الجمعة، 23 مارس 2018

الريحانيّة ومخاض الولادة الثانية








     تولد رعيّة الريحانية اليوم من رحم ذاتها. تخرج إلى الحياة الجديدة بين هرج المشاريع ومرج المعترضين، تصرخ موجوعة من عبورها إلى بركة الحركة، بعدما كانت آمنة في حضن واد ساكن هادئ، لكنّها، ككلّ مولود جديد، تأخذ نفسًا وتقرّر المضيّ في الحياة. فهذا قدر أبنائها مذ انطلقوا في مغامرتهم الرعويّة بلا مال أو عقار، فأثبتوا أنّ إيمانهم صلب، وعزيمتهم لا تلين، وكنيستهم صخرة بكر، وصدرهم رحب.
    وككلّ ولادة، لا يخلو الأمر من ألم الانعتاق، لكنْ، مصحوبًا برجاء الانطلاق في مغامرة الاكتشاف! ومن حنينٍ إلى طمأنينة التقوقع، لكنْ، مطعّمًا بتوق إلى دهشة الاختبار!
    لهذا فلا يجتمع اليوم اثنان من أبناء البلدة إلّا وكان ثالثهما حديث الرعيّة والكنيسة - والخوري في طبيعة الحال-. وبين الاثنين، ثمّة واحد مهلّل للولادة، مستبشر بها، مهنّئ بسلامة الانطلاق، وواحد لا يوافقه الرأي ولا يشاركه الشعور، غير راضٍ عمّا يجري.
   هي طبيعة الأمور حتمًا. لكن حين أنظر وأنا غير المعنيّة مباشرة بالمسألة لكوني من غير الملتزمات والملتزمين، إلى العذارى الخمس الحكيمات يباركن خطوات التجديد، ومشاريع التوسّع، أطمئنّ إلى مستقبل الرعيّة. فجنفياف وناديا وأولغا وليلي وسيمون، الساهرات منذ تفتّح وعيّ كلّ منهنّ على الكنيسة، لن يقبلن للرعيّة بأن تكون منقسمة بين التقليد والتجديد، ولا أن تصير مشرذمة بين ساكنيها الأوائل والجدد الوافدين إليها، ولا أن تضربها رياح التفتّت، فيتفرّق بناتها وأبناؤها.
   العذارى الحكيمات يعرفن أنّ الحكمة ليست شعارًا، ولا عنوانًا، ولا مشروعًا واحدًا يتيمًا. بل هي العمل في صمت الخشوع، والشجاعة في قبول التغيير كما فعل الرسل الأوائل، والالتزام اليوميّ برسالة الكنيسة، بلا ادّعاء ولا مكاسب، والمحبّة التي تتّسع للجميع.
   لذلك، حين لبّيت دعوة الرعيّة للاستماع إلى ريسيتال في مناسبة عيد الأمّ، شاهدت كيف تراقب العذارى الحكيمات الحاضرات الأولاد والشبّان الذين يغنّون، وكلّهم من غير أبناء البلدة الأصيلين، أي من غير عائلات الحلو وبو لحّود والقصّيفي. كان في حضورهنّ ما يعطي شرعيّة لهذا التزاوج المشروع والمطلوب والطبيعيّ بين فئات الناس، فلا تبقى الرعيّة حكرًا على طبقة، أو عائلة، أو شارع، أو بناية...
    لم يكن أداء الأولاد محترفًا، ولم يدّعِ أحد أنّه سيكون كذلك. لكن من يعمل مع الأولاد الهواة، يعرف مقدار الفرح الذي يشيع في النفوس حين يغامر طفل بالعزف، أو حين تبادر طفلة إلى الترنيم. ففي وقوفهم أمام الناس، في تلك المناسبة المفعمة بالمشاعر، كان ثمّة كمّ هائل من الشجاعة والثقة والحبّ والفرح، وما المسيحيّة من دون كلّ ذلك؟
    نعم، الولادة الثانية انطلقت، انطلقت في هذا الجوّ الموسيقيّ البريء والعفويّ، وأهل الريحانيّة الذين بنوا الكنيسة بسواعدهم وأموالهم القليلة، كانوا شاهدين على هذه الولادة، فرحين بها، يباركها الراحلون منهم من عليائهم، ويدعون الأحياء إلى التهليل لها والاحتفاء بها، إذ ليس كالأموات الراحلين من يعرف قيمة الحياة ووجوب تجدّدها!

عن موت إميلي نصرالله وحياتها


1- رحلت إميلي نصرالله في الزمن الغلط. رحلت في موسم انتخابيّ قبيح لا تتّسع مهرجاناته ولقاءاته للحديث عنها. في زمن قحط إعلاميّ لا يلتفت إلى خبر غيابها إلّا على عجل وفي نهاية النشرة، ولا يواكب مراسم الدفن أو يسجّل لحظاته المؤثّرة. في عصر انحطاط ثقافيّ غابت عنه الصفحات الثقافيّة التي كان على أعمدتها أن تنحني احترامًا لدورها وعطائها.

ماتت إميلي نصرالله، لكن ليس قبل أن تحيا الحياة التي تشرّف الحياة.




2- غاب عن مأتم الست إميلي فلّاحون كانت منهم، وبقيت منهم. وغابت طيور انطلق مع أجنحتها حسّ روائيّ نقيّ صادق أصيل. وغابت أزهار حقول عشقتها لتحضر أكاليل، أين منها ورود زيّنت زوايا بيتها الذي هُجّرت منه، فأمرضها التهجير بعدما جرح قلبها غياب زوجها.

