الخميس، 22 أكتوبر 2020

عن عمّي بشارة وموت المزارع الأخير






عن عمّي بشارة وموت المزارع الأخير

في 17/ 10/2017 ماتت فتاة ستينية اسمها مرسيل بشارة القصيفي بين ذراعي والدها التسعينيّ، وحين وصلتُ مع أولى الواصلين ورأيت كيف يحضنها متمسّكًا بها رافضًا أن نأخذها منه، عرفت أنّه مات معها، ولكن دفنه تأخّر إلى 22/ 10/ 2020. انتظر ثلاثة أعوام، تائهًا، ضائعًا، شارد الذهن، باحثًا عنها على الطرقات، هائمًا على وجهه، وحين تعبت قدماه وصار طريح الفراش في الغرفة التي شهدت وفاة ابنته، قال في سرّه، وقد رفض الكلام والطعام: بات عليهم أن يدفنوني، انتظرتها ثلاثة أعوام ولم تعد، فلأذهب إليها في شهر رحيلها، لألتقي بها وبأمّها جولييت وشقيقها يوسف.

في هدأة هذا الليل، رحل عمّي بشارة. في ليلة خريفيّة احترقت فيها قبضة الثورة، في زمن الكورونا حيث صار المأتم عمليّة دفن سريعة لا وقت فيها لدمعة، في عهد رئاسة عجوز، وبلد عاجز، رحل رجل أمضى عمره في العمل والقيام بواجبات التعازي. وها البلد اليوم لا أعمال فيه، وها هي التعازي عن بعد تفرض نفسها ولا تكافئ هذا الراحل على قيامه بالواجب.

مأساة الإنسان ليست الموت، بل المعاناة قبل الموت والانحشار في مدفن. لماذا لا نُدفن في التراب لتُزرع فوقنا شجرة أو زهرة أو نبتة؟ لماذا لا يصير فلان شجرة زيتون وغيره شجرة حور، وفلانة نبتة حبق، وغيرها وردة أو ياسمينة... لماذا لا يتركوننا نتحوّل ترابًا يتنفّس، ويعطي حياة ويزهر ويثمر ويسهر تحت النجوم ويتغطّى بالعشب الأخضر؟ حين كان عمي يفقد أحدًا من عائلته كان يهرب باكيًا إلى حقول أمضى عمره في نكش ترابها، وري مزروعاتها وقطاف زيتونها. وحين كان يعود من غيابه الذهنيّ، في خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، ما كان يسأل إلّا عن موسم الزيتون. وفي موسم الزيتون اليابس مات.

أكتب الآن عن عمّي الذي أدين لذاكرته وأخباره بجزء كبير من تفاصيل أودعتها كتبي، لأكرّم حياته لا لأرثيه. لأنحني أمام حزنه لا لأبكي عليه، لأتأمّل في تعبه مذ كان يافعًا يتيم الأب لا لأقول كما يقول كثيرين: لقد ارتاح.

قد يرى كثر أنّ الكتابة عن رجل كاد يقترب من عمر لبنان الكبير عمل سخيف في زمن الموت العشوائيّ، قتلًا ومرضًا وقهرًا. لكن إن لم يبق فينا ذرّة عاطفة تجاه موت شخص واحد، بمعزل عن عمره وإنجازاته، فموت الإنسانيّة كلّها لن يعنينا، وحرائق الطبيعة لن تبكينا، وتلوّث الأنهار لن يحرّك مشاعرنا. يقول الناس لم يعد للموت قيمة، ولا للحياة... وأقول نحن من نعطي قيمة لمن وما حولنا. نحن الذين قرّرنا ألّا قيمة إلّا لمالنا في المصرف، ولأملاكنا فنتنازع ملكيّتها، ولشهرة اسمنا في المجتمع فنضحّي بالكرامة من أجلها. أعطينا العمل قيمة وتنكّرنا للعامل، أعطينا المائدة العامرة قيمة وأهملنا المُزارع، أعطينا حيث لا يجب وبخلنا بالعطاء حيث يجب. وعمّي بشارة كان فلّاحًا عاملًا نشيطًا، واظب على حضور القدّاس، اختبر الفقد والموت ورحيل الأحبّاء، سار في مآتم كثيرة، وشارك في الأفراح. عاش ومات منذ ثلاثة أعوام ومنذ قليل دخل إلى برّاد المستشفى، جلدًا يستر عظامًا، في انتظار أن يجاور بعد ساعات من سبقه من أفراد العائلة كبارًا وصغارًا. ولن يصير شجرة أو نبتة أو زهرة.

عمي بشارة لم يكن شقيق والدي فحسب، بل صديقه، وحين كان يسأل عن الزيتون في لحظات وعيه، كان يسأل كذلك عن والدي. وكان والدي يخترع له قصصًا عن المواسم والقطاف وعدد تنكات الزيت، وكان الخير يفيض من القصص وتمتلئ الخوابي ويبتسم عمّي، ولو انّ الفصل ليس فصل قطاف الزيتون. هي أعجوبة المحبة بين شقيقين عجوزين، ومعجزة الكلمات.

أمّا الريحانيّة التي أودّعها رحيلًا تلو آخر، فلن ترى بعد اليوم عمّي بشارة عائدًا من الحقول، لأنّ من كان يعرفه عهدذاك غادرها أو هاجر أو مات. والغرباء الذين أتوا وحوّلوها مدينة بلا هويّة أو حياة فلن يتذكّروا طويلًا العجوز الحزين الباحث عن بلدته التي ضيّع معالمها، فيستهدي بالكنيسة التي بناها بيديه حجرًا حجرًا، فبقيت منارته ووجهته في لحظات التيه.

انطوت صفحة من كتاب الريحانية التي ربطوها رغمًا عنها بسجن ومراكز أمنية، واقتربت نهاية القصّة، فكيف تقاوم بلدة مات فيها المزارع الأخير، واقتلعت الأشجارَ من أمام البيوت العتيقة كنّاتٌ غريبات يجدن الأوراق اليابسة نفايات تسمّم حيواتهنّ.

عمّي بشارة، لن أبكيك ميتًا، بل أبكي على تعبك وأحزانك وخيباتك وميتاتك الكثيرة. إنّ موتك الأخير هذا استراحة بين موسمَي عطاء، وغيابك حضور دائم بين أسطري، فثمة الكثير ممّا رويته لي لا يزال ينتظر كي يخرج إلى الحياة... وعندها لن تبقى ميتًا.
سلّم على إم يوسف ويوسف ومرسيل... 

السبت، 8 أغسطس 2020

Moi civiliser vous!


