تسونامي اليابان 2011
الخميس 26 آذار 2009
"في المدينة التي لا حياة فيها، لم أكن أسمع إلاّ صوت الذباب وهو يحوّم فوق الجثث". بهذه العبارة يصف أحد الناجين من هيروشيما ما علق في ذاكرته بعد القنبلة الذريّة التي وضعت حدًّا للحرب العالميّة الثانية، وسمحت للولايات المتحدة بالانتصار على اليابان وفرض شروط عسكريّة قاسية عليها.
*****
كيف نجا الذباب من آثار قنبلة لم تترك خلفها إلاّ الموت والفناء على امتداد سنوات كثيرة بعد إلقائها؟ ولماذا لم ينج في المقابل من بقي حيًّا من غضب الناس كأنّ هؤلاء الناجين ارتكبوا إثم البقاء على قيد الحياة ولو مشوّهين تشويهًا كاملاً وملوّثين بالإشعاعات؟ لم يطرح أحد قضيّة الذباب الذي تحدّى القنبلة الذريّة الأولى في العالم وبقي حرًّا طليقًا يحوم فوق الجثث، في حين أثار الناجون موجة عارمة من الاستياء لأنّ بقاءهم مشوّهين ومرضى وملوّثين شاهدٌ على تفعله الحروب وبما ينتج عن عبقريّة الإنسان في مجال صناعة الموت. ولكنّ الناجين هم أيضًا كانوا يفضّلون الموت ويتمنّى كثر منهم لو قضوا مع آلاف الناس الذين أذابتهم النيران. قد يكون موقفهم هذا ناتجًا عن شعور بالذنب أو بسبب المعاناة من الإشعاعات والحروق أو من التشوّهات التي نقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم، أو الاشمئزاز من حياة فيها هذه الكميّة من الحقد والبشاعة والأمراض، أو لأنّهم أصيبوا بخيبة أمل من تصرّفات الحكومات والشعوب مع مصائبهم وآلامهم. إلاّ أنّهم ومهما اختلفت الأسباب يشعرون بالأسى لأنّهم شهود موتى وشهداء أحياء.
*****
الشعوب التي ذاقت بلادها الحروب خبرت جيّدًا تلك المشاعر، فالمهجّرون والأسرى والمعاقون والأرامل والأيتام أعباء تحتاج الحكومات سنوات طويلة من العمل كي تقفل ملفّاتهم ما قد يعيق حركة التقدّم والازدهار واستعادة الحياة مجراها الطبيعيّ. الذباب وحده لا ملفّ له ولا دراسات عن أعداده وضحاياه وأنواعه وأسباب بقائه ونتائج ذلك ومدلولاته. الذباب لا يزعج الحكومات ولا يزعج الجثث، لا بل إنّ الأحياء يجدون في طنينه حياةً ما في أرض كان من المفروض ألاّ تبقى أيُّ حياة فيها لكي يكون الانتصار كاملاً، والهزيمة نهائيّة.
*****
التعامل مع الموتى أسهل في العمل الإداريّ من التعامل مع الناجين، فهم يدفنون في مكان واحد، ويقام على شرفهم احتفال واحد، ويختم ملّفهم مرّة واحدة ونهائيّة. أمّا الناجون فقبور مفتوحة لا أحد يريد الإقامة قربها، وجروح مفتوحة لا أحد يرغب في أن يحملها في جسمه أو ذاكرته، وملفّات مفتوحة لا تترك مجالاً للنسيان.
*****
الرجل المشوّه العجوز الذي تحدّث عن الذباب في الفيلم الوثائقيّ كان طفلاً حين أحاطته القنبلة بنيرانها المذيبة وتسلّلت إشعاعاتها إلى خلاياه، وصوت الذباب هو ما رافقه طيلة حياة المعاناة التي عاشها. فهل كان يتخيّل نفسه ذبابة خلال كلّ تلك الأعوام، لذلك بدا أنينه أشبه بالطنين فأزعج الناس الذين كانوا يريدون أن ينسوا الحرب والحكومةَ التي تريد أن تبتلع الهزيمة؟
*****
هل يختلف الكلام عن الموتى والناجين والذباب في اليابان عمّا قد نكتبه عن مثل ذلك في لبنان وفلسطين والعراق والجزائر والسودان؟ بالطبع لا. ولكن السؤال الأهمّ هو هل تستطيع حكومات هذه الدول أن تصل إلى ما وصلت إليه اليابان في سلّم الحضارة والتمدّن ورفاهيّة العيش؟ بالتأكيد لا. لأنّنا في الوقت الحاضر لا نجيد إلاّ "كشّ الدبّان".
