الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

في وداع ريحانيّة الجبل - أيار 2010


بين أشجار السرو والريحان والأكي دنيا

       لا أعرف إن كانت البلدة التي ولدت فيها لا تزال موجودة، لا أعرف إن وُجدت أصلاً. فالأمكنة ابنة الحكايات، ولعلّ حكاية قديمة أنجبت بلدتي التي أنجبتني. اسمها الريحانيّة، ولم يعد فيها من الريحان إلاّ شجرة يتيمة أمام باب بيتنا، تحيي العابرين على الطريق وتغريهم فيمدّون أيديهم ليقطفوا بعض الحبّات الصفراء الممتلئة فتتساقط الأخريات الكثيرات زخّات من العطر وكرات شمس تتدحرج على التراب القليل الباقي في بلدة تجتاحها الأبنية التي تنبت على جنبات الطرق حيث كان التين والزيتون والعنّاب.
       يوم امتدّت الطريق السوداء فوق دروب التراب وتلوّت كالأفعى بين البيوت القليلة تهدّد أطفالها اللاعبين بأمان، هرب الأمان ورحلت العصافير واختفت أشجار الريحان وهاجر الذين كانوا أطفالاً، وصارت الريحانية مجرّد أرض مرتفعة الثمن تصلح للتجارة وتقضم أطرافَها الخضراء البلداتُ المحيطة بها: فتأخذ الفياضيّة من الشرق مستشفى السان شارل، وتأخذ الحازمية بساتينها الشماليّة، وتستعمر برازيليا التي أنشأها مغترب لبناني عاد من البرازيل جانبَها الغربيّ، وتكتسح اليرزة بطبقاتها الاجتماعيّة الراقية حقولَ زيتونها الغنيّة، ولا أعود أعرف أين أقيم. وحين قال لي سائق التاكسي الذي أقلّني ذات عشيّة: إذا كنت ذاهبة إلى بعبدا لا إلى الحازميّة زادت التسعيرة ألفي ليرة، فكّرت في أن أبيع بلدتي بألفين من الليرات، لولا أنّه تابع وقال لي: ضيعان هالضيعة أكلها العمار.
       لو عاد الذين ماتوا منذ سنين لما اهتدوا إلى القرية الصغيرة التي كانت مصيفًا لأهل الحدث وارتفع فيها في العامين الأخيرين عشرون بناء من الحجم الهائل لن يعرف المقيمون فيها من الخليجيّين الأثرياء والمغتربين العابرين أيّ شيء عن تاريخها. إم عزيز المنتصبة القامة رغم أعوامها التسعين تمشي ويداها على خاصرتيها، الستّ شفيقة تبلّل كفّيها بالمياه وتربّت على أطراف شتلات الحبق الكبيرة لتنمو مستديرة كأنّها مرسومة رسمًا، العمّ إسكندر يتأبّط ذراع زوجته الستّ هيلين ويعودان معًا مريضًا ليرفّها عنه بأخبارهما الطريفة الذكيّة، الستّ نيني ممرّضة القرية تنقل وصفاتها عن زوجها الذي كان يعمل في الطبيّة ويسمع أحاديث الأطبّاء ويتعلّم منها، العمّ جريس بشرواله العربيّ وزوجته الستّ رشيدة يجلسان أمام بيتهما الذي اختفى ويستعدّان لاستقبال زائري العصر لشرب القهوة، إم كلود التي أتت من الشمال وصارت ابنة الحيّ، العمّ طانيوس الذي حضن السنديانة مودّعًا باكيًّا حين هاجر وهو يناهز الثمانين من عمره إلى أوستراليا حيث أولاده، وغيرهم وغيرهم من الوجوه التي لم تعرف غير الابتسامات تتحدّى بها الفقر لا العوز، وتستقبل بها الضيوف بلا خبث أو رياء، وتروي الأرض حنانًا ودفئًا.
      اليوم، غارت عين الريحانيّة تحت هدير الحفر والبناء، وباع الأحفاد البيوت القديمة لتجّار الإعمار، وصارت أشجار الزيتون والتين والعنّاب وقودًا في مدفأة الذاكرة. كلّ ذلك لأنّ الريحانيّة ليس فيها مكان للموتى، ليس فيها مدافن. فأهل الريحانيّة الذين يعتبرون أنفسهم أبناء بعبدا لم ينقلوا مدافنهم الخاصّة إلى جانب الكنيسة التي بنوها منذ خمسين سنة، كأنّهم أرادوا أن يبقوا على انتمائهم إلى البلدة الكبيرة خصوصاً عند الغياب وفي مناسبات الحزن حين يحتاج الإنسان إلى من يحتضن خوفه أمام العبور والفناء. ولأن لا مدافن عندنا زالت هالة القدسيّة عن أرضنا التي لم تجد من يحمي تربتها وأشجارها وذكرياتها، فالموتى مدفونون بعيداً، وليس غير الموتى من يقدر على المواجهة لأنّهم لا يخافون.
       هذا الصيف ستمتلئ الأبنية التي شيدت حديثًا بالغرباء الذين لا يعرفون أين يقيمون: هل هم في بعبدا أم الحازميّة أم برازيليا أم الفياضيّة، ولن يبقى من الريحانيّة إلاّ بضع كلمات تحاول أن تصف عطرًا يفوح من شجرة الريحان الوحيدة الباقية أمام بيتنا، ووجوهًا تبتسم للكاميرا في ألبومات عتيقة منسية في زوايا الخزانات، وعقد خرز أزرق تتباهى به مراهقة اكتشفته بين أغراض عتيقة لجدّتها ولم يجرؤ أحد على إخبارها بأنّه كان لـ"عيّوقة" البقرة التي غذّت أهل الحيّ بحليبها الصافي وحين ماتت بكاها الجميع كأنّها فرد من العائلة.