وعن هذا المأتم قالوا: شيّعت زحلة اليوم... - نعم، فقط زحلة - وليس لبنان كلّه، وليس عالم اللغة العربيّة كلّه... وليس عالم الأدب الذي ترجمت كتبها إليه..



3- أجمل ما كتبته إميلي نصرالله حياتها مع زوجها فيليب. حين التقيتها، وكان مريضًا، بدت كمن يعاني من نقص ما، أو كأنّها تائهة في عالم مخيف، أو كعاشقة مشتاقة حائرة تستعجل لحظة اللقاء به عائدًا من مرضه لتخبره تفاصيل يومها ومجريات الأحداث.

أعتقد أنّ الاستقرار العاطفيّ والعائليّ الذي عرفته مع الزوج / الحبيب هو ما أشاع الاتّزان والثبات في مسيرتها الأدبيّة. لكأنّ فيليب هو قريتها الكفير، وهو الأب والأم والأخوة، وهو الأرض المعطاء، وهو البيت الآمن، وهو الكلمة التي تولد منها روايات وقصص وقصائد ومقالات... وهو الرجل الذي تكتمل به المرأة بلا خوف على أنوثتها أو موهبتها...



4- ينتهي هذا اليوم، يوم عيد الأمّهات، وتخفّ وتيرة المعايدات، لكنّ وجه إميلي نصرالله، "أمّ الرواية اللبنانيّة" كما وصفتها صحيفة الأخبار اللبنانيّة، يعاند عتمة الليل، ورهبة الموت، فتشرق ابتسامتها من خلف حجاب الغياب، مضيئة باهرة.
كيف نعلّم أنفسنا أنّ الأمومة ليست احتفاليّة يوم في السنة، وأنّ الرحيل ليس موضوعًا صحافيًّا يُكتب وينشر إتمامًا لواجب، وأنّ الكتابة عمّن نقدّرهم ونحبّهم ليست موضة مرهونة بموسم أو مرتبطة بروزنامة، وأنّ تكريم المبدعين ليس فورة انفعاليّة، آنيّة، عشوائيّة، تنتهي لحظة يموت مبدع آخر؟
إميلي نصرالله! سنبحث عن أناقتك حين تجرح عيونَنا رداءةُ ما صارت ترتديه النساء، وعن تهذيبك حين تؤذي سمعَنا وقاحةُ مدّعيّات الجرأة، وعن جرأتك حين تصدمنا ادّعاءاتُ مسترجلاتٍ زحفطونيّاتٍ مزيّفات، وعن تواضعِك حين تشرئبّ أعناق شويعرات صغيرات لاهثات خلف الشهرة، وعن صلابة الفلّاحة التي فيك حين تثير اشمئزازَنا ميوعةُ اللواتي والذين يأنفون من ذكر القرية ويتعالون على ملمس التراب، وعن لغتك السليمة الصافية النقيّة الصادقة حين تبدو كلمات الآخرين ثرثراتٍ ترهق النفس.

لوحة ونصّ


الخميس، 22 مارس 2018

علّمني التعليم (في مناسبة عيد المعلّم) - 2010

هند أبي اللمع
 المعلّمة في مسلسل "المعلّمة والأستاذ" مع ابراهيم مرعشلي
1

علّمني التعليم أنّ الرجال ينقرضون في المدارس، وأنّ العنصر النسائيّ هو الطاغي مع ما يتركه ذلك من آثار نفسيّة وتربويّة على المتعلّمين، وأنّ عيد المعلّم سيكون قريبًا عيد المعلّمة.

*****
2

علّمني التعليم أنّ المثل القائل: "طعمي التم بتستحي العين" صحيح مئة في المئة. فالمدرسة التي تضطهد المعلّم وتهينه في شخصه وراتبه تسكته بوليمة طعام في مناسبة عيد المعلّم قبل أن تصرفه في آخر السنة. وبعد ذلك، كان الله يحبّ المحسنين، وكلّ عام والتعليم بألف صحّة وعافية.

*****
3

علّمني التعليم الصبر. لا على التلاميذ ولا على أهاليهم ولا على إدارات المدارس فحسب، بل على صندوق التعويضات. فأنا لا أستطيع أن أقبض قرشًا من تعويضي ما لم أتمّ السنة الخامسة والعشرين في التعليم من دون توقّف أو انقطاع. وبناء عليه، عليّ أن أبقى معلّمة حتّى اللحظة الأخيرة، ولا يهمّ إن علّمت رغمًا عنّي أو بطريقة لا علاقة لها بالتربية. المهمّ أن أدخل الصفّ وأحافظ على الحدّ الأدنى من الانضباط فيه ثمّ أخرج من دون أن أرتكب جريمة. وإن لم أحتمل ذلك فعليّ أن أصاب بمرض يعوقني عن التعليم (كأنّ القرف ليس مرضًا!) أو أن أتزوّج ( هل الزواج في هذه الحالة عقاب أم مكافأة؟) وما عدا ذلك رجس من أعمال الشيطان.

*****
4

علّمني التعليم أنّ أهالي التلامذة زبائن محقّون إن كانوا أثرياء، ومتسوّلون مزعجون إن كانوا فقراء، وأنّ المعلّمين موظّفون همّهم أن يبقوا في أماكن عملهم في عصر الصرف التعسّفي وصروف الدهر المتعسّفة، وأنّ المتعلّمين ضحايا كفئران المختبرات.