Moi civiliser vous!
نحن نعلّمكم الحضارة، هكذا كان الجنود السنغاليّون في مرحلة الانتداب الفرنسيّ يقولون للبنانيّين. وأكاد أجزم أنّ الجنرال غورو في الأوّل من أيلول من العام 1920 همس في أذن البطريرك الحويّك، في احتفال إعلان دولة لبنان الكبير: بدكن ميّة سنة وما بتصيروا دولة. ولم يجب البطريرك مستنكرًا مستهجنًا، ربّما لأنّه كان يعرف أنّ الرهان كبير وأنّ اللبنانيّين لن يصيروا شعبًا واحدًا بموجب قرار.
يوم أمس، يوم عيد الربّ، وبعد مئة سنة على إعلان لبنان الكبير، أكاد أجزم كذلك أنّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون قال للطقم السياسيّ عنّا: ربّكم ع ربّ يللي حطّكن مسؤولين.... وسأل للبنانيّين الذين عانقوه وعانقهم: مش إنتو انتخبتوا هيدا الطقم؟ وقال للصحافيّين الذين سوّدوا وجه المدارس الفرنكوفونيّة:
Moi civiliser vous!
***
الزعماء والسياسيّون نعرفهم، نعرف ماذا يريدون: السرقة والسرقة والسرقة. لكنّ الشعب هل يعرف ماذا يريد. فلنرَ وعدّوا معي: كان في ناس بدن مصر عهد عبد الناصر، فصار اسم جمال أكثر الأسماء انتشارًا، ثمّ توزّع هذا الشعب العظيم بين من يريد سوريا، والعراق والسعوديّة، وليبيا، وفلسطين، وإيران، وتركيا، وقطر، والصين، وكوبا، وأميركا، وفرنسا، وروسيا... هل نسيت بلدًا؟ اليافطات جاهزة، والأرزّ ينتظر لينثر على الجنود الغرباء، والناس يجيدون أكثر من لغة، وفي أمسّ الحاجة إلى الحنان... إلى من يحضنهم ويداوي جراحهم التي تسبّبوا بها لأنفسهم حين شطّبوا أيديهم وأفخاذهم من دون أن يتجرّأوا على شطب اسم زعيم تتوارثه العائلة أبًا عن جد. وعن جد ما في أهون من البكي والحكي وردّات الفعل، ولكن بلا فعل.
ثمّة البارحة من طالب بعودة الانتداب، ورأى الخلاص آتيًا من قلب غمامة نوويّة، فقال هؤلاء: إيمانويل معنا اي الله معنا (عمانوئيل اسم من أسماء المسيح)، جاء يوم ظهور الربّ وإذا صوت من الغمام يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت، فله اسمعوا."
وكانت دموع فرح بعد دموع الحزن، وأشرق الأمل في الوجوه التي شحبت مع رؤية الجثامين المحمولة والبيوت المهدّمة والمدينة المنكوبة المدمّرة.
"
الله معنا" في مقابل "الحزب الناطق باسم لله"، فمن سينتصر والله بريء من كلّ هذا الدم المراق.
البارحة بدا لبنان بلا رأس على الرغم من وجود رئاسات ثلاث (لعلّنا البلد الوحيد الذي يؤمن بمثل هذا الثالوث)، ولكن ما هو أخطر أنّ لبنان بدا بلا شعب أو هويّة أو ثقافة أو قدرة على الإصغاء والحوار، بدا شعبًا زحفطونيًّا (الكلمة لسعيد تقي الدين لوصف من يزحف على بطنه)، يجيد اللغات لكنّه لا يقرأ تغيّرات السياسة والظروف والاقتصاد والانتخابات والصراعات الإقليميّة، ويؤمن إيمانًا ثابتًا بأنّ الله ما عندو شغل غيرنا، وأنّ الدول الكبرى تعمل من أجل "سود عيونا"، وأنّنا مهما غرقنا في الفساد أو حلّقنا صوب فاريا وسائر المنتجعات، أو اشترينا عقارات في أوروبا وأميركا، فإنّ ذنوبنا مغفورة لأنّ لبنان بحسب أكثر المسيحيّين بلد الرسالة (ولو ملغومة) وأرضنا وقف لله، وعند أكثر المسلمين السنّة هو بلد عربيّ لن يتخلّى عنه إخوته الكبار، وعند أكثر الشيعة هو بلد أشرف الناس وأقدس مقاومة، وعند أكثر الدروز هو الجبل الحصين المحصّن الذي لا تقوى عليه رياح التغيّرات.
وفي النتيجة، بيوت مدمّرة، شباب مهاجر، لقمة عيش مغمّسة بالدم، نعوش بيضاء، فساد وتلوّث، رؤساء عجزة عاجزون، مواطنون أطفال بلا وطن... ومبادرات فرديّة رائعة تبرعم بين الصواريخ والألغام، وأكثريّة تلتفت مرّة صوب الشرق ومرّة صوب الغرب، ولا تلتفت إلى لبنان.
مئة سنة كانت نتيجتها مئات ومئات ومئات من الشهداء والمخطوفين والمفقودين والمعوّقين والمهجّرين والمهاجرين والفقراء والمرضى بسبب الفساد والتلوّث...وثروات لا تحصى لزعماء لا يشبعون.
مئة سنة، بدا فيها الفرح والمسرح والفنّ والأدب لمحات واعدة بالضوء كالمفرقعات الناريّة التي اتّهموها بالانفجار... ثمّ كان الفشل في التربية والتعليم والدين والسياسة والعسكر...
وفي انتظار أوّل أيلول المقبل، ليتنا نتّفق على اسم الدولة التي نريد منها أن تستعمرنا، ما دمنا نعشق سنوات الاحتلال والاستعمار والانتداب ولا نطيق لحظة ثورة حقيقيّة.

الأحد، 14 يونيو 2020

العدّ العكسيّ (1 من 3)



الثورة بلبنان مش ممكن تنجح بشكل عام وشامل لأنو بالآخر كل حدا عم يرجع لقطيعو، حتّى العلمانيين صاروا قطيع وكأنن طايفة جديدة نازلة لبيط بغيرها، كرمال هيك لازم تكون الثورة موزّعة بشكل أفقيّ وعامودي، يعني ثورات ضمن الطائفة الوحدة مثلًا، وثورات من الطبقة الفقيرة ضد الطبقة الغنية من سياسيين ورجال دين ومصرفيين وموظّفين، لأني صرت شبه مقتنعة (عدا عن استثناءات قليلة) إنو كلّ حدا عندو بيت فخم (مش بس قصر وفيلا) لازم ينسأل من إين لك هذا؟
بتظبط الثورة لمّا الشبّ بيسأل بيّو: بابا إنت موظّف بالدولة ومعاشك معروف، كيف عنّا فيلّا أربع طوابق وخدم وحشم وسيّارات ومدارس وجامعات راقية؟
بتظبط الثورة لمّا العسكري يسأل الضابط المسؤول عنّو: سِيْدنا! راتبك معروف كيف معها مرتك تشتري كلّ هالتياب والمجوهرات والسكربينات من أفخم المحلّات وبتعطيني كم قطعة قديمة من عندها لمرتي؟
بتظبط الثورة لمّا الملتزم بدينو بيسأل رئيس طايفتو: ليش إنت معك تاكل وتشرب وأنا ما معي؟
بتظبط الثورة لمّا ما منعود نشوف ع صفحات التواصل الاجتماعي صور البيوت الفخمة بمسابحها النضيفة والطاولات العامرة بالأكل، ولا نشوف المطاعم والشاليهات بالمصايف عاجقة بالناس يللي معن دولارات
بتظبط الثورة لمّا ما بيعود في بكعب كلّ بناية محلّ مانيكور وبيديكور ونتف شعر، وبيرجع في مكتبة لبيع الصحف والكتب والمجلّات،
بتظبط الثورة لمّا ما بيعود كعب إجريكن ع رمل الشطّ اللبنانيّ أنعم من لسانكن إنتو وعم تحكوا عن لبنان
بتظبط الثورة لمّا بتقرّروا شو هيي لغة بلدكن، ومين عدو بلدكن، ومين الخاين ومين الشهيد،
بتظبط الثورة لما بترجع الزراعة حاجة أساسيّة مش موضة، لأنو الزراعة بدها صبر وطولة بال وعناية وانتظار وارتباط وما فيها بخشيش، والموضة بتتغيّر كل شهرين تلاتة،
بتظبط الثورة لمّا يللي نازل يثور مش عم يحلم يصير زعيم أو نايب أو وزير، ولكن عم يشتغل ع السكت ت يوصّل الشخص المناسب للمطرح المناسب، لأنّو مش ضروري الثائر الناجح يكون قائد ناجح أو وزير ناجح...
بتظبط الثورة لما هيدا الثائر ما بيقتل كلب شارد، ولا بس يعصّب من حدا بيقلّو إنت معاق، ولمّا ما يعجبو حكي بنت بيشتمها بشرفها وشرف إمّها
بتظبط الثورة لمّا بيتلاقى رجّال بيرجّع ولادو ع حضن إمّن وما بيعاقبها بحرمانها منن لأنّها تركتو
بتظبط الثورة لمّا ما منعود نتمسخر ع يللي بيحكوا فرنسي غلط أو إنكليزي غلط (هيدا موضوع تاني رح إحكي عنو بعدين)، أو ع يللي بيستعملوا كيس النايلون تبع الخبز كيس زباله ت يوفّر ع البيئة وع جيبتو
بتظبط الثورة لمّا منعرف إنّو التضامن مع جورج فلويد ما رح يحلّ أزمة العالم ولا رح يخلّينا نصير شعب حضاري وراقي، لأنو من زمان فتاة النابالم كمان هزّت ضمير العالم (1972)، والطفل الصومالي يللي قاعد النسر ناطر موته ليلتهمو (1993)، وصورة استشهاد محمد الدرة (2000)، وصور التعذيب في سجن أبو غريب (2004)، وصورة نادية الإيزيدية يللي أغتصبها إرهابيّو داعش (2014) وصورة إيلان كردي يللي وجدوا جثته ع الشط لتركي(2015)، وصور الحروب كلها بما فيها مجلّدات الحرب اللبنانيّة يللي فيها ملايين الصور المرعبة عن المجازر، كلّ هودي الصور هزّوا ضمائر العالم كم يوم وبعدين نسيوا الناس هالصور وكمّلوا حياتن،... إلّا نحنا، مصرّين نضل متمسّكين بحكايات الثأر والموت ت نسجّل أعلى رقم بكتاب غينيس بعدد الضحايا والشهدا وما منقبل إلّا ننبش مدافن الماضي وأكترنا ما بيعرف غير عناوين عن يللي صار، بدءًا بمجزرة رهبان مار مارون (517) مرورًا بمجزرة كربلاء (680)، وصولًا إلى مجازر المماليك في شمال لبنان (1283)، ومجازر الجبل (1860) بين المسيحيين والدروز، وغيرها وغيرها من المجازر يللي صارت بعد 1975 وبتخلّينا نفكّر مليون مرّة قبل ما نكتب تاريخ لبنان (غير الحضاري والفنيّ) يللي كلّو دم وحقد.
كرمال هيك وقبل ما نعمل ثورة عامة شاملة، يمكن لازم نعمل ثورة ع حالنا، ع أفكارنا البالية، ع رأينا بالطايفة التانية، ع برامج التمسخر ع التلفزيونات، ع نشرات الأخبار وبرامج السياسة، ع الأحزاب يللي منتمي إلها ت نغيّرها من جوّا، ع شوفة حالنا وشعاراتنا الغبيّة (شعب بيحبّ الحياة، المرأة اللبنانيّة سيّدة الأناقة...) ع كنائسنا وجوامعنا وخلواتنا، ع تقديس الشعرا والكتّاب، ع نظامنا التربويّ الفاشل، ع مدارسنا الخاصة يللي انهارت عند أول أزمة وبعدين منبقى نحلم بالثورة
#ماري_القصّيفي
#في_انتظار_الثورة