النهار - الثلاثاء 11 أيّار 2010

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

رن رن يا جرس... خلص بلا ضجّة

جرس قديم من مخلّفات إحدى المدارس المقفلة
التي كانت تابعة لمطرانيّة بيروت


رح إكتب باللبنانيّ بلكي في حدا لغتو أجنبيّة وما بيفهم عربي وخصوصًا العربي الفصيح:
ما بعرف مين هوّي العبقريّ الذكيّ يللي عم يوزّع أفكارو المستوردة بالمدارس الكاثوليكيّة تحديدًا، وآخر اقتراحاتو منع دقّ الجرس لأنّو صوت الجرس بوتّر الأعصاب، بيعمل فوضى، وواحد من أسباب التلوّث السمعيّ.
فيا حضرة العبقريّ/ة: الجرس مرتبط إرتباط قوي، بلبنان تحديدًا، بالمدرسة يللي كانت تنشأ جنب الكنائس أو ضمن حرمها. ومتل ما كان الجرس الكبير بالكنيسة يدعي الناس للصلا، كان الجرس الزغير بإيد الكاهن أو الراهبة أو المعلّم يدعي الولاد للدرس أو الرجعة ع البيت. كرمال هيك شكل الجرس الزغير متل شكل الجرس الكبير.
بمرحلة لاحقة ومتل ما صار بالجرس الكبير يللي ما عاد في رجال تقدر تدقّو، ويللي تحوّل ع الكهربا، صارت الجراس بالمدرسة ع الكهربا...
وإذا اليوم المدرسة الكاثوليكيّة بدها تعتبر دقّ الجرس بيعمل عقد نفسيّة فهالشي بيعني إنّو نحنا كلّنا معقّدين، وأوّلنا أصحاب هالأفكار المعقّدة
وإذا المدارس بتعتبر صوت الجرس سبب فوضى فلازم نشوف الفوضى يللي عم تنشأ من غياب الجرس والاتّكال ع الساعات بالتلفونات والإيد، والتأخير بالصفوف وتضارب الساعات وتناحر المعلّمات وضحك التلاميذ
وإذا المدارس بتعتبر صوت الجرس مصدر تلوّث سمعي فيعني لازم جراس الكنايس كلّها تسكت إيّام الآحاد والأعياد حتّى ما حدا علمانيّ أو غير متديّن أو من غير طائفة أو مُربّي شغل برّا ينزعج سمعو
وإذا المدارس بتعتبر صوت الجرس بوتّر الأعصاب لأنّو مرتبط بالدرس فيقطع الدرس وساعتو، لأنّو إذا الدرس بوتّر الأعصاب فما بيكون الحلّ الإبداعيّ إنّو نحطّ موسيقى كلاسيكيّة بدل الجرس، لأنّو هالشي بيعني إنّو ما تكرهوا يا ولاد الجرس ولكن اكرهوا الموسيقى...
كلّ عمرو الجرس يدقّ، وطلع في أجيال بتعرف تقرا وتكتب وتحكي عربي ولغات وتنجح... وإذا كانت المعالجات التربويّة واقفة ع الجرس فيا عين يا ليل ع الحلول التربويّة يللي ما خلّت مشكلة عالقة لدرجة صرنا زهقانين من عدم وجود مشكلات بالمدارس...
وإذا في فوضى  فمش الحقّ ع الجرس ولكن ع الفريق التربويّ والتعليميّ والإداريّ وع تربية الأهل
وإذا في عقد نفسيّة فيمكن لأنّو نسبة الطلاق كبيرة والعائلات مفكّكة والمعالجات فاشلة
وإذا في تلوّث سمعي فالأكيد إنّو الجرس آخر شي بيتحمّل المسؤوليّة بوجود الصريخ بالبيت والصفّ والطريق والموسيقى والتلفزيون 
وبكرا بس يجي حدا يقول الصليب بيعمل توتّر نفسيّ للولاد لأنّو فيه عنف ما تقعدوا تنقّوا وتبكوا وتنوحوا ع التعرّض للرموز الدينيّة وعن الاضطهاد يللي عم يتعرّضولوا المسيحيين
وعمرو ما يرنّ جرس زغير وبلا ما يدق جرس كبير... إذا هيك بتنحلّ المشكلات التربويّة
بالحقيقة كلّ هيدا ما بيهمّني بس اعملوا معروف واجهوا المشاكل الحقيقيّة بالتربية وما تتخبّوا ورا جرس.

الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

أنتَ لي


(Details from Gustav Klimt’s The Kiss (1908

تقولين له: أنتَ لي!
وتعرفين جيّدًا أنّه ليس لك
تصرخين به: كلُّك لي!
لكنّك لا تصدّقين صوتك
تهمسين بحياء: جسدك كلّه لي...
ثمّ تعترفين بأنّه لم يكن يومًا لك وحدك...
تكادين تهدّدين: أقتلك إن لم تبقَ لي...
لكنّك تصمتين وأنت تكتشفين أنّك لست قاتلة
وأنّه لن يبقى لك وحدك...
يموت شيء منك
يموت شيء فيك
تنوصين كضوء قنديل في بيت عتيق
تنطفئين كنيزك توهّج لبعض الوقت
ثمّ تعبرين إلى داخلك بعدما كنتِ متوغّلة فيه
تهربين منه وتختبئين فيك
يجدك
مهما ابتعدت، وركضت، وتعثّرت، ووقعتِ
ثمّ عاودتِ الوقوف، وتابعت الجري...
يجدك
شرايينه التي ليست لك تلتقطك فلا تقعين
جلده الذي ليس لك يحيط بك فلا تبردين
عيناه اللتان ليستا لك تطبقان عليك فلا يراك أحد
تنتحبين: كيف يريدني له وهو ليس لي؟
يصفعك جواب ينبت كعشب الحيطان من شقوق أحشائك:
أيّتها الغبيّة المدعيّة!
انظري جسده ملهوفًا عليك!
سلي جسدَك يخبرْك
أنّه لا يريد سواه
ولغة الأجساد
في العشق والألم
كعيون الأولاد
تعرف الأحلام
لكنّها
لا تعرف الكذب!

الأحد، 21 أكتوبر 2018

ساحات البلدات في موسم الشتاء (2009)



بحمدون - تصوير يارا الهبر

لا أعرف إن كان أحد منكم زار ساحات البلدات في مواسم الشتاء والأمطار والعواصف وتنزّه في فراغ الأمكنة التي خلت من ازدحام الناس وصخب الحفلات وصراخ الأولاد. فراغٌ ممتلئٌ نعمةَ الخيال، هو ذلك الفراغُ المخادع الذي يبدو لغير الرائين خاليًا وميتًا وباردًا.
ساحات دير القمر وبحمدون وعاليه وإهدن وبشرّي وبعلبكّ وبرمّانا وجزّين، تركها زائروها وأهلها والعابرون في ساحاتها الميادين، وخلّفوا وراءهم أغنيات الأعياد والمهرجانات ونكهات الأراكيل وطلبات الزبائن وأصوات الباعة ووجوه الصبايا الموعودات بالعشق والجنون. ومع ذلك لا يزال كلّ شيء هنا لمن يحسن الإصغاء والتقاط ما علق في الهواء من تنهّدات وما انطبع في الذاكرة/ المصيدة من ملامح.
لذلك يحلو لي في الشتاء، حين يرحل الجميع، كلّ إلى بلده ودفء مكانه، أن أزور هذه الأمكنة، أن أستغلّ خلوّها من الناس لأقترب من الأمكنة والناس، كأنّ الأمكنة التي وجدت للناس تفقد صفاءها متى كثُر الناس، وكأنّ الناس متى ملأوا الأمكنة فقدوا خصوصيّةً هي ملك لكلّ واحد منهم.
يتغيّر الناس متى التقوا بالناس، يضعون أقنعة تخفي حقائقهم ليصيروا كلّهم أشخاصًا آخرين لا يعرفون أنفسهم، وهكذا تسكن الغربة في ثرثرة لا بدّ منها أو في فرحة مصطنعة لا بدّ من ادّعائها في ساحات البلدات خلال صيف يأتي فيه الجميع لينسوا أنفسهم.
في تلك البلدات حيث أوراق الأشجار ترقص رقصتها المجنونة على إيقاع الريح، يقيم في الشتاء الصمت ودخان المواقد. وفي البيوت التي تركها أصحابها من العرب أو اللبنانيّين يحلو لي أن أُسكن الناس الذين لا منازل لهم. أو أن أرسم نفسي حارسة البيوت فأتنقّل من واحد منها إلى آخر لأعبث بأدراج الخزانات وأجلس على المقاعد الباردة وأقف إلى النوافذ لأرى مِن خلف الستائر المسدلة ما لن يراه أصحاب البيوت في الصيف. خيالات الذين كانوا هنا لا تزال هنا، تنتظر شمسًا وصيفًا ونهارات طويلة من الكسل.
أين ذهبت طاولات المقاهي من الساحات وأين خبّئت المظلاّت الكبيرة البيضاء؟ قال لي صاحب مقهى في دير القمر: في الشتاء نرحل إلى أميركا. كان ذلك في أواخر الصيف حين لم يبق إلّا أصناف قليلة تُقدّم لزبائن قليلين مع الاعتذار بأنّ الصيف انتهى. كنت وصديقي العابر زائرين ثقيلين لا نريد أميركا ولا نريد أن يرحل أصحاب المكان كي يبقى لنا المكان مفتوحًا ورحبًا لا تحكمه الفصول ولا تغلق أبوابه رفوف الناس الراحلين. ومع ذلك، نامت المقاهي الجبليّة في انتظار قبلة الشمس، وعادت الساحات ميادين للكلمات، يزورها الشعراء والفنّانون ويتنزّهون في فراغ ليس فراغًا إلاّ لمن لا يعرف. يحنون رؤوسهم تحت قبّعات صوفيّة، يغرقون أيديهم في جيوبهم الخالية إلّا من كمشة أحلام، ويمشون وهم يبحثون عن خطوات تركوها من الشتاء الماضي ويخشون أن تكون اختفت تحت ركام الفرح العابر وبقايا المواعيد المخذولة.
يعرف هؤلاء أنّ الأمكنة اشتاقت إليهم، ومن هذا الاشتياق تمتلئ صدورهم هواءً باردًا ونظيفًا وطاهرًا ومنعشًا يشبه ما عرفه العالم لحظة التكوين الأولى، ولا يشبهه.
ومن هناك، يبدأ الشعر.

