الثلاثاء، 26 يونيو 2018

الأب الرئيس بيار أبي صالح يكرّم الكلمة في عيد شهيدها مار يوحنّا المعمدان





تصفّحت اليوم العدد الخاصّ من مجلّة "البراعم" (الحكمة برازيليا) الصادر في مناسبة يوبيلها الفضيّ. وفيه مقابلة أجرتها معي تلميذات كنّ في بداية حياتهنّ المدرسيّة حين غادرت المدرسة.

أتقدّم، بداية، بالشكر العميق من الأب الرئيس بيار أبي صالح، الذي اقترح عليّ في شهر شباط إجراء المقابلة، ودعاني للمشاركة في الاحتفال. ولقد وافقت يومذاك على المقابلة، فأنا في كلّ ما يتعلّق بالتلامذة أضعف من أن أرفض، عدا عن تقديري لمبادرة الأب الرئيس اللطيفة الكريمة المفاجئة، لكنّي اعتذرت عن عدم المشاركة في احتفال آخر السنة، وهذا ما تفهّمه الأب أبي صالح. ومع ذلك، فقد وجّه إليّ دعوة خطيّة احترامًا منه لمبادرتي في تأسيس المجلّة، ومراهنًا في الوقت نفسه على احتمال أن أغيّر رأيي.
وأتقدّم بالشكر من الأب أبي صالح لأنّه احتفى بالمجلّة في حدّ ذاتها، فهذا يعني أنّه يولي الأمور الثقافيّة الإعلاميّة الاهتمام اللائق. فجعل الاحتفال بها، مع عيد المدرسة وذكرى سيامة الأب الراحل مرسيل الحلو، مناسبة للاحتفال بدور الكلمة التي هي في صلب التربية والتعليم والكهنوت.


المحاوِرات: ماري نور صليبي وألين صايغ  وبيا نعمه
إنّي، إذ أذكّر دومًا بكوني مؤسِّسة المجلّة، وهو أمر لن أتواضع في شأنه أو أتساهل في أمر من يتجاهله عند التأريخ لها، لا يسعني سوى الإشادة بكلّ الذي عملوا على استمرارها، مسؤولين ومشرفين وتلامذة. فليس سهلًا أن تستمرّ مجلّة ورقيّة في زمنٍ تتوقّف فيه مجلّات وصحف عن الصدور. قد تكون لي آراء في إخراجها وموضوعاتها، لكنّي أعرف، وأنا أطلق مجلّة جديدة في الحكمة هاي سكول، بتشجيع من الأب الرئيس كبريال تابت، أنّ الأمور لا تكون دائمًا على مستوى ما نحلم به، وذلك لأسباب تنظيميّة وظروف ماديّة. فأمام الصعوبات التي تواجهها المدارس الخاصّة، يبدو إصدار مجلّةٍ ما ترفًا لا نعرف إلى متى ستسمح لنا الظروف بالاستمتاع به، وفي مواجهة رفض التلامذة الكتابة لصالح المرئيّ والمسموع يجب الاحتفال بكلّ نصّ.
 ومع ذلك، يبقى الرهان على التلامذة الذين يحبّون الكتابة، وعلى معلّمين ومعلّمات يشجّعون المواهب، وسوف يجد الجميع وسيلة للتعبير مهما صعبت الظروف.

إنّ امتناني لرئيس المدرسة الأب بيار أبي صالح الذي كرّم الكلمة في عيد مار يوحنّا الذي دفع حياته ولم يتراجع عن قول الحقّ، وسعادتي بالتواصل مع تلامذة لا أعرفهم عبر ثلاث شابات أجرين المقابلة بلياقة وتهذيب وحسن استعداد، لا يوازيهما سوى فخري بتلامذة كانوا يكتبون في "البراعم" وعادوا وكتبوا احتفاء بيوبيلها، وكان لي حظّ المرور في الحياة المدرسيّة لكلّ منهم: إليان بو فاضل الحلو ومجد علّيق وماري بو فاضل الحلو وغريس مخايل ورشا ياغي وإلسا قهوجي ورالف معتوق... فمِن هؤلاء، وسواهم، من الذين خطّوا، ولو سطرًا، في هذه المجلّة، أستمدّ رغبة في تأسيس مجلّة جديدة لحكمويين آخرين يمتشقون أقلامهم ليزيّنوا الصفحات بالشعر والفكر.
فلبراعم الحكمة برازيليا أمنياتي بالاستمرار، ولـ"سيفنا القلم" تصدرها الحكمة هاي سكول انطلاقة مباركة!

الأحد، 24 يونيو 2018

من مجلّة "البراعم" إلى مجلّة "سيفنا القلم": شرف الزرع وشغف التأسيس

العدد صفر التجريبيّ عهد الأب الرئيس مرسيل الحلو

افتتاحيّة العدد الأوّل بقلم الأب ريشار أبي صالح

افتتاحيّة العدد الثاني بقلم الأب ريشار أبي صالح

افتتاحيّة العدد الثالث بقلم الأب داود كوكباني
بطاقة الدعوة إلى الاحتفال وقد خصّني بها رئيس المدرسة الأب بيار أبي صالح