*****
كيف نجا الذباب من آثار قنبلة لم تترك خلفها إلاّ الموت والفناء على امتداد سنوات كثيرة بعد إلقائها؟ ولماذا لم ينج في المقابل من بقي حيًّا من غضب الناس كأنّ هؤلاء الناجين ارتكبوا إثم البقاء على قيد الحياة ولو مشوّهين تشويهًا كاملاً وملوّثين بالإشعاعات؟ لم يطرح أحد قضيّة الذباب الذي تحدّى القنبلة الذريّة الأولى في العالم وبقي حرًّا طليقًا يحوم فوق الجثث، في حين أثار الناجون موجة عارمة من الاستياء لأنّ بقاءهم مشوّهين ومرضى وملوّثين شاهدٌ على تفعله الحروب وبما ينتج عن عبقريّة الإنسان في مجال صناعة الموت. ولكنّ الناجين هم أيضًا كانوا يفضّلون الموت ويتمنّى كثر منهم لو قضوا مع آلاف الناس الذين أذابتهم النيران. قد يكون موقفهم هذا ناتجًا عن شعور بالذنب أو بسبب المعاناة من الإشعاعات والحروق أو من التشوّهات التي نقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم، أو الاشمئزاز من حياة فيها هذه الكميّة من الحقد والبشاعة والأمراض، أو لأنّهم أصيبوا بخيبة أمل من تصرّفات الحكومات والشعوب مع مصائبهم وآلامهم. إلاّ أنّهم ومهما اختلفت الأسباب يشعرون بالأسى لأنّهم شهود موتى وشهداء أحياء.
*****
الشعوب التي ذاقت بلادها الحروب خبرت جيّدًا تلك المشاعر، فالمهجّرون والأسرى والمعاقون والأرامل والأيتام أعباء تحتاج الحكومات سنوات طويلة من العمل كي تقفل ملفّاتهم ما قد يعيق حركة التقدّم والازدهار واستعادة الحياة مجراها الطبيعيّ. الذباب وحده لا ملفّ له ولا دراسات عن أعداده وضحاياه وأنواعه وأسباب بقائه ونتائج ذلك ومدلولاته. الذباب لا يزعج الحكومات ولا يزعج الجثث، لا بل إنّ الأحياء يجدون في طنينه حياةً ما في أرض كان من المفروض ألاّ تبقى أيُّ حياة فيها لكي يكون الانتصار كاملاً، والهزيمة نهائيّة.
*****
التعامل مع الموتى أسهل في العمل الإداريّ من التعامل مع الناجين، فهم يدفنون في مكان واحد، ويقام على شرفهم احتفال واحد، ويختم ملّفهم مرّة واحدة ونهائيّة. أمّا الناجون فقبور مفتوحة لا أحد يريد الإقامة قربها، وجروح مفتوحة لا أحد يرغب في أن يحملها في جسمه أو ذاكرته، وملفّات مفتوحة لا تترك مجالاً للنسيان.
*****
الرجل المشوّه العجوز الذي تحدّث عن الذباب في الفيلم الوثائقيّ كان طفلاً حين أحاطته القنبلة بنيرانها المذيبة وتسلّلت إشعاعاتها إلى خلاياه، وصوت الذباب هو ما رافقه طيلة حياة المعاناة التي عاشها. فهل كان يتخيّل نفسه ذبابة خلال كلّ تلك الأعوام، لذلك بدا أنينه أشبه بالطنين فأزعج الناس الذين كانوا يريدون أن ينسوا الحرب والحكومةَ التي تريد أن تبتلع الهزيمة؟
*****
هل يختلف الكلام عن الموتى والناجين والذباب في اليابان عمّا قد نكتبه عن مثل ذلك في لبنان وفلسطين والعراق والجزائر والسودان؟ بالطبع لا. ولكن السؤال الأهمّ هو هل تستطيع حكومات هذه الدول أن تصل إلى ما وصلت إليه اليابان في سلّم الحضارة والتمدّن ورفاهيّة العيش؟ بالتأكيد لا. لأنّنا في الوقت الحاضر لا نجيد إلاّ "كشّ الدبّان".
هناك تعليق واحد:
أرض سدوم وعمورة ستكونان أخف حالة
من تلك المدينة في يوم الدين ــ لكن القوم ما رفضوا البشارة، ولا جاءهم
رسول فما نجوا من الدينونة الرهيبة..
إرسال تعليق