الأربعاء، 27 أبريل 2016

للتخرّج من المدرسة أم لتخريبها؟




تمثّل المدرسةُ السلطةَ "القامعة" التي يرغب المراهقون في تخطّيها ومخالفة أوامرها وصولاً إلى تحطيم صورتها عبر إثارة أعمال شغب فيها والتسبّب بأضرار ماديّة فادحة، وهي، أي المدرسة، تبدو في هذه الحال كأنّها تختصر جميع أنواع السلطات الأخرى التي يعجز المراهق غالبًا عن محاربتها وهي: سلطة الأهل والدين والدولة.
والتلاميذ حين يلصقون بالمدرسة صفة القمع فلأنّهم كانوا ينتظرون منها أن تكون صورة مختلفة عن السلطات الأخرى التي لا تستمع إليهم ولا تحاورهم ولا تترك لهم مجالاً للتعبير، ولأنّ الآمال المعقودة على المدرسة كانت كبيرة جاءت الخيبة قاسية ما أدّى ويؤدّي كلّ يوم إلى ردود فعل عنيفة. وتزداد تصرّفات التلاميذ حدّة مع اقتراب نهاية العام الدراسيّ، وخصوصًا عند تلاميذ الصفوف النهائيّة المغادرين مقاعدهم إلى رحاب أكثر وسعًا وحريّة، حسب رأيهم طبعًا.
لذلك تشكّل نهاية العام الدراسيّ كابوسًا للقيّمين على المدارس إذ صارت الاحتفالات بالتخرّج مناسبة للانتقام من سجن قضوا فيه طفولتهم ومراهقتهم، ولإهانة سجّانين مارسوا مختلف أنواع التعذيب في حقّ المعتقلين عندهم. ومراقبة تصرّفات التلاميذ المتخرّجين في القسم الأخير من السنة الدراسيّة تبيّن بوضوح كيف أنّ أعمال الشغب تنتشر بين الجميع من دون استثناء، جارفة في طريقها كلّ من تعترضه حتّى ولو كان من أصحاب السلوك الحسن أو من المجتهدين المتفوّقين. ومعلوم أنّ ثمّة ميثاقًا غير مكتوب بين التلاميذ يدفعهم إلى التضامن حتّى ولو أنّ الأمر يكون أحيانًا أقرب إلى التواطوء. غير أنّهم في مواجهة سلطة الإدارة والمعلّمين يصيرون صفًّا واحدًا متراصًا من الصعب اختراقه.
شاهدت خلال عملي التربويّ تلاميذ يضرمون النار في صفوفهم، وآخرين يرمون البيض والبندورة على المبنى، وغيرهم يرشّ المياه على المعلّمين، أو يثقب إطارات السيّارات التي تخصّ المسؤولين، أو يرمون المفرقعات بين أقدام زملائهم لإثارة حال من الهلع والفوضى. وكانت لغة العقل تتعطّل كليًّا في هذه الأيّام الوداعيّة، لتحلّ محلّها نظرات مستهزئة وكلمات ساخرة وأفعال وقحة. وفي اليوم التالي، وبعدما فجّر التلاميذ هذه الانفعالات دفعة واحدة، يعود كلّ منهم إلى رشده، ويرتدي وجهه الآخر المعروف ويحضر إلى المدرسة كي يأخذ دفتر علاماته كأنّ شيئًا لم يكن، وإن أعطي ملاحظة أو طرح عليه سؤال عن أسباب ما فعله يستغرب الملاحظة والسؤال معتبرًا أنّ ما جرى طبيعيّ، ويحدث في كلّ المدارس، ولا داعي لتكبير القصّة، فما قام به ورفاقه مجرّد "فشّة خلق" بعد كلّ هذه السنوات التي فرض فيها عليهم قوانين وأنظمة وامتحانات لا تعجبهم.
يجب التوقّف عند مجموعة أمور/ أسئلة قبل تحوّل هذه الظاهرة تقليدًا راسخًا لا مهرب منه: لماذا يعتبر التلاميذ المدرسة سجنًا؟ وكيف نعلّمهم أنّ الاحتفال بالتخرّج لا يجوز أن يشبه حفلة يقيمها أولاد الشارع في مناسبة خروج زعيمهم من السجن؟ وكيف نسيطر على موجة العنف التي تجتاح المدارس؟ وكيف نعلّم التلاميذ الفكر السياسيّ النقديّ من دون أن نخشى الوقوع في مساءلات دينيّة وحزبيّة وعائليّة؟ وهل يملك المعلّمون المؤهّلات التربويّة (لا التعليميّة وحسب) التي تخوّلهم الدخول في حوار مع تلاميذهم حول علاقتهم بالمدرسة؟
من السهل أن نطبّق القوانين على التلاميذ المشاغبين، ولكن هل هذه هي التربية السليمة والهادفة؟ وهل قمنا بالخطوات الاستباقيّة التي كانت بلا أدنى شكّ ساعدت على تحويل المدرسة مكانًا يخاف عليه التلاميذ ولا يخافون منه، مكانًا يهرعون إليه ولا يهربون منه، مكانًا للتفكير والتحليل لا للحفظ الببغائيّ؟ 
لعلّنا نحن المهتمّين بالشأن التربويّ مدعوون إلى محاكمة أنفسنا قبل محاكمة تلاميذنا.


