الأحد، 28 يناير 2018

الفصل العاشر من روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا"


10 
هل يكفي أن نقول إنّ الحياة ظلمت هذه المرأة كي نكون قد أعطيناها حقّها وأنصفناها؟ ومن يستطيع أن يقول إنّ الحياة لم تظلمه؟ ولكن للظلم مراتب. وجولييت كانت مؤمنة بأنّها أعطيت مرتبة متقدّمة بين المظلومين. هي صغيرة العائلة. تركت البيت إلى المدرسة الداخليّة ثمّ إلى العمل لأنّ العائلة تحتاج بعد غياب يوسف إلى كلّ قرش إضافيّ. فحبيب على الرغم من ثرائه بسبب التهريب كان عاجزًا عن مساعدة أحد لأنّه وضع كلّ أملاكه وأمواله في عهدة زوجته التي كانت تخشى دوران دولاب الحظ مع زوجها، وبالتالي لم تكن مستعدّة للمخاطرة بأيّ قرش قد يكون سندًا لها إن قتل زوجها في عمليّات التصفية بين العصابات أو في أحسن الأحوال إن سجن لوقت طويل. بل كانت زوجة حبيب تفرض على روز مساعدتها مدّعية أنّ ما كانت تملكه أكله المحامون.
من الواضح أنّ حبيب كان يثق بالمرأة التي اختارها شريكة حياة وعمل.
إذًا، كان على جولييت أن تجد عملاً في بيروت، فكانت الخدمة في المستشفيات. وفي زمن لم تكن الشهادات مطلوبة بإلحاح بين الممرّضات، وفي بلد تفاجئه الحرب في عزّ السلم، ويحتاج إلى خدمات طبيّة ولو غير محترفة، وجدت تلك الفتاة القصيرة القامة عملاً تستفيد منه ومكانًا تقيم فيه. كانت الحياة في المستشفى بالنسبة إليها عالمًا غريبًا لا يشبه ما كانت تعرفه وتأنس إليه. وتطلّب منها الأمر وقتًا طويلاً قبل أن تألف الرائحة الغريبة التي تفوح من هذا المكان الذي تختلط فيه روائح الجراح النتنة والدم المتخثّر بروائح المطهّرات والأدوية. ومضت أشهر طويلة من الأرق وجولييت تعجز عن طرد أصوات الأنين وبكاء الأطفال من رأسها، وتشعر بالغثيان وهي تستعيد رغمًا عنها صور الجراح التي تفغر أفواهها كأنّها تريد أن تبتلعها. في كلّ يوم تكتشف مرضًا جديدًا، ومعاناة جديدة، فأخذت تعلّم نفسها كيف تقسو شيئًا فشيئًا كي تستطيع الاستمرار. ولكنّها كانت تصرّ على الاحتفاظ بابتسامة قد تخفّف من وطأة ما يعانيه المرضى وما تعانيه هي عندما تشهد على آلامهم.
ليست العلاقة مع المرض والألم هي وحدها ما طبع شخصيّة جولييت، كان شيء آخر يتكوّن داخلها وهي تشهد كيف يصير عالم المستشفيات مختبرًا لما قد يشعر به الإنسان أي ما يرغب فيه وما يهرب منه. وخلال تنقّلها بين مختلف الأقسام وصولاً إلى غرف العمليّات كانت ترى وتسمع كيف يتحوّل الجسد في لحظة من قيمة إلى هباء. في البداية آلمها أن يتعامل الأطبّاء والممرّضات مع جسم الإنسان بهذه القسوة متى غاب المريض في عالم التخدير، أو متى كان في غيبوبة. كان شيء فيها ينبئها بأنّ المريض يسمع ويعرف وعندما سيفتح عينيه ويستيقظ من البنج أو الغيبوبة سيعاتبها، لأنّها لم تدافع عنه وهو عاجز عن فعل أي شيء. وتطلّب منها أن تنظر في عيني المريض، أيّ مريض، وقتًا طويلاً، كأنّها كانت تريد أن تطمئنّ إلى أنّه لا يعرف شيئًا ممّا جرى حوله أو معه أو على الأقل ليس واثقًا ممّا جرى.
أثارت جولييت إعجاب المحيطين بها بجرأتها في التعامل مع المرض على الرغم من بساطة معلوماتها وقلّة خبرتها. بدا واضحًا للجميع أنّ تلك الفتاة تريد أن تتعلّم وتثبت جدارتها، لذلك بدأ الأطبّاء يثقون بها ويشجّعونها على دراسة التمريض ليلاً لكي تستطيع أن تترقّى في وظيفتها. غير أنّ الحياة كانت تعدّ شيئًا آخر لتلك الفتاة البسيطة الذكيّة الشجاعة، كما كان يقول عنها كلّ من عمل معها. فحين دخل عيد إلى المستشفى للمعالجة، واستدعيت جولييت لمساعدة الطبيب في تعليق المصل في يده، كانت الحرب في أبشع مراحلها، والأسرّة في المستشفيات ملأى بالجرحى، وبرّاداتها تنتظر من بقي حيًّا ليأخذ معه من مات، ولم يكن غريبًا أن يوجد بعض الأحياء بين جثث الموتى الذين لم يجدوا جوارير يخبّئون فيها عريهم وإصاباتهم، وكان كلّ حيّ يتشبّث بحيّ آخر لعلّهما معًا يقاومان الموت أو على الأقل يستفيدان من آخر لحظات الحياة.
في هذا المكان حيث يتجاور الموت مع الحياة، ويولد أطفال لا يعرفون ما ينتظرهم بعد قليل إن بدأ القصف، ويموت شبّان لا يعرفون ما سيكون مصير القضيّة التي قاتلوا من أجلها وقُتلوا بسببها، تقاطعت درب عيد الآتي من دير الصليب ودرب جولييت التي كادت تفقد صوابها وهي تنام وتصحو وتعمل في المستشفى ولا تجد مكانًا تهرب إليه في أيّام الإجازة، لأنّ الطرقات إلى البقاع خطرة أو مقطوعة، ولن تزعج وردة التي تبرمج حياتها على إيقاع حياة ناجي.