السبت، 20 أكتوبر 2018

مراحل درب صليبك أيّتها المرأة (2010)



Edward Hopper


المرحلة الأولى: كنتِ فيها مولودًا غير مرغوب فيه. ولدتِ حين كان الجميع ينتظر الصبيّ جئت أنت وسرقت الفرح من عيني أمّك وأهنت رجولة أبيك. فرضعت الخيبة مع الحليب.
المرحلة الثانية: كنت فيها الأخت المربيّة، تهتمّين بأخوتك وأولادهم وأولاد الجيران، وكان عليك أن تقبلي لأنّ أحدًا أفهمك أنّك ما دمت لم تنجبي أطفالك فعليك واجب الاهتمام بأطفال الآخرين.
المرحلة الثالثة: كنت فيها ممرّضة، عليك أن تهتمّي بجدّك العجوز، وخالك المريض، وتسهري إلى جانب سرير والدتك في المستشفى.
المرحلة الرابعة: كنت فيها مصرفًا، يأتيك المحتاجون ليستدينوا مالاً افترضوا أنّك لا تحتاجين إليه.
المرحلة الخامسة: كنت فيها الخادمة التي تقوم بأعمال المنزل كي ينصرف الآخرون إلى حياتهم ووظائفهم ونجاحاتهم.
المرحلة السادسة: كنت فيها مريضة لم تحسني توقيت مرضك فأزعجت الجميع وخربطت مشاريع أسفارهم وسهراتهم.
المرحلة السابعة: كنت فيها عاشقة متطلّبة، سمحت لنفسك بطلب الحبّ في حين أنّ الآخر مشغول عنك بتحقيق طموحه وممارسة هواياته.
المرحلة السابعة: كنت فيها المضيفة البشوش التي عليها أن تخفي تعبها لتبتسم لكلّ زائر وتحضّر القهوة والطعام.
المرحلة الثامنة: كنت فيها العشيقة الجاهزة لتلبية رغبات رجلك التي لا مواعيد لها ولا مقدّمات. إن قال لك كوني، فعليك أن تكوني.
المرحلة التاسعة: كنت فيها العانس التي كان عليها أن تتزوّج من زمان لئلّا تكون عبئًا على أحد.
المرحلة العاشرة: كنت فيها الأمّ: مشجّعة الجميع، تصفّقين للناجح، تساندين الطموح، تساعدين الحالم.
المرحلة الحادية عشرة: كنت فيها الصديقة التي يقصدها الجميع وعندما تحتاج أحدًا منهم، يحوّلها على إسعافات الصليب الأحمر.
المرحلة الثانية عشرة: كنت فيها الزميلة التي لا ترضى إلّا بأن ترفع زملاءها معها حين ترتفع مرتبتها، فداسوا عليها وارتفعوا على حسابها.
المرحلة الثالثة عشرة: كنت فيها الصريحة التي يريدها الآخرون خبيثة.
المرحلة الرابعة عشرة: كنت فيها في المكان والزمان غير المناسبين. وعلى هذا استحققت الصلب.

