لا شكّ في أنّ حلم كلّ كاتب أو شاعر أن يكون مادة للدراسة في المناهج التربويّة، يتعرّف التلاميذ إلى كتاباته ويحلّلون إنتاجاته ويحاولون الوصول إلى عمق أفكاره وخفايا شخصيّته وفرادة أسلوبه. وإذا كان شعراء العصور الغابرة وأدباؤها لن يطالبوا بحقوقهم الفكريّة بعدما سقطت هذه الحقوق بمرور الزمن، فمن أبسط قواعد اللياقة والاحترام أن ينال مبدعو هذه الأيّام ما يستحقّونه عملاً بالقوانين العالميّة وخصوصًا أنّ الكتاب المدرسيّ، لمن لا يعلم، وحيث لا كتاب موحّدًا أو رقابة كما في لبنان، مزراب ذهب.
أوّلاً، من المهمّ أن يعرف المعنيّون بأنّ دور النشر لا تستشير الكتّاب عند اختيار نصوصهم، ولا تسألهم رأيهم في تقرير أيّ منها يصلح للدراسة ولا كيف يجب أن تدرّس ولا في أيّ عمر أو صفّ أو مرحلة، ولا يعنيها أن تتعاون معهم، وهم أحياء يرزقون، في ما يجب أن يكتب في النبذة عن حياتهم، أو في ما يقصد بذلك البيت أو تلك العبارة أو ما هي مناسبة كتابة النصّ وظروف وضعه. ولقد سبق للشاعر أنسي الحاج أن نشر في صحيفة "النهار" مقالة في هذا الخصوص اعترض فيها على طريقة تحليل نصّ له اختير في كتاب مدرسيّ، وأكّد أنّه لا يوافق على أن يتمّ كلّ ذلك من غير موافقته أو علمه، واعتبر أنّ في الأمر إساءة لحقوق المؤلّفين وطالب من الدولة آنذاك أن تتدخّل لوضع قوانين تحمي الأدب والأدباء من سطو واضعي الكتب المدرسيّة على نصوصهم. وثمّة تجارب أخرى وقعت مع كتّاب وصحافيّين آخرين، إذ تمّ اختيار مقالاتهم المنشورة في الصحف، وتمّ التصرّف فيها لتلائم المحور المطلوب درسه أو الهدف الذي اختيرت لأجله من دون استئذان المؤلّفين أو دفع بدل ماديّ في مقابل ذلك. ومن يعرف نسبة الأرباح التي تحقّقها دور النشر من الكتاب العربيّ المدرسيّ يفهم لماذا يحقّ للمؤلّفين أن يطالبوا باحترام حقوقهم الماديّة والمعنويّة. أمّا من أين تأتي هذه الأرباح فإليكم تفصيل ذلك:
في أكثر المدارس يختار المنسّقون عن مادة اللغة العربيّة الكتاب المطلوب بعد نيل حصّة محترمة من الأرباح التي تحقّقها الدار من هذه المدرسة أو تلك، وذلك بحسب عدد التلاميذ وعدد الشُعب، وبالتالي بحسب عدد النسخ المباعة، وثمّة أسلوب آخر يقوم على إغراء المنسّق بضمّ اسمه إلى أسماء مولّفي الكتاب. وأحيانًا، تتدخّل المصالح الخاصّة والعلاقات الاجتماعيّة لتفرض على المدرسة كتابًا آخر في السنة التي تلي، فترمى كلّ النسخ السابقة ويستعاض عنها بالجديدة مع ما يفرضه ذلك من أعباء ماديّة تلقى على كاهل الأهل إذ لا يستطيع الأخ الأصغر أن يأخذ كتاب أخيه المترفّع صفًّا، فضلاً عن تغيير الأسلوب وطريقة مقاربة النصوص بين كتاب وآخر ما يعرّض التلاميذ للضياع والتشتّت وكره اللغة العربيّة. يضاف