(جولييت)
"لولاي لمات كثير من الجرحى في المستشفيات التي عملت فيها. فبعدما أنقذت تلك الطفلة المصابة في ظهرها وأخرجتها من بين الجثث التي كدّست فوق بعضها نذرت نفسي للتأكّد من أنّ الذين ينقلون إلى برّاد المستشفى موتى لا مصابون غائبون عن الوعي. كانت تلك الليلة واحدة من مئات الليالي العنيفة التي لم نعد نملك أرقامًا كافية لإحصائها: ليلة من القصف المتواصل العنيف حتّى صار الواحد منّا يتمنّى لو يموت لينجو من هذا الضجيح الذي يمزّق الأعصاب ويدّمر خلايا الدماغ ويشوّه أجمل ما يمكن أن يكون عليه الإنسان. أصوات قذائف منطلقة، وأصوات قذائف تسقط، وبكاء وصراخ وأنين وسيّارات مسرعة تصل وترمي حمولتها من الأجساد الغارقة في دماء بعضها، ونحن علينا أن نحصيها ونفرزها ونرسلها إلى حيث يجب أن تكون. وفجأة صرخوا بنا:
(لا ترسلوا جثثًا أخرى إلى البرّاد، لم يعد فيه مكان. وضعنا الجثث مع بعضها ولم يعد عندنا مكان).
 كوّمنا الجثث على الأرض في زاروب بين المستشفى وحائط الحديقة المحترقة. قلنا البرد "يحميهم" في انتظار مكان لهم. بقينا طوال الليل نروح ونجيء، في البداية كنّا نوصل الجثّة ونضعها على مهل فوق غيرها، ثمّ صرنا نسرع في وضعها، ثمّ صرنا نرميها لنعود بالأغطية والأسرّة المتحرّكة لنأتي بغيرها كأنّنا إن تأخرنا حسم مبلغ كبير من راتبنا. على الأرجح أنّنا تعبنا وبردنا. تحوّلنا، جثّة بعد جثّة، آلات لا إحساس فيها ولا عاطفة. منذ زمن جفّت الدموع على قتلى الحرب.
 قبل الفجر، سيطر هدوء غريب كأنّ المقاتلين قرّروا مجتمعين أن يأخذوا استراحة، فخرجت لأدخّن سيكارة قرب الجثث المغطّاة بأغطية من لون الدم. لماذا هناك؟ لا أدري. ولكن لماذا ليس هناك؟ وخارج المستشفى كلّه حرائق وأتربة وشظايا وجثث. هناك أو هناك أو هناك. ما الفرق؟ الموت في كلّ مكان. وهناك سمعت الأنين والبكاء. لم أنتظر كي أتأكّد. ذلك لا ينفع حين يكون هناك احتمال حياة بين الجثث. رميت السيكارة وأزحت الأغطية ففاجئني الدفء المنبعث منها في تلك الليلة الشتائيّة الباردة، كأنّ الموتى يحضن بعضهم بعضًا، وهي كانت بينهم. هل أعطوها بقايا دفء خلاياهم لتنجو؟ وهل هي سعيدة الآن بنجاتها؟ لا أعلم. لم ألتقِ بها منذ زمن.
 اسمها ديمة تلك الطفلة الشتائيّة التي تحمل اسم المطر. رموها، رميناها، بين الموتى وفيها نبض حياة. أخرجتها من رحم الدفء والدم، وحملتها ونقلتها إلى الداخل. هل أنا من تسبّب بشللها النصفيّ لأنّني حملتها؟ لا أعرف. الأطبّاء قالوا لي لا، لست أنا من أصابها بالشلل بل الشظايا التي فتّتت عمودها الفقريّ ومزّقت نخاعها الشوكيّ. صدّقتهم. أراحني أن أصدّقهم. لم نعرف اسمها ومن هي إلاّ بعد يومين، حين أحصينا الجرحى والموتى واكتشفنا أنّ شقيقها قتل وأنّ والدتها تشوّه وجهها وفقدت نظرها. في حين أصيب والدها الأعمى إصابات بالغة في يديه وصدره. ماذا نسمّي ذلك؟ أهو غضب السماء أم سخريتها؟ هل من صفة لمصيبة كهذه: تتزوّج المرأة رجلاً أعمى، فلا تجد الشظايا إلاّ وجهها تدرزه درزًا فتشوّهه وتسرق منه النظر، ربّما كي لا ترى كيف صار ذلك الوجه؟ والابن الوحيد قتل، والطفلة الوحيدة شلّت رجلاها. هل من صفة لحالة كهذه؟
هذه هي الحياة التي ظننت أنّني سأنجو منها حين هربت مع عيد". 






لوحة ونصّ


هذا هو حبر "الدّيار" - حسين عبدالله - جريدة "الدّيار" الجمعة 4 أيّار 1990


هذا هو حبر "الدّيار"
        تحليل...
        هذه الكلمة الكذبة، التي تتنافس الصّحف على إقتنانها، وفرد صفحات كثيرة لها. والتي يدّعي القرّاء عمق ثقافتهم السّياسيّة بقراءتها والغوص في مجالها...
        هذه الأسطورة الواهمة التي يتلطّى خلفها الكثير من الأقلام والعديد من التواقيع المضيئة والباهتة، والتي تستنجد ب"المصادر المطّلعة" و"المصادر الحسنة الاطلاع" و "الأوساط العلميّة" و"الجهات المعنيّة" و"القيادي الذي رفض الكشف عن اسمه" و"المسؤول المعنيّ" و"الأوساط الشّرقيّة والغربيّة" و...
        كلّها تتلطّى خلف حائط الخيبة وتركّب جملاً غير مفيدة إلاّ في الصّرف والنّحو، وتوقّع المقال والسّلام...
        إذا كانت هذه هي الصّحافة... وتلك هي القمّة، وذلك هو الإبداع، وذاك هو النّجاح... والمقياس... فاسمحوا لي أن أنسحب من هذه المهنة، التي لم تكن يومًا مهنة، بل كانت محطّة على طريق الحوار الدّافئ بين الكاتب والقارئ، واسمحوا لي أن أترحّم على الصّحف وأن أستعملها كما يستعملها الفقراء في بلادي "حصيرة" عشاء أو غداء فقيرة...
        ولماذا هذه المقدّمة؟
        ولماذا هذا الهجوم على الصّحافة؟
        ولماذا هذا السّيل الجارف من الكلام والحبر المسنون؟
        لأنّني قرأت ببساطة رسالة "ميّ م. الرّيحاني" التي كانت بعنوان "لأنّنا في ديارنا ولسنا غرباء" والتي اتّضح لي من مضمونها انّنا نحن الغرباء عن "الدّيار" وعن ديار القلم والفكر والتّعب والسّهر الطّويل...
        والرّيحاني، غير الغريبة عن "ديارنا" التي بنيناها كلمة كلمة عندما كانت الصّحف ودور النّشر تباع وتشرى وتقدّم لها هبات ومساعدات ودولارات، وكانت "الدّيار" تصدر من عشرين مطرحًا، لأنّ مطرحًا واحدًا لم يكن يضمّنا أقلامًا وطاولات وتواقيع. ولأنّنا كنّا في شبه شقة نكتب على طاولات بعضنا البعض، وعلى ورق أسمر يشبه "ورق الزّجاج"، ونرسل المقالات والتّحقيقات للتّصوير والطّباعة في أكثر من مكان، ونكون تحت رحمة "الطّبّيع" ووفق مزاجه المعكّر على الدّوام، ونشهد ولادة قيصريّة كل صباح، ونعود لمرافقة المولود الجديد إلى السّوق، ونتابعه رحلة رحلة، ومكتبة مكتبة، لأنّ شركات التّوزيع كانت تتعامل مع المولود على انّه صحيفة وكنّا نتعامل معه ولا نزال على انّه المولود الجديد للنشء الجديد ونخاف عليه من لفحة برد...
        وكانت المنافسة على أشدّها...مع الصّحف التي شاخت سنًّا وتجربة، والتي صار الاكتفاء الذّاتي عنوانًا لها، والتي صارت تصدر في مكان واحد يشبه الواحة ومع ذلك... خاضت "الديار" المنافسة، والله وحده يعلم، مدى المشقة ومدى الرّهان الصّعب الذي قبله شارل أيوب وما يزال...
        أعود إلى "ميّ م. الرّيحاني"... التي بدأت نقدًا قدّمت العذر عنه في عنوان مقالتها، وكرّت كلماتها بادئة بشارل أيوب، ومنتقدة افتتاحيّاته التي وجدتها وجدانيّة "وإذا ما استمرّت على هذه الحال فستصبح تشبه كتابات حسين عبدالله التي تتنافى في رأيها مع كتابات رئيس التّحرير".
        شكرًا ل "مي" التي وجدت كتابات شارل أيوب قريبة من كتاباتي. وشكرًا أيضًا لأنّها ـ الكتابات ـ لا تستحق أن تكون مذيّلة بتواقيع رئيس التّحرير... وشكرًا أيضًا لغيرتها على "الدّيار" بالمقارنة مع "النّهار" ومع "السّفير"... وأيضًا وأيضًا على نصيحتها بأن نجعل الفهرس في الصّفحة الأولى حتى ندلّ القارئ على ترتيب الصّفحات... ولم يكن ينقص الرّيحاني إلاّ أن نقرأ الصّحيفة عن القارئ حتى لا يكلّف عناء القراءة ومشقّة تعب عينيه.
        وشكرًا على هجومها على الوجدانيّات الذي تناول جورج بكاسيني وكاد يتناول منزل جورج بشير الذي أصيب وتهدّم...
        وللمناسبة ... أقول للرّيحاني، انّ الوجدانيّات هي أسمى الأساليب في الكتابات...هي أرفعها وأصدقها على الإطلاق..
        أما التّحليل والمعلومات والمصادر المطّلعة والواسعة الاطلاع والحسنة والضّيّقة والعليمة والجاهلة... فهي مخابئ لا نتلظّى خلفها لأنّنا قرّرنا أن نشهر السّيف والقلم في وجه أمّيّة أخذت في الانتشار في هذا البلد المعطوب وتريدنا الرّيحاني أن نتلطّى خلف هذه المصادر لنذيع نشرة أخبار ملفقة ومعلومات ودردشة نبني عليها الآمال ولا تكون أكثر من تخيّلات وأوهام.
        وأعدك حضرة الكاتبة، بأن حبر الوجدان لن يجفّ من "الدّيار"... وأنّ التّحليلات السّياسيّة هي كذبة العصر، ونحن قرّرنا في "الدّيار" أن نبتعد عن الكذب ونلامس الوجدان لأن الأمم تبنى بالوجدان والقيم لا بالمعلومات والأخبار...
        ونعاهدك حضرة الكاتبة، غير الغريبة عن " الدّيار"، بأنّنا لسنا في صدد إنشاء صحيفة، إنّما في صدد بناء وطن على الورق وفي القلوب، وفي صدد زرع المحبّة على الصّفحات وفي النّفوس، وفي صدد تقديم أسئلة الوطن مع قهوة الصّباح، وفي سبيل هذا الهدف السّامي، ندعو كلّ أمّ إلى إرضاع أسئلة الوطن لطفلها، وكلّ أب إلى أخذ أولاده إلى قلق قيامة الوطن... وكلّ قارئ إلى المشاركة في رحلة البناء هذه التي لا تقتصر على جريدة وتوزيعها، والتي بدأت بتخصيص "صفحة الجنوب" حتى تحرير الجنوب، وستنتهي بتخصيص صفحاتها للوطن حتى تحرير الوطن من حدوده الهاربة إلى حبّات ترابه المعتقلة.
        حسين عبدالله
جريدة "الدّيار" الجمعة 4 أيّار 1990