السبت، 16 مايو 2020

ثلاثية الستّين – بين الشلل والكورونا – جزء ثالث وأخير



لا أذكر أنّني أقحمت الله في مسألة شلل الأطفال مذ تفتّح وعيي على واقع الأمر، فلا ألقيت اللوم عليه أو جعلته السبب في ما أصابني، ولا طلبت منه "عجيبة شفاء" على الرغم من الزيارات الكثيرة التي قامت بها العائلة، على شرفي، إلى الكنائس والأديرة ومزارات القدّيسين. وأذكر أنّ إحدى عمّاتي اصطحبتني مرّة إلى منطقة النبعة، حيث قيل إنّ القدّيس شربل جعل التراب يرشح زيتًا، وحين غادرنا المكان سألتني إن كنت صلّيت بحرارة طالبة شفائي، فأومأت برأسي أن نعم فعلت، لكنّي لم أصارحها بأنّني طلبت ألّا يتساقط شعري الأسود الطويل. كنت أحبّ شعري، ولكن كلّما طال قليلًا وصار يستحقّ أن أتباهى به، أجبر على قصّه كي يسهل على والدتي غسله وأنا مسمّرة أكثر الوقت في السرير. وكان شعري في تلك المرحلة من عمري أهمّ من مسألة شفاء رجلي، ولأنّني كنت، وما زلت، أضع علامات استفهام كبيرة حول مسألة الأعاجيب والمعجزات. وحين تبيّن أنّ المكان في النبعة كان معملًا للشمع، ما جعل التراب مشبعًا بالزيوت، قلت: منيح ما صلّيت ع الفاضي.
أكثر الناس اليوم يعتبرون الكورونا غضبًا إلهيًّا، حتّى في الصلاة التي تصل أصداؤها إليّ من غرفة الجلوس، أسمع: إرحم يا رب إرحم شعبك ولا تسخط علينا إلى الأبد... فأسأل نفسي ما الفرق بين إيمان أمّي البسيط والعفويّ وإيمان البطريرك المارونيّ الذي يرأس الصلاة كلّ ليلة من أجل الخلاص من الوباء، ولماذا لا يزال الله ساخطًا مع أنّنا صرنا في "العهد الجديد"؟
قد يتساءل البعض عن هذه الأهميّة التي أعطيها لشلل الأطفال وقد مضت على إصابتي به ستّة عقود، وفي العالم أمراض وأوبئة وإعاقات لا تُعدّ ولا تُحصى. محقّون في تساؤلهم، لكنّ شلل الأطفال نفسه، وفي لبنان تحديدًا، لا ذكر له في أدبياتنا ومراجعنا الطبيّة. ولعلّ قصّة "الصبيّ الأعرج" لتوفيق يوسف عوّاد، الوحيدة التي تشير إلى هذه الإعاقة، في معالجة أراها تجنح إلى الكثير من العنف والقسوة إن نحو الأعرج أو في تصرّفاته. ويوم نشرت في جريدة النهار نصًّا بعنوان "عرجاء... ولكن" (العنوان مستوحى من الفيلم المصريّ "عذراء ولكن")، استغرب الأصدقاء تطرّقي إلى المسألة، ولم يفهموا أسباب رغبتي في ردّ الاعتبار إلى العَرج الذي لا يحلو لمعلّم قواعد اللغة إلّا أن يعطيه مثلًا حين يشرح درس أفعل التفضيل، وكيف يصاغ، فيضعه في خانة العيب حين يقول أعرج/ عرجاء... فيلتفت إليّ بعض التلامذة!
وعند البحث عن هذا الوباء وضحاياه عبر شبكة الإنترنت لا نجد ما يستحقّ الذكر عن تلك المرحلة، لكن هناك إشارة إلى طابع بريديّ صدر عام 2017 في مناسبة خلو لبنان من الشلل للعام الرابع عشر على التوالي، ما يعني أنّ الشلل بقي إلى عهد قريب ينال من الأطفال. فلماذا حُيّد عن الرواية والشعر والتأريخ؟ ففي مقالة للشاعر والناقد عبده وازن في الأندبنت العربيّة، تحمل عنوان "الأوبئة تجتاح الرواية"، نجد الطاعون والكوليرا والعمى والإيدز وكورونا، ولا نجد شيئًا عن الشلل.
عهدذاك، لم تكن وسائل الإعلام والتواصل متاحة كما اليوم ولم يكن ثمّ وقت للحديث عن الأمراض، ولم تكن تسمية "ذوو الاحتياجات الخاصّة" قد استحدثت، وكان العَرج علامة فارقة، لكنّي كنت صاحبة وجه جميل وذكاء لا بأس به، ما علّمني كيف أجعل موضوعًا كانتعال حذاء أنيق ذي كعب عالٍ أمرًا غير ذي أهميّة في لوحة المرأة التي رسمتها بنفسي لنفسي، ولوّنتها بتجاربي مع الناس.
هذه المرأة هي التي تكتب الآن الجزء الأخير من ثلاثيّة الستّين، وتودّع جزءًا بسيطًا من قصصها الشخصيّة مع شلل الأطفال لتنظر بأسى إلى عالم مشلول عاجز عن إيجاد علاج للسرطان والعمى والشلل والصَّمم والبكم والباركنسون والإلزهايمر والفشل الكلويّ والتصلّب اللويحيّ والإيدز والسارس والكورونا والأمراض النفسيّة والعقليّة والتشوّهات الخلقيّة... عالَم عاجز عن الحبّ: أساء إلى الطبيعة، وقتَل الحيوانات لمجرّد الهواية والمتعة، ولوّث الماء والهواء والتراب...
هذه المرأة هي التي تكتب الليلة، بالنيابة عن جميع المتألّمين الموجوعين والوحيدين المتروكين والمخطوفين المعذَّبين، تحتفل بعيدها الستّين برفقة الكلمات التي ما خذلتها يومًا، وتقول كما في كلّ سنة: لا يعنيني يا سنة جديدة ماذا ستحملين لي، بل أخبرك ماذا أحمل لك أنا: سأكون أكثر جنونًا وعنادًا وثورة وشغفًا ممّا كنت عليه/ سأكون أكثر تطلّبًا في العشق، وأكثر رفضًا للظلم والغباء والجبن، وأكثر إصرارًا على إحداث فرق/ سأكتب أكثر وأضحك أكثر وأبكي أكثر لأنّني في كلّ ما أفعل لن أكون إلّا أنا / كوني كما تريدين أن تكوني يا سنة جديدة / وأنا سأكون كما أريد أن أكون، مالكة كلماتي، رافضة ما لا ينصاع له فكري، متمسّكة بحريّتي في أن أقول نعم أو لا، وحيدة وحيدة وحيدة كالشمس والقمر ونجمة الصبح!
هذه المرأة هي التي تكتب الليلة: تستحضر وجوه الرجال الذين عبروا ويعبرون، تبتسم لهم في حنان، تشكرهم على قصص الحبّ التي أوحوا ويوحون لها بها، تعذر مخاوفهم الموروثة، وتعتذر عن جنونها حين تُقدِم، وعن جرأتها حين لا تلتفت إلى الوراء، وعن غضبها حين تصبّه عليهم حممًا لأنّهم لا يشبهون صاحب القميص الأزرق، ولا يشبهون الكلمة، ولا يشبهون الكتابة، ولا يشبهون الأشجار وعشب الحقل...
هذه المرأة التي يظنّ كثر أنّهم يعرفونها - وهم مخطئون- هي التي تكتب...
هذه المرأة التي اعتقد كثيرون أنّهم خدعوها - وهم مخطئون - هي التي تكتب...
هذه المرأة التي تحبّ أن تُخضع الناس لاختبارات صعبة تعرف أنّهم لن ينجحوا فيها هي التي تكتب الآن، 
هذه المرأة التي تتنفّس برئة هي الكتابة والصمت ورئة هي الحبّ هي التي تكتب الآن لتشكر الحياة والألم ورِجلها المشلولة العنيدة، ورِجلها السليمة التي تحمّلت معها الكثير، ثمّ تجلس لتراقب وطنها وهو يتعثّر في مشيته، وتشاهد العالم وهو يحاول أن يقف على رجلين اثنتين سليمتين... 