إلى ذلك أنّ دور النشر تعمل على إصدار طبعة جديدة كلّ سنة بحجّة التصحيح والتعديل والتنقيح، وتفرض على المدرسة ألاّ تقبل إلاّ بها، وعند التحقيق في النسخ الجديدة، يتبيّن أنّ التغيير طال بعض المفردات والصور أو تكبير الخطّ، ما يجعل ترقيم الصفحات يختلف بين نسخة وأخرى وبالتالي يعجز المعلّم عن ضبط إيقاع الصفّ عندما يقول: النصّ صفحة كذا، إذ تقوم القيامة بين التلاميذ الذين يملكون نسخًا قديمة وجديدة ولا يجدون النصّ المطلوب. إنّنا نتكلّم في هذا المجال عن أعداد هائلة من الكتب التي تتلف، الأمر الذي يوقع خسائر بيئيّة جسيمة بسبب أطنان الورق المهدورة، ناهيكم عمّا يدفعه الأهالي من أموال وعمّا يواجهه التلاميذ والمعلّمون من تباين في طرائق العمل والمنهجيّات. أمّا أصحاب النصوص فخاسرون ماديًّا إذ لا ينالون ثمن نصوصهم ولن يجدوا في التلاميذ زبائن محتملين يهرعون إلى المكتبات لشراء مؤلّفاتهم، ومعنويًّا إذ يكرههم التلاميذ ويكرهون الساعة التي يدرسون فيها الأدب العربيّ.
عند نهاية العام الفائت، علمت بالصدفة أنّ نصًّا كتبته في صحيفة "النهار" عنوانه: "عولمة الأمراض"، وضع على لائحة النصوص المعتمدة للتلاميذ الذين يتقدّمون لامتحان الشهادة الفرنسيّة الرسميّة، وقبل ذلك، وبالصدفة كذلك، وصلتني ورقة امتحان من مدرسة رسميّة تمتحن التلاميذ في نصّ آخر لي، وفي إحدى الجامعات، فرع الترجمة، نقل الطلاّب نصًّا آخر من نصوصي إلى لغة أجنبيّة، فتلقّيت التهنئة على اعتبار أنّني حقّقت إنجازًا أدبيًّا محترمًا. ولم يعلم أحد أنّ عشائي في تلك الأيّام كان "الخبّيزة". و"الخبّيزة"، لمن يرغب في مزيد من المعلومات، نوع من النبات ينمو بين شقوق الأرض وينتشر كيفما كان وأينما كان ولا يحتاج رعاية أو عناية، والفقراء يصنعون منه أنواعًا مختلفة من وجبات الطعام لتوفّره في كثرة وسهولة. ثمّ دخلت هذه النبتة في قاموس أمثالنا الشعبيّة، فصرنا نقول ساخرين لمن يتبجّح بالشهرة والمجد طوال اليوم وهو فقير معدم إنّ عشاءه لن يكون إلاّ "خبّيزة"، إذ إنّ الليل ستّار العيوب والفضائح والمستويات. ونقول في المقابل عمّن يملك مالاً كثيرًا ولا يسأل كيف ينفقه: "اللي معو بهار بيرشّ عالخبّيزة". وأنا طبعًا ممّن يصحّ عليهم المثل الأوّل، ولله الحمد.
* صحيفة البلاد البحرينييّة - الجمعة 27 شباط 2009
هناك تعليق واحد:
إن " الخبّيزة" وجعنا اللذيذ ، وإنا بها ـ من دون بهاراتهم ـ فرحون.
حين "نحوّط" أحبتنا من الشر نقول: "يا سين" ــ والإله سين أحد آلهتنا اليمنية القديمة.
و"يس" هي السورة القرآنية التي نقرأها أو يضعها أهلنا تحت رأس المريض دفعاً للشر والمرض.
تكفينا يا (ماري ـ يم)المحبة "خبّيزة" المعرفة.. و ياسين على قلبك.
إرسال تعليق