اليوم مساء (24 حزيران 2018)، تحتفل مدرسة الحكمة برازيليا بمناسبات ثلاث: عيد شفيعها مار يوحنّا المعمدان، مرور ستّين عامًا على سيامة المونسنيور الراحل مرسيل حلو، وربع قرن على انطلاق مجلّة "البراعم" التي أسّستُها عهد كنت مدرّسة فيها.
في الحفل، الذي أغيب عنه، أحضر ويحضر معي آخرون غيّبهم الموت: المونسنيوران لويس ومرسيل الحلو، والأستاذان طعمة ونهاد بو جبرايل، والدكتور سليم قهوجي، والخوري داود كوكباني. ولكلّ منه دوره في تسهيل مهمّتي الصحافيّة تلك:
فالمونسنيور لويس الحلو كان أوّل من استقبلني في المدرسة يوم دعاني الدكتور قهوجي للتدريس فيها. لم تكن معرفتي به وثيقة، غير أنّي وثقت برؤياه التربويّة وحسّه الإداريّ.
المونسنيور مرسيل الحلو هو من انطلقت المجلّة في عهد رئاسته. كان ويبقى بالنسبة إليّ لاهوتيًّا كبيرًا، يملك موهبة فذّة في الوعظ والإرشاد والتعليم، ظُلم حين طلب منه أن يعمل في إدارة المدارس. وحين وافق على إطلاق "البراعم" في عددها التجريبيّ كتب افتتاحيّتها بادئًا بالقول "أمام هذه البادرة الثقافيّة الطيّبة، يسرّني أن أحيّي فيكم، عزيمة على الانطلاق، وتصميمًا على العطاء، ورغبة في تجاوز العمل المدرسيّ المألوف، إلى أفق أرحب"؛ وفي مكان آخر قال للتلامذة: "اخترتم إذًا وسيلة إعلام هي الصحافة، ولو عاد القدّيس بولس داعيًا إلى رسالة السماء، لاختارها وسيلة اتّصال بين الأمم، والتقاء بين الشعوب، ولبثّ من خلالها تعاليمه إلى البشر، ولما تحمّل مشقّة التنقّل في رحاب الأرض، مبشرًا بالحقّ والنور والحياة".
الدكتور قهوجي كان من عمّد انطلاقة المجلّة ومنحها اسمها، وإن لم يكن له دور مباشر في مواكبتها واختيار موضوعاتها، غير أنّه حرص على إيلاء الجانب اللغويّ فيها الأهميّة القصوى.
أمّا الأخوان بو جبرايل فكانا السند القويّ لعهد المونسنيور الحلو، واستطاعا تباعًا أن يتركا بصماتهما على يوميّات المدرسة، في الإدارة والتعليم والتربية والأنشطة. وإن صحّ الحديث عن شهداء في التربية، فقد يكون الأستاذ طعمه بو جبرايل شهيدًا غير معلن، إذ قضى بنوبة قلبيّة وهو في عزّ عطائه وتفانيه، وفي ذروة سعيه لمتابعة التفاصيل وتأمين سير العمل.
في المقابل كان الخوري كوكباني سندًا لي حين كادت المشكلات التنظيميّة اليوميّة تعرقل تنفيذ أفكاري التي أعي اليوم كم كانت سابقة عصرها، ومخالفة السائد الممجوج. ولعلّه الوحيد الذي انتبه إلى أهميّة ما أفعله في جعل الأنشطة وسيلة لتقريب اللغة من ذائقة التلاميذ، بأساليب ثوريّة سبقت تجديد المناهج. والمجلّة كانت واحدة منها، فكتب افتتاحيّة العدد الثالث منها.
يرتبط هؤلاء الأشخاص بتاريخ المدرسة كما أعرفها، فهم صنّاع علاقتي بها، وراسمو هويّتها في بالي، ولو كانوا لا يتشابهون. الآخرون كانوا بطريقة ما في خلفيّة الصورة، ما عدا اثنين، أطال الله في عمريهما، هما الأب ريشار أبي صالح الذي ساند المجلّة بقوّة عهد عمله في المدرسة، وساعدنا على إصدار ثلاثة أعداد في سنة دراسيّة واحدة (كانت له كلمة الافتتاحيّة في العددين الأوّل والثاني) وذلك بعدما آمن بدورها بحسب ما رآه في العدد التجريبيّ رقم صفر؛ والأب الرئيس كبريال تابت الذي سمح بالاستمرار في صدورها وواكب أعدادها إشرافًا وإخراجًا، وأصرّ على أن تتساوى فيها الموادّ الدراسيّة كلّها، ولو على حساب الزخم الذي طبع القسم العربيّ منها، فكنّا نحذف على مضض موضوعات ومقالات ومقابلات حين يعجز الآخرون عن مجاراتنا.
عمل كثر في مجلّة "البراعم"، بطبيعة الحال، إعدادًا وتدقيقًا لغويًّا وإخراجًا وتصويرًا، لكن وفي خلال مسؤولياتي عنها إلى حين اضطراري إلى ترك المدرسة، كان التلامذة هم أهمّ المساهمين في المجلّة، فمن أجلهم أنشأتها، ومعهم عملت بها، وبهم ازدهت وازدهرت واستمرّت. وما زالت ذكرياتي معهم، منذ عهد التأسيس والانطلاق، تطمئن الوجدان إلى مسيرة تربويّة خضتها مقتنعة مؤمنة، وأغادرها، قريبًا، فخورة لأنّني حيث مررت أحدثت فرقًا، وتركت آثارًا. لقد حصدت حاسدين مبغضين بطبيعة الحال، لكنّ عددهم لن يصل، ولو كثروا وتكاثروا، إلى أعداد الخرّيجين الذين جعلتهم يحبّون قصيدة أو يعجبون بأغنية، أو يكتبون مقالة، أو يساهمون في عمل مسرحيّ.
اليوم، تطوي "البراعم" ربع قرن من الزمن، فيصدر عددها الاحتفاليّ وفيه مقابلة أوعز بإجرائها معي، مشكورًا، رئيس المدرسة الحالي الأب بيار أبي صالح، وتطوي الحكمة هاي سكول كذلك (يا للصدفة!!) ربع قرن من العطاء، فأنشأتُ فيها للمناسبة، وبتشجيع من الأب الرئيس كبريال تابت، مجلّة تحمل اسم "سيفنا القلم" أتمنّى لها العمر والديمومة. ومع سابق علمي بأنّ تحديّات عالم التواصل الإلكترونيّ والنشر غير الورقيّ عاملان لا يسهل تحدّيهما، أجدني أملك من الإيمان بقدرة العمل الصحافيّ المكتوب، وسحر الورق، ما يكفي لأخوض مغامرة التأسيس مقتنعة بأنّ التلامذة لن يخذلوني، وبأنّهم يستحقّون، كزملائهم منذ ربع قرن، أن أتيح لهم فرصة التعبير، فيكون القلم سلاحهم يحاربون به الجهل والتعصّب والسطحيّة والعنصريّة والطائفيّة... فتزهر براعم أفكارهم، وتعقد، وتثمر، فيأتي الجنى وفيرًا ولو صعبت الظروف، وتبقى الكلمة وسيلة انطلاق حين تضيق الأرض.
لقد كان لي شرف الزرع وشغف التأسيس، وأنا إذ أطوي كذلك الصفحات الأخيرة من كتاب التربية، لا يسعني سوى أن أتمنّى على القيّمين على "البراعم" و"سيفنا القلم" أن يسلّموا أمر المجلّتين للتلامذة، وألّا يفرضوا عليهم مواضيع التعبير الكتابيّ والإنشاء، بل فليتركوا لهم متعة الانطلاق نحو الصحافة الراقية والتعبير الحرّ المسؤول، ففي هذين فقط يجدون أنفسهم ويجدّدون أفكارهم، وعند ذلك يكتشف الجميع شرف الحصاد وشغف الاستمرار.

