الجمعة، 21 يونيو 2019

الطاووس (2012)



عيناه في ظهره كالطاووس. لا يرى، لا يريد أن يرى. ينظر ولا يرى، يسمع ولا يفهم، مشغول بريشه المنفوخ أمام الأنثى.
والحياة أنثى جاهلة يسهل التلاعب بعقلها.
في البدء لم تكن للطاووس عيون. في البدء لم تقع الكلمات أسيرة العيون المنشورة على مخدّة الريش، تنام ولا تغفو، تنعس ولا تنام، وإن نعست، ينام خمسون منها وخمسون تبقى صاحية. كانت العيون عهد ذاك على جسم عملاق اسمه آرغوس، الخادم الأمين للإلهة هيرا زوجة الإله زوس. يأتمر بأمرها وينفّذ طلباتها وينصاع لرغباتها. عملاق ضخم لا يملك من أمره شيئًا، لإنّه منذور لخدمة إلهة زوجة إله. لكنّ الإله "زوس" وقع في هوى "إيلو" جميلة المعبد، وحين علمت "هيرا" بخيانة زوجها، خاف هذا الأخير على حبيبته فسحرها في شكل بقرة بيضاء وصار يلتقي بها وهو في شكل ثور. إنّما "هيرا" الفطنة انتبهت للأمر، فأرسلت عملاقها الوفيّ، صاحب العيون المئة لحراسة البقرة، تنام خمسون عينًا من عيونه وتبقى الخمسون الأخرى ساهرة.
طلب زوس من ابنه "هرمس" أن يخلّصه من العملاق، ففعل الشابّ ذلك إذ جعله يغفو وهو يروي له حكاية ويعزف على القيثارة، ثمّ قطع له عنقه. فقامت "هيرا"، وتقديرًا لوفائه، بنقل عيونه المئة إلى ريش حيوانها المفضّل الطاووس، وأرسلته لملاحقة "إيلو" التي هربت أخيرًا إلى مصر حيث استعادت شكلها البشريّ بمساعدة الإله زوس، وأنجبت منه صبيًّا كان بداية سلالة حكمت تلك البلاد.
يشبه الطاووس ذلك الرجل. هذا ما خطر لي يوم التقيت به ذات صدفة. طاووس لا يعرف حكاية العيون الميتة المطبوعة على ظهره، من دون أن تريه ما يجري خلفه وحوله. طاووس أو رجل: لا يعرف إلّا أن يجذب أنثى بلا ريش وتحلم مع ذلك بالطيران، لتكتشف مع الوقت أنّها لا تستطيع سوى إنجاب مزيد من الطواويس. 

أن تكون مارونيًّا في هذا الزمن اللبنانيّ الرديء (2011 - من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)



أن تكون مارونيّاً في هذا الزمن اللبنانيّ الرديء لا يعني أنّك مرشّح دائم لرئاسة الجمهوريّة كما كان يخطر للبنانييّن كلّما دار الحديث عن الموارنة، فتغيّرات الأزمة وتقلّبات الدهر وأنانيّة أولي الأمر والصراع المارونيّ المارونيّ أدّت كلّها الى تعريف جديد للانتماء المارونيّ، لا يليق ويا للأسف الشديد بتاريخ هذه الطائفة ودورها في الصعد الحضاريّة المختلفة إن في لبنان أو في العالم العربيّ أو في العالم الغربيّ.
فأن تكون مارونيّاً اليوم يعني أنّك ستبيع أرضًا ورثتها عن والدك لتقيم عرسًا فخمًا لابنك، وأنّك ستتزوّج وتطلّق بعد أشهر ولن تنجب أولادًا في هذا البلد "الخربان"، وأنّك لن تجرؤ على كتابة رواية واحدة من تاريخ طائفتك لأنّك تخشى من أن تتّهم بإثارة النعرات الطائفيّة، وأنّك الآن تحزم حقائبك للهجرة لأنّك لا تريد أن تعلق وسط صراعات إقليميّة وأصوليّة ودوليّة وداخليّة.
أن تكون مارونيّاً اليوم يعني أنّك محكوم بأن تختار جهة مارونيّة واحدة من جهتين لا ثالث لهما، فأنت مجبر على الاختيار بين الدكتور سمير جعجع وكلّ ما يمثله من ماض وحاضر ومستقبل، وبين العماد ميشال عون وكلّ ما يمثله من ماض وحاضر ومستقبل.(الآن وعند هذه الكلمة ثمّة تساؤلات عند عدد من الموارنة الذين يقرأون هذا النص تدور حول الجهة التي أنتمي أنا اليها، فمجرّد وضع اسم من اسميّ الزعيمين المارونيين قبل الآخر قد يُفهم عند هذه الفئة وتلك بطريقة لن تخطر إلّا على بال موارنة هذا الزمن).
أن تكون مارونيّاً اليوم يعني أنّك محكوم منذ لحظة تكوّنك في أحشاء أمّك باتخاذ منحى سياسي يحدّده الطبيب المولّد الذي اختاره والدك ولأيّة جهة سياسيّة ينتمي، ثم هناك مدير المدرسة، والكنيسة التي تذهب اليها يوم الأحد ومن سيلقي العظة الأسبوعيّة فيها، والأغنية التي ستسمعها، والجامعة التي ستذهب إليها، والمحطّتان التلفزيونيّة والإذاعيّة اللتان تقولان الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.
فعيد العلم الذي سنحتفل به قريبًا (تشرين الثاني) ليس هو نفسه في مدرسة مارونيّة رئيسها عونيّ أو قواتيّ، ففي الأولى سيصدح صوت "جوليا بطرس" بأغنياتها الوطنيّة، وفي الثانية ستكون "ماجدة الرومي" نجمة الاحتفال. وفي خضمّ الخطب وهزج التلاميذ، ستقع الأعلام اللبنانية التي وزّعتها البلديّات السخيّة على الأرض فيدوسها الجميع ولن تجد من يرفعها أعلى من صوت المطربتين.وفي عيد الميلاد، ستجد المسيح مدفونًا تحت مئات المصابيح ووسائل الزينة ذات الألوان السياسيّة التي تعلن مع سابق الإصرار والتصميم على أنّ الموارنة في هذا البيت الكريم مع الحكيم أو مع الجنرال، "واللي مش عاجبو ما يجي لعنا عالعيد، حتّى ولو كان المسيح نفسه".
لا يمكنك ان تكون بلا لون إذا كنت مارونيّاً، لا تستطيع أن تكون محايدًا أو غاضبًا من الجميع، أو أن تختار خطًا ثالثًا لا علاقة له بالخطّين المتوازيين اللذين لن يلتقيا إلّا خارج مقاييس هذا الزمن الرديء، لأنّ ذلك يعني أنّك لست مارونيّاً، أو أنّك جبان لا تجرؤ على التعبير عن رأيك، أو أنّك خبيث لا تريد أن تفصح عن ميولك، أو أنّك خائن لا تعنيك مصلحة الطائفة ومصير المسيحيّين في الشرق وصولًا الى العالم كلّه.
لا يمكنك أن تكون مع 14 آذار وتحتفل بعرسك عند الخوري سليم أو كميل أو عصام (طبعًا هي أسماء وهميّة، فالكهنة الموارنة يحملون حكمًا أسماء قدّيسين)، ولا يمكنك أن تكون مع 8 آذار وتقرأ صحيفة "النهار" أو تفتح مواقعها على الإنترنت كي لا ترتفع في إحصاءات الجريدة نسبة الإقبال عليها. لا يمكنك أن تكون مارونيّاً على سنّة الحكيم وتنتقد البطريرك المارونيّ (نشر هذا النصّ في صحيفة النهار عهدَ الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير)، وكذلك لا يمكنك أن تكون مارونيّاً تتشيع للجنرال وتنتقد السيد حسن نصرالله.
فأن تكون مارونيّاً إذاً يعني أنّ ثمّة أمورًا كثيرة عليك أن تأخذها في الاعتبار (التي بليت بالعمى في هذه الطائفة) ولا تستطيع أن تتصرّف كما يحلو لك أو كأنّ الدنيا فالتة. ولذلك فأنت مجبر على اتّخاذ جانب الحيطة والحذر في كلّ ما تفعله، فالجميع يراقبون تصرّفاتك ليعلموا من ستنتخب في رابطة المعلّمين (وستّين سنة على التربية)، وعن أيّ دار نشر سيصدر كتابك (رحم الله الثقافة)، وفي أيّ جريدة تنشر مقالاتك (مسكينة حريّة التعبير).
أنت ستحسب على أحد مهما فعلت، ولن تنجو كمارونيّ من تهمة الانحياز، ولا تحاول التهرّب بالقول أنا مع مار مارون، فقد يقول لك أحد العونيّين: أنت معنا لأنّ مار مارون أتى من سوريا، ولا تتذاكى وتقول أنا مع الكنيسة لأنّ أحد القواتيّين سيقول لك: أنت معنا إذاً لأنّ الكنيسة في رأيه مع الحكيم. ورجاء لا تحاول الدخول في بحث تاريخيّ تحليليّ نقديّ لكلا القولين لأنّك ستكون كمن يغنّي في الطاحون.لو كانت في لبنان إحصاءات علميّة دقيقة وشفّافة، لاكتشف الزعماء الموارنة المنقسمون بين الجنرال والحكيم، ولاكتشف رجال الدين المنقسمون بين 14 و8 آذار، أنّ نسبة الإدمان على مهدئات الأعصاب والمخدّرات مرتفعة بين أتباعهم وابنائهم، وكذلك الانتحار والهجرة والطلاق والهجر وتدهور المستوى المعيشيّ والعنف المنزليّ وتدنّي المستوى الدراسيّ وكلّ ذلك بسبب القلق على المصير، والخوف من المستقبل، والغموض في الرؤيا، والتخبّط في الصراعات الداخليّة، وانهيار المؤسّسات الاستشفائيّة والتربويّة والاجتماعيّة بسبب الفساد والفضائح الاخلاقيّة والإداريّة والسرقات والهدر وسوء التخطيط.
هل هذه هي المارونيّة النسكيّة التي انطلقت من أودية لبنان لتسمو على قممه؟ هل هذه هي رسالة الموارنة في هذا العالم: عهر واقتتال وفساد ومصالح فرديّة وعمالة وسطحيّة وجهل؟ وكيف يجرؤ الزعماء الموارنة على تناول القربان المقدّس على مائدة خلاصيّة واحدة وما من أحد منهم صالح أخاه قبل التقدّم من مذبح الرب؟ وهل يجرؤ الكاهن الذي يؤنب مراهقة ترتدي ملابس متحرّرة أمام جموع المصلّين على النظر في عيون هواة الحرب والمناصب؟ هل هذه هي المارونيّة المشرقيّة التي تتنازل عن روحانيّتها من أجل أسواق الأعلام والإعلان وتحاربك لأنّك لا تفهم لغة "السوق"؟ وهل هذه هي المارونيّة المتنوّرة المتحرّرة التي تتبرّأ من عقلها وتضطهدك لأنّك تفكّر؟اذا كانت هذه هي المارونيّة الجديدة، واذا كان لا كيان لي ولا وجود ولا رأي إلّا إذا كنت "محسوبة" على فريق (سياسيّ أو طائفيّ أو مذهبيّ أو إقليميّ أو حزبيّ أو عائليّ أو مناطقيّ أو بلديّ أو صحافيّ أو أدبيّ أو ثقافيّ)، فأنا إذاً أنزل الحرم الكنسيّ بنفسي لأنقذ هذه الطائفة منّي...


الخميس، 20 يونيو 2019

المجلّات المصوّرة وجه الحرب الجميل (2011)

فرانكو كاسباري وماريّا أنطونيلاّ


باولا بيتي

مارينا كوفا

كاتيوشيا

ميشيلاّ روك بعدما تقدّم بها العمر


فرانكو داني

كلوديا ريفيللي

فرانكو كاسباري

       كانت غرفة الطعام أكثر غرف البيت أمانًا. هذا ما أقنعنا عمرنا المراهق به في المرحلة الأولى من الحرب لمواجهة غياب الملاجئ، ثمّ في المرحلة الثانية حين تبيّن لنا بالدليل القاطعِ الأنفاس والحياة أنّ الملاجئ البدائيّة الأقرب إلى مستودعات لن تحمينا من القذائف الكبيرة التي نقلت المعارك إلى مرحلة أكثر دمويّة. وفي هذه الغرفة التي صارت مكانًا عائليًّا للنوم والجلوس ومتابعة الأخبار ولعب الورق وحياكة الصوف والأكل طبعًا، كنّا نقرأ الكتب والصحف والمجلّات: الكتب نشتريها في فترات الهدوء النسبيّ وأكثرها روايات نهرب بواسطتها بعيدًا عن مخاوف تحاصرنا، الصحف والمجلّات وسيلتنا لعلّنا نفهم ما يجري، بما أنّ الإذاعات الخاصّة التي نبتت كالفطر السام حصرت دورها في إعلامنا بحال القصف ومواقعه وضحاياه، وغالبًا ما كنّا نحن، المواطنين المستهدفين، نقوم بدور المراسلين متى كانت الخطوط الهاتفيّة عاملة. وفي نهاية السبعينات هذه، انضمّت المجلّات المصوّرة إلى وليمة مطالعاتنا فصرنا ننتظر أعدادها الأسبوعيّة لنتابع قصص حبّ ناعمة وبسيطة وتقليديّة (أناي المتفذلكة تقول الآن: سخيفة) ونهاياتها غالبًا سعيدة.
       وجوه تلتقط الكاميرا ملامحها وتجمّدها في لحظة تعبيريّة ما، ثمّ تخرج العبارة من الفم في شبه غيمة وتشرح لنا ما يدور في الرأس، فنفهم ما يجري في الصورة. وصورة بعد صورة، يكتمل الفيلم وتنتهي الحكاية العاطفيّة بانتصار الحبّ على الشرّ. أمّا في الخارج، خارج المجلّة وخارج غرفة الطعام وخارج البيت فللشرّ شأن آخر، لا تشبه وجوه ناشريه الوجوه الجميلة لهؤلاء الممثّلين والممثّلات الآتين من إيطاليا ليساعدونا في مقاومة الحرب والانتصار عليها ولو للوقت القليل الذي تستغرقه قراءة القصّة.
       "ريما"، "سمر" هما اسما مجلّتين ما زلت أذكرهما، لا أعرف إن كان هناك غيرهما، وكم آسف على مئات الأعداد التي رميناها حين لم يعد البيت يتّسع لها. وبعد ذلك تخلّينا عن أرشيف الصحف والمجلّات السياسيّة: النهار، الأنوار، السفير، الديار، الكفاح العربيّ، الوطن العربيّ، الأسبوع العربيّ، الحوادث، الصيّاد، المستقبل، كلّ العرب. ثلاث جرائد كلّ يوم، وسبع مجلّات كلّ أسبوع. ثروة كبيرة وزّعناها على أصدقاء صحافيّين يملكون بيوتًا أكبر. أمّا المجلّات المصوّرة فأحرقناها حين بدأت والدتي تعدّ الخبز في البيت بعدما صار على كلّ بيت أن يؤمّن وسائل البقاء بالطرق التي يراها أقرب إلى متناوله.
       وهكذا أكلنا خبز "الصاج" ساخنًا فوق نار الحبّ المشتعلة بين فرانكو كاسباري أو منافسه فرانكو داني وإحدى الجميلات: ميشيلّا روك، مارينا كوفا، باولا بيتي، كلوديا ريفيللي، كاتيوشا، الذين وسواهم ساعدونا بوجوههم المشرقة والسعيدة على الإيمان بأنّ بشاعة الحرب اللبنانيّة لم تشوّه كلّ شيء في كلّ مكان، وبقصص حبّهم أنسونا الخطف والتعذيب والقتل والقصف، عدا طبعًا الخبز الذي صار تحضيره احتفالاً يمتزج فيه الاطمئنان إلى عشرات الأرغفة تطرد شبح الجوع، بالحزن على خسارة مجلّات كنّا نتمنّى أن تكون شاهدة على وصول السلام الآتي لا محالة. الحبّ والسلام، هكذا كنّا نحلم، على مثال الهيبيّين، لكن على إيقاع الأناشيد الحزبيّة والأغنيات الوطنيّة.
       حين كنت أبحث عبر الإنترنت عن تاريخ هذه المجلّات وصور أبطالها، لاحظت،كما في كلّ مرّة أستعيد فيها الماضي، كيف شوّهتنا الحرب. فخلال اللحظات التي يستغرقها تنزيل الصور وفي محاولة لتذكّر ملامح وجوه هؤلاء النجوم عاد إليّ ذلك المزيج من مشاعر الخوف والحلم: الخوف من الموت الذي رافق مراهقتي وصباي، والحلم بقصص تشبه مشاهد الحبّ. الآن أعترف بأنّ القراءة أنقذتني من الجنون، وأتأكّد من أنّ ما بين الحبّ والحرب أكثر من مجرّد رابطة لغويّة. ولحظة تكتمل الوجوه على الشاشة أمامي، أنتبه إلى أنّني كنت نسيت ملامحها، لكنّها الآن أليفة جدًّا حتّى أنّني أستغرب كيف ضاعت من ذاكرتي، أو لعلّني خبّأتها بحيث لا تصل إليها شمس الواقع الفجّ.
       المعلومات عن مصائر هؤلاء النجوم غير متوفّرة على الإنترنت، مع العلم إنّ موجة هذه المجلّات اجتاحت أوروبا، وانتشرت في البلدان العربيّة انطلاقًا من لبنان. موقع واحد لقارئة فرنسيّة فيه بعض المعلومات والصور، واعتراف بالندم (هي أيضًا) لأنّها تخلّصت من الأعداد التي كانت تملكها. وتطلب من القرّاء أن يزوّدوا الموقع بما يملكونه من معلومات وصور. تحكي عن فرنكو كاسباري وتقول إنّه تعرّض لحادث على درّاجته الناريّة وأصيب بالشلل التام، وبعد مضاعفات صحيّة توفيّ وهو في نحو الخمسين من عمره. بالنسبة إلينا، مراهقات تلك المرحلة، لا يزال في صوره والذاكرة كما كان. ألم يبنِ شهرته من لحظة "جمود" أمام الكاميرا؟ نحن في لبنان، لم نره في أفلام سينمائيّة قليلة قام ببطولتها، لذلك بقي في بالنا بلا صوت، ويجيد العربيّة الفصيحة: دبلجة عن الإيطاليّة قبل الاجتياح المكسيكيّ والتركيّ وما بينهما من مسلسلات ولغات. المنتديات الإلكترونيّة العربيّة تنقل تعليقات سيّدات يتذكّرن تلك الأيّام بحنان، ويتساءلن إن كان أحد يعرف شيئًا عن الموضوع. منتديات أخرى تعرض مجموعات ومجلّدات للبيع، إلى جانب سوبرمان والوطواط والشياطين الـ13 وتختخ.
       "سمر" على ما أذكر كانت تصدر عن دار الصيّاد بدءًا من العام 1973، وكانت رئيسة تحريرها إلهام سعيد فريحة التي تشير في سيرتها الذاتيّة إلى المجلّة واصفة إيّاها بإنّها "مجلّة شهريّة متخصّصة"، من دون أن تحدّد نوع هذا التخصّص. ولا أدري أيّ مجلّة من المجلّتين المصوّرتين "ريما" و"سمر" كانت توزّع "بوستر" مع كلّ عدد لبطل العدد أو بطلته، وكنّا نلصق هذه الصور الكبير على حائط غرفة الطعام، ما كان يثير حنق الوالد الذي كان يدّعي أنّه منزعج من تشويه طلاء الجدار (الذي قد تهدمه قذيفة) ولا يعترف إلّا عندما يثور فعلًا بأنّه لا يحبّ هذه التصرّفات "الولّاديّة". أمّا الوالدة فكانت تطلب أن نعلّق مكان وجوه هؤلاء الغرباء صور القدّيسين والقدّيسات كي يستمرّوا في حمايتنا من الحرب. تتذكّر شقيقتي أنّ المجلّتين في مرحلة لاحقة بدأتا بنشر قصّتين في كلّ عدد، واحدة مكتملة، وواحدة على حلقات كي تجذب أكبر عدد من المتابعين، ثمّ أخذت إحداهما تنشر قصّة مصوّرة قصيرة من دون حوار وتترك للقرّاء أن يتخيّلوا ما يمكن أن يكون الكلام في كلّ مشهد.
       كنّا في الحرب، وكان علينا أن ننجو. المجلّات المصوّرة ساعدتنا حين كانت الأمور الجديّة لا تجد مكانًا لها إلى جانب الخوف.
       أستعيد محطّات من الماضي كأنّني أشاهد فيلمًا قديمًا بالأبيض والأسود. أراه منسجمًا مع زمانه ومكانه، وأتمنّى ألّا يفكّر مخرج ما بإعادة تصويره.

الاثنين، 10 يونيو 2019

لو كنت مديرة مدرسة! (1- عن التلاميذ) (3 أيلول 2018)



لو كنت مديرة في مدرسة!
لكنت أخرجت التلامذة من الصفوف وأرسلتهم:
إلى سجون الأحداث ليروا نتيجة الجهل
إلى متاحف الأدباء ليتعرّفوا على الإبداع
إلى متاحف التاريخ ليرتبطوا بالتراث
إلى مراكز معوّقي الحرب ليلمسوا نتيجة العنف
إلى دور الأيتام ليعرفوا قيمة الحنان
إلى المسرح لتبهرهم نتيجة العمل الفريقيّ
إلى المستشفيات ليعاينوا الألم
إلى الطبيعة ليلعبوا بالتراب
إلى الأحياء الفقيرة ليقدّروا النعمة
إلى الجبال التي تنهشها الكسّارات ليكتشفوا كيف يكون الجشع
إلى تلال النفايات ليروا نتيجة أنانيّة المواطن وسوء تخطيط الدولة
إلى الدوائر الرسميّة ليلتقوا بالفساد وجهًا لوجه
إلى القرى ليراقبوا كيف يحوّلها الإهمال ساحات كسل وأزقّة وحل
إلى الثكنات العسكريّة ليتعلّموا الانضباط
إلى منابع الأنهر ليشهدوا على جريمة الهدر
إلى معاهد الموسيقى والفنون التشكيليّة ليتأكّدوا من أنّ الله جمال
إلى المرضى المسمّرين في الأسرّة ليمشوا بالنيابة عنهم
إلى فاقدي البصر لينظروا بالنيابة عنهم إلى الشمس والنجوم
إلى فاقدي السمع ليسمعوا بالنيابة عنهم أصوات الريح والمطر
إلى السينما ليحلّقوا في الخيال
إلى دور العجزة ليزرعوا الفرح
إلى الحقول ليقطفوا الأزهار
إلى شاطئ البحر ليلقوا التحيّة على صيّادي لقمة العيش
إلى بيت شاعر ليبحثوا معه عن سرّ المعنى
إلى عرس بسيط، إلى مأتم حميم، إلى ملهى ليليّ يرقص فيه عاشقان، إلى حديقة حيوانات، إلى رصيف يقيم عليه متسوّل، إلى والدين فقدا ابنهما في حادث سير، إلى حيث ينام كنّاس الشارع، إلى رياض الأطفال، إلى مدافن الشهداء...
هكذا، بلا جدول مواعيد، بلا برنامج، بلا فروض، بلا شروط وامتحانات ودفاتر علامات... بلا صور تتباهى بها المدرسة في كتابها السنويّ، بلا حملات إعلانيّة تريد جذب زبائن، بلا شرح ووعظ وثرثرة... هكذا بصمت العينين تراقبان، هكذا بهدير الأسئلة في قلوب متوثّبة... هكذا... 
أرسلهم وكلّي ثقة بأنّهم سيعودون رسلًا يبشّرون بالحياة، الحياة التي خارج جدران الصفوف...

الخميس، 6 يونيو 2019

مدام زبيبه



يا مدام زبيبه أنا مش ضد تتقدّمي وتصيري ع مستوى راقي، ولكن بحياة يللي خلّفوكي وندموا ما تنسي مين إنتي ومن وين جايي وشو أصلك وفصلك، يعني إذا صار معك سيارة كبيرة مش معناها تنسي دابّة بيّك يللي كل عمرك تحشّيلا وتطعميا... وإذا صاروا شفافك كبار ومنفوخين، مش معناها تنسي وقت يللي كنت تاكلي كلّ كف ولا التاني ويصير وجّك كلّو منفّخ لإنك كنت حمارة بالصفّ، وكان بيّك يقول لأمّك إنك مش نافعة لا بشغل الأرض ولا البيت ولا المدرسة، وانشالله تلاقي مين ياخدك... وإذا صرتي ما فيكي تعيشي بلا كلبتك المهضومة وصرتي تدافعي عن حقوق الحيوانات، مش معناها تنسي إنو كلّ عمرك عايشة فوق زريبة البقرات وكان عندكن دجاج ومعزي وكلب حراسة... وإذا بتضلّي عند الكوافير مش معناها تنسي إنك كلّ عمرك تجدلي بصل وتوم ع السطح... وإذا بدّك كلّ يوم ترتبي ضفيرك ما تنسي إنّو كميّة التراب يللي كانت تحت ضفيرك من لمّ الزيتون بتعبّي سهل البقاع... وإذا صرتي تلبسي من أغلى محلّات مش معناها تنسي إنّو كلّ عمرك تنعجقي بمشّاية النيلون يللي بعدا معلّمة ع مؤخّرتك المليانه، وإذا لقيتي حدا يتزوّجك مع إنك جاهلة ومدّعيه فلأنّو هيدا يللي أخدك أخدك لأنك هبله وبيصاحب عليك كل يوم وحده وإنتي غاشية وماشية...
فيا مدام، البلد زغير، وكلنا منعرف بعضنا، ومنعرف تاريخ بعضنا، فبحياة يللي خلّفوكي وندموا، ما كتير تشوفي حالك علينا، وخلّيكي مركّزة ع العلكه بتمّك وع نربيش الأركيله بإيدك وع البرونزاج، لأنّك شو ما عملتي ما رح تنجحي، لأنّك من الأساس كنت فلّاحة مزيّفة ومش أصيلة ورح تضلّي مزيّفة ومش أصليّة، ولو سكنتي أغلى قصر على أعلى تلّه. يا مدام زبيبه تذكّري إنّو كلّ عمرك مسنوده ع عوده (بعدك فايقة ع هالمتل أو نسيتي؟) والريشة يللي شكّيتيا براسك ما رح تغيّر شي! فاعملي معروف ما تحكي سياسة أو دين وما تعطي رأيك بالمدارس، أو أزمة النفايات (يعني زباله)، وخصوصًا خصوصًا ما تعطي نظريّات بشؤون تربية الولاد لأنّو أصلا ولادك بيخجلوا فيكي ومرّات بيضحكوا عليكي مع رفقاتن حتّى ما يبكوا من القهر والخجل... من حركاتك وحكياتك ولبسك...
فيا مدام، وحياتك أنا لا بغار منك ولا مقهورة من تطوّر وضعك بليلة ما فيا ضو قمر، ولكن صار كتير يللي عم تعمليه، والأضرب يللي عم تحكيه. فاعملي معروف كوني جميلة وبلا جميلة لسانك، يعني اسكتي وأركلي، اسكتي واعلكي، اسكتي واعملي شوبنغ، اسكتي واعملي برونزاج، اسكتي واعملي السبعة ودمّتا، بس بحياة يللي خلّفوكي وندموا ... انضبّي واسكتي!


مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.