* من حبر الوجدان... أهدي هذا المقال إلى "مي م. الرّيحاني" وأغلّفه بالشعر وفورة العاطفة لأنّ هذا حبرنا في "الدّيار" ولن يجفّ هذا الحبر بإذن الله.

نشرات الأخبار و"نشرة" النّاس - الجمعة 18 أيّار 1990


نشرات الأخبار و"نشرة" النّاس
مساكين مذيعو ومذيعات الأخبار في تلفزيون لبنان!...
يتعرّضون كلّ ليلة لشتائم متنوّعة تنصبّ عليهم وللعنات توجّه إليهم... وعبرهم...
وهم عندما بدأوا عملهم الإعلاميّ، كانوا يحلمون بالشّهرة وإعجاب النّاس ومحبّتهم... دون تمييز... أو بحدّ أدنى من التّمييز..
أتراهم ندموا على اختيار هذه المهنة؟
أتراهم عرفوا إلى أين سيوصلهم ظهورهم كلّ ليلة على الشّاشات الصّغيرة؟
أما كان أفضل لهم لو وضعوا "أقنعة" تقيهم سلبيّات الشّهرة... وتقلّبات السّياسة ونفاقها؟
كان أكثر أمانًا لموظّفي تلفزيون لبنان ـ فرع الشّرقيّة ـ مثلاً، لو وضعوا أقنعة تمثّل الجنرال عون... ولموظّفي المؤسسة اللّبنانيّة للإرسال لو وضعوا ـ كأقنعة ـ وجه الدّكتور جعجع.
وتبقى مشكلة موظّفي تلفزيون ـ فرع الغربيّة ـ الّذين سيحتارون حتمًا في اختيار شكل القناع الملائم لأوضاع البلد اليوم...
على كلّ حال في الحكومة الشّرعيّة وجوه حسب الطّلب، ففيها وجوه صفراء من الغيرة، ووجوه بيضاء من "الخبي". ووجوه محمرّة من الغضب...أو بسبب العافية ـ ما شاء الله ـ ووجوه باهتة لا لون لها، ووجوه تتلوّن بألف لون...
أمّا موظّفو تلفزيون المشرق فقد حسموا الأمر عندما قرّروا نزع الأقنعة عن الوجوه كلّها، ودون أن يلبسوا إحداها... حتّى الآن على الأقلّ.
على اللّبنانيّ النّاقم، اليوم، على مذيعٍ ما، والمتحمّس لمذيع آخر، أن يعرف انّ الأمر كلّه يتلخّص في راتب آخر الشّهر، المرتبط بتنفيذ الأوامر.
وهل نصدّق أنّ الأمر مجرّد رسالة وطنيّة فقط؟
ومن يستطيع تحديد الوطنيّة في خضمّ هذا الصّراع؟
ومن نسي الصّراع الإعلاميّ في بداية الحرب بين جاك واكيم وعرفات حجازي، ووفاقهما الوطنيّ في فترة من فترات الهدنة الإعلاميّة؟
ونبقى نحن المساكين... نحتار كلّ ليلة إلى من نصغي ومن نصدّق ...
متى؟... متى سنصل إلى إعلام لا "يحيّر" الإعلاميّ ولا يرهق المشاهد؟
ميّ م. الرّيحاني
الجمعة 18 أيّار 1990
"عيون بالمرصاد"