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

الكتابة بمزاج امرأة (2009)



كم جميل أن أكتب بمزاجي النسائيّ، وكم جميل أن تكون نصوصي ديوان شعري وألبوم صوري ودفتر مذكّراتي وصحيفتي اليوميّة وتاريخي العابق بشذا البخور ومستقبلي العالق على معبر الحاضر.
أكتب هذا الكلام عن الكتابة وفي بالي كلام قرأته عن الشاعر خليل حاوي الذي أجبرته ظروف الحياة على العمل في البناء قبل أن تتاح له الفرصة للالتحاق بالمدرسة، وخلاصة الكلام أنّ الشاعر كان يبني قصائده بحرفة البنّاء وموهبة الشاعر. ولم يعترض أحد على هذا الوصف، ولم يعتبر خليل حاوي أنّ في الأمر إساءة إليه.
وبناء عليه، وبعيدًا عن الكتب والندوات الشعريّة والتعليم والتربية وحركات "تحوير" المرأة، أريد أن اعترف بما يلي:
كتبت نصوصًا بحرفة الحائكة: فأنا أهوى الأشغال اليدويّة وأعتبرها فرصة ممتعة للتفكير والتمويه والإبداع في الوقت نفسه، ولذلك جاءت بعض النصوص تشبه ما حِكته لبنات أختي: ملوّنة كقبّعة حكتها لـ"رنا" (رنا: العيون السود، رنا الضحكة السعيدة اللي ما إلها حدود، بحسب أغنية للفنّان خالد الهبر) أو غريبة ككنزة صوفيّة اخترعت موديلها لـ"يارا" (يللي جدايلها شقر فعلاً، بحسب قصيدة سعيد عقل التي تغنّيها فيروز)، أو جريئة كتلك القميص الصيفيّة التي تغاوت بها "ميرا" الأميرة في سهرات الصيف.
وكتبت نصوصًا بحرفة الخيّاطة: فأنا "صادرت" من خزانة والدتي ماكنة الخياطة ماركة "سنجر" (اشترتها أمّي لتخيط عليها ملابسي أنا، طفلتها الأولى)، وخطت عليها ستائر وأغطية وبُسُطًا جمعت أقمشتها من ملابس قديمة لا نريد التخلّي عنها لما تحمله من ذكريات، أو من مناديل أمّي القديمة أو من أغطية الرأس التي كانت لجدّتي، أو من ملابسنا وحرامتنا الصوفيّة التي تعود إلى زمن الطفولة.
وكتبت نصوصًا بحرفّة الدهّانة أو "الطرّاشة" التي تهوى طرش الحيطان وتغيير ألوانها ودهان الأبواب والنوافذ لأنّني ضجرت من الحيطان والأبواب والنوافذ كما كانت. وغالبًا ما أضجر.
وكتبت نصوصًا لها عبق البقدونس البلديّ الطازج في صحن التبّولة، ونصوصًا لها نكهة القهوة، ونصوصًا لها لون النبيذ.
وكتبت نصوصًا فيها توهّج الشمس، وأخرى فيها صوت المطر، وغيرها فيه حساسيّة الربيع، وأجملها ما فيه ألوان الخريف الذي أعشقه.
وكتبت نصوصًا تحت تأثير التوتّر والمزاجيّة اللذين يسبقان العادة الشهريّة، وأخرى كانت نتيجة ثورة الهرمونات مع اقتراب سنّ البأس (بحرف الباء لا بحرف الياء) ففي هذه المرحلة "لا بأس" أبدًا من الانتقال إلى مرحلة جديدة مختلفة وجميلة وغنيّة وربّما أكثر حريّة.
سأكون أكبر كاذبة عرفها التاريخ إن ادّعيت أنّ القضايا الكبيرة فقط هي التي تحرّك قلمي أو أصابعي فوق لوحة الأحرف، وسأكون خبيثة إن قلت أنّني أرفض تصنيف كتابتي على أنّها أنثويّة (مع أنّني أشعر أحيانًا أنّني الرجل الوحيد على الأرض).
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تبكي عندما تبلغ النشوة، وتبكي عندما تكتشف أنّ والديها صارا ولديها، وتبكي عندما تشاهد فيلمًا عاطفيًّا، وتبكي عندما تغضب ممّا يهين كرامة الإنسان، وتبكي عندما تكتشف كم هي عاجزة عن إصلاح الأمور، وتبكي عند خيبة الأمل من صديق.
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تضحك في السينما كمن لم يضحك منذ أعوام ما يحرج أصدقاءها، وتحادث الندل في المقاهي والمطاعم كأنّها تعرفهم منذ زمن، وتجد ما تتناقش به مع المتسوّل على الطريق، وتقود السيّارة في جنون على طرقات الليل الخالية.
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تهوى تنسيق الملابس وجمع الحلي العتيقة الجميلة، والأوشحة والمعاطف من مختلف الألوان، وحقائب اليد الثمينة والأحذية الأنيقة المريحة، ووضع الكحل العربيّ، وتغيير تسريحة الشعر.
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة تشاهد أنواعًا قد تبدو متناقضة من البرامج التلفزيونيّة والأفلام، وتستمع إلى أنواع قد تبدو متنافرة من الموسيقى والأغنيات، وتعشق الطبيعة بالمقدار نفسه الذي تشمئزّ فيه من كلّ ما له علاقة بنظافة الإنسان.
نعم، أنا أكتب بمزاج امرأة قد تثرثر بلا توقّف ثمّ تغرق في الصمت الحبيب وتمتنع فجأة عن الكلام كأنّها تعبت من تغيير ما لا يمكن تغييره. كما حصل الآن.