الجمعة، 15 مايو 2020

ثلاثية الستّين – بين الشلل وكورونا– جزء 2



ارتبط وباء الشلل بالأطفال، أمّا الكورونا فهدفه المتقدّمون في العمر. لذلك بدا لي الأمر مزحة سمجة تلقيها الطبيعة على مسمعي وهي تحذّرني: نجوتِ من الموت طفلة، فانتبهي كي لا يقضي عليك هذا الوباء، فأنت لم تعودي صغيرة.
في الواقع لم تعن لي شيئًا مسألة العمر التي عالجتها بأسلوبي الخاصّ: فالشلل حرمني من عشرين سنة، كنت فيها أسيرة البيت أو المستشفى، وهذه ليست مسؤوليّتي، فأنا الآن إذًا في الأربعين من العمر!!! قد يبدو الأمر لبعضكم طرفة مضحكة، لكن حياتي بدأت فعلًا في العشرين، حين تحرّرت من انتظار مواعيد الأطباء والعمليّات الجراحيّة والمشي بأقل نسبة من العَرج. لكنّ التحرّر الأهمّ – كما أقنعت نفسي في تلك المرحلة – هو التحرّر من الألم. فأنا قد نلت حصّتي منه وليس من العدل في شيء أن أتعرّض لألم آخر ولو بسيطًا.
أعرف الآن، وبالتأكيد عرفت دومًا، أنّ الأمر لن يكون بمثل هذه البساطة... ولكن هذا موضوع آخر، فلنبق في مسألة العمر الذي صودف أنّ شكلي لا يفضحه، فكنت أبدو دائمًا أصغر سنًّا ممّا أنا عليه.
ففي الأعوام التي أمضيتها في السرير، كان الوقت طويلًا بطبيعة الحال، وعهدذاك كان الترفيه الوحيد، بالنسبة إليّ هو المطالعة وتلفزيون لبنان (تابعت عبره في العاشرة من  عمري تفاصيل مأتم جمال عبد الناصر)، وإذاعتا لبنان ومونت كارلو... فضلًا عن استقبال الضيوف العُوّاد وكلّهم من عمر والديّ. في بداية الإصابة وكان عمري سنة وثلاثة أشهر أبعد الأهل أطفالهم عنّي خشية العدوى، ثمّ صار أترابي يبتعدون شيئًا فشيئًا كي يلعبوا أو يذهبوا إلى المدرسة. ما يعني أنّ مجتمعي صار محصورًا بمن هم أكبر منّي، إن عبر التلفزيون والراديو (برامج الأطفال لم تستهوني يومًا)، أو عبر الضيوف. حتّى الكتب التي قرأتها كانت ممّا يتوفّر في مكتبة خالي ميلاد حين أقيم عند بيت جدّي في عاليه، خصوصًا في الصيف. وهي طبعًا ليست كتبًا للأولاد.
نستنتج إذًا أنّني عشت طيلة عشرين سنة متألّمة وأسيرة وأقرأ كتبًا للكبار، فضلًا عن أنّني كبيرة إخوتي، ما تطلّب منّي ولو عن غير قصد من الأهل أن أكون مسؤولة وقدوة، ما جعلني أكره المثل الذي كانت تردّده أمّي: الوِعي الكبير بيساع الزغير. فكتبت لاحقًا: الوعاء الكبير، فارغًا فقط، يتّسع للوعاء الصغير...
وأنا كنت ممتلئة ببياض المستشفيات، ورائحة المعقّمات، وأنين المرضى، وصار من الملحّ أن أكتشف الألوان... لكن الحرب التي كانت بالمرصاد وتدخّلت في مسيرة حياتي وأنا في الخامسة عشرة، نقلتني إلى رماد الدخان وأحمر الدم وسواد الحِداد، فكيف أبدأ حياتي من جديد وآخر عمليّة جراحيّة خضعت لها جعلتني على تماس مع الجنون، ما جعلني أكتب لاحقًا:
"أذكر في كثير من الأسى تلك الشابّة التي وضعوها في غرفتي في المستشفى لأنّها كانت مصابة بنزيف. كنت صغيرة وخاضعة لعمليّة جراحيّة في رجلي تمنعني عن الحركة. وفي أوائل الليل، انفجرت أصوات القصف في مكان ما من بيروت، فتوتّرت أعصاب المريضة وخرجت عن إطار السيطرة. علمت فيما بعد أنّ المرأة كانت في مركز للأمراض العقليّة، وأتوا بها إلى هذه المستشفى لعلاج نزيفها. ولم يكن من المسموح أن يضعوها مع أحد
     في ذلك الوقت كانت الحرب تسمح بمخالفات كثيرة فهل سيهتمّ أحد بمجنونة موضوعة في غرفة واحدة مع طفلة
     أذكر المشهد كما لو أن الأمر حدث اليوم: كيف كانت تحضن المخدّة على اعتبار أنّها ابن أخيها الذي كانت تحبّه على ما يبدو بشكل مميّز، وتغنّي للمخدّة، وتقفز بها من زاوية إلى زاوية هربًا من قصف موجود في تلك اللحظة في رأسها فقط، إلى أن اختبأت تحت السرير وهي تصرخ.
     ثمّ أخذت تقترب منّي لتخبّئني تحت الغطاء كي لا يطالني القصف
     لم تنفع محاولات الأطباء والممرضات في تهدئتها رغم الأدوية التي أعطيت لها والحقن. ولما لم يكن هناك مجال لوضعها في غرفة أخرى بقي طبيب وممرّضة طيلة الليل حاجزين بيني وبينها.
     لا أذكر أنّني كنت خائفة منها، بقدر ما كنت أراقب ما يجري وأحاول أن أفهم. كان الدم النازف منها يملأ المكان ويلوّث ملابسها وفراشها وغطاءها ولم يكن من مجال لترتيب وضعها وتصحيحه قبل أن تهدأ. وكانت عيناي المفتوحتان ترصدان كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ نقطة دم. وساعدني الضوء الذي أبقوه مشتعلاً على تثبيت نظري عليها وملاحقتها في رقصة رعبها الطويلة والمرهقة.
     في ساعات الفجر الأولى، غرقت المرأة النازفة في نوم عميق بعدما أعطى خليط الأدوية مفعوله أو بعدما تعبت. لا أدري. ولكن حين تمّ نقلها على سرير متحرّك إلى سيّارة إسعاف لإعادتها إلى المصحّ العقليّ كانت المرأة لا تزال نائمة. أهلها الذين أتوا لمرافقتها اعتذروا من أهلي عن ليلتي الصعبة كما وصفوها. وقالوا إنّ الحرب هي التي فعلت ذلك بها، وأنّها فعلًا متعلّقة بابن أخيها الطفل وتخاف عليه.
     أعتقد أنّ ارتباط الجنون بالحرب وثيق، فالجنون يولّد الحرب والحرب تنتج الجنون. حلقة مفرغة يدور فيها الإنسان. ولهذا سيبقى العقل البشريّ بالنسبة إليّ أمام علامات استفهام وعلامات تعجّب لا نهاية لها".
حين أستعيد كلّ ذلك وأنا أكتبه، أتأكّد أنّ مشكلتي لم تكن في رِجلي، بل في ذاكرتي التي تحتفظ بالصور والروائح، في مراقبتي ما يجري وحفظ ما يُقال، في رغبتي الجارفة في معرفة الأسباب وتحليل النتائج... هل كنت سأكون هكذا لولا الشلل؟ لا أعرف. لكنّي أعرف أنّ الشلل أعطاني الكثير من الوقت للتأمّل والتفكير والقراءة... ثمّ الكتابة التي جعلتها حيلتي وحبل خلاصي من الأسر. فحين كتبت روايتي الأولى وأنا في الرابعة عشرة من عمري، بل اشترطت على شقيقتيّ وقريباتي (الصبيان لن يتركوا اللعب من أجل رواية حبّ) أن يأتين لأقرأها لهنّ... وهذا ما حصل. فهل الشلل هو ما جعلني أكتب لجذب شِلل الأولاد، وهل كنت لولاه سأكتب... لا أعرف، لكن، لولاه لكنت أردت أن أكون ممثّلة مسرح...
ليت العالمَ مسرح كبير جميل، هو حلبة صراع بلا قوانين أو ضوابط، هكذا كان وهكذا سيبقى... وكلّ ما فعله فيروس كورونا أنّه فضح الأمر أمام من كان يتجاهله!
(يتبع جزء ثالث وأخير)