لأنّنا في ديارنا ولسنا غرباء - جريدة "الدّيار" الخميس 3 أيّار1990

شارل أيّوب

لأنّنا في ديارنا ولسنا غرباء
        حضرة الاستاذ شارل أيوب، رئيس التحرير...
        لا شكّ أن جريدة "الديار" الجديدة نسبيًا على ساحة الصحافة، قد أثبتت وجودها، وركّزت أقلام محرّريها ومراسليها مداميك على طريق ثورة الاعلام المكتوب. ولهذا، نحن القرّاء نعذر الهفوات التي ترتكب، والتجارب التي تقومون بها بغية الوصول الى شكل ومضمون يرضيان رئيس التحرير ومحرري الجريدة "ومحرريها"...
        ومع ذلك، اسمح لنا بهذه الملاحظات والاسئلة:
        اولاً: إن شكل الجريدة وتنظيم أخبارها يتغيّران كلّ يوم تقريبًا، ما يوقعنا في الفوضى ولا يقودنا الى التنويع المثمر. وهذا يجعلني اقترح أن تكتبوا "طريقة الاستعمال" كلّ صباح، وفي الصفحة الأولى لا الأخيرة.
        ثانيًا: إنّ مقالاتك يا أستاذ شارل تميل إلى الوجدانية، وتكاد تغرق في الشعر وفورة العاطفة، وإن تابعت على هذا النحو فستصل الى ما يشبه كتابات حسين عبد الله. وهذا الأسلوب يتنافى في رأيي مع عمل وكتابات رئيس تحرير الجريدة.
        هذا بالإضافة الى بعض الغموض في الأسلوب أحيانًا، وكأنّ بعض المقالات لا تخضع لمراقبة أدبيّة ولغويّة.
        ثالثًا: هل تريد أن تأكل العنب أم قتل الناطور؟
        فإن كنت تريد أكل العنب، فأكل العنب يكون حبّة حبّة  "وبسلامة فهمك". أما إن كنت راغبًا في قتل الناطور، فها أنت قد بدأت بالشدّ على "خوانيقه" وهو يكاد يقضي على يديك، ونحن لا نريد لك ذلك...
        إنّ المسيح يا أستاذ شارل أتى للمرضى لا للأصحاء. وأنت باعترافك تحت سنديانة "الديار" بانتمائك لفكر انطون سعاده صرت تتوجّه للأصحاء لا للمرضى.
        برغم تقديري لصراحتك لا بل لجرأتك التي تكاد تكون استشهاديّة في هذه الامة اسمح لي أن ألومك على هذا التسرع.
        قبلاً، كان الناس يقرأون "الديار" ويعجبون بجرأتها، فصاروا ـ إن قرأوها ـ يثورون لوقاحتها. كانوا يتأثرون بأفكارك لأنّها أفكارهم، وبثورتك لأنّها ثورتهم، ثم صاروا يستغربون ويستنكرون لأنّك تسرّب أفكارًا يسارية هدّامة.
        إن الكثيرين ممن أعرفهم تخلّوا عن قراءتها بعد اعترافك بالانتماء الفكري إلى فكر سعاده. لقد كان بإمكانك زرع ما تريد في رؤوس قرائك ولكنك تسرّعت!!
        رابعًا: وفي الإطار نفسه، ألا تلاحظ ان نسبة رسائل القوميين تلفت الانتباه، وكأنهم صاروا قراء الجريدة الوحيدين... وليس هذا المطلوب. صحيح انهم وجدوا في "الديار" منبرًا حرًا ورحبًا لم يتوفّر لهم منذ زمن، ولكنّي لم أقرأ رسالة ذات شأن لقارئ يعلن انتماءه الى فكر سعادة متأثرًا بمقالات تحت السنديانة مثلاً، كلّهم يرحبّون بك، كلّهم اتّخذ من الجريدة وسيلة للمناقشة ولعرض أفكار بعضهم البعض ومعارضتها... قل لهم ـ عن لساني ـ إن ما يفعلونه خطير ومثير لشماتة الآخرين.
        ومع ذلك، إنّ باب "رسائل ومواقف" باب مهم فلا تهملوه إن من حيث التنويع والمواضيع، وإن من حيث التصحيح والطباعة.
        خامسًا: أين الصفحة الثقافية يا أستاذ شارل؟ أين المندوبون ينقلون آخر ما تنتجه دور النشر في العالم العربيّ ـ إن كانت الحركة مجمّدة في لبنان؟ وأين أخبار المعارض والندوات؟ لمَ تشاركون في مؤامرة "تجهيلنا" ؟ أم أنكم تعتقدون انّ المعدة الخالية الفارغة في لبنان لا تتلاءم مع الرأس الممتلئ؟
        لتكن الصفحة الثقافية غنية ويومية، ولا يوجد أكثر من الأدباء وخريجي الجامعات والأساتذة ممّن يتمنّون إدارة هذه الصفحة، وقسم كبير منهم يتحلّى بالوعي والانفتاح ويريد المشاركة في هذه النهضة التي تعملون لها.
        أتصدّق اني أقرأ باهتمام شديد ـ وعذرًا للمقارنة ـ في جريدة "النهار" الصفحتين الثقافيتين واحتفظ بهما.
        أين الاستاذ نبيل فياض ومقالاته المهمة ذات المعلومات الجديدة؟
        سادسًا: كيف تريدنا أن نفسر غياب أقلام مهمة عن الصفحات السياسية؟ أين مقالات نبيل بو منصف وقد مرّت له آراء غاية في الأهمية والعمق؟ ولماذا مقالات جورج بكاسيني بدأت تميل إلى الوجدانية وتبتعد عن التحليل المنطقي، وهذا ما دفع به إلى التطرف فلم ير بيتًا مصابًا إلاّ للأستاذ جورج بشير؟
        أين المحرّر الديبلوماسي؟ أين السفير العربي صديق ابراهيم جبيلي، هل نُقل إلى عاصمة أخرى في الشرق الأقصى مثلاً فتعذّر على الأستاذ جبيلي اللحاق به؟ في جريدة "السفير" ـ وعذرًا للمقارنة مرة ثانية ـ نقرأ مجموعة من التحليلات السياسية المتنوعة ما يؤكّد انّ اتصالات على مستوى عالٍ يقوم بها المحلّلون والصحفيون.
        "المانشيت" عندكم غنيّة، فلماذا لا تكون التحليلات كذلك؟ وبالمناسبة ألا تلاحظ أن كثافة أسطر عناوين المانشيت مزعجة بعض الشيء؟
        سابعًا: الملحق الأسبوعيّ غني ومهم، ولكنّه متعب في بعض مقالاته ودراساته الطويلة. فالسطور قريبة من بعضها جدًّا، ولا عناوين صغيرة ضمن الموضوع، وهذان أمران متعبان للنظر والفهم.
        أستاذ شارل...
        لم تعد " الديار" ملكًا لواحد أحد، وهي ليست وقفًا لدير أو إقطاعيّة لعائلة... صارت ملكًا لنا، لأنّك جعلتها كذلك. وهذا أمر مهمّ يُسجّل لك في تاريخ الصحافة الحديثة على الأقل. قد نجد ما نعترض عليه عند غيرها من الجرائد والمجلاّت، ولكنّنا لا نتدخل، ولا نفكّر بإرسال ملاحظة، لأنّ ثمة حاجزًا من الغربة...
        فاعذر إذًا هذه الملاحظات... إنّنا في ديارنا ولسنا غرباء.
مي م. الرّيحاني