الأحد، 7 أكتوبر 2018

الدويلات الخمس للبنان الجديد (2011)


السائرون في نومهم
Phedro Thomas

     صار لا بدّ من تقسيم لبنان.
     فما نحن فيه غير عادل وغير إنسانيّ، ولا يجوز أن تبقى الأمور على حالها. وعلى عكس كلّ المشاريع التقسيميّة التي طرحت خلال تاريخ هذا البلد غير المتفق على تاريخه وجغرافيّته، وبصرف النظر عن مختلف القوانين المقترحة والرامية إلى منع الفرز الطائفيّ، هناك مجال لتقسيم إنسانيّ عادل وغير طائفيّ أو مذهبيّ، يؤمّن ديمومة هذه الدويلات ويضمن حركتها الاقتصاديّة في شكل غير مسبوق.
     دويلة مرضى السرطان كيان قائم في حدّ ذاته وعدد سكّانه إلى تزايد واضح فضلاً عن الذين سيطلبون الانضمام إليه وحمل جنسيّته من الأطباء والممرضين والصيادلة والمعالجين وأصحاب دكاكين الأعشاب ومتاجر الشَعر المستعار وتجّار الأدويّة. هي دويلة هادئة، مواطنوها معلّقون بأنبوب مصل وأمل حياة، لا يعنيهم أمر رئاسة دويلتهم أو حكومتها أو وزرائها أو جيشها، فحديثهم يدور حول الصحّة والألم والخوف والرجاء، ولا يحلمون إلاّ بعلاج طال انتظاره.
     ودويلة المدمنين كيان آخر هادئ، فيه مواطنون من مختلف الطوائف والمذاهب والأعمار، وتدور حركته الاقتصاديّة حول الكحول والمخدّرات، ويتعايش فيه التاجر مع المدمن، اللذين لن يؤذيهما أن تقوم بينهما مؤسّسات إنسانيّة تحلم بمعالجة حالات الإدمان. وستنضمّ إلى هذا الكيان بطبيعة الحال مجموعات المرضى النفسيّين والمحبطين وذوي النزعات الانتحاريّة.
     أمّا دويلة ذوي المخطوفين فكيان حزين صامت في غالب الوقت، تنطلق منه في مناسبات معيّنة أصوات تطالب بجلاء الأمور في هذا الملّف. فوق منازل مواطنيها أعلام تحمل صور الغائبين المعلّقين بين الحياة والموت، المنتظرين الحياة أو الموت. هي دويلة تستقطب المنجّمين والمبصّرين الذين يرون المستقبل بكلّ وضوح ويعجزون عن تحديد مصير مخطوف واحد. ولكنّهم في الدويلة الناشئة سيتبارون في كشف مصائر لا يريد أحد في دولة لبنان الموحّد أن يذكّرهم أحد بها. قد تبدو هذه الدويلة إلى زوال مع موت الأهالي الذين تقدّم بهم العمر ولا يجدون من يرثهم في حمل مسؤوليّة هذا الملفّ الإنسانيّ. ولكن إن فكّرنا في أنّ الخاطفين يجدون دومًا أسبابًا للخطف اطمأنّ بالنا إلى أنّ هذا الكيان وطن نهائيّ لكلّ ذوي المخطوفين في العالم.
     الدويلة الرابعة للمعوقّين، وأبناؤها خليط من ضحايا الحرب والأمراض والخلل التكوينيّ، وتجارتها أدوية ومهدّئات وأطراف اصطناعيّة ومقاعد متنقّلة ومؤسّسات تحاول أن تجعل الحياة سهلة لمواطنين لا تلحظ دولة لبنان العظيم الموحّد وجودهم في سياستها أو برامجها.
     الدويلة الخامسة دويلة الأراكيل وهي ملجأ المعنيّين والمعنيّات (لا صلة قرابة مع الأمير المعنيّ فخر الدين) بالغناء الخفيف والرقص الهستيريّ والفيديو كليب التجاريّ والسهر الذي لا علاقة له بالعُلى أو بتأنيب الضمير. هي دويلة تحتاج إلى مختلف العاملين في مجال تأمين الأطعمة والأراكيل إلى البيوت ولا تستغني عن نُدُل المطاعم والمقاهي والعاملين في مواقف السيّارات، ولا عن رجال المواكبة والحراسة وعاملات التجميل ومزيّني الشعر. هي دويلة الخدمات السريعة والربح الصافي و"البخشيش" الأكيد نظراً الى الكرم اللبنانيّ المشهود له.
والجميل في موضوع هذه الدويلات غير الطائفيّة أنّ رجال الدين سيجدون مجالات أرحب لنشر دور عبادتـ(هم)، ففي الدويلات الأربع الأولى صلوات مدفوعة للشفاء والصبر والرجاء، وفي الدويلة الخامسة انتشار كثيف يهدف إلى محاربة الخطيئة وإنقاذ النفوس التي أعماها دخان الأراكيل وأفقدها السكر الاتجاه الصحيح.
     ويبقى موضوع الرئاسة في كلّ دويلة: ففي الأولى للحالة السرطانيّة المستعصية كي تخلو الكرسي سريعًا، وفي الثانية لأكثر المواطنين إدمانًا واستعداداً للجرعة الزائدة كي لا يبقى طويلاً في مركزه، وفي الثالثة للأمّ التي يميتها الهمّ والانتظار، وفي دويلة المعوّقين توزيع للصلاحيّات: فكرسي رئاسيّ لكلّ مُقعد، وعصا قياديّ لكلّ أعمى. أمّا دولة الأراكيل السعيدة فيرأسها صاحب أقصر نفَس لكي يكون حتماً صاحب أقصر ولاية.
     قد يعترض بعضكم على أنّ هذا المشروع التقسيميّ لا يلحظ مكاناً لأهل الفكر والفنّ والأدب. والجواب عن ذلك أنّ هذا المشروع يفتح أبواب العمل لهذه الشريحة من الناس: أناشيد وطنيّة للكيانات الناشئة، أغنيات شعبيّة وأفلام سينمائيّة، برامج الواقع اللئيم التي تنقل مباشرة معاناة الناس وسهراتهم، كلمات رثاء لرؤساء الكيانات الراحلين سريعاً، كتابة تاريخ جديد، مدارس لتعليم ركن السيّارات وتأمين الطلبات إلى المنازل، منحوتات ولوحات لشهداء من نوع آخر، ندوات فكريّة لمناقشة أهميّة التوزيع الجديد للشعب اللبنانيّ العنيد. أمّا من يجد منكم أنّه لا ينتمي بطريقة أو بأخرى إلى إحدى هذه الدويلات فعليه أن يخجل من نفسه لأنّه بالتأكيد ليس من أبناء شعبنا العظيم.
***
جريدة النهار - الثلاثاء 11 كانون الثاني 2011