الأحد، 24 أبريل 2016

بابوج الأرمنيّ ولا طربوش التركيّ


الصور عن صفحة الصديق
https://www.facebook.com/garabet.tahmajian





   * البابوج، كلمة فارسيّة تعني الخفّ أو الحذاء الذي يُنتعل في البيت، والطربوش كلمة تركيّة تعني غطاء الرأس... 
***
     معيبٌ أن نحافظ في لبنان على ألقاب وهبها العثمانيّون الأتراك لرجال قدّموا خدمات، لن نعرف الكثير عن نوعها وأهدافها وخفاياها في ظلّ التعتيم التأريخيّ الذي تفرضه توازنات البلد الطائفيّة والمذهبيّة.
    فأن يفتخر بعض اللبنانيّين بأنّهم من الأمراء أو البكاوات أو الباشوات، أو أن يصرّ أصحاب الوظائف الكبرى في البلد على تصدير أسمائهم بألقاب مثل "فخامة" و"سعادة" و"عطوفة" و"معالي"، أمران يشيران، في ما يشيران، إلى ما فعله الحكم العثمانيّ بالشخصيّة اللبنانيّة وهويّتها، قبل أن يكمل الانتداب الفرنسيّ والعولمة الأميركيّة على ما تبقّى.
     في فرنسا نفسها تمّ التعامل مع عملاء ألمانيا، بعد الحرب الثانية، كخونة يجب تجريدهم من حقّ المواطنيّة، بينما نحن في لبنان، ابن فرنسا الحنون بالنسبة إلى كثيرين، نجد للخيانة تبريرات ونبحث لها عن تفسيرات. ومن شاهد حلقة "تحقيق" التي عرضتها قناة الـMTV عن مجاعة الحرب العالميّة الأولى عرف كيف أنّ الذين ساهموا في تجويع الناس هم بعض تجّار البلد عهدذاك، وهم الذين يملك أحفادهم اليوم ثروات غنموها من حاجة الناس إلى الطعام. ولو كنّا شعبًا يحسن المحاسبة لكنّا طالبنا بمحكمة دوليّة لمعرفة من جوّع شعبنا وتتكتّم الوثائق على نشر هويّته (هويّاتهم).
    *****
    الأرمن فعلوا ما لم يفعله اللبنانيّون وسواهم من ضحايا الإبادة التركيّة، ولا ما فعله الفلسطينيّون حين أجبروا على ترك بلدهم.
    الأرمن لم يتناسوا كما فعل اللبنانيّون، ولم يحملوا السلاح كما فعل الفلسطينيّون... الأرمن عملوا بصمت مدوٍّ، وها هو العالم اليوم يعترف بالإبادة ويعلن معهم الحداد على مليون ونصف شهيد أرمنيّ... مليون ونصف قدّيس أرمنيّ... بينما فلسطين لا تزال معلّقةً على صليب اليهود، واللبنانيّون ضائعين في صراعات المنطقة التي لن تنتهي.
    في ذاكرتنا، عمل الأرمن في صناعة الأحذية والذهب وفي التصوير الفوتوغرافيّ ... كأنّهم منذ أجبروا على ترك أرضهم حفاة عراة، قرّروا أن يصنعوا لأقدامهم ما يساعدها على العودة، ولجيوبهم ما يملأها مالًا يقيهم شرّ العوز والحاجة، ولعيونهم أن تسجّل وجوه الناس وتاريخ الأرض في صورٍ تقضّ مضجع الذاكرة. تقوقعوا على أنفسهم خشية وريبة، وحين خرجوا إلى المجتمع الواسع اكتشف اللبنانيّون أنّ ثمّة شعبًا يخاف ولا