جريدة "الدّيار" الخميس 3 أيّار1990

على عتبة الثّلاثين... هل أقرع الباب؟ - جريدة "الدّيار" الجمعة 18 أيّار 1990


على عتبة الثّلاثين... هل أقرع الباب؟
أن تصل إلى عمر الثّلاثين، فهذا أمر رائع... أنت إذًا ناضج وواعٍ، وقد حصّلت حتمًا قدرًا مهمًا من الثّقافة، ورأيت جزءًا غير قليل من العالم، وتعرّفت إلى حضارته وعلومه وفنونه. أمّا أن تصل اليوم إلى عمر الثّلاثين، وفي لبنان بالذّات، فهو أمر يجعلك تختنق، ويكاد نفسك ينقطع، ولولا رغبته تعالى في إطالة طريق جلجلتك، لتوقّف قلبك عن الخفقان. أن تصل إلى الثّلاثين فهذا يعني أوّلاً أنّك عشت نصف سنيك في حالة حرب، وتحت الدّمار وبين الملاجئ. وهذا يعني استطرادًا أنّ القنّاص قد أخطأك هدفًا، وأنّ القذيفة غيّرت رأيها عن اختيارك، وأنّ السّيّارة المفخّخة لم تتوقّف، لحسن حظّك أو لسوئه ربّما، إلى جانب سيّارتك عندما انفجرت ـ لوحدها، انفجرت طبعًا ـ وهل قال أحدهم إنّه قام بالتّفجير؟
أن تصل إلى الثّلاثين في لبنان، واليوم بالذّات، عمل لا بطولة فيه ولا شجاعة بل صدفة. والصّدفة فقط هي التي جعلتك "تزمط" إلى هذا العمر.
أن تكون في الثّلاثين اليوم يعني أنّك لم تسافر مرّة سائحًا، وإن حصل وقدّر لك الوصول إلى قبرص أو إلى الشّام فبهدف الحصول على تأشيرة سفر إلى عوالم أخرى قد تستطيع فيها الوصول بأمان، وقد يخيّل لك هذا، إلى ما فوق الثّلاثين.
وهذا يعني أيضًا أنّك لم تشترِ كتابًا ذا قيمة، ولم تحصل على سيّارة تتابع معك الطّريق الذي اخترته أنت، بل سيّارة تعاملك على أساس أنّها أغلى منك ثمنًا وإنّ مصاريفها أهم من مصروفك، فبأي حقّ تتفلسف عليها؟
وهذا يعني أيضًا وأيضًا أنّك لم تجرؤ على أن تحلم بشراء شقة، ولا باستئجار واحدة طبعًا، لأنّ الأحلام إن صارت خالية من المنطق تمامًا تحوّلت إلى ما يشبه قصص سوبرمان وسندريلّا، وفي أحلامنا تكاد تنعدم شجاعة الفرسان ويخفت صوت الحبّ...
أن تكون اليوم في الثّلاثين معناه أنّ وظيفة ما قد اختارتك وفرضت نفسها عليك وألزمتك بحمل صليبها وقالت لك: اتبعني...
فإن قادتك إلى وظيفة الدّولة وقعت بين سندان شرعيّة ومطرقة أخرى، وإن، إلى وظيفة في شركة خاصّة فأنت تصلّي الآن كي لا يسافر ربّ العمل ويقطع عنك الرّزق والأمل. أمّا إن قادتك الدّرب إلى رسالة إنسانيّة كالتّعليم أو التّمريض أو الصّحافة، فلا داعي لأخبارك عمّا سيجري لك لأنّك لن تصمد كثيرًا بعد الثّلاثين...
لو حملت بدل هذا "الصّليب" "كشّة"، على عادة أوائل المغتربين اللّبنانيّين، وتاجرت في بلدك لاستفدت واستمتعت برحلةٍ سياحيّةٍ ولرأيت معالمه وأثاره، ولتعلّقت به أكثر.
أن تكون اليوم في الثّلاثين معناه أنّك لم تتزوّج طبعًا. وإن كنت قد أحببت فاسمح لي برسم علامة تعجّب كبيرة. كيف تجرؤ أن تحبّ إنسانًا في هذا الزّمن؟ ألم تفكّر أنّه قد يموت مستشهدًا تاركًا لك الحسرة والألم؟ ألم تفكّر أنّ خطوط الهاتف قد تنقطع بين بيتك وبيت الحبيب، فلا تتناجيان ولا تتشاجران ولا تتراضيان؟
ألم يخطر على بالك أنّ المعابر القديمة والمستحدثة والرّصاص والقذائف ستفصل بينكما وتجعل من كلّ واحد منكما إن حاولتما اللّقاء "شهيدة الحبّ، شهيدة نعمان الما إلو أمان..."
كيف تحبّ يا صديقي في هذه الأيّام؟ قد تكون اليوم على جبهة واحدة وقد تتواجهان غدًا على الجبهة نفسها. قد يجمعكما حزب واحد، ومتى انقسم الحزب انقسمتما معه... وأي حزب لم ينقسم؟ قد تتحابّان إلى نهاية العمر ولن تقدرا على الاجتماع تحت سقف واحد... وإن اجتمعتما... من يدري فقد ينهار السّقف عليكما في لحظة من لحظات وقف إطلاق النّار!!
أن تكون اليوم في الثّلاثين معناه أنّك صلّيت كثيرًا، وبكيت كثيرًا، وتوقّعت الموت يوميًّا، ووقفت أمام الأفران لساعات، وتعوّدت يداك حمل أوعية المياه، وعيناك ضوء الشّموع، وأذناك صوت الموتير، من عند الجيران طبعًا...
أن تكون في الثّلاثين في هذا البلد، وعلى عكس بلاد العالم كلّها، معناه أنّك فرغت من الأحلام، وكبرت على الحبّ، وعجزت عن العمل، وصرت تخجل من الاحتفال بعيد مولدك، فلا أنت قادر على شراء الحلوى ولا الأصدقاء قادرون على معايدتك.
أمّا إن أردت تحدّي الحرب والدّمار والثّلاثين سنة، والنّهاية... فاحتفل... وليكن ذلك ليلًا، لا عن شاعريّة وحميميّة، بل لتستفيد من أضواء الشّموع أوّلًا، ولكي يقلّ عدد الزّائرين ثانيًا. واطلب بما لك من دالّة على أصدقائك أن يأتوك بهدايا من بطّاريّات الرّاديو وقناني المياه، أو من الخضار والفاكهة، وليوضّبوها داخل ورق جرائد صادرة حديثًا، لعلّك تستفيد من مطالعتها بعد إن عجزت عن شرائها، وإن كانت أجنبيّة عرفت ماذا يحدث في العالم في ذكرى مولدك وماذا يخطّط لوطنك.
على عتبة الثّلاثين أنا، وبرودة الأيّام المقبلة مخيفة...
فالطّريق أمست خالية من الوجوه الأليفة، بعضها رحل، وبعضها فقد الحياة... كيف ستكون الأيّام بعد الثّلاثين في هذا البلد، ولمن يرفض الرّحيل ويحاول التّشبّث بالحياة؟
ليت أحدكم يملك جوابًا...
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "الدّيار" الجمعة 18 أيّار 1990
"عيون بالمرصاد"


حرم الكنيسة والانتماء الماروني - جريدة "الدّيار" الجمعة 4 أيّار 1990

أحمد فارس الشدياق

حرم الكنيسة والانتماء المارونيّ
       مساكين أولئك الذين ماتوا وقد حرمتهم الكنيسة المارونية من الانتماء إليها لأسباب رأتها الكنيسة المذكورة يومها خطيرة وتستدعي هذا العقاب.
       أسماء كثيرة ذكرها الأهل أمامي لبعض النّساء والرّجال الذين أنزل بهم الحرم لأنّهم أقاموا مع بعضهم دون زواج.
       وأمين الرّيحاني نعته أهل ضيعته بالكافر لأنّ الكنيسة حاربته، وكان يفرح حين يمرّ خلال تجواله في قرى لبنان ومدنه ويعرّف عن نفسه فلا يضطهد إذ انّ خبر الحرم لم يصل إليهم بعد.
       وأحمد فارس الشّدياق ترك الطّائفة والبلد لأنّ أحد البطاركة اعتبر أخا الشّدياق كافرًا لتحوّله إلى البروتستانتية، فأسر وعذّب حتّى مات في أقبية مار انطونيوس قزحيّا.
       هذه "الجرائم" التي ارتكبها هؤلاء استحقّت أقسى عقاب تلجأ إليه الكنيسة لتصحيح أخطاء الطّائفة وتقويم اعوجاج بنيها.
       أمّا اليوم، فلا داعي لمعاقبة أبناء الطّائفة المخطئين وحرمهم من الكنيسة...لأنّ الطّائفة أساسًا لم تعد موحّدة، فأبناؤها مهاجرون أو مخدّرون ويتّهم كلّ فريق الآخر بتجارة المخدّرات، أو معاقون أو "شهداء"، ومن بقي ينتحر، فلماذا العذاب وحرم عون أو جعجع. وهل بقي غيرهما من "أركان" الطّائفة؟
ميّ م. الرّيحاني