*****
5

علّمني التعليم أنّ الكاميرا أحسن حلّ لمختلف المشاكل التربويّة:  يتدافع التلامذة، تصدر ضجّة، يغشّ ولد في الامتحان، يهمل معلّم عمله، تتّسخ الحمّامات فتوزّع الكاميرات في كلّ مكان للقبض على الفاعلين. وبناء عليه لا داعي لحوار أو حديث أو تربية. فكاميرا العين الساهرة ترصد المشبوهين وغير المشبوهين، ويتحوّل الجميع ممثّلين يبتسمون بغباء للكاميرات. وغدًا حين تزرع أجهزة التنصّت في أروقة المدارس سيحلّ الصمت التام، وبعد غد حين يتطوّر العلم وتقرأ الآلة ما في الأفكار والقلوب سيسود الغباء.

*****
6

علّمني التعليم أنّ أهمّ موظّفَين في المؤسّسات التربويّة هما المسؤول الماليّ ومسؤول العلاقات العامّة.

*****
7

علّمني التعليم أنّ الفرق بين مدرسة تحت السنديانة والمدرسة الحديثة هو اللوح.
*****

8

علّمني التعليم أنّ استيراد المناهج المعلّبة ولو لم تعد صالحة للاستعمال في بلد المنشأ أسهل من التفكير في مناهج تلائم تلاميذنا، وأنّ المدارس أفضل مكان للثرثرة والنميمة ولكن...بشهادة معترف بها عالميًّا.

*****
9

علّمني التعليم أنّ تأليف الكتب المدرسيّة وكتب المطالعة الموجّهة والدروس الخصوصيّة مصدر سريع للكسب في بلد لا رقيب فيه ولا حسيب ولا ضمير.
*****

10

علّمني التعليم أنّ المعلّم يطلب من تلاميذه أن يعبّروا في حصّة التعبير والتأليف عن آرائهم بينما هو لا يجرؤ على التعبير عن رأيه، ويطلب منهم أن يفكّروا بمنطق في حصّة الرياضيّات وهو يؤمن بأنّ المنطق الوحيد السائد هو أنّ الفاجر يأكل مال التاجر.
*****

11

علّمني التعليم أنّ أكثر المدارس واجهات جميلة مزيّنة تخفي خلف لمعان زجاجها تلاميذ منوّمين ومعلّمين خائفين ومديرين غافلين.
*****

12

علّمني التعليم أنّنا شعب لا يفهم من أمور التربية إلّا تربية المواشي والدواجن ودود القزّ. وكلّ ما فعلناه حين انتقلنا إلى تربية الأولاد هو أنّنا استبدلنا "التلقيم" بـ"التلقين".

*****
13

علّمني التعليم أنّني لا أصلح للتعليم لأنّني لا أشبه أيًّا من القردة الثلاث السعيدة الذِكر: فلم أسدّ أذنيّ، ولم أغلق عينيّ، وبالتأكيد لم أقفل فمي.


صحيفة "النهار - الثلاثاء 9 آذار 2010

الاثنين، 19 مارس 2018

في مديح البنوّة (2016)


لا عيد للأبناء الصالحين، ولا احتفال بالأبناء البررة! هناك فقط أعياد للجدّين والأبوين... والطفل!
أمّا ذاك الإنسان الذي يمضي حياته ابنًا صالحًا أو ابنة وفيّة، فلا مكان له على روزنامة المناسبات، كأنّ الذاكرة الجماعيّة عاجزة عن الخروج من أسر منظومة عاطفيّة متوارثة، لا تقبل بدور جديد على مسرح العلاقات العائليّة.
فالطفل بريء من الدنس، والأمّ نبع الحنان، والأب مثال العطاء، والجدّان حاضنا الطفولة، والمعلّم شمعة تضيء لتنير درب الأجيال... ولكن ماذا عن الأبناء والبنات الذين ما إن يقسو عودهم حتّى يصيروا هم الأهل فيحملون مسؤوليّة والديهم بمحبّة نادرة، وعطاء مجّانيّ، وامّحاء كليّ؟
        يتناقل الناس قصصًا وأفلامًا عن الأبناء الذين يغضبون على أهلهم، ولا يصبرون على أمراض شيخوختهم، ولا يحتملون ما آلت إليه أوضاع والديهم. ولا أذكر أنّني قرأت أو سمعت ما يخفّف من قسوة الأحكام على هؤلاء الأبناء. فماذا لو رأينا – ما عدا في الحالات الشاذّة المتطرّفة – في البنوّة قداسة توازي الأمومة والأبوّة أو تفوقها؟
        فحين تصبر الأمّ على أخطاء طفلها وتعلّمه فلأنّها ترى فيه مستقبلًا واعدًا جميلًا، بينما حين يغضب الابن على خرف أمّه وكثرة أسئلتها فلأنّه يرى النهاية القريبة ويرفض تقبّلها.
        وحين تبدّل الأمّ حفاض طفلها، تناغيه وتداعبه وهي تفكّر في أنّه عمّا قريب سيكبر ويتعلّم أين يقضي حاجته وكيف، ولكن حين تبدّل الابنة حفاض والدها تبكي بحرقة لأنّها تشعر بحيائه أمامها ورفضه ما آلت إليه أوضاعه، ولأنّها تعي أنّ الأمر سيزداد سوءًا.
        فالوالدان يريان المستقبل المشرق، ولو كان ولدهما مريضًا، فسيتمدّان من هذه الصورة الأمل والقوّة، لكنّ الأولاد يرون في ما يصيب أهلهم من أمراض ذهنيّة وجسديّة نهاية حتميّة، نهاية حتميّة لما كان عليه الأهل ولن يعود إلى سابق عهده.
        فضلًا عن ذلك، لا ضمان شيخوخة ولا أمان واستقرار للعجزة (ولا للبلد كلّه)، ما يعني أنّ مسؤوليّة الأهل تقع على الأبناء: أدوية، مستشفيات، وسائل ترفيه وتسلية، حفظ كرامة، وذلك ليس سهلًا إلّا على الأثرياء. ومع اختفاء الطبقة الوسطى، وتحوّل أكثر الشعب اللبنانيّ إلى خانة الفقر والعوز، بات الأبناء الذين يعتنون بأهلهم - وخصوصًا إن صار الأبناء أرباب عائلات أيضًا - حاملين أضعاف أضعاف ما يمكن للمرء أن يتحمّله، ورازحين تحت ثقل الحياة العامّة والمعاناة الخاصّة. من دون أن ننسى أنّ ثمّة أبناء اعتنوا بأهلهم لسنين تفوق بكثير عدد السنوات التي اهتمّ فيها أهلهم بهم، وعاملوهم أفضل بكثير ممّا عوملوا به.
***
        يوم كان الناس في القرى محاطين بالأهل والجيران، لم يشكّل العجزة عبئًا. وزمن كانت الطبيعة ملعب الأطفال ومنتزه الشيوخ، لم يكن التقدّم في السنّ أزمة. وكان "يللي ما عندو كبير يشتري كبير" لكي يتعلّم منه الحكمة والمحبّة. أمّا اليوم، فالتقوقع في الشقق الصغيرة والبيوت الضيّقة يطبق على صدور الجميع، والطبيعة التي أضحت مكبًّا للنفايات غاب عنها أطفال كبروا على غفلة، وحُرم منها كبار تُضيّق البرامج التلفزيونيّة السخيفة عقولهم وتُصغّرها.