الخميس، 21 يونيو 2018

لِمَ التّقليد ولا ضرورة للمبدع؟ - جريدة "النّهار" الأربعاء 19 تشرين ألأوّل 1994

زمن المسرح الجميل


المشهد الثّقافيّ حين التّوقّف والتّأمّل
لِمَ التّقليد ولا ضرورة للمبدع؟
بات الحديث عن المشهد الثّقافيّ عاجزًا عن تقديم الجديد أو تجديد القديم، وصرنا نشعر حين نكتب عن هذا الموضوع أنّنا نستعيد الكلام ونستحضر المشاكل، دون أن يكون للكلام أثر فاعل، ودون السّماح لنا، حتّى عبر الحلم، أن نجد حلولًا.
وحين ننظر إلى هذا المشهد في شكل إجماليّ لا يلفتنا إلّا القليل من الومضات العابرة والسّريعة، حين صدمنا التّقليد والاجترار وتخيفنا احتمالات الفراغ، ما يجعلنا نضع الهزيمة عنوانًا وحيدًا لهذه المرحلة.
ثمة خسارة أكيدة في رحيل المبدعين، ونحن حين نقول الرّحيل نهرب بسذاجة من كلمة موت، وكأنّنا ننتظر عودة الرّاحلين. ربّما يحمل موت المبدعين هذا الرّجاء. فنحن عبر أصواتهم وإنتاجهم، كلّ واحد في مجال عطائه، نستعيد هؤلاء المبدعين ونبقيهم على قيد الحياة. ولكنّنا لا ننفي إنّ موتهم  خسارة مضاعفة لأنّنا نفقد إضافة إلى الإنسان ، الطّاقة الإبداعيّة، وخاصّة إذا كانت في عزّ عطائها.
أعتقد إنّ الحديث عن الخسارة عند رحيل كلّ مبدع اعتراف مبطّن بالخوف من الفشل في إيجاد إبداع جديد ومواهب جديدة. ولذلك ربّما تتكرّر هذه العبارة في كلمات الرّثاء: "كان (الرّاحل) موهبة لن تتكرّر". ومن قال أصلًا إنّ هذه الموهبة يجب أن تتكرّر. أليس من منطق الحياة أن تولد مواهب جديدة؟ ألهذه الدّرجة فقدنا الثّقة في إمكان وجود قدرات عطائيّة واعدة؟ قد يكون هذا هو السّبب الّذي يجعل بعض النّقّاد يحاربون أي كتابة مختلفة أو أي عطاء جديد ويسخرون منهما لأنّهم لا يجدون في هذا الجديد صدى أفكارهم أو أثر أسلوبهم.
والمضحك المبكي أنّنا نفاجأ مع كلّ رحيل بمواقف مثيرة للشّفقة ما يجعلنا نعتقد إنّ الموت يتقصّد ذلك ليظهر ما فينا من رغبة في وضع أنفسنا في مواقف ساذجة.
أليس من الضحك المبكي أن ننتظر ما ستفعله لجان التّكريم ونحن لم ننس بعد لجنة تكريم عاصي الرّحباني ولجنة تكريم هند أبي اللّمع ريمي وغيرها من اللّجان، وصولًا إلى لجنة إحياء ذكرى رياض شرارة؟
أليس من المضحك المبكي أن نلاحظ أعراض التّعب والمرض على كثير من النّاس يوم دفن رياض شرارة، ونشهد على وعودهم بالامتناع عن التّدخين والقهوة لئلّا يموتوا كما مات، و"نسمع تعليقهم الوحيد: يبدو أنّه كان إنسانًا حزينًا أو لما مات"، ثمّ نسمع نقابة الفنّانين تتّخذ قرارها ضرورة قيام الفنّانين بالفحوصات الطّبيّة؟
أليس من المضحك المبكي أن يخطر على بالك أنّ هؤلاء النّاس قالوا هذا الكلام مرارًا ـ ألا تذكرون وفاة فريال كريم؟ ـ ثمّ نسوا وعادوا إلى الدّخان والقهوة والضّحك. وسينسون وسيعودون للتّفتيش عمّن يدفعهم إلى الضّحك ولو على أنفسهم زمن ما عدت قادرًا على التّمييز بين الضّحك والبكاء؟
أليس من المضحك المبكي أن تبدو لك الدّولة ضاحكة في عبّها، شاكرة ربّما لأنّها غير ملزمة التّأمين الصّحيّ على المبدعين، فالموت أرخص والوسام أقلّ ثمنًا، من تكاليف ليلة يقضيها مبدع مريض في المستشفى؟
وها هو مشهد ثقافيّ آخر يطرح المزيد من الأسئلة:
شهد مسرح بيروت خلال الأيّام السّينمائيّة لمارون بغدادي إقبالًا شديدًا وخاصّة من جيل الشّباب، وهو ما أعطاه الياس الخوري تسمية حلوة إذ قال إنّ ذلك "دليل عطش".
مع التّوقّف قليلًا عند هذه الظّاهرة المباركة لا بدّ أن نسأل هل هذا الحشد بهذا الحجم لأنّ مارون بغدادي رحل؟ وهل كان يمكن لو دعا هو بنفسه إلى مهرجان أفلامه أن يجد الحشد نفسه؟ أما كان رائعًا أن يشهد هذا المخرج على التّقدير والإعجاب والإصرار على حضور أفلامه وإن جلوسًا على الأرض، وهو يتمتّع بالحياة ويستمتع باستمتاعنا بأفلامه بما تحمله من وجع؟
عسى أن تكون هذه التّظاهرة بادرة خير، ولعلّنا نتعلم كيف نشجّع أعمال المبدعين وهم بيننا يقبلون الملاحظة ويأخذون بالنّصيحة، هذا إذا تفاءلنا وصدّقنا إنّ النّقد نقد بنّاء، وإنّ هؤلاء المبدعين في مرتبة من التّواضع تجعلهم مستعدّين لتقبّل النّقد.
ولكن هذا لا يمنعنا من إبداء ملاحظتين: أوّلاً إنّ غياب هذه العجقة عن مناقشة أفلام مارون بغدادي غير مبرّرة وغير مفهومة فلا يمكن أن يكون هؤلاء الّذين تابعوا الأفلام وهم في أكثرهم من جيل الشّباب يعرفون كلّ شيء عن بغدادي وعن تجربته السّينمائية وصراعاته المتعدّدة الاتجاهات.
ثانياً، إنّ غياب الوجوه الإعلاميّة البارزة عن هذا اللّقاء غير مبرّر أيضاً، بل مثير للشّكوك، فإذا كان الأمر موجّهاً ضدّ الّذين أداروا النّدوة وهم الياس خوري وعباس بيضون ومحمد سويد، فالأمر مؤسف فعلاً، لأن في إمكان هؤلاء الغائبين أن يحضروا ويلقوا الأضواء على ما كان يمكن أن يعتبر تغييبًا مقصودًا. دون أن ننسى إنّ الّذين أداروا النّدوة أوضحوا أنهم لا يستطيعون الإجابة عن الأسئلة عوضاً عن بغدادي. بل أن الهدف من اللّقاء هو فتح باب النّقاش حول أعمال بغدادي.
وإذا كان الياس خوري شديد الإنفعال أحياناً، شديد الحماسة لما يعتبره صواباً فيخيف بعض العناصر الشّابة الّتي كانت تريد أن تبدي رأياً مختلفاً حتّى لا نقول مخالفاً، ولكّنها امتنعت خشية تعليق مبطّن أو ملاحظة قاسية اللّهجة، وإن لم تكن قاسية المضمون، إذا كان الياس خوري كذلك، فهذا لا يعني أنّنا، نحن الجمهور العادي، لا نطالب بالمواجهة الثّقافية الحقيقيّة لأن فيها ثقافتنا و"الثقافة معرفة".
وقد يعطي غياب هذه الوجوه الإعلاميّة عذراً لسيّئي النّية كي يقولوا إنّ هؤلاء النّقاد لا يتواجدون – وبكثرة – إلّا إذا كان المحتفى به حاضراً وشاهداً على حضورهم وكتاباتهم. وقد يستطرد سيّئو النّية هؤلاء ويقولون إنّ مناقشة أفلام ميشال خليفي شهدت وفرة إعلاميّة ظاهرة، وسيطرت فيها آراء هؤلاء النّقّاد وأصوات تحيّاتهم مرافقة بالدّعوات العلنيّة إلى عشاء هنا وسهرة هناك، لا أدري كم لبّى منها منها المخرج الفسطيني.
ثمّة رتابة واجترار في المشهد الثّقافيّ يجعلان المتلقّي شديد الحساسيّة تجاه ما يراه أو يسمعه، معتبراً إنّ علامة استفهام كبيرة ترتسم أمام كلّ عطاء. وإن طرأ جديد ما، فغالبًا يكون هذا الجديد إمّا نافرًا غير منصهر في الحياة الثّقافيّة، وإمّا مرفوضًا لأنّه، وبكل بساطة، جديد. ويصحّ هذا الكلام على الأعمال الكبيرة كما على التّفاصيل البسيطة وهي لا تستحقّ أساسصا التّقليد أو السّرقة. ألا يضحكك أن ترى إعلانًا قديمًا لمسرحية قديمة لروجيه عسّاف ضمن إطار يمثّل صورة فوتوغرافيّة وعليها طابع يحمل تاريخ الحفلات، ثمّ تفتح كتابًا صادرًا هذه السّنة إسمه Graphis Poster، على الصّفحة 109 وترى الفكرة نفسها، ثمّ تجد هذا الملصق على جدران المدينة يعلن عن حفلة 17 أيلول؟
وتسأل نفسك: ألا تستحقّ حفلة كهذه، بذلت من أجلها جهود إعلاميّة وسياسيّة جبّارة، وخصّصت لها أموال طائلة أن يكون لها إعلان مختلف ومبتكر أو التّقليد أسهل وأسرع؟
لا شك إنّ في هذه اللّوحة الثّقافيّة الرّماديّة عناصر فرديّة بارزة. ولكن عدم انصهارها في شكل متناغم ومنسجم يظهرها مشوّهة وغير فاعلة، دون أن ننسى إنّ وراء كلّ ذلك رهانًا شبه أكيد على جهل المتلقّين وعدم إطلاعهم ما يجعل المبدعين مطمئنّين إلى مواقعهم، آمنين في ملاجئهم، وتزداد مشكلة الثّقافة وضوحًا حين يبدو المثقّف ضائعًا بين نظامين دكتاتوريّين يتجاذبان دوره: فالرّأسماليّ يريد شراءه، والعسكريّ (شرعيّاً كان أم ميليشياويًّا حزبيًّا أو دينيًّا) قادر على قمعه. وهو إذ يستفيد حتّى الآن من هذه الفسحة المتاحة بين هاتين السّلطتين لا يجرؤ على التّفكير في مصيره في حال الإتّفاق بينهما.
والمخيف أنّ هذا المثقّف لا يجد ما يملكه في هذه الفسحة سوى الذّكرى والحسرة، وربّما البحث عن وظيفة جديدة، لا تتطلّب أيّ ثقافة.
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الأربعاء 19 تشرين ألأوّل 1994

الإعدام يتزامن لا يفارق الحرب (قراءة في نماذج لخليل تقي الدين ويوسف سلامه والياس خوري)- جريدة "النّهار" الثّلثاء 23 آب 1994