الأربعاء، 13 مايو 2020

ثلاثية الستّين – بين الشلل والكورونا – جزء 1

أنا عند بيت جدّي في عاليه، بعد خمسة أشهر في السرير / كما أشير بيدي (تبقّى لي بعدها ثلاثة عشر شهرًا)
  وذلك بعد العمليّة الجراحيّة الأولى وكنت في العاشرة من عمري
أضع خاتمًا ذهبيًّا أهدانيه جدّي لأنّني درست في البيت 

ونجحت في السرتفيكا
وقد حملني المرحوم خالي ميلاد إلى مركز الامتحانات
وكافأني بعدها بمشاهدة فيلم هنديّ في بيروت 

أن أبدأ مشوار حياتي مع شلل الأطفال، وأن أحتفل بعيد ميلادي الستّين مع الكورونا أمر لا فرادة فيه. ففي نهاية خمسينيّات القرن العشرين وبدايات الستينيّات كان وباء شلل الأطفال يصيب ملايين الناس تاركًا خلفه الموتى والمعوّقين المشلولين، واليوم، وبعد ستّين عامًا، ينتشر وباء الكورونا في كافّة بقاع الأرض شالًا الحركة في العالم كلّه.
ولكن أن يكون المرء ذا حساسيّة مفرطة تجاه الألم والمرض والموت، فهذا ما يجعل الأمر مميّزًا، ويضعني في خانة لا أُحسد عليها، بل يجب على الأرجح أن يُرثى لحالي.
لقد تمنّيت دومًا لو أنّني نظرت إلى واقع إصابتي بالشلل على أنّها أمر خاصّ وشخصيّ، أكتب عنه مرّة واحدة أفرغ فيها مكنونات الصدر وأرتاح. لكنّي عجزت عن تحقيق ذلك، لا بل أجرؤ على القول إنّني تخطّيت موضوع الشلل والمشية العرجاء منذ البداية، لكنّي بقيت أسيرة الأسئلة التي يطرحها المرض بشقّيه الجسديّ والنفسيّ، وصولًا إلى الموت. وما زلت أذكر كيف أنّني مذ وعيت طبيعة حالتي كتمت مرارًا صوت ألمي لأصغي إلى أنين المرضى وصراخهم. وها أنا وقد تقدّم بي العمر ما زلت أحفظ، في وضوح تام، تفاصيل الإقامة في المستشفى، ويوميّات الحياة فيها، ولكن من خلال المرضى والطاقم الطبيّ والزائرين، ما شكّل مادة دسمة لعدد من القصص القصيرة والمقالات التي نشرتها.
واليوم، مع انتشار وباء جديد، شبّهه بعض العلماء بشلل الأطفال بل اقترحوا أن يكون لقاح الشلل علاجًا له، عادت التساؤلات التي ظننتني شفيت منها لتفرض نفسها عليّ. كيف لا والحجر الصحيّ يعيق ما اعتبرناه حياة طبيعيّة، والوضع الاقتصاديّ يهدّد أبسط مقوّمات الحياة؟
بين الوباءين، شكّل السرطان حالة خبيثة لم توفّر صغيرًا أو كبيرًا، وحصدت أمراض أخرى غريبة عجيبة أرواح كثيرين، وكذلك حوادث السير، والحروب، وأمام هذه كلّها كنت أراقب وأحفظ وأنا أتمنّى لو أنّني لا أراقب ولا أحفظ.
ستّون عامًا من انتظار الأجوبة إذًا، والنتيجة وباء جديد تنقسم الآراء حول نشأته وطبيعته ووسائل علاجه، بل يشكّ كثر في حقيقة وجوده ويضعونه في خانة المؤامرات العالميّة.
ستّون عامًا من انتظار الشفاء من الأسئلة، والجواب الوحيد والأكيد سؤال جديد.
ستّون عامًا من الانتظار: انتظار الخروج من المستشفيات، انتظار العمل والانطلاق في الحياة، انتظار نهاية الحرب وتحرير القدس، وقف إطلاق النار، فتح المعابر، الكهرباء، قيام الدولة، عودة المغتربين،... والنتيجة ثورة لا تعرف ماذا تريد.
ستّون عامًا من الانتظار: انتظار الحبّ، انتظار رجل على قياس القميص الأزرق، لا يضجر من أسئلتي، ولا يستقوي على رِجلي ويخاف من رأسي...
***
الرئة الاصطناعيّة 
منحوتة تمثّل مصابًا بشلل الأطفال في العصر الفرعونيّ
1403–1365 قبل الميلاد
خطر لي منذ بدء الحديث عن كورونا، ومن دون أيّ متّكأ علميّ طبيّ أنّه يشبه شلل الأطفال الذي كنت أعرف الكثير عن نشأته (منحوتات فرعونيّة تشير إليه) وتاريخه وانتشاره ولقاحه. ولكنّ أمورًا محدّدة جعلتني أربط بينهما كآلة التنّفس المرعبة التي يوضع فيها المصاب بشلل يعيق رئتيه عن العمل (عاد الحديث عنها)، أن يحمله أحد ولا يصاب به بل لا يعلم أنّه أصيب به، وكيفية انتقاله. لاحظوا كيف تصفه منظمّة الصحّة العالميّة عبر موقعها: "شلل الأطفال مرض فيروسيّ شديد العدوى يغزو الجهاز العصبيّ وهو كفيل بإحداث الشلل التامّ في غضون ساعات من الزمن. ويدخل الفيروس جسم الإنسان عبر الفم ويتكاثر في الأمعاء. وتتمثّل أعراض المرض الأوّلية في الحمى والتعب والصداع والتقيّؤ وتصلّب الرقبة والشعور بألم في الأطراف. وتؤدي حالة واحدة من أصل 200 حالة عدوى بالمرض إلى شلل عضال (يصيب الساقين عادة). ويلاقي ما يتراوح بين 5% و10% من المصابين بالشلل حتفهم بسبب توقّف عضلاتهم التنفسيّة عن أداء وظائفها". (الوفاة لا تكون إذًا إلّا عند تعطّل عمل الرئتين).
أمّا طرق انتقال الشلل بالعدوى فتتمّ بملامسة مُخاط أو بلغم الشخص المُصاب بشلل الأطفال، أو ملامسة البراز للشخص المصاب، أو الاتّصال المُباشر مع المُصاب بشلل الأطفال، وفيما يتعلّق بفترة الحضانة فهي تتراوح هذه الفترة بين 5-35 يوم، ويُشار إلى إمكانيّة نقل الشخص العدوى للآخرين بشكلٍ فوري قبل ظهور الأعراض، وحتّى أسبوعين بعد ظهورها.
فضلًا عن كلّ ذلك، استعدت أحاديث سمعتها عن انتشار شلل الأطفال في لبنان مثلًا:
غياب الدولة عن الاهتمام وتأمين اللقاحات (اضطرّت عائلتي لتوسيط إحدى المسؤولات في وزارة الصحّة لتأمين اللقاح لشقيقتي المولودة حديثًا)، وعدم اقتناع الأطباء بجدوى اللقاحات ورفضهم إعطاءها ما تسبّب بحالات شلل كثيرة، وغياب التوعية، طبعًا عهدذاك كانت وسائل التوجيه محصورة بتلفزيون لبنان والإذاعة الرسميّة والصحف، وهذه كلّها كانت غير متاحة للجميع خصوصًا في الأرياف والجبال وعند الطبقة المتوسّطة وما دون.
واليوم، مع الحجر الصحيّ المفروض في العالم كلّه، يتخوّف مسؤولون في منظّمات صحيّة من عودة شلل الأطفال إذا صرّح ميشال زافران من منظمة الصحة العالمية الذي يرأس المبادرة العالمية للقضاء على شلل الأطفال "لقد دمرتنا حقيقة أننا يجب أن نوقف نشاطاتنا التي نقوم بها من أجل القضاء على مرض عملنا بجد للتخلص منه".
وأضاف أن المنظمة "لم تضطر" إلى وقف البرنامج بهذه الطريقة من قبل. وما زالت هناك دولتان فقط حيث يستمر فيروس شلل الأطفال الموجود في الطبيعة بالانتشار هما باكستان وأفغانستان، لكن السلالة المتحوّرة من اللقاح نفسه تسبّبت أيضًا في تفشي المرض في العديد من دول إفريقيا."
وما بين أن يكون لقاح الشلل علاجًا للكورونا، أو أن ينتشر الشلل بسبب كورونا، يبدو العالم كلّه مشلولًا عاجزًا عن إنقاذ نفسه. أمّا أنا فأنظر إلى الطفلة والمراهقة اللتين كنتهما وقد خضعتا لعمليّات جراحيّة رائدة في ذلك الوقت، وأفكّر في أنّني عشت في حرب طويلة مريرة، وبين وباءين، وتقدّمت في العمر والخيبة، ومع ذلك ما زلت أؤمن بالحبّ... فأبتسم ولا أعرف لماذا...
بعد الخضوع للعملية الجراحيّة الثانية
رجلي اليمنى في الجبس (الجفصين)
(يتبع جزء ثان)