        لعلّنا، نحن الأبناء الذين تصحّ علينا صفة البنوّة، في حاجة إلى الفخر بأنفسنا وتقدير عطاءاتنا. فلا شكّ في أنّ الأمومة رائعة، لكنّها ليست رائعة إلّا لأنّها نجحت في تربية أولاد رائعين، والأبوّة عظيمة، لكنّها لا تكون عظيمة إلّا لأنّها خلّفت وراءها أبناء عظماء، لذلك فالبنوّة، هذه البنوّة، رائعة وعظيمة، وتستحقّ أن تسامح نفسها على تُهم التقصير والجحود التي ألصقت بها، ويليق بها أن تحتفل بنفسها وهي تتطهّر من عقد الذنوب التي لم ترتكبها.

الأربعاء، 14 مارس 2018

ابدع قلمها في كتابة المقال والقصة والشعر ماري القصيفي... روائية بامتياز- بقلم املي نصرالله



مقالة الروائيّة السيّدة إملي نصرالله في صحيفة الأنوار اللبنانيّة - 18 كانون الثاني 2012

أبدع قلمها في كتابة المقال والقصة والشعر 
ماري القصيفي... روائية بامتياز
املي نصرالله 
كنت أحسبُها توقِّع باسم مُستعار، وذلك منذ ان لاحظتُ ما تكتبه من مقالات تتميَّز بالجرأة والحيوية، الى لغة سليمة، وقويّة التعبير، من دون حشو أو تنميق. ولدى سؤالي عنها، علمت ان الإسم حقيقي وكذلك صاحبته، فاتصلت بها منوِّهة باعجابي بقلمها، كما هي حالي لدى اكتشاف أيّ موهبة، وخصوصاً إذا كانت نسائية.
انقضتْ فترة قبل ان يتمّ اللقاء بيننا، لاكتشف سيدة ذكية، مرحة وجميلة. 
ثم تابعتُ التعرّف الى أعمالها المنشورة في كتب، وكل كتاب ينافس الآخر إبداعاً وجرأة وسلامة لغة. 
وهي الى موهبتها الأدبية، أستاذة لغة عربية. لكن موهبتها الإبداعية طغت، وجعلتها تتبنّى أسلوباً يُطوِّع اللغة، ويُخضعها لخدمة النصّ ومحتواه، وهذا لا يحدث دائماً، خصوصاً عندما تُسيطر اللغة وقواعدها على كاتبها، فتسيّره بدل أن يمتلك زمامها. 
بدأت بهذه المقدّمة لكي أعبِّر عن فرحي بالتعرّف الى هذه الكاتبة المميَّزة بالذكاء، سرعة الخاطر ورقّة الإحساس، مما يُمكِّنها من جسِّ النبض الخفي في أسرار الكتابة. 
لكن أكثر ما يُميّز قلم ماري القصيفي، هو الجرأة، خصوصاً عندما تكتب في النقد، بعيداً عن مراعاة السائد من الأعراف والمفاهيم الإجتماعية التي ترفع أسواراً حول بعض الأشخاص أو التقاليد، وتُصنِّفها من المحرّمات التي لا يجوز المسّ بها. 
لقد أبدع قلمها في كتابة المقال والقصّة والشعر، وغاصت في كل منها بعمق. أما الآن، فسوف أحصر كلمتي هذه بآخر أعمالها، وهو روايتها الأولى وعنوانها كلّ الحقْ عَ فرنسا. وفي هذه الرواية يتجلّى قلمٌ مبدع، في يد أستاذة لغة، وعلم نفس وإنسانيات. 
وهي لا تمسك بزمام اللغة وحسب، بل بدائرة معارف الرواية، وما تحتاجه لكي تولد حيّة، ممتعة ومقنعة في آن معاً. كما ان الكاتبة تنطلق على السجيّة لدى إبحارها في السرد، ممتشقة ما يلزمها من أدوات في الأسلوب أو اللغة، ولا توفّر العامية عند الإقتضاء، من دون أن تسفّ أو يشعر قارئها بأنها تحيد عن خصوصية السرد الأنيق. 
من بعض أسرار النجاح في القصة أو الرواية جاذبية الأسلوب، والإمتاع في القص، ويأتي في الدرجة الأولى من لزوميات الرواية، تردفه اللغة المنسجمة، والملائمة، ثم الموضوع قيْد المعالجة، وقد تجلّى نجاح الكاتبة في كل من هذه العناصر. 
وتظهر براعتها في صنعة القصّ، بصورة خاصة، عندما تخوض في المواقف الحميمة، ليشعر بها القارئ عفوية وطبيعية، من دون أن تثير أيّ استغراب
أما الأسلوب فهو ما يلفت في الرواية، وكأنها نهر ينساب من عدّة مصادر، ويقف كل منها في موازاة الآخر، إذ تُعطي لكل واحد من شخصيات الرواية دور البطولة، فينهض أو تنهض ويمضي في أداء الدور الذي يخصّه، الى أن يلتقي الجميع عند الثيمة الرئيسة، والتي تكوّن المنبع والمصبّ. 
في كتابة الرواية، يُعتبر الموضوع المختار مهماً إذ يُكوِّن نقطة الارتكاز. لكن الأهمّ في تقديري هو كيفية السرد، وكيف نروي. وهذا يقتضي براعة في اللغة كما في الأسلوب، وماري القصيفي تملك هذه العناصر جميعاً، وتنطلق دائماً بعفوية تميِّز أسلوبها، وهذا سرّ نجاحها.