من حكايات جدّي عن الخوري يوسف


من كتابي "الموارنة مرّوا من هنا" بـ"ألم" ماري القصّيفي


*****
إلى فؤاد كنعان


     تابع جدّي وهو يحاول أن يكتم ضحكته البريئة التي تظهر فمه الخالي من الأسنان:

     وصل المزيد من أخبار الخوري يوسف إلى سيّدنا المطران وهذه المرّة عبر المختار الذي قصد دار المطرانيّة قبل صياح الديك، وأيقظ المطران من نومه ليقول له: بونا يوسف يبقى نائمًا والأولاد تحت "السنديانة" لم يتعلّموا حرفًا منذ عينتموه خادمًا لرعيّتنا. وأضاف المختار بصوت غاضب جعل رقبة المطران تنتفخ من شدّة الانفعال كما يحصل معه في كلّ مرّة يتخطّى فيها أحدهم آداب التصرّف: صار كلّ ولد من ولادنا قدّ الحمار وبعدو ما بيعرف يفكّ الحرف لأنّو خوريكن بيضلّو غافي وبس يوعى بيعلّمن شكال واخبار ما إلا علاقة لا بالدين ولا بالأخلاق. وإذا كانت الخوريّة ما بتعرف وين بيكون بسهراتو وبتخبّر إنّو بيقضّي الليل ساجد قدّام القربان، نحنا مش مهابيل. وأنا إذا كنت ساكت عن سياسته وحياته الخاصّة والروحيّة مش رح إسكت بس توصل القصّة لولادنا.

     طبعًا تردّد المطران في تصديق اتهامات المختار لأنّه كان على علم بالعلاقة المتوتّرة بين زعيمَي الضيعة. ولكنّه في الوقت نفسه كان على علم بأخبار الخوري من مصادر مختلفة ولم يكن فيها ما يسرّ القلب أو يطمئن الروح أو يبشّر بالخير. وكان الناس يتناقلون الأخبار قائلين إنّ المطران ندم على تعيين هذا الخوري في تلك الضيعة بالذات لأنّه كان على اطّلاع على المشاحنات والدسائس والمؤامرات فيها. ولكنّها كلّها كانت كالجمر تحت الرماد حتّى وصل الخوري يوسف كعاصفة أشعلت ما كان كامنًا في الصدور، وبدل أن يلقي سلامًا في كلّ قلب وبيت زعزع ما كان شبه مستقر إن على صعيد النزاعات داخل العائلة الواحدة أو بين العائلات المتنافسة وحين كان يسأل عن موقفه من أيّ طرف كان يجيب بابتسامة اشتهر بها لما فيها من سخرية ممزوجة ببراءة مزيّفة: أنا يا إخوتي مش مع حدا ضدّ حدا، أنا مع حزب الله المجد لَ إسمو، ولازم نكون كلّنا عائلة واحدة بتعمل بفرح ومحبّة.