السبت، 2 مايو 2020

الموت في زمن الكورونا (عن رحيل بطرس بو نادر)




مات اليوم بو عبدو، عمّو بطرس بو نادر، إشبين والدي ورفيق عمره، وعرّابنا نحن الأولاد الخمسة. مات في تسعينات عمره، كما يفترض بالإنسان أن يموت. مات بعد صراع طويل مع المرض وصعوبات الحياة وآلام الفقد، كما هي حال أكثر الناس في هذا العصر، مات وحيدًا في غرفة العناية الفائقة كما يجري عادة حين تتدهور حال المريض.
لكنّ الرجل الطيّب، ذوّاقة الزجل ونبع الحكايات، لم يكن وحيدًا كما تظنّون. فمن سلمت له ذاكرته كما أتيح له لا يموت وحيدًا، ومن لم يتأخّر عن واجب عزاء أو عيادة مريض، لا يموت غريبًا بين الغرباء، ومن يهرع عارضًا خدماته حين تلمّ بأحدهم مصيبة لا يمكن أن يبقى بمفرده ولو حوصر الناس في بيوتهم.
وغدًا، في مأتمه، لن يستطيع من سلّفهم محبّة وسؤالًا وزيارة أن يردّوا له الدَّين ويشاركوا في وداعه، لكنّهم سيقولون دائمًا حين يتذكّرونه: مات ودفن في زمن الكورونا، حين كنّا نموت مئة مرّة في اليوم.
لكنّ عمّو بطرس الذي مات في اليوم الأوّل من الشهر المريميّ عرف قيمة الحياة، واختبر حلوها ومرّها (يكفيه فقدُ حفيدين صغيرين في حادث سير مروّع وقع منذ أعوام). لكنّه تعلّم كيف يقاوم اليأس (لا الحزن) وكيف يتحدّى المرض ولو بربع رئة، وربع أمعاء، وربع نَظر، لكأنّ الربع الرابع منه وقد جُبل بالإيمان هو الذي أنقذه، أضف إليه حكايات قديمة عن صيد السمك سكّنت أوجاع روحه، وقصائد زجل يحفظها مغربلًا السخيف منها والسطحيّ، محتفظًا بالقيّم الدسم.
مات جسده مرارًا وتكرارًا، عمّو بطرس، مات مع موت شقيقيه، وابن شقيقه شهيدًا في الحرب، وزوجته، وحفيديه، لكنّ تفصيلًا واحدًا من تفاصيل العمر لم يغب عن باله، فما أخطأ في تذكّر اسم، أو تردّد في استرجاع بيت شعر، أو تلعثم عند سرد حكاية. وكنت أسأل نفسي وأنا أصغي إليه إن كانت الذاكرة تؤلم صاحبها إن احتفظ فيها بكلّ مجريات حياة ناهزت التسعين. ولماذا لا يستسلم هذا الرجل ويسأم كما فعل صاحبنا زهير بن أبي سلمى؟
أعتقد أنّ عمّو بطرس قاوم النسيان والموت من أجل وحيده عبدو ومن أجل ابنتيه نجلا ونهلا وأولادهما. صحيح أنّه كان يستمدّ منهم القوّة والعزيمة، وكان وجودهم سنده وعكّازه بعدما صاروا هم أولياء أمره، لكنّه في الوقت نفسه كان يشعر، على الرغم من أمراضه وشيخوخته، أنّه لا يزال مسؤولًا عنهم، ويخشى أن يتركهم بعدما تركتهم أمّهم باكرًا.
لكن ليس ذلك فقط ما أردت قوله عن رحيل عرّابي، أردت الكتابة عن حزن والديّ على إشبينهما، عن غضبهما علينا لأنّنا نحن أولادهما نمنعهما عن المشاركة في مأتمه: والدي يخبّئ دمعة ويصمت، والدتي تقول: كان يحمل قنينة الأوكسجين ويأتي لزيارتنا، إنّه إشبيننا! ولكن كيف نقنع زوجين عجوزين مريضين بأنّ جائحة الكورونا غيّرت نمط حياتنا ونسفت تقاليدنا الاجتماعيّة من أساسها، وحرّمت علينا الفرح والحزن، ولم تترك لنا سوى الخوف من الموتى والأحياء على حدّ سواء.
حزن والديّ العجوزين، وهما يطفئان التلفزيون بعد نشرة الأخبار، ثمّ ينزويان في غرفتهما، يختزل حزن العالم كلّه، لا لأنّهما يبكيان رجلًا تسعينيًّا في زمن صار فيه الموت مشهدًا يوميًّا أبطاله كبار وصغار، بل لأنّهما يحصيان في صمتهما الراحلين من الأهل والأصحاب والجيران، ويسترجعان زمنًا كان فيه للموت قيمة، ويخافان: يخافان علينا، على نفسيهما، على البلد، على الحياة وقد صار الجميع يستعجل إتمام مراسم الدفن استعدادًا لرحيل آخر. هو خوف من نوع آخر لم يعرفاه قبل اليوم، ولم يخبرهما عنه أحد، إذ لم يسمعا قبل اليوم عن عجائز تؤخذ منهم آلات الأوكسجين لتعطى لمن هم أصغر سنًّا. خوف مشروع لا علاقة له بالعمر أو الخبرة أو تراكم التجارب لأنّه خوف على مصير الناس كلّهم، وقد ارتبط بمأتم رجل لم يره أحد إلّا مبتسمًا وحنونًا، ومع ذلك مات في زمن الكورونا (لا بسببها)، فلماذا عليه أن يدفع الثمن فيدفن بصمت وكأنّه قد ارتكب ذنبًا؟
عمّو بطرس، إشبين والدي وعديله (كما كنت تحبّ أن تناديه) وعرّابي: لقد أحببتَ كثيرًا فادخل إلى فرح سيّدك القائم من الموت، ولا تتوقّف عند تفصيل صغير اسمه مأتم... فالمسيح قبلك دفن على عجل قبل أن يبدأ يوم السبت، ولا تخف على والديّ من حزنهما، لقد تركت عندنا إرثًا من الفرح، وثروة من الحكايات، وتاريخًا من الذكريات، بها نقاوم الوباء والحَجْر والفراق، ولا تخف على أولادك وأحفادك، إذ يكفيهم فخرًا أنّك لوّنت أيامهم بالأمل، ورويت أمسياتهم بالشعر فلم يعرفوا الملل، وزرعت فيهم الوفاء فوزّعوه خيرًا ومحبّة.
#ماري_القصّيفي






الاثنين، 23 مارس 2020

إنسان الاتصال لا التواصل (3 نيسان 2011)

وسائل الاتصال: تقريب البعيد وإبعاد القريب
أنت الآن قارئي العزيز/ أو قارئتي العزيزة/ وفي هذه اللحظة بالذات، على تواصل مع شخص غريب (من حيث المبدأ)، لكنّك تعرف عنه (على الأرجح) أكثر ممّا تعرفه عن شخص آخر يقيم معك في البيت نفسه، أو الحيّ نفسه. فما رأيك في ذلك؟ ألا تشعر مرّات بأنّك تحبّ هذا التواصل لأنّه مريح بشكل أو آخر؟ فأنت فيه حرّ وغير مسؤول. حرّ لأنّك لحظة تريد تقدم عليه، وعندما تضجر أو تتعب، تقطعه. وغير مسؤول لأنّ الآخر مهما اقترب منك فكريًّا أو عاطفيًّا يبقى خارج حيّز مسؤوليّتك المباشرة. في حين أنّ القريبين منك (أيًّا تكن صفتهم) يفرضون عليك وجودهم ويطالبونك بالتواجد معهم والاهتمام بهم ومراعاة مشاعرهم ولو في غير الوقت الذي يلائمك، كأن تكون تعبًا أو مشغولًا أو غير راغب إلّا في أن يتركوك وحدك.
في هذه اللحظة بالذات مثلًا هناك سيّدة لا تملك أدنى فكرة عمّا يفعله ابنها في غرفته، في حين تعرف تمامًا تفاصيل المشهد الذي يدور أمامها على الشاشة الصغيرة، وإن كان هذا المشهد بالذات بعيدًا عنها في الجغرافيا والتاريخ.
وهناك رجل يتابع أخبار الشباب الثائرين في ساحات الدول العربيّة، يشجّعهم ويشدّ على أياديهم، ولا علم له بالثورة التي تغلي في صدر ولده الفقير أو العاشق أو المريض أو العاجز عن فهم دروسه.
وهناك مراهقة تلاحق أخبار نجمها المفضّل، تتلّوى مع أغنياته، وتردّد كلماته، وتعيش معه قصّة وهميّة، ولا تشعر بأنّ شخصًا يقيم في البيت معها يتلّوى من الألم وينتظر من يلتفت إليه.
هل نحن في وضع من يهرب إلى الأمام؟ نغادر عالم الواقع لنركب قطار الوهم حيث لا أحد يعرف أحدًا معرفة حقيقيّة؟ هل صيّرتنا وسائل الاتّصال كائنات تتّصل ولا تصل؟ نبقى في أماكننا ونأتي بالعالم إلينا، وحين نتعب من كسلنا نطفئ كلّ شيء وننطفئ؟ نجلس في مقاعدنا، نتحوّل عيونًا وآذانًا تلتقط ما يمرّ أمامها، أصابع تضغط على أزرار تلتقط مشاعرنا وأفكارنا التي لا يعرفها من يقيم معنا في المسكن نفسه. قريبًا تختفي أعضاؤنا الأخرى، تلك التي لا نستعملها، تتقوّس ظهورنا، نعود بشرًا أوّلين مقيمين في مغاور، نرسم على الحيطان، وننتظر أن نعود قرودًا تحلم في أن تنتصب ظهورها وتقف وتمشي وتصير بشرًا يتواصلون.

الأحد، 15 مارس 2020

كيف يجد الناس أوقات فراغ؟ (2009)





     يحلو للناس أن يتحدّثوا في مرارة عن أوقات فراغهم واصفين إيّاها بأنّها مضجرة وطويلة وعقيمة.
     أوقات الفراغ – إن وجدت – ليست كذلك. هي فرصة للراحة والراحة ليست عيبًا أو مضيعة للوقت أو كسلاً غير منتج، هي استراحة محارب صارع لوقت ما الناس والطبيعة والعمل وقبل ذلك كلّه صارع نفسه، فاستحقّ وقتًا يستعيد فيه نشاطه واندفاعه قبل أن يعود إلى ساحة الصراع.
    ومع ذلك، وعلى الرغم من أهميّة أوقات الراحة وضرورة البحث عنها، أجدني أسأل نفسي كيف يجد الناس أوقاتًا لما يتّفقون على اعتباره مخصّصًا "للفراغ"؟
    المطالعة (كتب، مجلاّت، صحف، إنترنت، وفي أكثر من لغة)، الرياضة، الموسيقى، التأمّل، الصلاة، الخدمات الاجتماعيّة، المشي في الطبيعة، اللقاءات العائليّة والصداقات، التسوّق، الاهتمام بجمال الجسد ونظافته وأناقته، زيارة المتاحف، مشاهدة الأفلام والمسرحيّات، متابعة النشاطات الثقافيّة والفنيّة، الأعمال المنزليّة، الأشغال اليدويّة، الرسم، العمل في الحديقة، الكتابة، السفر، وغيرها وغيرها من الاهتمامات والنشاطات والهوايات ألا تكفي كي يمتلئ هذا الفراغ الهائل في أوقاتنا وعقولنا؟
     كيف يضجر بعض الناس في حين أنّ البعض الآخر لا تكفيه ساعات الليل والنهار لكثرة أعماله وهواياته ونشاطاته؟ كيف يجدون دقيقة فراغ واحدة، إن لم تكن للراحة التي أعود وأؤكّد أنّها ليست وقت فراغ بل امتلاء من عطايا الكون والحياة والبشريّة يتابع بعدها الإنسان عطاءاته في سبيل الكون والحياة والبشريّة؟
     كم يثير غضبي أولئك الذين يصمّون آذاننا طوال الوقت بالتذمّر من الضجر والملل والفراغ! كم هم طفيليّون مزعجون فارغون هامشيّون! وكم يحلو للحياة أن تستغني عنهم!
     ولكنْ،
    هل يستطيع الناس وعلى اختلاف طبقاتهم الاجتماعيّة والثقافيّة أن يؤمّنوا بأنفسهم ولأنفسهم ما يملأ فراغ أوقاتهم فلا يتحوّل "قتل الوقت" الهواية المجانيّة الوحيدة المتاحة لهم؟ أم على الحكومات أن تسعى لتأمين ما يملأ فراغ الناس بما يلذّ ويفيد ويريح؟ وفي غياب أيّ تخطيط حكوميّ في أيّة دولة عربيّة لمحاربة الفراغ الهدّام، على الإنسان العربيّ أن يكون خلاّقًا فـ"يخترع" ما يملأ أوقات فراغه بغير الإدمان على الكحول والمخدّرات والجنس، وبغير التلفزيون والرسائل القصيرة السخيفة إلى محطّات الأغنيات والفيديو كليب، وبغير الثرثرة على الإنترنت، وبغير التنزّه بين الصحون والطناجر في المجمّعات التجاريّة الضخمة.
    حكوماتنا سعيدة بحالة الخمول الذهنيّ التي نغرق فيها، ودولنا تتباهى بأنّنا شعب يحبّ الحياة (أيّ الغناء والرقص والسهر) ولذلك لا بدّ أن يستجيب القدر ويقبل المطرب الصاعد بالصعود على أكتافنا ليصل إلى قمّة النجاح. وكي لا نقع في التعميم المضلّل لا بدّ من التنويه ببعض الزعماء الذين ملأوا الفراغ في أوقات شعوبهم بخطب سياسيّة طويلة تذكّر (وهل هناك مجال للنسيان؟) بإنجازاتهم في سبيل الخير العامّ (عوضًا عن دُور الأوبرا)، وبصور نسائهم وبناتهم الأنيقات في الحفلات الخيريّة للفقراء (عوضًا عن معارض الفنون التشكيليّة)، وبنقل حيّ لمآتم الشهداء ونقاشات مجالس النوّاب (عوضًا عن المهرجانات الموسيقيّة العالميّة).
     في المدارس علّمونا أن نملأ الفراغ في جملة ما بالكلمة المناسبة، ولكنّهم مع الأسف لم يعلّمونا كيف نملأ أوقاتنا بالأنشطة المناسبة وكيف نضع برنامجًا للعطلة كما نضع برنامجًا للدراسة والعمل.