          جريدة "الدّيار" الجمعة 4 أيّار 1990

الى الأب انطوان الأشقر - جريدة "الدّيار"الخميس 3 أيّار 1990


الى الأب انطوان الأشقر
       قرأت ردّك في جريدة "الديار"، وأثّر بي غفرانك الذي منحته لقلم الآنسة سعاد حدّاد... وعلى أي تسامحها، ألكونها أصابت موضع الداء في بيت شبابكم فأثارت منك الغضب لتسرب أسرار معهدكم إلى خارج أسواره؟ أم تسامحها لأنّها كشفت الغطاء عمّا كان الجميع يعتقده مركزًا للمساعدة الصّادقة والخدمة والمحبّة؟
       حضرة الأب، إذا كانت الآنسة حدّاد من خارج البيت، فأنا من أهل المعهد ولي أكثر من صديق وصديقة يعانون الأمرّين بين جدران معهدهم، ولولا الزّملاء والصّداقات التي خلقتها الإعاقة لرحلوا من زمان. لهذا سمحت لنفسي بالردّ على ردّك، لعلمي أن أحدًا لن يجرؤ على ذلك خشية نظرات الغضب والطّرد، وخوفًا من "الجواسيس" المدسوسين بينهم والمعروفين جيّدًا.
       هل تعتقد أن المعاقين ـ وكم أكره استعمال هذه الكلمة ـ يرغبون في تمضية حياتهم عندكم بمجرّد الاستمتاع وحبًّا بالتقوقع والأسر المفروضين عليهم خارج المجتمع؟ ولأي سبب يريدون البقاء؟ فالمعاملة ليست كما تحاول تصويره، والممرضات في غالبيتهنّ جاهلات وغير حائزات على الشّهادات. والطّعام يكاد يقتصر على البطاطا المسلوقة وما شابه، ولا يتغيّر إلاّ لمناسبة العيد، أو عند تدخّل وسيط لدى الرّاهبات، أو إذا استطاع أحد المعاقين الحصول على صداقة إحدى الممرّضات.
       هل تأكل أنت والرّاهبات من طعامهم؟ ليتك تقدّم لهم مما تأكلونه يوم الجمعة العظيمة فقط... أنا مع قرار إخراج المعاقين إلى الحياة العامّة، ومع دمجهم في مشاكل المجتمع وأعبائه. وقد رأيت الكثير من سلبيات تقوقعهم داخل أسوار المعهد.
       ولكني أسألك، هل تعتقد حقًا انّ الظّروف اليوم مطمئنة ومريحة لدرجة تسمح للمعاق بتحمّل أعباء الحياة، والهروب من القصف والمعالجة في حالات الالتهاب والجروح؟
       وإذا كان منزل المعاق في الطبقة السّادسة مثلاً، ولا كهرباء دائمة، فماذا يفعل؟ سيتقوقع في زاوية من منزله بانتظار رحمة الله ـ أو ممثّليه على الأرض من أفضالك ـ وإذا بدأ القصف، عليه أن يصبر، أو يتمنّى قذيفة تريحه من معهدكم ومن بيته، إذ لا يوجد من ينزله طبقات المبنى تحت القصف.
       وكلّنا يعلم كيف هي بيوت اللّبنانيين الحديثة، غرف صغيرة وأبواب ضيّقة. فكيف يعيش المعاق بين جدرانها وكيف يتجوّل؟ هل تعتقد انّ منازل المعاقين معاهد شاسعة كالّذي تديره؟
       هذا عدا مشاكل الماء والتّنقّل على الطّرقات، وثمن الشّاش والقطن والأدوية، التي يملك المعهد الكثير منها، من المساعدات، والتي لا يملك منها المعاق شيئًا.
       وعلى ذكر المساعدات، أعتقد انّ جولات الاستجداء التي قمتم بها في دول العالم بهدف إثارة مشاعر المغتربين، قد جلبت المساعدات على اعتبار انّ هذا المعهد هو ملجأ المعاقين ومستشفاهم وأملهم في ظلّ هذه الظروف. وإذا بكم ـ وبالمساعدات الماليّة المأخوذة على اسمهم ـ تبنون وتتوسّعون... لماذا؟ لتطردوهم بحجة انّ هذا المستشفى ليس مأوى...
       وأعود لأسألك: أين سيمارس المعاق التّمارين الرّياضيّة الضّروريّة له ضرورة الأكل والدّواء؟ ولماذا لا تعالجون إصاباتهم النّاتجة عن إعاقتهم عندكم ما دامت غرف العمليّات جاهزة منذ ثلاث سنوات؟ لماذا تتركونهم يخاطرون بحياتهم تحت القصف للمعالجة في أوتيل ديو وغيرها؟
       وإذا كان قصدكم منذ تأسيس المعهد تحويله إلى مستشفى مؤقت لإصابات الإعاقة، فلماذا أقمتم صالة سينما كلّفت الكثير من أموال الهبات؟
        وإن ترك هؤلاء المعاقون المعهد، هل سيستمرّ مجمّع الرّمال السّياحيّ باستقبالهم صيفًا ولو ليوم واحد؟
       حضرة الأب... لا شكّ أنكم تعتقدون انّ الحياة في لبنان مريحة وهادئة، وانّ الدولة أقامت مراكز للمعالجة الفيزيائيّة، وانّ الطّبابة مجّانيّة، وانّ الباصات مخوّلة نقل المعاقين دون صعوبة... لا شك انّك تعتقد ذلك وإلاّ لما كان هذا القرار...
       إنّ رسالتك الإنسانيّة والكهنوتيّة تحتّم عليك اليوم الوقوف في وجه من يريد إخراجهم من معهد إقيم على إسم الإعاقة، بانتظار عودة الدّولة على الأقل، فيعود معها الهدوء والأمن.
       وأسمح لي ختامًا بهذه "الخبريّة": كتب رشدي معلوف في مقالة للنّهار، انّ حالات تسمّم كثيرة ظهرت بسبب تلوّث أوعية الحليب لعدم نظافتها. هل تعرف، حضرة الأب، كيف عالجت الدّولة هذه المسألة الخطيرة؟ لقد قامت بمنع تناول الحليب أو أكل مشتقاته... فإلى متى سنستمرّ في معالجة الأزمات من نتائجها لا من مسبّباتها؟
       إلى متى سيحرم المعاقون عندكم من حريّة استعمال الهاتف لأنّ واحدًا منهم أساء استعماله؟ إلى متى تبقى "الكافيتريا" حكرًا على ذوي الإمكانيّات الماديّة الجيّدة منهم؟
       إلى متى يبقى التّوزيع مجحفًا لمردود معرضهم السّنويّ الوحيد؟
       إلى متى يبقى بينهم من هو محسوب على الإدارة فلا نتكلّم أمامه في زياراتنا لأصدقائنا؟
       إنّ هذه الأسئلة وغيرها نطرحها اليوم أمام ضمائر المسؤولين في هذه الدّولة، وفي هذا المعهد، آملين أن يقوموا بما هو ضروري للمحافظة على هذا المعهد ملجأ ولو مؤقتًا للمحتاجين إليه، وخائفين في الوقت نفسه أن تتدخّل "المحسوبيّات" في إيذاء من تشكك الإدارة في "عدم إخلاصه" لخيرها العميم، وشاكرين أخيرًا جريدة الدّيار و"قلم سعاد حدّاد" اللّذين أتاحا لنا فرصة لعرض ما نعرفه عن شؤون وشجون معهد بيت شباب للمعاقين.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "الدّيار"الخميس 3 أيّار 1990
        

       