الاثنين، 12 مارس 2018

تغضبين وماذا ينفعك أن لا من يسمع ويجيب؟ 22 نيسان 1994



تغضبين وماذا ينفعك أن لا من يسمع ويجيب؟
        أستاذ زاهي وهبي
        كلّنا غاضبون،
        تختلف الأسباب، ربّما، لكن الغضب موجود.
        هو ليس غضبًا "ساطعًا"، مع الأسف.
        هو ليس غضبًا إيجابيًّا في كثير من وجوهه. أعرف هذا.
        ولكنّه موجود. يملأنا مرارة، يعبّئنا بشحنات من طاقة مهدورة سدى، لأنّنا لسنا قادرين على تحويلها إلى عمل مثمر، إلى نتيجة.
        كلّنا نشعر بالغضب
        لأمر تافه أو لقضيّة مصيريّة،
        لخطأ عابر أو لجريمة لا تغتفر،
        لكلمة أو لفعل،
        لنيّة أو لعمل.
        كلّنا غاضبون
        بعضنا يخجل من غضبه، فلا يظهره، بل يعالجه ويخفيه.
        وبعضنا يرى غضبه قضيّة خاسرة، فلا يعلنه.
        وآخرون يقولون: ماذا ينفع الغضب وليس هناك من يسمع أو يجيب؟
        نعم، أنا أغضب وأنفعل.
        والغضب عندي ردّة فعل عفويّة على كلّ ما أراه وأسمعه، ولا قدرة لي على تغييره.
        نعم، أنا أغضب، وقد أكون سريعة الغضب، ولكن غضبي ليس جرمًا أخبّئه وليس عيبًا أخجل به.
        نعم، أنا أغضب، تغضبني الأمور اليوميّة البسيطة كعجقة السّير، وصمت الهاتف وضجيج مولّدات الكهرباء، وتغضبني أمور أخرى كذلك.
        أغضب عندما أجد النّاس يتهافتون لشراء كتب "صخرة طانيوس"، وهو أقلّ كتب أمين معلوف أهميّة، عقدة القصّة قديمة، قرأناها في كتاب فؤاد افرام البستاني "على عهد الأمير"، تحت عنوان "موت البطريرك". وطانيوس الكشك نسخة معدّلة عن خليل الكافر عند جبران.
        وأغضب لأنّ لم يقل أحد، علنًا، إنّ جائزة غونكر الأدبيّة هي محاولة فرنسيّة سياسيّة، وإنّ الإستغلال السّياسيّ لها لن يعطيها القيمة الأدبيّة الّتي كنّا نرجوها ونتمنّاها لأدبائنا.
        وأغضب لأنّ الجوائز العالميّة تغرينا، حين إنّها لا توهب لنا إلاّ عند منعطف سياسيّ مهم. فهل نسينا إنّ جائزة نوبل للآداب لنجيب محفوظ ترافقت مع مفاوضات الصّلح بين مصر وإسرائيل؟ وها هي الصّحف تروّج للأديب السّوري حنّا مينه، فهل نحن على منعطف سياسيّ آخر؟
        أقول هذا الكلام والشّعور بالذّنب يرافقني. فهل أنا أفعل ما تتّهم الأديبة كوليت خوري العرب بفعله؟ ففي مقالة لها في مجلّة "المستقبل" تحت عنوان: "حرام تهشيم القيم"، قالت كوليت خوري: "إذا نبغ في دنيا موسيقانا فنّان حاربناه واستكبرنا عليه حتّى الهويّة. وإذا بزغت كالشّمس إمرأة مفكّرة ذات شخصيّة قويّة في مجتمعنا الأعرج المتخلّف... احترنا كيف نشوّهها شكلاً ومضمونًا فنجعل منها تافهة أو عاهرة".وتنهي الأديبة مقالها صارخة:
        "حرام يا ناس
        حرام يا أصدقائي
        حرام يا عرب".
        هل أسيء فعلاً  إلى أدباء بلادنا ومثقّفيها حين أشعر بالغضب تجاه فعل أو تصرّف أراهما في غير محلّهما؟
        ألا يغضبك، مثلاً، أن تسمع إعلاميًّا ناشئًا يقول لفنّانة كبيرة كصباح "شوكنتو قلال العقل"، في ليل مفتوح على كلّ الأخطاء، ووقت لا ينتبه المسؤول الثّقافيّ في المحطّة التّلفزيونيّة المعيّنة إنّ هناك فرقًا بين العفويّة وقلّة... الانتباه؟