السبت، 14 مارس 2020

بيوتنا الفنادق ومحطّات الانتظار (2015)



     صارت البيوت أماكن للنوم القليل، القلِق، ولو لم يكن النوم فيها قليلاً وقلقًا لكانت البيوت أشبه بالقبور حيث النوم الطويل والهادئ.
     بيوتنا اليوم محطّات يلتقي فيها أفراد يحاولون أن يؤسّسوا لجماعة تتقاطع مواعيدها على عجل: العائد من المدرسة والعائد من الجامعة والعائد من العمل والعائد من السهرة والعائد من السفر. يصل كلّ منهم، فيأكل، ويستحمّ، ثمّ يغيّر ملابسه قبل أن يغادروا جميعًا إلى حيث يتابع الواحد منهم حياته كفرد منفصل عن الجماعة.
      كانت البيوت مأوانا، ثمّ صار العيش في المأوى أكثر حياة وحيويّة.
     وكانت البيوت قليلة الأثاث والآلات، يملأ فراغَها ضجيجُ الأولاد وثرثرة النساء ومشاريع الرجال، ومع الوقت أضحت شبيهة بالمحال التجاريّة أو معارض المفروشات أو المتاحف حيث الكلام قليل أو ممنوع أو يسيء إلى حرمة المكان.
     في تلك البيوت، تسابقت ربّات الحياة إلى شراء أكبر عدد من الأواني المنزليّة، وكن يفتخرن بامتلاك دزينات من الصحون والطناجر والأكواب، وينتظرن مناسبات الأفراح والأحزان ليخرجنها من الخزائن ويعرضنها أمام الضيوف. أمّا اليوم فالمطاعم هي الحلّ العمليّ والأنيق والسريع لمختلف المناسبات، ما أدّى إلى تحويل الأواني أدوات زينة تعرض ولا تستعمل. وبعدما كان الإنسان لا يرضى باستقبال الضيوف إلاّ في بيته، وكلّ ما سوى ذلك إهانة للمضيف والضيف، بدأ يتباهى بأنّه دعاهم إلى أفخم مطاعم البلد، وهو يعرف أن لا أحد سيعتب عليه.
     طربت بيوتنا لزغردات الفرح، ورقصت على أنغامها، وامتلأت زواياها سعادة عربشت على الجدران والسقف وأزهرت في أصص الورد وإلى جانب الفلّ والزنبق والمنتور. لكنّ صالات الأفراح في الفنادق والمطاعم أو تلك المقامة حديثًا إلى جانب دور العبادة أضحت البديلة الفاقدة خصوصيّتها وهويّتها. فالمكان العام ملك الجميع، ولن يحفظ صورهم أو دموعهم أو ضحكاتهم، وحين شُرّدت ذكريات الفرح والشوق من البيوت أمسى من السهل أن تخرب البيوت وتغلق أبوابها. ولذلك عجزت إحدى الأمّهات عن تذكّر الصالات التي شهدت حفلات زفاف أولادها إذ تمّت كلّ واحدة في مكان مختلف. أمّا البيت فلم يكن له إلاّ دموعها عندما كانت تذرفها في كلّ مرّة تعود إليه من عرس فتجده حزينًا ومتروكًا ومطعونًا.
     كانت بيوتنا تبكي على موتانا، وتتمسّك بهم تحت جوانحها حتّى اللحظات الأخيرة، وتبقي في حناياها وجوه المعزّين الصادقين. أمّا اليوم فيذهب الجميع إلى الصالة المبرّدة والباردة والواسعة والفارغة إلاّ من مجموعات المقاعد المتشابهة، المملّة، الباهتة، الممتصّة انفعالات آلاف الرجال وآلاف النساء. وهناك في الصالة المحايدة المتفرّجة سيمرّ الراحلون مرور العابرين في المطارات الغريبة، ثمّ يمضي كلّ إلى وجهته الأخيرة. فالناس يولدون في المستشفيات ويموتون في المستشفيات، أمّا البيوت فلصورهم المحكومة بالابتسامة والصمت.
     بيوتنا اليوم أماكن لبكاء اليأس وغضب الإحباط وتفريغ التعب. غرفها تشتاق إلى أحاديث تزعج الجيران وتثير غيرتهم وفضولهم، شرفاتها تحلم بسهرات لا تحمل ساعة يد، وأبوابها تنتظر من يقرعها وينتظر متلهّفًا كي يُفتح له، ومن الواضح أنّ اشتياقها لن ينطفئ، وحلمها لن يتحقّق، وانتظارها لن يثمر.
     لم تبق للبيوت ذاكرة. فلا أحد يقول اليوم: هذا كرسيّ جدّي المفضّل، وهناك كانت تغفو جدّتي، وعلى تلك الكنبة جلس زائر عزيز، وإلى تلك النافذة اتكأت أمّي يوم انتظرت عودة أخي من السفر، وتلك الخزانة إرث من عمّتي، وغطاء المائدة الملوّن يعيد إلى المخيّلة ولائم واحتفالات. فتغيير الديكور أمر يوميّ وعادي، والتخلّي عن الأغراض العتيقة بحجّة التخلّص من "الكراكيب" حاجة مفهومة وضروريّة. والطريف أنّ المقعد العتيق الذي كان يحبّه الجدّ العجوز رمي مرذولاً، وعندما اقتضت الموضة أن يشتري الناس أثاثًا عتيقًا من أسواق "البرغوت" التي تشتريه من الفقراء وتبيعه من الأغنياء، عاد المقعد إلى صدر المنزل في فخر وإباء. وغطاء السرير الأبيض المطرّز الذي جعل الشابات اليافعات يسخرن من جدّتهنّ المتمسّكة به وألححن على أمهنّ كي تتخلّص منه، عاد من "الأرتيزانا" معزّزًا مكرّمًا ذا قيمة ونسب.
     ذاكرة البيوت موزّعة اليوم سلعًا في الأسواق: صور للبيع، حقائب للبيع، مقاعد للبيع، أكواب شاي وفناجين قهوة وكؤوس عرق للبيع، حكايات للبيع، تاريخ للبيع. ولعلّ الحرب التي شرّدت الناس من بيوتهم ساهمت إلى حدّ بعيد في التخلّي الطوعيّ عن كلّ شيء بدلاً من أن يُنهب كلّ شيء ويُحرق كلّ شيء. هذا فضلاً عن أنّنا أحفاد تجّار لم نرث منهم إلاّ حبّ البيع والشراء مع أنّهم كانوا يملكون أمورًا أخرى مهمّة أيضًا. فالحرب التي أحرقت الصور والأثاث علّمتنا أن ننسى كي نستطيع أن نعيش، والتخلّص من الذكريات بداية النسيان. لكنّ عمليّة التنظيف هذه، تنظيف الذاكرة من الألم والحزن، أسكنتنا القلق والخوف. فلا ثوابت نتمسّك بها، ولا شيء أكيدًا ونهائيًّا، ولا سلام شاملاً وعادلاً، ولا مستقبل واضحًا، ولا حياة أكيدة، ولا منزل ذا هويّة، فلمَ إذًا لا نرمي القديم، ولمَ لا نتخلّص من التاريخ، الخاصّ منه والعامّ، ما دام التغنّي به لم يورثنا إلاّ الخسارة والحسرة؟
     كانت البيوت أرحامًا نتكوّن فيها ونولد أبناء حياة، وأعشاشًا نغرق في دفء الرعاية فيها ثمّ نخرج منها لنحلّق في سماوات الوجود، ومعابد نقيم فيها مع الله تحت سقف واحد، وحين أردنا سلخ جلودنا، تحوّلت البيوت فنادق للهاربين من أنفسهم والناس، ومطاعم للوجبات السريعة، وبيوت خلاء نقضي فيها حاجتنا ثمّ نمضي.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.