مكسيكيّون بعض الوقت لا بأس أستاذي - جريدة "النّهار" الثلثاء 21 أيلول 1993


مكسيكيّون بعض الوقت لا بأس أستاذي
       أستاذ زاهي وهبي
       أيمكنك أن تتخيّل ما الّذي كان سيقوله غسّان كنفاني لو قدّر له أن ينجو من الاغتيال، ويجيب عن أسئلة تلك الصّحافيّة الشّابة؟
       مسكين غسّان، قُتل قبل أن تتاح له الفرصة لتلك المقابلة المهمّة، على كلّ حال، ولولا ما ورد في تّحقيق الآنسة واعترافها بموت كنفاني، لقلت عنها: برافو، فهمت أنّ الأديب لا يموت، وغسّان ما زال حيًّا ما دامت أعماله حيّة.
       وليس غسّان كنفاني وحده المسكين. وليست تلك الآنسة وحدها المسكينة.
       وإليك هذه الأخبار:
       أحد الأساتذة الثّانويّين، عتيق في المهنة كما يقول، يتجاوز عمره السّتين ـ بكثير ـ ويدرّس الأدب العربيّ رآني، هذا الأستاذ العتيق أقرأ كتابًا ل"حنّا مينة"، فسألني عن صاحب الكتاب، واستغربت واعتقدت أنّه يمتحن معلوماتي، وإذا به فعلاً لا يعرفه ولم يسمع باسمه، وعلّق أخيرًا في محاولةٍ لإنهاء الحديث بكلمة فصل، وباستخفاف: "قد يكون واحدًا من جيلكم، ولذلك لا أعرفه".
       وطلب منّي أحد الأساتذة ـ وهو مسؤول عن قسم اللّغة العربيّة في إحدى المدارس "المهمّة" ودكتور في الجامعة اللّبنانيّة ـ طلب منّي هذا "الدّكتور" لائحة ببعض الكتب العربيّة التي تصلح للمطالعة، وذلك لصالح مكتبة المدرسة. وعندما أريته اللاّئحة وضع بعض علامات الإستفهام أمام كثير من الأسماء، فظننت أنّه يعترض على نوعيّة الكتب، فقد يحمل بعضها اتّجاهات سياسيّة مغايرة لمعتقداته (ككتب الياس خوري مثلاً)، أو قد تسيء إلى بعض هذه الكتب، الأخطاء اللّغويّة والإملائيّة ما يؤثّر سلبًا على لغة التّلاميذ (كما في كتب حنان الشّيخ، مع الأسف )، وربّما لأنّ بعضها جريء أكثر مما تسمح به المدرسة المحترمة، ويتناول مواضيع دينيّة وجنسيّة لا يجوز إثارة انتباه التّلاميذ لها ـ ( وكأنّ التّلفزيون والسّينما لا يفعلان) ـ ولكنّ المفاجأة في إنّ الدّكتور لم يسمع ب"الياس الخوري" ولا "بحنان الشّيخ"، ولا ... بزاهي وهبي طبعًا.
       ونيابة عنّي، طمئن الياس الخوري، أطال الله عمره، فهو لن يرحل وستأتي إحدى الآنسات لتسأل عنه بعد الرّحيل.
       وتسخر من المسلسلات المكسيكية؟ سامحك الله. لو ترى تجمّعات المدرّسين والمدرّسات حول ركوة القهوة (التي يدفعون ثمن بنّها من جيوبهم منذ توقّفت إدارة المدرسة عن تقديمها لهم منذ توقّفت إدارة المدرسة عن تقديمها لهم في غلاء المعيشة).
       أفراد الهيئة التّعليميّة هؤلاء يتبارون في سرد أخبار هذه المسلسلات وتحليلها والتّعليق عليها. على كلّ حال، قد تكون هذه البرامج أرخص وسائل التّرفيه لهذا المدرّس الطّفران.
       وكيف نعتب على خرّيجي المدارس والجامعات (والصّحافة) ما دامت الهيئات التّربويّة المسؤولة عن إرشادهم وتوعيتهم تقبع تحت ثقل هذين العجزين: المادّي والفكري. وإن فهمنا، على كلّ حال، عجز هؤلاء المدرّسين عن زيارة المسرح ودار السّينما، أو شراء الكتب والمجلاّت المتخصّصة، فلا نفهم طبعًا تقوقع الكبار منهم في مرحلة أدبيّة معيّنة يرفضون تجاوزها لمعرفة الجديد ومعايشته، وكأنّهم ما تخطّوا بعد العصر الجاهليّ، لأنّ ما كتب بعده لا قيمة له.
       الأزمة خطيرة بلا شكّ، وأنسي الحاج طرح السّؤال المخيف في مقدّمة "خواتم": "هل ماتت الكلمة؟"
       نعم، قد تموت الكلمة إذا استمرّت المؤسسات التّربويّة وما يمتّ إليها، على هذا النّحو من التّصرّف.
       المدارس تخفّف من الحصص للّغة، لإدخال برامج الكومبيوتر مراعاة لذوق العصر وسرعته. وقليلة جدًّا هي المدارس التي تدعو تلاميذها إلى حضور مسرحيّة مهمّة، أو إلى مناقشة فيلم هادف، لأنّ ذلك يشكّل عبئًا مادّيًا على التّلاميذ، ولأنّ المدرّس ليس مضطرًا إلى مرافقة تلاميذه في هذه النّشاطات الثّقافيّة، والمدرسة لا ترغمه خارج الدّوام كي لا تدفع له زيادة على راتبه، وخلال الدّوام، ستؤثّر هذه النّشاطات على سير الدّروس.
       هذا بعض ممّا يقال عن المدارس، أمّا إذا أخذنا المؤسسات الإعلاميّة، ومن أهدافها الإعلام والإعلان، فنلاحظ عامّة ذلك الإهتمام بالشّكل الخارجيّ في الوسائل المرئيّة، و"بالواسطة" في الوسائل المختلفة.
       أتعلم؟ قد لا يكون الحقّ على تلك الصّحافيّة المسكينة التي تقول أنت إنّها فضحت نفسها عندما سألت عن غسّان كنفاني. أكيد أنّها بأسئلتها للمخرج والممثّلين أظهرت مستوى ثقافتها، ولكنّهم في حاجة إلى مثيلاتها وسيلة إعلان ودعاية للمسرحيّة وللقيّمين عليها.
       أعطيك مثلًا آخر تساهل المثقّفين مع اللاّمثقّفين: الياس خوري في سهرة غير شكل. ألا تظهر هذه الغلطة من الياس خوري مدى ضعف الفنّان أو الكاتب أمام الصّحافة حتّى لو كانت سخيفة، حتّى لو كانت الصّحافيّة جاهلة وغبيّة. على كلّ، قد يتلازم جهلها مع الحاجة النّفسيّة عند الضّيف الذي أرضى غروره وأظهر تفوّقه على السّائلة و"المتسائلة" (ولا أقصد هنا الياس خوري).
       وأذكر كيف كنت أسمع أحاديثكم في الباحة الدّاخليّة لمسرح بيروت. كنت أرى تهافت "المثقّفات" الفاتنات عليكم، واستقبالكم لهنّ بالتّرحاب "السّاخر" أحيانًا، والحارّ غالبًا.
       وهذه الصّحافيّة ضحيّة إعجاب ساخر، أو إيحاء كاذب من رئيس تحرير أو من مسؤول عن الصّفحة الثّقافيّة الجالس في "المودكا" أو "الهورس شو" مذ أقنعها أحدهما بأنّها موهوبة، وبأنّها خلقت للكتابة و"التّحبير".
       وأعود إلى "العنوان الوحيد الأحد في حياة اللّبنانيّين اليوم"، وهو "السّهر كلّ خميس وجمعة وسبت"، مع أبطال الشّاشة المكسيكيّة الّذين انتقلت أزياؤهم وغيتاراتهم إلى مسرح منصور الرّحباني كي يبقى على الموضة.
       أعود إلى هذا الحديث لأسأل عن السّبب. وعدا لوم المشاهدين اللّبنانيّين وتحميلهم مسؤوليّة عصر الإنحطاط الثّقافي هذا، أحبّ أن ألفت انتباهك إلى بعض الأمور:
       أوّلاً: هل قدّم التّلفزيون الرّسميّ والخاصّ برنامجًا محلّيًّا مهمًّا يحمل النّاس على متابعته، وبلغّتهم؟