تقي الدّين، يوسف سلامة، الياس خوري
الإعدام يتزامن لا يفارق الحرب

في روايتين وقصّة قصيرة، يعالج ثلاثة أدباء موضوع الإعدام، وهو موضوع كان، ولا يزال جدلاً بين معارض لا يرى الإعدام عقابًا رادعًا، وموافق يعتبر إن لا شيء يخيف المجرمين كرؤية أعمدة المشانق منصوبة.
هذه المعالجات القصصيّة الّتي صدرت بين 1944 و 1994 ، تعاملت مع الإعدام من وجهات نظر مختلفة وبأساليب متنوّعة، ولكنّها أجمعت كلّها على إنّ أحكام الإعدام تترافق دائمًا مع قسوة وظلم جائرين، تتحوّل معهما العدالة إلى وهم سراب ـ العدالة كرتون: مسرحيّة "لولو" ـ ويصير حبل المشنقة علامة استفهام بعد سؤال عن قيمة الإنسان ـ والعدالة نايمة بين النّايمين: مسرحيّة "الشّخص".
وفي هذه القصص الثّلاث، نلاحظ كيف تترافق أحكام الإعدام مع تعطّل العلاقات الإنسانيّة وتشّوه صورة المجتمع وانهيار القيم، كسبب أو نتيجة. وفي الحالتين، لا يبدو حكم الإعدام منفصلاً عن المجتمع ورموزه بل هو محطّة مفصليّة في حياة الفرد ـ وإن ظهرت براءته ـ وفي مسيرة الجماعة.
في قصّة قصيرة بعنوان "الإعدام"، من مجموعة قصصيّة تحت العنوان نفسه، يعالج خليل تقي الدّين الموضوع من وجهة المشاهد الّذي كان يجد لذّة، منذ صغره، في حضور حفلات "تزهق فيها روح إنسان"، فينتظر صدور الأحكام ويهرع لمتابعة وقائع تنفيذها ومراقبة أحداثها. مستمتعًا بما تتركه في نفسه، من مشاعر. يميّز قصّة هذا المشاهد المدمن إنّه أوّلاً لم يتعامل مع الإعدام كعقاب قد يكون ظالمًا أو لا إنسانيّاً، بل كوسيلة للمواجهة مع الموت تحمل الكثير من الفنّ والتّحدّي والتّنوّع في الانفعالات، فيشبّه "جسد المشنوق في ارتعاشته الأخيرة بارتعاشة الجسد وهو يلقي بذور الحياة".
ثانيًا، هذا المشاهد كان ضحيّة ـ ربّما ككثيرين ممّن يساقون إلى حبل المشنقة ـ ولكنّه كان ضحيّة مرّتين، مرّة حين جذبته المشنقة ورأى نفسه أسعد النّاس إذ كان قريبًا منها لا يحجبها عنه شيء، وينصرف بعد ذلك إلى فطور شهيّ. والمرّة الثّانية حين أعدم بالرّصاص وهو الّذي كان يعتبر حبل المشنقة أجمل أساليب الإعدام.
وكما بحث النّظام عن ضحيّة يحمّلها ذنوب الحرب في قصّة خليل تقي الدّين، بحث هذا النّظام نفسه عمّن يكون الدّرس والعبرة، فكان ابراهيم طرّاف المعلّق في حديقة الصّنائع.
وإذا كان المشنوق في قصّة "الإعدام" لا اسم له ولا وجه، رغبة الكاتب، ربّما، في إفهامنا إنّ إمكان وجودنا مكان الضّحيّة محتمل في أيّ لحظة، فإنّ المشنوق في رواية يوسف سلامة الوثائقيّة "جريمة في البيت" هو شخص حقيقي، حوكم وأعدم. وبعد ذلك، بدأت الشّكوك تحوم حول المحاكمة الّتي جرت. وحول صحّة الاتّهام.
وفي أوّل قائمة المتسائلين، المدّعي العام في تلك القضيّة منيف حمدان الّذي يقود الآن حملة ضدّ عقوبة الإعدام، وكان طلب هذه العقوبة لابراهيم طرّاف ("النّهار"، في ندوة حول الموضوع، 27 حزيران 1994).
تقول فاطمة شقيقة ابراهيم طرّاف: "إنّ أخاها لم يعدم، ولم يشنق، لأنّه لم يكم على رقبته أي أثر أو علامة لحبل المشنقة، تقول إنّهم أتوا به ليشنقوه، لكنّه مات من القهر قبل الإعدام". ويتابع يوسف سلامة نقلاً عن شقيقة ابراهيم طرّاف: "أخذ الطّبيب نبضه قبل رفعه إلى المنصّة وأعلنه ميتًا. لكن المسؤول عن قوى الأمن قال: "على كلّ حال، اشنقوه"".
أهو حدس الرّوائي الّذي رأى قبل أربعين عامًا من إعدام ابراهيم طرّاف كيف يموت المحكوم قبل وصوله إلى منصّة الإعدام. أم هي النّتيجة المتوقّعة بعد عمليّات التّعذيب والقهر؟
ففي قصّة "الإعدام" أيضًا يموت المحكوم عليه قبل أن يربط إلى عمود قصير، وقبل أن يطلق عليه النّار اثنا عشر جنديًّا، "في تلك اللّحظة، تقدّم جنديّ ليعصب عينيه فرآهما مطبقتين. ورأى رأسه مسترخيًا، وبدا المحكوم كأنّه لم يفق بعد من النّوم، فارتعش الجنديّ ارتعاشة لم تدم إلاّ جزءًا من لحظة وأدرك كلّ شيء، على أنّه أتمّ عمله في سرعة وفكّر: ستطلق عليه النّار بعد ثانية، وهذا ينهي كلّ شيء". "جريمة في البيت"، وقصّة إعدام المتّهم الوحيد فيها رواهما يوسف سلامة بأسلوب المؤرّخ المحايد الّذي يجمع الوثائق ويدرسها ويعرضها على ذوي الاختصاص من رجال قانون وأطبّاء وخبراء. ولعلّ هذه النّاحية العلميّة الطّاغية على الرّواية جعلت الكتاب يطرح موضوع العدالة بقوّة، فالمحكوم هنا ليس شخصيّة وهميّة، هو شاب صرخ عند اقتراب تنفيذ الحكم: "يا أمّي، وينك أنا بريء".
أمّا رواية "مجمع الأسرار" لالياس خوري فتحكي عمّا يجري قبل الإعدام من وجهة محكوم بريء. تحكي عن الدّاخل، عن التّعذيب، عن الصّدفة الّتي أنقذت من صار ضحيّة وإن لم يعلّق على حبل المشنقة. وإذا كان البعض يتردّد بين تجريم ابراهيم طرّاف وتبرئته، فإنّ بطل "مجمع الأسرار" بريء من تهمة القتل.
حنّا السّلمان متّهم ـ كما ابراهيم طرّاف ـ بالقتل وتقطيع الجثث.
حنّا السّلمان صار لقبه "المالح" لأنّهم جعلوه يأكل الملح ويشرب الماء حتّى انتفخ كالبالون، وتشقّق جلده، وامتلأ جسمه بقشور بيضاء تتساقط على الأرض كلّما تحرك.
والنّاس صدّقوا إنّ حنّا السّلمان المالح هو القاتل، الشّهود أشاروا إليه، الصّحافة طلبت إعدامه. الكاهن اتّهمه بالكذب حين اعترف إنّه بريء، والعائلة تخلّت عنه.
المرأة، نورما، هي الوحيدة الّتي جاءت إلى الحبس، لا لأنّها آمنت ببرائته بل لأنّها كانت تريد أن تفهم لماذا ارتكب حنّا هذه الجرائم، "كانت نورما هكذا، تحبّ أن تفهم".
العدالة غائبة في "مجمع الأسرار"، غائبة عن علاقات النّاس بعضهم ببعضهم مذ انقادوا خلف غرائزهم، يحكمون على أنفسهم قبل أن يحكم عليهم أحد، ويحكمون على الواحد منهم قبل أن تحاكمه السّلطة، والسّلطة تبحث عن كبش المحرقة، أيًّا يكن.
المرأة، ذات الدّور الإيجابي، غائبة عن قصص الإعدام هذه. وكأنّ العدالة حين تغيب، يغيب معها كلّ ما هو جميل وحسن، حتّى الحبّ ينتهي، بطريقة أو بأخرى، بالتّضحية، بالموت الظّالم العنيف، بالقتل والإعدام.
في قصّة "الإعدام" امرأتان وعلاقتان.
المرأة الأولى هي الحبيبة الأولى الّتي كانت تلاقي حبيبها في بستان قرب منزلها. هذه اللّقاءات اللّيليّة قادت بطل القصّة إلى السّجن، حين قبضت الشّرطة عليه مشتبهة بأنّه أحد المطلوبين للعدالة. هذه الفضيحة جعلت والد الفتاة يصبّ غضبه على ابنته ويزوّجها بمثر عاد من المكسيك، يبحث عن عروس يأخذها معه إلى تلك البلاد.
المرأة الثّانية، المرأة المرغوبة المشتهاة، أجنبيّة تعمل في ملهى ليليّ. قادته العلاقة بها إلى الإعدام بتهمة التّجسّس حين وجدت منتحرة في غرفتها.
لا الفتاة البريئة أنقذته ولا "الأرتيست السّمراء" أنقذته. والمرأة الوحيدة الّتي أرادت إعطاءه الحياة، أمّه، دفعت حياتها ثمنًا، وكان قدر المرأة أن تكون الضّحيّة حتّى لا تكون الوسيلة للإيقاع بالضّحايا.
ومن خلال رواية "جريمة في البيت" لا نجد أثرًا للحبّ في حياة ابراهيم طرّاف. كلّ ما نعرفه علاقات جنسيّة عابرة، كما قال  في المحكمة، حتّى إنّ الجريمة الّتي أدين بارتكابها ارتبطت بعنصر الجنس بعد إشارة، لم تأخذ حقّها في التّحقيق، عن علاقة محتملة بين المتّهم والضّحيّة ماتيلد باحوط، الأكبر منه سنًّا.
وفي هذه القصّة أيضًا، نلاحظ زواجًا غير متكافئ بين والدي ابراهيم طرّاف، وكانت أمّه في الرّابعة عشرة من عمرها حين تزوّجت. كان والده في الثّمانين من عمره ـ أمّا شقيقته فاطمة فهي مثال المرأة العاجزة عن اتّخاذ موقف من المجريات.
ورواية "مجمع الأسرار" رواية النّساء الفاشلات. والمرأة الفاشلة بامتياز هي نورما، نورما العانس الّتي فشلت في إيجاد الحبّ، وفشلت في جعل ابراهيم نصّار زوجًا لها، وفشلت في فهم علاقتها بحنّا السّلمان، وتسبّبت بجريمة قتل عندما زارت حنّا في السّجن.
وفي الرّواية، نجد المرأة العاهرة، المعلنة والمستترة، (المرأتان القتيلتان، مادلين السّاعات، إيفا...) والخائنة الّتي تتخلّى عن زوجها في أقسى ما يواجه (زوجة حنّا)، والمضطربة عقليًّا وعاطفيًّا كجوليا والدة إيفا وسارة عمّة ابراهيم نصّار. وقد تكون المرأة صامتة ومستسلمة لقدرها بقبول غريب كأمّ عيسى العمياء ونبيهة الّتي عاشت مع زوجها كالغريبة.
في قصص الإعدام، تغيب المواقف الإنسانيّة. فلا كلمة حبّ ولا لمسة حنان. لا طهر ولا براءة، لا بطولة ولا قداسة. هناك مجتمع يصرخ: "أريد رحمة لا ذبيحة"، ومع ذلك تتلاحق أسماء الضّحايا، نساء ورجالاً.
"المتصرّف ما بيحبّ العدل، الرّحمة أحلى" (مسرحيّة "الشّخص"). ومع ذلك، لا رحمة ولا عدالة.
ألهذا، ربّما، تزامن الإعدام الأوّل في قصّة خليل تقي الدّين مع إعلان الحرب، وتمّ إعدام ابراهيم طرّاف خلال الحرب، وانتهت رواية "مجمع الأسرار" بالفراغ والحرب والجنون؟
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الثّلثاء 23 آب 1994

