسات وتأكّدت أنّها بيضة عملاقة، ما يعني أنّ الرخّ لم يكن طائرًا وهميًّا كما يحاول أن يوحي لكم شارحو الكتب.
وبعد أقلّ من شهر، التقت مجموعة الأولاد نفسها بالخواجه وهو يحمل حجرًا يشبه كلّ الحجارة التي يجلسون عليها تحت السنديانة أو في الحقول التي تحيط ببيوتهم الترابيّة واستغربوا منه أن ينقله من مكان إلى آخر، فصرخ به أصغرهم: هل هذه بيضة رخّ صغير؟ فأحنى الخواجه رأسه خجلاً وهو يتأمّل في الدَرك الذي انحدرت إليه مستويات الأجيال ثمّ قال في هدوء: يا أولادي هذا نيزك سقط البارحة في الحقل وكان لا يزال ملتهبًا حين وقع بالقرب منّي ولولا رحمة الله لأصابني وقتلني.
ولا يزال الناس في القرية يتناقلون إلى اليوم حكاية سفر الخواجه نبيل إلى فرنسا ثمّ إلى لندن خلال الحرب العالميّة الثانية ليعلّم الجنرال ديغول قراءة الخرائط ووضع الخطط الحربيّة، وكيف أنّ طائرة خاصّة كانت تأتي لتنقله وتعود به سريعًا قبل أن يفطن أحد إلى غيابه خوفًا على حياته، وكيف أنّه أقام مرصدًا فلكيًّا من أدوات المطبخ التي رمتها زوجته حين جدّدت أثاث البيت واتصل بمخلوقات تعيش في كواكب أخرى وشارك في أحد اجتماعات قادتهم، وكيف أنّ كلبيه " نيوتن" و"باستور" ساعداه في التأكّد من صحّة أبحاثه العلميّة حين كانا يهزّان ذنبيهما موافقين على تجربة أو فكرة. ويستعيد القرويّون في مرح كيف أكّد لهم أنّه شعر بإحدى الهزّات الأرضيّة القويّة قبل حصولها وذلك حين وقف شعر رأسه فجأة ومال نحو الجنوب الذي انتقلت منه التموجّات والذبذبات إلى قريتهم ثمّ إلى قدميه وصعدت بعد ذلك إلى رأسه. وقبل أن يتاح لأحد التشكيك في كلامه دعاهم إلى سؤال حفيدته عن الأمر إذ رأته على هذه الصورة وخافت وعلا صوت بكائها مع بدء الهزّة. طبعًا لم يذكّره أحد بأنّ حفيدته طفلة في الثانية من عمرها، فلقد كان هناك اتفاق غير معلن على ترك الخواجه يحكي ما يشاء.
لقد عاش الرجل المسكين طوال حياته في عالم آخر لا علاقة له بما يجري حوله، وكانت حكاياته الطريفة وسيلته الوحيدة لإيجاد مكانه الآمن. وعندما مات كان كلّ واحد من أهل القرية يتذكّر حكاية أضحكته أكثر من سواها إلاّ أنّهم أجمعوا كلّهم على سؤال واحد: هل كان الخواجه نبيل يصدّق حكاياته؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق