أنا لا اكتب إليك، أنا أكتب إلى بحّار عابر في سفينة عتيقة، تتقاذفه الأمواج، ومع ذلك يصرّ على الإمساك بالقنينة قبل أن تضيع منه إلى الأبد.
أنا لا أكتب إليك لأنّك لا تستحقّ أن تقرأ ما أكتبه بين دمعتين وشهقتين وابتسامتين. ولأنّك تنتظر أن تقرأ كلامًا موزونًا وعبارات تنضح بالحكمة وحكايات ورديّة تغفو على إيقاعها الناعم الأحلام والأمنيات.
أنا أكتب إليّ، أكتب كي أتشبّث بشيء، بأحد، قبل أن أنسى، قبل أن يأكل المرض ذاكرتي، قبل أن يخفّف الوقت من حزني وغضبي وانفعالاتي.
لا أكتب بناء على أوامر طبيب يظنّ أنّه من على مسافات بعيدة قادر على اجتراح المعجزات وإنقاذ امرأة من براثن القلق والظلم والعتب والإحباط ويمنعها من أن تسلم نفسها إلى سكينة الصمت والنسيان والعبور.
أكتب لعلّ الكلمات تصير حصنًا أو سدًّا أو قلعة لا جسرًا مكشوفًا للشمس والريح والمطر والناس.
أكتب لأنّني لا أعرف أن أفعل غير ذلك، ولأنّني لن أعيد قراءة سطر واحد ممّا كتبته، ولأنّني سأرمي ما أكتبه في بحر لا نهاية له لعلّ الموج يحمل القنينة إلى مثواها الأخير.
كم أحبّ الكلام مع الغرباء! أولئك الذين لا تراهن عليهم ولا يصيبونك بالخيبة ولا تنتظر منهم أن يبقوا إلى جانبك وأن يمدّوا لك يد المساعدة، فلا تعتب عليهم إن عبروا ولا تلومهم إن تأخّروا في الجواب، ولا تلحق بهم إن مرّوا مرور الكرام.
لا أريد أن أحبّ أحدًا، ولا أريد من أحد أن يحبّني.
لا أريد انتظار أحد ولا أريد من أحد أن ينتظرني.
لا أريد شيئًا سوى أن يتركني الناس في سلام، لأكتب كلمات لبحّار عابر لا يأسره مرفأ ولا يغريه بقاء.
.
هل هي أوهام المراهقات غير الناضجات، ربّما! ولكنّ هذه الأوهام هي ما يجعل الواحد يقفز من سريره صباحًا ليذهب إلى العمل ويستمع إلى مشاكل الناس ويحاول أن يقوم بشيء مفيد. إنّه وهم الخلود ما يجعله ينجب، ووهم الأمان ما يجعله يتزوّج، ووهم السعادة ما يجعله يعشق، ووهم الغنى ما يجعله يعمل. ولولا هذه الأوهام لما فعل أحد شيئًا. هل هو كلام غير منطقيّ؟ ومن يهتمّ؟ فالكلمات في قنينة، والقنينة في بحر، والبحّار لا يعرف لغتي وسيحتفظ بالقنينة والرسالة وهو يظنّ أنّه يملك كنزًا. أرأيت؟ إنّه الوهم كذلك.
اعذرني أيّها البحّار المقيم عند المياه الباردة على تعبي وغضبي وحزني وأوهامي.
اعذرني فالحوريّة التي انتظرتها بين سمكات بحرك لن تصل.
اعذرني فلقد أتيت متأخّرًا عشرين سنة أو عشرين صفحة أو عشرين سطرًا، ولن يبقى لك سوى القنينة العتيقة والكلمات غير المفهومة.
تهنّئني على ذكائي! بل اسخر من هذا الذكاء الذي لا يعرف كيف يهادن ويهدأ ويرتاح وكيف لا يعرف كيف يكون خبيثًا أو مستغلاًّ أو مستفيدًا أو طمّاعًا أو لئيمًا.
تنصحني بالكتابة! وماذا كنت أفعل قبل ظهورك على شاشة حياتي، وماذا سأفعل بعد غيابك عنها؟
أيّها البحّار المسكين! كنت تريد من البحر سمكة ذهبيّة تلمع تحت أشعّة الشمس فإذا بك تصطاد قنينة انطفأت في داخلها ضحكة، فماذا سيكون عشاؤك الليلة؟ وهل تشبعك كلمات لا تعرف لغتها ولا مياه توصلك إلى كاتبتها؟
عد إلى كوخك أيّها البحار الجائع إلى ثمار البحر، واسكت جوعك بحلم جديد يقودك إلى بحر جديد حيث ترمي شبكتك كأنّك تفعل ذلك للمرّة الأولى وانتظر بشوق. أمّا قنينتك العتيقة فضعها على الطاولة قرب سريرك وفي داخلها وريقات تذكّرك دائمًا بأنّ كلّ ما يبقى في النهاية هو الكلمات حتّى ولو من كاتبة مجهولة وبلغة غريبة وعن حكاية لا بدّ أنّها كانت حزينة. وهل غير الحزن يحسن الكتابة؟
هناك تعليقان (2):
أنت بارعة حتى في جلد الذات.. بل وموجعة لمحبيك أيضاً. في نصّك أدب راق، وفي موضوعك جمال أخاذ ، وينبعث من حروفك عطر وريحان، ودخان .. كيف استطعتي أن تجمعي بين الجمال والعطر والألم..
وصلتني قنينتك الغالية فأضافت إلى ألماً في الروح أنساني وجع الجسد..
تدري يا مي، الصدق في نصك سيجعله موضوعاً سيدرس لطلاب البكلوريا.. يا ما هوى الغيد سلّاني وبكّاني / أمّا صبر أو عسل في قناني
أعطاك الله صحّة الروح والجسد، وأبعد عنك كلّ مكروه
كلّ واحد منّا خاضع لثنائيّات الحياة، فهل أكون الاستثناء؟
إرسال تعليق