  

هنّ الكاتبات صالونيّات مرفّهات... غسّان غصن في ردّ على مي م الريحاني - جريدة "النّهار" الثلاثاء 30 آب 1994



هنّ الكاتبات صالونيّات مرفّهات
وعندهنّ القلم مثل ترف وتطريز؟

أين هي الدّراسات والإحصاءات الموضوعيّة الجادّة الّتي تثبت إنّ أديبات العرب، "في شكل عامّ"، عشن طفولة مرهفة، وإنّ الأدباء الرّجال هم من عائلات فقيرة أو متوسّطة الحال في أفضل الظّروف؟ ألم تقرأ ميّ م. الرّيحاني لخلفاء وملوك وأمراء ونبلاء (أو عنهم) تفوّقوا في الشّعر والأدب، مع إنّ حياتهم كلّها ـ لا طفولتهم فحسب ـ كانت أكثر بكثير من... مرهفة؟ ألم تقرأ، في المقابل، لأديبات وشاعرات بارعات عشن طفولة كلّها حرمان ومعاناة وشقاء (لكنّهنّ ترفّهن لاحقًا وهنّ زوجات أوجاريات أو خليلات)؟ لضيق المجال هنا، أحيل السّيّدة الرّيحاني ومن يوافقها الرّأي ـ وهم في تصوّري، السّاذج ربّما، قلائل ـ إلى ثلاثة من كتب التّراث العربيّ القديم، الحافلة بالشواهد والأدلّة: "الأغاني" ـ "العقد الفريد" ـ "وفيّات الأعيان".
وإذا ألقينا "نظرة سريعة" على طفولات أدباء النّهضة (الرّجال) الّذين عاشوا بين منتصف القرن الماضي والرّبع الأوّل من هذا القرن، نجد كثيرين منهم ـ إن لم يكن معظمهم ـ كانوا أبناء حسب ونسب وجاه. مثالاً لا حصرًا (مع حفظ الألقاب): فرنسيس مراش، عمر الأنسي، حسن بيهم، عبدالله فكري، أسعد طراد، ابرهيم الأحدب، شاكر شقير، جبرائيل دلال، نجيب الحدّاد، أحمد تيمور، محمود سامي البارودي، خليل الخوري، حسن الجسر، نجيب ابرهيم طراد، ناصيف المعلوف، محمّد إرسلان، أحمد فارس الشّدياق، عبد الهادي نجا الأبياري، رشيد الدّحداح، سعيد الشّرتوني، سليم بطرس البستاني، يوسف الشّلفون، حسن حسني الطّويراني، ابرهيم المويلحي، مخائيل الصّبّاغ، حيدر الشّهابيّ، شهاب الدّين الألوسي، طنّوس الشّدياق، حنانيا المنير، ابرهيم النّجّار، سليم وحبيب بسترس، سليم النّقّاش، محمّد بيرم التّونسيّ، جميل مخائيل المدوّر، يوسف الدّبس، سليم شحادة، رفاعة وعلي رفاعة الطّهطاوي، عبد الرّحمن الكواكبي، ابرهيم اليازجي، قاسم أمين، مصطفى كامل، محمّد حسين هيكل، ولي الدّين يكن، شكيب إرسلان، يعقوب صرّوف، شبلي شميل، خليل مردم بك، مرشد خاطر، سليمان البستاني، أمين الرّيحاني، أنيس الخوري المقدسي، الياس أبو شبكة، وغيرهم (راجع "مشاهير الشّرق" لجرجي زيدان، "الأعلام" لخير الدّين الزِّرِكلي، "أدب العرب" لمارون عبّود).
كيف تبرّر مي م. الرّيحاني نظريّتها القائلة إنّ الأديبات، ولو في شكل عامّ، لم يثرن أو يملن إلى الأدب إلاّ بغية التّحرّر من سلطة العائلة الّتي يمثّلها الرّجل إجمالاً، ولم يسعين إلى العمل للحاجة أو لقمة العيش، أو الكتابة عندهنّ ترف اجتماعيّ، أو قليلات الانتاج الأدبيّ... ميّالات إلى التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة؟ ماذا حدث للموهبة، والتّربية، وتشجيع الأدباء (أو الأزواج، أو الأعمام، أو الأشقّاء، أو حتّى الأبناء ـ كما حدث مع حبّوبة حدّاد ووحيدها فؤاد)؟ هل قرأت الرّيحاني مثلاً "أعلام النّساء" لعمر رضا كحاله، و"بلاغة النّساء في القرن العشرين" لفتحيّة محمّد، و"الدّرّ المنشور في طبقات ربّات الخدور" لزينب فوّاز (وكلّها سير وتراجم)؟ هل قرأت "عائشة تيمور" و"باحثة البادية" لميّ زيادة، و"التّوهّج والأفول" لروز غريّب عن مي زيادة؟... ومن سلطة أي رجل حاولت التّيموريّة وميّ زيادة التّحرّر؟
صحيح إنّ الأديبة التّيموريّة هي "سليلة الحسب والنّسب إبنة اسماعيل تيمور باشا رئيس القلم الإفرنجيّ للدّيوان الخديويّ (وزير الخارجيّة) وزوج محمّد توفيق زاده نظير بيت المال (وزير المال)، كما يقول جابر عصفور في جريدة "الحياة" (26/5/1992). لكن عائشة نشأت منذ صغرها ـ كما يذكر معاصرها جرجي زيدان ـ "مائلة إلى الأدب والشّعر... (و) ظهرت قريحتها الشّعريّة في سنّ مبكرة، فأخذت تطالع الأدب والدّواوين". وتذكر ميّ زيادة في كتابها عن عائشة تيمور، "كانت أمّها ـ وهي شركسيّة الاصل، معتوقة والدها اسماعيل تيمور باشا ـ تحاول إرغامها على تعلّم أشغال الإبرة والتّطريز، كما كانت عادة الفتيات آنذاك. لكن الفتاة كانت تبرم بهذه الأشغال، إذ تشعر بميل فطري إلى العلم لعلّها ورثته عن أبيها، فتكبّ على الدّرس والمطالعة. فما كان من الوالد العطوف إلاّ أن رتّب لها أستاذين أحدهما لتعليم الفارسيّة والثّاني لتلقين العلوم العربيّة، وصار يسمع ما تتلقّاه من الدّروس كلّ ليلة بنفسه". وإذا صحّ التّاريخ الّذي أورده جرجي زيدان لزواجها (1854)، فهذا يعني إنّ الأديبة الشّاعرة تزوّجت في الرّابعة عشرة. وعندما شبّت ابنتها توحيدة، أي بلغت الثّانية عشرة في مفهوم ذلك العصر ـ "عهدت إليها بمهام المنزل" وعادت هي إلى الأدب والعلم والشّعر "فأتقنت النّحو والعروض على فاطمة الأزهريّة وستيتة الطّبلاويّة... وأخذت تنظّم الأزجال والموشّحات والقصائد بالعربيّة والفارسيّة والتّركيّة". لكن توحيدة توفيّت في عامها الرّابع عشر، فندبتها أمّها سبع سنوات "حتّى أصابها الرّمد وضعف بصرها. لكنّها عادت إلى الشّعر والكتابة، تجد فيهما عزاء، وتحاول بما تكتبه من قصص ومقالات أن ترفّه عن المغبونين...".
وفي كتاب إميلي فارس ابرهيم "أديبات لبنانيّات" (طبعة أولى بدون تاريخ) نجد أمثلة عديدة على إنّ الأدب والشّعر عند النّساء، كما عند الرّجال، موهبة ودرس وخبرة، فوردة اليازجي لم تكن مرفّهة أكثر من أخيها ابرهيم، أو مطمئنّة أكثر منه إلى المركز الاجتماعيّ الموروث. وهذه السّيّدة الّتي أنجبت خمسة أولاد، وفجعت بأحبّاء كثر من أسرتها (والديها وأشقّائها وشقيقاتها وزوجها وابنتها وابنها)، وكابدت الكثير في حياتها، هل ذهبت للتّدريس في الإسكندريّة ـ وهي أرملة في الحادية والسّتّين ـ لمجرّد التّسلية، أو للحاجة ولقمة العيش؟ وزينب فوّاز، النّابغة العامليّة، لم تكن أريستوقراطيّة المولد والمنشأ، بل خادمة في البيوت، أمّيّة، لم تقع عينها على كتاب حتّى صباها. لم تكن حتّى جميلة أو أنيقة، تزوّجها خادم في قصر أسرة الأسعد (كما ذكر عارف الزّين) أو أحد أفراد حاشية أسرة يكن المصريّة (بحسب رواية جرجي باز). لكنّها كانت صاحبة ذكاء خارق وطموح شديد إلى الاستزادة من العلم والمعرفة، ذاع صيتها بعد إن بدأت تراسل الصّحف ـ بدعم من أستاذها حسن حسني باشا الطّويراني، صاحب جريدة "النّيل" ومن بين الّذين أعجبوا بأدبها "أديب نظمي" (أديب دمشق آنذاك)، فراسلها وراسلته ـ كما تذكر إملي فارس ابرهيم في ترجمتها ـ وانتهى بهما هذا الاتصال الفكري إلى الزّواج. ويقول محمّد يوسف مقلّد، تلميذ أديب نظمي، إنّ تلك العلاقة الزّوجيّة (كانت لها ضرائر ثلاث) لم تدم أكثر من ثلاث سنوات. وأكتفي هنا بما قاله هذا الأديب عن تلك الكاتبة اللاّمعة: "نلاحظ بكثير من الفخر إنّ أديبة كزينب وظروفها وزمانها، اضطلعت إلى حدّ كبير بحمل "رسالة" فذّة تعتبر جد سابقة لأوانها، وهي رسالة "بعث المرأة العربيّة من جمودها ورجعيّة محيطها... إنّ امرأة اضطلعت ... بحمل هذه الرّسالة النّاهضة وفي حين كذلك الحين، لا أرى مبالغة في أن أقول: إنّها معجزة... وإنّ محاولتها كانت شبه "أسطورة" تستحقّ كلّ تمجيد". فهل هذه "الدّرّة الفريدة في دنيا المرأة في العصر الماضي... الّتي تفوق قيمة وشأنًا الكثيرات ممّن كتبت سيرهنّ في كتابها (الدّرّ المنشور، 435 صفحة) ذاك وخلّدتهنّ"، كما تقول إميلي فارس ابرهيم دون مبالغة، هي من اللّواتي كانت الكتابة عندهنّ "ترفًا اجتماعيًّا أو نوعًا من الأشغال اليدويّة" ولبيبة هاشم، الّتي أنشأت مجلّة "فتاة الشّرق" عام 1900 وهي في الثّامنة عشرة، وكانت أوّل امرأة تعيّن مفتّشة المعارف في دمشق (1912)، ألم تعلّم في الجامعة المصريّة رغبة في العطاء وتأمينًا للعيش الكريم؟ وماذا عن هنا كسباني كوراني، المرسلة والمؤلّفة والمترجمة والخطيبة، الّتي انتدبت عام 1892 ـ وعمرها 22 سنة ـ لتمثيل بنات سوريا في مؤتمر النّساء العالميّ في شيكاغو؟ وماذا عن حبّوبة حدّاد، وجوليا طعمة دمشقيّة، وعفيفة كرم، وسلمى صائغ، وروز عطاالله شحفة، وسلةى محمصاني مومنة، وجهان غزّاوي عوني؟
وماذا تقول ميّ م. الرّيحاني عن نجلا أبو عزّ الدّين، ووداد المقدسي قرطاس، ولورين شقير ريحاني، وانجيل عبّود، وزاهية قدّورة؟ وهل ذهبت روز غريّب للتّعليم في الموصل، لمجرّد الهواية أو التّسلية؟ وأدفيك جريديني شيبوب، الّتي ترمّلت وهي في أوائل العشرينات من عمرها ـ وكان ابنها في عامه الثّاني وابنتها لم تتجاوز السّنة ـ ألم تجاهد وتناضل لتأمين حاجة عائلتها؟ هل كانت هذه الأديبات والشّاعرات والمؤرّخات والنّاشرات... قليلات الانتاج، ميّالات إلى التّجمّعات والصّالونات، ساعيات إلى الأدب عبر المراكز الاجتماعيّة (أتمنّى على السّيّدة الرّيحاني أن تقرأ كتاب الدّكتورة ماري عزيز صبري عن الرّائدات اللّواتي انجبتهنّ كلّية بيروت الجامعيّة ـ BUC  ـ وهو بالإنكليزيّة، صدر 1967)؟
وتبقى ميّ زيادة الّتي عاشت حياة الّلاحرمان المادّي "في ظلّ أبوين مثقّفين كانت وحيدتهما فبذلا كلّ ما في وسعهما لتثقيفها وإنماء مواهبها". لكن الشّابة الّتي أتقنت الّلاتينيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة إلى العربيّة، وتفوّقت في الإنشاء وإلقاء الخطب، فضلاً عن نجاحها في الموسيقى والغناء، لم تكتف بذلك القدر من العلم والمعرفة، بل واصلت الدّرس الذّاتيّ وتمكّنت من إتقان الإيطاليّة والإلمانيّة مع إلمام بالإسبانيّة. كما كتبت مذكّراتها وأشعارها بالفرنسيّة وترجمت قصصًا عن ثلاث لغات أجنبيّة. تتلمذت على يعقوب صرّوف "الّذي حاطها برعاية أبويّة"، وعلى أحمد لطفي السّيّد "الّذي أطلعها على كنوز العربيّة وحبّب إليها الكتابة بلغة "الضّاد". وفي وقت لاحق، وعلى وجه التّحديد بعد عامين من إنشائها ندوتها الأدبيّة الشّهيرة، التحقت بالجامعة المصريّة حيث "انكبّت على درس التّاريخ والفلسفة والفلك القديم والعلوم العصريّة".
وصالتها الأدبيّة، الّتي "جدّدت بها عهد سكينة بنت الحسين والمركيزة دو رمبوييه"، ظلّت تستقطب لما يقرب من عشرين عامًا (بدءًا من سنة 1914 ) نخبة من الأدباء العرب والأوروبيّن (المقيمين في مصر) يقول أحدهم ـ طه حسين ـ إنّ آثار ميّ "ظهرت في كثير من إنتاج هؤلاء النّاس". من روّاد ندوتها أيضًا: شبلي الشّميل، خليل مطران، ولي الدّين يكن، أحمد زكي، مصطفى الشّهابيّ، سليمان البستاني، أحمد شوقي، حافظ ابرهيم، هدى شعراوي، ملك حفني ناصف (باحثة البادية)، إيمّيه خير. ومنهم أيضًا عبّاس محمود العقّاد، الّذي وصف إحدى هذه النّدوات: "كنّا نحو ثلاثين كاتبًا وأديبًا ووزيرًا... إبّان المنازعات السّياسيّة الّتي وصلت بكثير من الكتّاب إلى حدّ التّقاطع والعداء... فقضينا عندها ساعتين نسينا فيهما أنّ في البلد أحزابًا ومنازعات، بفضل براعتها في التّوفيق بين الآراء والأمزجة، وقدرتها على الحديث... وما أحسب غير ميّ قد استطاع الّذي استطاعته  في تلك الأيّام". وللشّاعر اسماعيل صبري هذان البيتان في ندوتها الأسبوعيّة:
روحي على بعض دور الحيّ حائمة
                       كظامئ الطّير توّاقًا إلى الماء
إن لم امتّع بميّ  ناظري غدا
                       لا كان صبحك يا يوم الثّلثاء
وأطلق عليها كبار الأدباء والشّعراء في ذلك العصر أوصافًا اتّسمت بروح المبالغة السّائدة في كتاباتهم:ملكة دولة الإلهام (يكن)، فريدة العصر (مطران)، الدّرة اليتيمة (صرّوف)، سيّدة القلم العربيّ في التّاريخ كلّه (مصطفى صادق الرّافعيّ)، كاتبة العصر ونادرة الدّهر (شكيب ارسلان)، حليّة الزّمان (الأب انسطاس الكرمليّ)، النّابغة (فايز الخوري)، نابغة بلادي (شبلي الملاّط). لكنّ المستشرق الألمانيّ الشّهير جوزف شاخت وصفها أيضًا بالشّاعرة الشّهيرة، الأديبة العلميّة، الخطيبة الفصيحة. كما كان المستشرق الإسباني الشّهير أيضًا، الكونت دي غلارزا، يعتبر نفسه أخاها في الحكمة أو أخاها في الفلسفة. كذلك أهداها شاعر الهند العظيم طاغور إحدى قصائده الإنكليزيّة (طائر الصّباح).
أَميُّ هذه، الّتي كانت بين الأقلام والكتب "كالشّمس بين الأقمار والشّهب، أحيت عهد القريض والأدب، وجدّدت للعصر رونق العرب" – أَميُّ هذه، هي الّتي تقول سميّتها أن الكتابة عندها لم تكن أكثر من مجرّد ترف إجتماعيّ أو نوع متطوّر من الأشغال اليدويّة؟
غسّان غصن
(المنصف – جبيل)
جريدة "النّهار" الثلاثاء 30 آب 1994
                    


المرأة الكاتبة لا تكتب التّرف بل التّحرّر من سلطة الرّجل- غسّان غصن في ردّه على مي م الريحاني - جريدة "النّهار" الإثنين 29 آب 1994



المرأة الكاتبة لا تكتب التّرف
بل التّحرّر من سلطة الرّجل
ذكيّة جدًّا كانت ميّ م. الرّيحاني في دخولها عالم الصّحافة الثّقافيّة والاجتماعيّة من الباب الواسع، عبر تبادلها رسائل أدبيّة ممتعة مع إعلامي وكاتب معروف (زاهي وهبي) على صفحات جريدة ذات مستوى عالمي رفيع ("النّهار"). لكن "الملاحظة" الّتي خرجت بها السّيّدة الرّيحاني، من دراسة متعمّقة(!) للكثير ممّا "كتب عند العرب في أدب السّيرة"، لم تكن ـ في رأيي ـ ذكيّة على الإطلاق، ولا حتّى كبوة... فرس أصيلة، بل مجموعة من النّظريّات اللاّمنطقيّة والمضلّلة.
تقول: "إنّ الأديبات ، في شكل عامّ، عشن طفولة مرهفة، وما ثورتهنّ وميلهنّ إلى الأدب إلاّ وسيلة للتّحرّر من سلطة الرّجل إجمالاً... وهنّ لم يعرفن المعاناة المادّيّة أو الفقر، كما لم يسعين إلى العمل بدافع الحاجة أو لقمة العيش... (بينما) الرّجال هم من عائلات فقيرة أو متوسّطة الحال في أفضل الظّروف. فمن منّا لا يعرف كيف كانت طفولة جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة وخليل حاوي وبدر شاكر السّيّاب وطه حسين. ومن منّا لا يعرف، في المقابل، حياة اللاّحرمان المادّيّ الّتي عاشتها ميّ زيادة وإميلي نصرالله وكوليت خوري وسعاد الصّبّاح وإلهام منصور". وترى ميّ م. الرّيحاني في مقالها، الّذي يبدو أنّه يهدف إلى الجدل، إنّ الكتابة عند المرأة ترف أجتماعيّ أو نوع متطوّر من أشغال يدويّة لا تختلف عن تلك "الّتي كانت تفرضها العائلات الأريستوقراطيّة على بناتها". وبعد أن تستشهد ببعض ما جاء في السّير الذّاتيّة لفدوى طوقان وجبرا ابراهيم جبرا وميشال عاصي وليلى عسيران. تنقل عن شاعر لم تذكره بالاسم قوله "إنّ الرّجل يريد الوصول إلى مركز اجتماعيّ من طريق الأدب، والمرأة تريد الوصول إلى الأدب من طريق المركز الاجتماعيّ، أو (على الأقلّ)، بعد استقرار الوضع الاجتماعيّ". ثمّ تتساءل: "أيمكن أن يفسّر هذا القول السّبب الّذي يجعل انتاج الأدباء الرّجال عامّة أكثر غزارة وتواصلاّ، حين إنّ مزاجيّة المرأة واطمئنانها إلى موقعها الاجتماعيّ الموروث يجعلانها قليلة الانتاج الأدبيّ ـ في شكل عامّ أيضًا ـ ميّالة إلى إقامة التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة؟" وتتوقّع الرّيحاني في سياق مقالها اتّهام بعض القرّاء لها بأنّ كلامها هذا "يحمل الكثير من التّجنّي والعدائيّة"، لكنّها تدافع عن نفسها ـ أو هكذا تتصوّر ـ بالقول: "قد يكون الأمر كذلك لو كنت رجلاً، أو لو كان كلامي غير مثبت بالبراهين المكتوبة لأديبات وأدباء في سير حياتهم... وكم يسرّني أن أعرف ـ إذا أمكن ـ إنّي أخطأت في قراءتي أو في فهمي لهذه السّير، أو أن يخبرني أحد عمّا لم أقرأه منها".
قبل دحض معلومات ميّ م. الرّيحاني واستنتاجاتها بشواهد وإثباتات عدّة، بضع ملاحظات على بعض الأمور الهامشيّة الّتي لفتت نظري:
1ـ السّذاجة هي ألطف الكلمات العديدة الّتي قفزت إلى رأسي لوصف الجملة الافتتاحيّة لهذا المقال،  المفترض له أنّه رصين وعميق: "لا أدّعي إنّي قرأت كلّ ما كتب عند العرب في أدب السّيرة، ولكن...!"
2ـ قليلة جدًّا هي السّير الذّاتيّة فلا يجوز إطلاقًا الاكتفاء ببعضها، أوحتّى بها كلّها، للخروج بنظريّات واقتناعات وأحكام. وعلى الباحث الجدّيّ والموضوعيّ أن يطّلع على التّراجم الموثوق بها، ويحدّد المعطيات والأسس الّتي تقوم عليها دراسته وأبحاثه ليتمكّن بعدها، فعلاً لا تبجّحًا، من الخروج بمعلومات واستنتاجات ذات أهميّة وفائدة.
3ـ من السّذاجة أيضًا القول:" من منّا لا يعرف كيف كانت طفولة" هذا الكاتب أو تلك الشاعرة، لأنّ القلائل جدًّا بيننا ـ نحن اللّبنانيّين، نحن العرب ـ يعرفون أو يهتمّون بمعرفة كيف كانت تلك الطّفولة، بينما  الكثيرون لم يسمعوا باسم فلان أو فلانة من هؤلاء الأدباء أو الشّعراء. ألا تدرك ميّ م. الرّيحاني أنّنا نعيش "أزمة احتضار الكتابة واحتلال الأميّة والجهل والغباء مساحة العقل" كما يقول الياس خوري في "الملحق" (20/2/1993)، وإنّ "من أصل مئتي مليون عربي أو يزيد، لا نجد أكثر من ثلاثة ألاف قارئ على مدى ثلاث سنوات لكتاب عربيّ (ما عدا كتب الطّبخ طبعًا)"؟
4ـ من السّذاجة أيضًا وأيضًا أن تتصوّر مي م. الرّيحاني إنّ كونها امرأة ينفي عنها تلقائيًّا تهمة التّجنّي على الأديبات ومعاداتهنّ، فاللّواتي يهاجمن بنات جنسهنّ ـ ظلمًا وحقدًا وحسدًا، وأحيانًا كثيرة بحقّ ـ يفقن بكثير عدد نظرائهنّ الذّكور. كذلك الأمر لاعتماد كلام "أحد الشّعراء" لتفسير السّبب "الّذي يجعل انتاج الأدباء الرّجال عامّة أكثر غزارة وتواصلاً... (ويجعل المرأة) قليلة الانتاج الأدبيّ ـ في شكل عامّ أيضًا ـ ميّالة إلى إقامة التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة".