        الا يغضبك، مثلاً، أن تموت إمرأة من الجوع في بناء مهجور في بحمدون وفي الأسبوع نفسه تقرأ عن طبيب أسنان، شاب يشتري أسهمًا في مشروع إعادة إعمار بيروت بمبلغ 25 مليون دولار؟
        ألا تغضب حين تعلم إنّ الصّحف أشارت إلى مقاعد فارغة في حفلة فيروز في لندن، حين أنّنا نحلم بحفلة تقيمها لنا في لبنان؟
        ألا تغضب حين تسمع اسكندر حبش ينصب الأسم بعد حرف الجرّ في حوار تلفزيونيّ، وحين يعتبر عبّاس بيضون نفسه مهمًّا إلى درجة أن "يستلقي" على كرسيه، وينظر إلى يحيى جابر من فوق الكتف؟
        ألا تغضب حين يرفض الشّعراء الشّباب التّعرّض لأيّ نقد أو تصنيف، ويقولون ما معناه: نحن نكتب وكفى، وهنا كنت أتمنّى لو سألهم عبّاس بيضون: لماذا تنشرون ما تكتبونه ما دمتم لا تريدون أن تسمعوا نقدًا؟
        ألا يغضبك قول عبّاس بيضون في اللّيلة نفسها: هذا كلام مقاه، لا أحد يكتب حقيقة الأمور في الجرائد؟
        كلّنا معبّأون بذلك الشّعور الّذي يدفعنا إلى الإحتجاج والإعتراض. من المهمّ أن نصرخ وإلاّ آلمنا غضبنا وجرحنا، أن نصرخ بكلمة أو بنظرة، وإلاّ وقف الغضب حاجزًا يحول دون قدرتنا على الإستمرار.
        نعم، أنا أغضب، أغضب على نفسي المتردّدة الّتي تخجل أحيانًا من فكرة "مختلفة" فلا تجرؤ على إعلانها، حتّى يفوت أوانها أو يسبقني أحد إليها. خلال الأشهر الماضية، خطر على بالي أن أكتب رسالة إلى الأستاذ شوقي أبي شقرا أشكره فيها على سماحه بنشر رسائلي، كنت أريد أقول له ما يقوله النّاس عادة بعد فوات الأوان. وخطرت على بالي هذه الفكرة بعد إن قرأت الكثير من الكلام منذ رحيل عدد كبير من رجالات الفكر والقضاء والأدب، وسألت نفسي، هل يعرف هؤلاء الرّاحلون ما يقال عنهم. أمدّ الله في عمر الأستاذ شوقي، خوفي من سوء الفهم أو خوفي من إثارة القلق عند الأستاذ الكبير دفعني إلى التّراجع عن الفكرة، فكتب الأستاذ علي شرف (1) حول الفكرة نفسها... وسبقني.
        وأغضب من نفسي لأنّي أطرح أفكارًا تثير الإستغراب والسّخريّة أحيانًا، كأن أطرح على المدرّسين فكرة المطالبة، لا بزيادة الرّاتب أو تعويض نهاية الخدمة، بل بأن تخوّلهم بطاقة النّقابة الدّخول إلى المسرح أو السّينما مجّانًا، وأن ينالوا حسمًا عند شراء الكتب والصّحف والمجلاّت واللّوحات والمنحوتات، فهل تتخيّل كيف كانت ردّة الفعل؟
        لن أعتذر عن غضبي، بل أشكرك لأنّك تقرأ وتجيب، وأعود لأؤكّد إنّ الغضب شعور شرعيّ، قد نسمّيه عتبًا، أو حزنًا، وفي الحبّ نسمّيه غيرة، ولكّنّه هو هو، ذلك الشّعور الّذي لا يهادن ولا يساوم.
        إنّه هنا، في كلّ واحد منّا، يبقى أن نترك له الفرصة ليجد لغته. وعلى ذكر اللّغة، ما زلت في انتظار رأيك حول اللّغة في المسرح، وقد تلقي اللّغة الفصحى، المليئة بالأخطاء، مزيدًا من الأضواء، سمعناها في مسرحيّة "تقاسيم على العنبر"، ليلة الخميس 14 نيسان 1994.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الجمعة 22 نيسان 1994
(1)              "النّهار" ، الأربعاء 23 آذار 1994          
* ميّ الرّيحاني إلى زاهي وهبي في بعض مشاهد الثّقافة.

العلاقة بالمبدع والتّغيّرات التي تطرأ - النهار 26 تشرين الأوّل 1993



العلاقة بالمبدع والتّغيّرات التي تطرأ
عند نهاية العرض المسرحيّ، اقنعت زملائي الطّلاّب بالتّأخر في الخروج، كي يغادر الحاضرون، لعلّنا نحظى بفرصة محادثة الممثّلين وتهنئتهم. كنت مملوءة بحماسة طفوليّة، وبإثارة طاغية عطّلت المنطق. وكلّ ذلك لأنّي قد أستطيع محادثة الممثّل ـ البطل.
كنت دائمًا ـ ولا أزال ـ مسحورة بالمسرح، بهذا العالم العجائبيّ الشّافي.
كنت ـ وما عدت ـ أعتقد أنّ الفنّان العظيم، على خشبة المسرح، عظيم حقيقيّ حتّى لو عاد إلى عالمنا، وأقنعت الّذين معي بهذا الوهم. ووقفنا وانتظرنا، وخرج البطل، عابس الوجه، محوطًا بالمقرّبين، ينظر إلينا، نحن المتأخّرين عن الرّحيل ويعقد حاجبيه استغرابًا. وإذ خانني الكلام، صفّقت... نعم صفّقت كالمراهقين الّذين لا يعرفون ماذا يفعلون للتّعبير عن انفعالهم وحماستهم. ولكن الممثّل هرع إلى سيّارته ساخرًا ما إن حاولنا محادثته.
مراهقة؟ ربّما
رومانسيّة؟ ربّما
ولكنّي هكذا، عندما يتعلّق الأمر بالمبدعين. يسحرني عطاؤهم، أقف مشدوهة أمام نتاجهم. ومنذ تلك اللّيلة، صرت أخاف الإقتراب منهم لئلاّ يصدمني تصرّفهم فأبتعد عن أعمالهم. فلماذا أريد التّعرّف إلى "الشّخص" وهناك احتمال، ولو ضئيلاً، أن أخسر المبدع الذي جعلني معجبة به.
لهذا، رفضت، متأسّفة، أن أقترب مرّة من الياس خوري حين أراد أحد الأصدقاء أن يقدّمني إليه. خفت أن يبدر منّي ما يلصق بذاكرتي وأنا أقرأ مؤلفاته، فينتهي السّحر وتفقد كتبه هالتها.
وعندما أصرّ أصدقاء آخرون على تقديمي إلى أحد الفنّانين، وهو ثوريّ متقاعد، فوجئت حين لم يجد هذا الفنّان ما يقوله لفتاة،لا شكّ انّها لفتت نظره بحماستها في حفلاته، وبمثابرتها على حضور أمسياته الغنائيّة، سوى تلك العبارة: "قربي حتّى بوسك" (إقتربي حتّى أقبّلك) وقبل أن أعي ما يقوله كان الفنّان الثّائر طبع قبلة على خدّي، واختفى قبل أن أقول كلمة ممّا كنت أريد قوله عن فنّه وموسيقاه. يبدو أنّه مقتنع إنّ كلّ من يحضرن حفلاته معجبات بشخصة، وربّما لأنّهنّ على رأيه، لا يجدن استعمال عقولهنّ.
أروي هذه الحكايات الطّريفة كي أطمئن الأستاذ عصام محفوظ إلى عدم انتمائي إلى طبقة المثقّفين المحيطة به. وشكوك الأستاذ محفوظ مفهومة ومبرّرة وإن كانت تسيء إليه بشكل لا أرضاه له. فأنا أرفض أن تكون كتاباته لأشخاص معدودين. فهل يكتب هو لنزيه خاطر فقط؟ وهل تزور مي منسى المعارض لتسبق لور غريّب ؟ وهل يكتب بلال حبيز ليثير أعصاب زاهي وهبي؟
إذا كان الأمر كذلك، فالوضع الثّقافيّ في أزمة أكبر ممّا يتصوّره النّقّاد والمحلّلون، وإذا كان محفوظ يؤمن بقولة سعيد تقي الدّين عن الرأي العامّ، فأنا أحفظ للأديب الرّاحل قولاً آخر: كلّ مواطن خفير.
لست سوى قارئة، وإذا كنت ذكرت تفاصيل بدت للبعض خاصّة "بطبقة إجتماعيّة" معيّنة، فذلك، لأنّي، وبكلّ بساطة، واحدة من الّذين يفترض بهم أن يؤلّفوا قوّة ضاغطة ـ نحو الأعلى إذا جاز التّعبير ـ ومؤثّرة، تقول للمبدعين: نحن هنا.
فليطمئنّ المبدعون، لست جاسوسة بينهم، ولو كنت من المقرّبين لوفّرت عن نفسي عناء البحث في كتبهم ومقالاتهم، وتبويب مواضيعها والمقارنة بينها. وما أدراك ماذا تجد حين تقارن بين قديم الكتابة وجديدها؟
لكن المبدعين عندنا يصدّقون انّ الإنسان سميّ هكذا لأنّه ينسى (على قولة عمّك أيّوب)، ويشكرون ربّهم على ذلك.
"تكتب بداية العارف به وبأحواله" يقول زاهي وهبة. هذا صحيح "لا أريد من الحبّ غير البداية" يقول محمود درويش.
لا أريد من هذه العلاقة بالوسط الثّقافي سوى أن أبقى على حدود الهديّة. أحاول أن أرسم ألف صورة وصورة لما في داخلها، دون أن أقع في فخّ محاولة التّأكّد.
ولكن كيف تهرب من واقع يفرض نفسه، إذ فجأة "يأتيك بالأخبار من لم تزوّد". وتقع عيناك صدفة على قولة هنا، ومقالة هناك، تفاجئك محتوياتهما المتناقضة مع ما كنت تعتقده.
أمّا المفاجأة التي انتطرتني هذا السبوع فكانت السّبت 22 تشرين الأوّل، حين اكتشفت في الياس خوري شخصيّتين:
أحداهما ـ عبر مذكّرات أيّوب ـ مملوء صاحبها بالمرارة والألم بحمل هموم الوطن وينوء تحت المتاعب. يتذكّر وصيّة "إنعام" منذ عهد الزّمالة في "السّفير"، يوم قالت له: "أكتب قصّتي". "هي لا تعرف أنّها كسرت كلّ الكتابة".
الياس خوري هذا، الحزين، الخجول من قلمه وورقته، المنكسرة عيناه في الأرضلأنّه ما عاد يجرؤ "على النّظر إلى عيون المرأة التي تنتظر"، الياس خوري هذا، أكاد أهرع إليه بعد المسرحيّة لأقول له: دعني أشاركك في حزنك، وأتذكّر... أتذكّر أنّه "مبدع"، وقد يفاجئني بما لا انتظره.
أمّا الشّخصيّة الثّانية التي اكتشفتها فيه يوم السّبت، فهي شخصيّة الرّجل الرّجل، الذي يعجب بالجمال الأنثويّ ويقدّر صاحبته، ويتعاطف مع ممثّلة "مدهشة وغنيّة ومتعدّدة" المواهب، ويتألّم لوحدتها على المسرح مع إنّها محوطة بالرّاقصين والرّاقصات (لماذا الإنتحار يا نابغة؟)، يتمنّى لو كانت له القدرة "لفكّ الحصار عن روحها وجسدها"، "هذه الطّاقة المتوهّجة بالحياة التي لا تنطفئ" تجد نفسها في "حكاية ساذجة". ولا تحتاج لكي تبقى على توهّجها إلاّ إلى كاتب ضليع.
وما على مهندسي بيروت "الجديدة" سوى تغيير خرائط المدينة المدمّرة، وإعادة رسمها لتربط عين المريسة بشارع الحمراء، وإن لم يكن في الأمر جمال هندسيّ. و"على الأقلّ" سيكون فيه إبداع مسرحيّ وتوهّج حضاريّ مشعّ. أليس هذا ما نريده من ذاكرة بيروت الثّقافيّة؟
في مسرح بيروت، كنت، ليلة السّبت، محوطة بمزيج عجيب من المشاهدين. ففي حين إنّ إحداهنّ لم تعرف من هو فوزي القاوقجي، وتحاول أن تحزر من هي السّيّدة التي طردت أهالي المخطوفين، كان ذلك الشّاب الجالس إلى يميني يكتشف من هو وزير الدّاخليّة الذي أراد إعادة تصميم بيروت، ويعلّق ـ ذلك الشّاب نفسه ـ بذكاء متسائلاً: ما علاقة لينين وستالين والحزب الشّيوعيّ بالله؟
وبعد إن سمعت أحدهم يعترض على مأساويّة العمل وسوداويّته، قال آخر أنّه سيكتب مقالة حول هذه المسرحيّة.
بين هذه الأصوات المتناقضة، خطرت على بالي فكرة أزعجتني ورافقتني طوال مدّة العمل: ماذا لو كان الخاطف موجودًا معنا. حاولت أن أبحث عن رأسه لأراه يتأثّر بما يراه، ويصفّق موافقًا، ويقف احترامًا للنّشيد الوطنيّ. وبعد المسرحيّة، سيخرج ليصافح المخرج مهنّئًا ويعود إلى منزله مطمئنًّا. وسترتجف عظام نايفه حماده في قبرها. وستضطرب يد روجيه عسّاف دون أن يعرف السّبب: إذ صافح الخاطف الذي ضاع في عجقة النّاس. وقد يصافحه معجب آخر ثمّ يذهب ويوصي بوقف عرض المسرحيّة، وآخر يستعجل التّهنئة والذّهاب كي ينام باكرًا، عنده في الغد موعد جديد مع "الجرّافات". قال لي موظّف شاب في إحدى المكتبات: "أيّام الحرب كانت أحلى، يمكن الأولاد الآن سيفرحون بسلام المستقبل، أمّا نحن فتعوّدنا على الحرب".
لا أدري إلى أيّ حدّ يمكن لنا أن نوافق على كلام هذا الشّاب، وإلى أيّ حدّ نقبل أن نتعايش مع القتل والإجرام والبشاعة. ولكن الحرب لم تحرمنا على الأقلّ فرصة اكتشاف المجرم من البريء. أمّا اليوم فالمجرمون ذوو أقنعة مختلفة ولا مجال لاكتشافهم. فقد يكونون إعلاميّين في مؤسّسة ما، أو مهندسين لإعادة الإعمار أو راعين لأعمال فنّيّة، وقد يكونون مفكّرين ومخطّطين لمستقبل أفضل. وهنا تضع الحرب قفازًا أبيض حريريًّا فلا يرى أحد بشاعة اليد المختبئة.
العلاقة بين المبدع والمتلقّي، والتّغيرات التي تطرأ على المبدع وتبدّل انتماءاته كلّما تغيّر الهواء في بلد ما، أو كلّما ارتفع عدد متتبّعي انتاجه الأدبيّ أو الفنّيّ، وترجمت أعماله أو دعي إلى عواصم. و"إعادة الاعتبار" للقارئ النّاقد الذي في إمكانه أن يناقش بقدر ما يورّط في القراءة، كلّها مواضيع قد تحتاج المرحلة الثّقافيّة الرّاهنة إلى كثير من الكلام حولها.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الثّلثاء 26 تشرين الأوّل 1993
*الرّسالة الثّالثة إلى زاهي وهبي في المساجلة نفسها وفي أحوال الثّقافة.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.