يخيف. يخاف على لغته وتاريخه وشهدائه، ولا يخيف إلّا من لا يفهم خوفهم. كرهوا اللغة العربيّة بداية لأنّها، كما أوضح لي أحد الأصدقاء، تعني بالنسبة إلى الجيل الأوّل المسلمين، والمسلم يعني التركيّ، والتركيّ يعني من أراد إبادتهم. مع الوقت، بدأت الأجيال اللاحقة تتعرّف على المسيحيّين العرب، وعلى العرب المسلمين غير العنصريّين، وقرّرت أن تشرح القضيّة الأرمنيّة للعالم باللغات كلّها، والعربيّة من ضمنها.
    *****
    في طفولتنا، كانت المخيّمات الفلسطينيّة مخيفة (حواجز مسلّحة، وجوه واجمة، ملابس عسكريّة...) لم يخطر لنا أن نرى فيهم ضحايا... وبرج حمّود، معقل الأرمن، كان مجموعة متاجر يجلس على أبوابها عجائز يشبهون جدّاتنا وأجدادنا، وفتيات جميلات يبعن الحليّ والملابس والأحذية... لم يخطر لنا أن نسأل عمّا خلف الواجهة...في المخيّمات الفلسطينيّة لغة عربيّة تخيفنا لأنّنا نفهمها، وفي الكانتون الأرمنيّ لغة لا نفهمها لكنّها لم تكن تخيفنا وإن كنّا نجهل سبب التكلّم بها أمامنا.
    المخيّمات الفلسطينيّة كانت فقيرة معدمة بائسة صاخبة، بينما المساعدات تصبّ في مصارف العالم وأرصدة القادة. برج حمّود كان نظيفًا ومرتّبًا ولم يشر أحد أمامنا إلى مساعدات تُطلب أو إعانات تصل، أو حكومات عربيّة وعالميّة وجنوب أميركيّة ويساريّة تساعد... كان الأرمن وحدهم في مواجهة العالم.
    أقليّات أخرى هجّرها الأتراك (سريان، أشوريّون، كلدان)، الأرمن وحدهم من بينها فرضوا أنفسهم على الساحة الدوليّة وأجبرونا على تعلّم دروس الهويّة والانتماء والعزيمة والإصرار.
     لعلّنا اليوم، وفي وقت تقضّ ضمائرنا مشاهد العنف في لبنان وفلسطين وسوريا واليمن وليبيا، لا نحتاج إلى مزيد من صور الضحايا، فالجائع حين يصير جلدًا وعظامًا يشبه جائعي الأرض، والميت حين تتناشه الذئاب يشبه الموتى في كلّ مكان، والطفل الباحث عن يد أبيه واحدٌ مهما كانت لغته أو أرضه، والمرأة المغتصبة امرأة واحدة لا تزال الذكورة المريضة تعتدي عليها منذ أوّل حرب.
     لا نحتاج إلى صور أخرى عن بشاعة الإنسان وما قد يفعله الإنسان بنفسه وبالآخر وبالكائنات والطبيعة والجوّ والسماء والأرض...، بل نحتاج إلى مرايا، مرايا كثيرة، ننظر إلى وجوهنا فيها، فقد نرى، في ومضة ألوهة، أنّ سماءنا تبدأ هنا، وجحيمنا أيضًا... فإمّا أن ننتعل بابوج الأرمنيّ (بما يحمله المعنى من دلالات أبعد من الحَرف) ونمشي نحو الحريّة، أو نعتمر طربوش التركيّ (بما يحمله المعنى من دلالات أبعد من الحَرف) وفي رقابنا حبل المشنقة...  
     

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.