المرأة الّتي يقول مارون عبّود إنّ الله خلقها من لحم ودمّ بينما خلق الرّجل من... تراب، كانت متساوية والرّجل قبل الشّرائع والقوانين الّتي سنّها هو وقيّدها بها. والمرأة، كما ورد في محاضرة لميّ زيادة عام 1936، هي الّتي "غذّت النّوع البشريّ جنينًا قرب قلبها، وحملته طفلاً على منكبيها، وأوقفته على قدميه إنسانًا (بعدما كان يدب على أربع قوائم)، وقدّمت له الطّعام يافعًا وكهلاً وشيخًا، وداوته مريضًا جريحًا، وواسته حزينًا، وزانت بيته بالأدوات والمعدّات... هي الّتي وضعت وهي لا تدري، أسس العلوم والفنون والصّنائع... ولو لم يوجد في قوم سوى مدرسة واحدة لارتأيت أن تخصّص تلك المدرسة للبنات دون الشّبّان، لأنّ ما تعرفه المرأة يتعلّمه الرّجل بطبيعة الحال منذ الصّغر..." (ميّ زيادة: نصوص خارج المجموعة، إعداد أنطوان القوّال، 1993 ـ نقلاً عن "المقتطف").
لنفترض إنّ رجلاً يكتب بغزارة ويواصل الكتابة والانتاج، فهل هذا يعني فقط أنّه موهوب ومثابر، غير مزاجيّ مثل المرأة، وعاش بالتأكيد حياة الحرمان المادّيّ في طفولته؟ ألا يتحتّم علينا أن ندرك وجود عنصر أساسي ورئيسي لهذه الغزارة وذاك التّواصل، هو الأمّ أو الأخت أو الزّوجة أو الابنة أوالعشيقة أو الخادمة أو الممرّضة الّتي تهيّئ له من وسائل الرّاحة النّفسيّة والفكريّة والجسديّة ما لا يمكنه إطلاقًا تأمينه بنفسه، أو بواسطة رجل آخر؟ وأسأل... بسذاجة: "من منّا لا يعرف" إنّ الرّجل الأديب أو الشّاعر "عامّة" لا يطبخ ولا يغسل الثّياب ولا ينظّف البيت، ولا يعرف آلام الحمل والمخاض والوضع، ولا يبقى اللّيل كلّه أو بعضه مستيقظًا لإرضاع طفل جائع أو لسهر عليه مريضًا، ولا يقوم بأي من المهام الملقاة تقليديًّا على عاتق المرأة ـ "في شكل عامّ أيضًا"؟ فهل ننتظر منها غزارة في الانتاج وتواصلاً؟
أمّا عن المعاناة المادّيّة أو الفقر (والمعاناة نسبيّة كما الفقر)، فهما ليسا وقفًا على الرّجال، كما لا يمكن ولا يجوز الاعتماد عليهما كقاعدة. فجبران مثلاً لم يكن أكثر فقرًا من معظم أقرانه، لكنّه برع بينما ظلّوا هم على هامش الزّمن. وهل من الضّروري التّذكير هنا بما عانته أمّه وأخته مريانا للسّهر على راحته وبما تيسّر من المال؟ وهل ننسى فضل ماري هاسكل عليه؟ وميخائيل نعيمة، الّذي تعلّم في فلسطين وروسيّا والولايات المتّحدة ـ  بمنح دراسيّة، ودعم مادّيّ من شقيقيه، وعمله في أثناء الدّراسة ـ هل عانى مادّيًا أكثر ممن سبقوه أو عاصروه؟ فلماذا إذن حلّق هذا الرّجل في عالم الأدب والفلسفة،  وبقي الآخرون في كثرتهم السّاحقة بعيدين كلّ البعد عن الفكر والكلمة؟ وفي المقابل، ولد غابي اسكندر حدّاد "وفي فمه ملعقة من ذهب" ولكنّه "بصق الملعقة الذّهبيّة وتلقّف الشّعر". نوّهت به موسوعة "لاروس" مع زملائه الكبار رشيد نخلة وأسعد سابا وأسعد السّبعلي، في معرض تحليلها لإحياء الشّعر الشّعبيّ في لبنان. عاش النّصف الأوّل من حياته القصيرة (1925 ـ 1965)، كما يقول جامع قصائده الصّحافيّ جوزف نحّاس، "مليونيرًا مترفًا"، لكنّه أنفق نصيبه من ثروة أبيه ـ صاحب "بنك اسكندر حدّاد" ـ ليقول: "خي كوع الشّعر ما أحلاه". من شعره (عام1948):
"بلادي إلي ومنا إلي بلادي،
يا حسرتي ويا حسرة ولادي.
هنّي وأنا عصافير،
وكيف بدنا نطير،
والدّرب، كلّ الدّرب ، صيّادي".
الشّعر، لا الفقر، هو الّذي حوّل الأريستوقراطي الثّريّ إلى بوهيميّ معدم، وأدّى إلى ابتعاد زوجته عنه "على حبّها الجارف، أحدهما للآخر". مارون عبّود يرحّب بالفقر "إذا كان منبتًا للعباقرة"، لكن الحرمان المادّيّ ليس سببًا وحيدًا أو رئيسيًا للشّقاء. ويرى أديبنا الرّاحل إنّ الشّقاء عنصر مقوّم للأدباء، "إذ لا بدّ للأديب من العبور في معصرة الألم لتبقى خمرته على الدّهور والأجيال". وإذا لم يجد الأديب شقاء "شقيّ بعقله كالمتنبّي مثلاً". وأعود إلى غابي اسكندر حدّاد، "شاعر ندى" (كما نقول "جميل بثينة")، لأنقل عن مجلّة "الأمن" (آذار 1993) الواقعة التّالية عن الشّقاء: "طلبت إليه إحدى ملكات الجمال التّغزّل بها فلم يستطع تناسي ندى، وقال مرتجلاً وهو المقلّ في الارتجال:
لولا ندى ويا ريت ما خلقت ندى
ما كنت بعشق بالدّني غيرك حدا
هيي الشّقا وإنت الهنا، لكن أنا
خلقان قلبي للشّقا مش للهنا."
غسّان غصن
جريدة "النّهار" الإثنين 29 آب 1994



مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.