     وبما أنّ الظروف العامّة في البلد لا تسمح للمطران بالانشغال طويلاً في هذه الأمر واستقبال المزيد من المراجعات والشكاوى قرّر أن يتأكّد من الأمر بنفسه خشية أن تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.

     وهذا ما فعله حين وصل إلى القرية من دون سابق إنذار، فلم ترشّ الطريق الترابيّة بالمياه، ولم ينظّف المختار طربوشه الأحمر ولم تحتر الخوريّة في اختيار ثوب من أثوابها الأنيقة الكثيرة، ولم ترفع رايات الترحيب ولم "يصفّ" الخوري تلاميذه "الما بيعرفو يفكّوا الحرف" على جانبي الطريق. وبالفعل، كان الخوري يوسف يغطّ في نوم عميق، في فيء شجرة السنديان الباسقة، وصوت شخيره يلهي العصافير عن صيد الديدان ويزعج النسيم المنعش وهو يمرّ من بين أغصان الشجرة. أمّا الأولاد فكانوا يلعبون ويصخبون بلا رقيب أو حسيب ثمّ اختفوا كأنّ أحدًا أنذرهم بضرورة الانسحاب من مسرح الجريمة. نكز المطران الخوري بعصاه، فاستيقظ المسكين ناقمًا وقبل أن يتأكّد من هويّة الواقف إلى جانبه بدأ يلعن الخوريّة ويشتم الأولاد والمختار الذين لا يتركون أحدًا يرتاح.

     كبت المطران غضبًا كاد ينسيه التعقّل الذي عرف به، وقال للخوري الذي هبّ واقفًا بعدما تأكّد له أنّه تسرّع في الكلام: الظاهر يا بونا يوسف أنّك أخذت من شفيعك ميله إلى النوم، فهل كنت تنتظر ملاك الربّ جبرائيل لكي يملي عليك ما يجب أن تقوم به؟
ارتبك الخوري يوسف وتلعثم وحاول أن يبحث عن الجواب المناسب دفاعًا عن نفسه طبعًا، لا عن مار يوسف، غير أنّ المطران اللبق أنقذه من موقفه وتابع كلامه: يعطيك العافية يا خوري واضح إنّك عم تتعب: العائلة والرعيّة وتعليم الأولاد والتبشير في القرى المجاورة، انتبه لصحتك يا بونا، ما فيك تربح كلّ شي، رح نشوف كيف فينا نريّحك!

     وقبل أن يجد الخوري يوسف الكلمات الملائمة، كان المطران قد نزل إلى حيث ينتظره مرافقه، ثمّ التفت إلى الخوري الناقم على هذه المفاجأة، وأضاف كأنّه تذكّر شيئًا مهمًّا أو كأنّه كان يتردّد في قول ما خطر على باله: مار يوسف كان نجّارًا يا خوري، وربّما كان هو من علّم المسيح نشر الأخشاب التي صارت بطريقة ما صليب الخلاص إلاّ أنّه بالتأكيد لم يكن ينجّر ما يهين الناس، وفهمك كفاية. وبعد أن ابتعد بضع خطوات عاد والتفت حين سمع وقع خطوات الخوري يوسف وهو يحاول اللحاق به، فرفع عصاه ووضع طرفها الأسفل على صدر الخوري مانعًا إيّاه عن مزيد من التقدّم وقال له: يا خوري هذه العصا ليست عكّازًا وليست للزينة، إنّها الحاجز الذي يُسأل عنده الكهنة عن النفوس التي خلّصوها.

     وينهي جدّي الحكاية التي ظلّ طوال حياته يردّدها وهو يضحك بالطريقة نفسها: وما كان كلام سيّدنا ليصل إلينا لولا أنّ ولدًا من تلاميذ الخوري كان يلعب بين أغصان الشجرة فوق رأس معلّمه وتسمّر في مكانه لحظة وصول المطران، وسمع الكلمات التي لم يكن من اللائق أن يسمعها أحد. ولو لم يسأل هذا الولد الفضوليّ والدته عمّا كان يقصده المطران لما كانت الأمّ نقلت الحديث إلى زوجها، ولو لم يكن زوجها هو المختار لكان الخوري انتقل مع عائلته إلى منصبه الجديد في قرية بعيدة والناس مقتنعون بأنّ ذلك حصل بناء على وحي أتاه أخيرًا في المنام، نصحه فيه الملاك جبرائيل بأخذ عائلته إلى مكان آخر في انتظار قرار سماويّ جديد يستلم فيه مسؤوليّات أكثر أهميّة للطائفة.

     على فكرة، جدّي لم يكن يذهب إلى الكنيسة، ولكنّه قتل في حرب الجبل وهو يحاول إنقاذ كأس القربان والصليب من تحت الأنقاض، ولا نعلم حتّى الآن أين دفن لكي نضع زهرة حبّ على قبره، ولذلك أخذنا عهدًا على أنفسنا، نحن أحفاده، بأن نزرع كلمات الحقّ في كلّ مكان تخليدًا لذكراه.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.