       ثانيًا: هذه البرامج تعالج قصصًا عاطفيّة سخيفة ومملّة. لا نقاش في هذا الأمر، ولكنّها في المقابل تدغدغ أحلام النّاس وتعود بهم إلى مرحلة المراهقة العاطفيّة (وكثيرون منهم لم يتخطّوها بعد)، كما إنّها بعيدة عن مفهوميّ الجنس والعنف، على عكس البرامج الأميركيّة التي لم يكن لها هذا الحظّ من النّقد والإعتراض السّاخر. فحلقة واحدة من المسلسل الأميركي تحمل على خطّين متوازيين: صورة الجنس الرّخيص والعنيف الذي ينحدر بالإنسان إلى درك الغريزة المقرفة، كما يحمل صورة مجتمع قائم على العنف والقتل والإغتصاب والمخدّرات.
        وصالات السّينما وشاشات التّلفزيون تعجّ بنجوم هوليوود، نأكل معهم ونشرب معهم ونلبس مثلهم، ولم يعترض أحد. صحيح إنّ البرامج المكسيكيّة ليست أرقى حالاً، ولكنّها تحاول أن تغلّب نزعة الخير على الشّرّ أوّلاً، كما تعد النّاس بالثّراء والغنى عن طريق الحلم والحبّ والصّدفة في مجتمع فقير لا يختلف حاليًّا عن مجتمعنا.
       ثالثًا: لماذا هذه الحملة على البرامج المدبلجة؟ فالدّبلجة ليست اختراعًا لبنانيًّا، فرنسا مثلاً سيّدة في هذا المجال في محاولة منها لمنع الأذن الفرنسيّة عن تذوّق لغة أخرى منافسة كالإنكليزية مثلاً، وهذا ما يفعلونه حتّى في الأخبار.
       ولاحظت أنّ الدّبلجة تريح النّظر عند كثير من كبار السّنّ، وهي البديل الوحيد للأميّين الّذين كان التّلفزيون لهم حتى الأمس القريب وسيلة ترفيه مؤجّلة لكثرة البرامج الأجنبيّة.
       أمّا في الممثّلين المتّهمين بالأختباء خلف الوجوه المكسيكيّة، فأسأل: هل قدّم لهم عمل لبناني ورفضوه؟ وبما أنّه يحقّ لمنصور الرّحباني أن يقدّم عملاً ك "الوصيّة" لأنّ "أكل العيش عايز كده" فلماذا نمنع من هو أقلّ منه قدرة على مقاومة "الجوع".
       الحقّ معك يا أستاذّ زاهي عندما تصف "وقائع العيش اللّبنانيّة والجهل المطبق على الحياة اليوميّة والإنحطاط المتسارع". وما كنّا لنعترض على هذه البرامج السّخيفة لو لم تتحوّل إلى الحديث الثّقافيّ الوحيد عند اللّبنانيّين. فلو كان الإقبال عليها من باب التّسليّة ويترافق مع اهتمام بالآداب والفنون المحترمة لما اعترض أحد. حتّى سعيد عقل كان يتابع من حين إلى آخر بعض البرامج المصريّة للتّسليّة والتّمويه عن النّفس. ألاحظت؟ من استعمار فرنسي إلى آخر أميركي، إلى آخر مكسيكي أو مصري أو برازيلي... كم من ثقافة عندنا... ولا ثقافة لنا.
       أستاذ زاهي
       أنا لا أدافع عن هذه البرامج، ولم أتابع أيًّا منها إلّا بعد إن لاحظت اندفاع جيل المراهقين، الّذين أعمل معهم، إلى حضور هذه البرامج. وكنت في الحقيقة انتظر منهم العكس. وعند سؤالهم عن السّبب، كان الجواب إنّ الرّومانسيّة في هذه المسلسلات هي ما يجذبهم.
       وعند متابعتي لبعض الحلقات، فهمت أنّهم يجدون قصّة حبّ ناعمة تذكّرهم بروايات بربارة كارتلند وسواها، إذ يعرفون انّ النّهاية ستكون مفرحة وسعيدة، وسيرتاح الجميع ما عدا الأشرار.
       وفي المقابل، ماذا قدّمنا نحن لجيل المراهقين هذا؟
       ذكرت "صوت العدالة" وها هو برنامج سيمون أسمر الجديد يمشي على الخطى نفسها في الثّرثرة والنّميمة وإثارة الفضائح. وذكرت "روايات عبير"، وما الذي كتبه مؤلّفونا من قصص حبّ تجذب جيل المراهقين وبلغة سليمة وبمستوى أدبيّ وفنّيّ راقٍ؟ (أحصر كلامي هنا بالرّواية والقصّة المفضّلتين عند الشّباب). عندما نطلب من طلّاب المدرسة أن يطالعوا، يُفاجأون بنوعيّة كتب اللّغة العربيّة، فمواضيعها محصورة في عالم القرية الذي لا يعرفونه، ولا يعنيهم أن يقرأوا لمارون عبّود في حديثه عن معّاز الضّيعة، وهم يتسكّعون مساء في الكسليك من سينما إلى نادٍ ليلي. وإن لم تكن المواضيع عن القرية فعن المدينة خلال الحرب وبعدها، وما أصابها من دمار وما أحاطها من موت. فيرمون الكتاب وهم يصرخون: "ما هذا؟ شي بيطبّق على القلب". وهذا ما قالوه عن فيلم "الإعصار".
       سألني أحد الطّلاّب، وهو مدمن المطالعة، فريد من نوعه:
       لماذا لا نجد في الرّواية العربيّة كتابًا واحدًا فرحًا؟
       هل أخبره عن معاناة العربيّ ومأساته عبر العصور، بدءًا من رحيله عن خيمته إلى رحيله عن أرضه، إلى وقوفه متسوّلاً على أبواب حكّام العالم، مرّة لكي يعطونا السّلام، ومرّة لكي يعطونا الطّعام، ومرّة لكي يعطونا براءة ذمّة.
       هذا الجيل؟ يا أستاذ زاهي، ماذا قدّمنا له ليقرأ، وليزداد ثقة بنفسه وبالمستقبل؟ بالله عليك، لا تتعب وتبحث عن كتاب واحد يحمل هذه المواصفات. أنا لا أقول إنّ على الأديب أن يكذب ويضحك على هؤلاء الشّباب ويوهمهم بالعزّ والكرامة وهما غير موجودين. ولكن رأفة بهؤلاء الحالمين، لا تهدموا أحلامكم وما زالت مخطّط حلم.
       أنت، في فترة مراهقتك، ماذا كنت تقرأ؟ ألم تبحث عن كتاب مغامرات أو عن قصّة عاطفيّة سعيدة لا تحمل وعظًا دينيًّا أو إرشادًا أخلاقيًّا كما تفعل صاحبة القهوة التي تقدّم خمرًا وتقول للنّاس "أنا ما برضى إبني سعادتي على حزن الآخرين": معنى نستطيع إيصاله دون أن نقع في اللّهجة الخطابيّة ونسكت ليصفّق النّاس.
       جيل المراهقين الذي يحفظ حلقات مسلسل "بيفرلي هيلز". وتقوم بناتنا بتقليد لباس بطلاته وطريقة تعاملهنّ مع أهاليهنّ أو مع إدارة المدرسة أو مع زملائهنّ، هذا الجيل ماذا قدّمت له وسائل الإعلام غير أفلام الفيديو كليب؟ وماذا قدّمت له الرّواية العربيّة؟
       والصّحافيّة السّابقة الذّكر ليست بغريبة عن هذا الجيل الذي هو الآن على عتبة عالم العطاء بعد إن كان في مرحلة الأخذ والتّلقّي، والإناء سينضح طبعًا بما ملئ.
       وستأتي صحافيّة في المستقبل القريب لتسأل مادونا عن رأيها في آخر الكتب الصّادرة حديثًا وخاصّة أنّها صاحبة المكتبة الوحيدة العامّة في البلد (عبّرت عن رغبتها إقامة هذه المكتبة خدمة لجيل الشّباب الذي يرقص على وقع أغنياتها ليلاً).
       فهل تستغرب سؤال هذه الصّحافيّة أيضًا؟
       أستاذ زاهي،
       كانت فشّة خلق، أرجو أن يكون وقتك ـ وصبرك ـ اتّسعا لها.
مي م. الرّيحاني
(بعبدا)
جريدة "النّهار" الثلثاء 21 أيلول 1993
* رسالة إلى زاهي وهبي تعقيبًا على مقاله "أن يصير العيش خاليًا من جوهر وروح" في صفحة "النّهار" الثّقافيّة. الثّلثاء 14/9/1993. 

       

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.