الخميس، 27 فبراير 2020

أنا ومي شدياق والإعاقة و"الرأي العام البغل" أيضًا وأيضًا...(2015)



     مي شدياق ليست صديقة واقعيّة ولا افتراضيّة، وأكاد أجزم أن لولا مقالة لي سابقة عن الرأي العام البغل نفسه، والتي نشرتَها شدياق على صفحتها، ما كان اسمي ليعني  لها شيئًا. وعدا عن أنّ إحدانا لا تعرف الأخرى إلّا من خلال ما نكتبه، فثمّة أمور كثيرة تفرّقنا، فأنا لست قوّاتيّة، ولست من مناصري جعجع، ولست من جماعة 14 آذار (ولا 8 آذار) ولا علاقة لي لا من قريب أو بعيد بالسياسة السعوديّة أو آل الحريري... فضلًا عن أنّ تركيبة شخصيّتي ومجموع عناصر تكويني الاجتماعيّ والنفسيّ والعائليّ والتربويّ والتعليميّ لا تمتّ بأدنى صلة لما هي عليه مي شدياق... لا بل كان لي مآخذ على أدائها الإعلاميّ، كتبت عنه في مقالة "الإعلام حين يبتعد عن الاحتراف والمهنيّة". وكان لي دعاء عبّرت عنه في مقالة ثانية بعنوان "إلى مي شدياق، مرّة جديدة".
     
    وما كنت لأكتب عن الهجوم الشرس التي تتعرّض له اليوم لو بقي موضوع الاعتراض على كلامها محصورًا برأيها السياسيّ أو موقفها ممّا جرى في القنيطرة السوريّة. لكن أن تصل الأمور إلى التعرّض لوضعها الصحيّ و"إعاقتها"، فأمر يدعو إلى التأمّل والتحليل، لا من باب الدفاع، ومي لا تحتاج إليّ في هذا الأمر، ولا من باب التضامن بين "معوّقتين" بحسب المقاييس التي بنى على أسسها مهاجموها الأشاوس حملتهم عليها، بل لمحاولة فهمِ كيف يجبرك التطرّف على مواجهة ما لم تكن تعرف أنّه فيك... خوف لدرجة العزلة فالانعزال...
    حين قرأت على صفحات التواصل الاجتماعيّ ما قيل لها وعنها، تساءلت عمّا قالته مي أو صرّحت به حتّى انحدر كلام المدافعين عن الشهداء إلى هذا الدرك. فبحثت عن كلمتها وقرأت ما يلي:

لقد أصابتني حالة من الإنقباض وأنا أتنقلّ بين الشاشات اللبنانية التي تتسابق لنقل وقائع تشييع جهاد عماد مغنية في روضة الشهيدين…
“الموت لاسرائيل، الموت لأمريكا”… تبجيلٌ بالمقاومة، أعلام “حزب الله” وسط جموع غفيرة وصراخ “لبيك يا نصرالله لبيك حزب الله”، “لبيك خميني” الخ الخ الخ…
اكيد نحن لسنا في لبنان… فلا إشارة واحدة تدلّ على أنّ الموقع في لبنان.
ما المقصود عندما تنقل كل شاشات لبنان باستثناء واحدة التشييع مباشرة على الهواء؟
هل شرّع لبنان دولةً ومكونات سياسية وشعبية مشاركة “حزب الله” في المعارك في سوريا؟
هل أعلنّا الحرب على اميركا؟ هل أعلنّا الحرب على التحالف الغربي المناهض للنظام السوري؟ هل أعلنّا الحرب على دول الخليج؟
ما خلفية هذا المشهد، هل هو لهث وراء زيادة نسبة مشاهدين هم أصلاً غير مكترثين بهم ولديهم شاشاتهم التعبوية ليل نهار؟!
اسرائيل عدو: نعم
القتيل لبناني: نعم
القنيطرة سورية: نعم
العملية نذير شؤم على لبنان: نعم
على ماذا تهلّلون إذاً؟
لبنان ضائع في مهبّ الريح، ولم يعد لدى الذين يُفترض بهم أن يكونوا أكثر إدراكاً الوعي الكافي للتمييز بين السبق الصحافي الآني والخطوة الناقصة غير المحقّقة للمكاسب على المدى الطويل.
ماذا كان يفعل “الشهيد” في القنيطرة السورية مع قائد الحرس الثوري الايراني؟ هذه المنطقة وبحسب الصحف اليوم ، منطقة سورية “واقعة ضمن مثلث الحدود المعقدة والملتهبة بين لبنان وفلسطين المحتلة وسوريا”.
عال… هي منطقة سورية صرف إذاً… هل النقل المباشر استسلام واقرار بدخول لبنان بكلّ فئاته طرفاً في الحرب الدائرة في سوريا الى جانب محور النظام السوري البعثي وايران و”حزب الله”؟ هل دفنّا سياسة النأي بالنفس الى غير رجعة؟
هل علينا أنْ نقرّ أنّ “حزب الله” نجح في استدراج السلطات والإعلام في لبنان الى الخانة التي يريد زجّه بها؟
هل في هذا الاطار علينا فهم دخول القوى الأمنية الى معظم البؤر الأمنية في لبنان باستثناء تلك التابعة لـ”حزب الله”؟
هل علينا أنْ نفهم أنّ تعديّ المحامين السوريين على المحامين اللبنانيين في مصر كان مشروعاً لأنّ اللبنانيين تجرّأوا وتطاولوا على جيش بشار الأسد وكانوا بحاجة الى تأديب؟
الله يستر… إذا لم ننتفض على ما يحصل وبسرعة، سيتمّ جرّنا جميعاً الى وحول حرب، كثيرون على حدّ علمي، يعتبرون أنّه يجب أن نكون فيها على المقلب الأخر…
متى تأتي ساعة الصحوة؟
كثر يعتبرون أنّ ما حصل في القنيطرة الاحد سيكون بالتأكيد نقطة تحول في الصراع المفتوح بين “حزب الله” وإسرائيل.
يقولون: هي مواجهة مباشرة غير مسبوقة على الأرض السورية، بين المقاومة وما تمثله، والعدو الاسرائيلي وما يمثله… من دون وسطاء أو وكلاء.
فهل علينا بدورنا أن نسأل: هل ستبقى هذه المواجهة المباشرة في سوريا أم تنطلق شرارتها من لبنان ويكون على الشعب الليناني بأسره دفع ثمن لا يريده؟!
الله يسترنا… متى ساعة الصحوة؟!
***********************
في المقابل، نشرت شدياق الردود التي توالت على تعليق للصحافيّة غدي فرنسيس، وكانت على الشكل التالي:
غدي فرنسيس
January 19 at 9:29pm ·
مي شدياق، صباطو لجهاد مغنية
بيساوي كل قنوات لبنانك يا واطية

Like · Share
4,995 people like this.
364 shares
Abed Fawaz wen tale3 sawta 3a aya mazbale ?
January 19 at 9:29pm · Like · 14
Ezdi Safi
هي الشهيده الحيه بسبع رؤوس
January 19 at 9:31pm · Like · 35
ماهر الدنا
وين عم تحكي القمورة؟
January 19 at 9:31pm · Like · 4
Jad Souria
شو قالت هالشاضومه؟
January 19 at 9:33pm · Like · 7
Mahdi Sal
كلبة ما بينعملا قيمة
January 19 at 9:33pm · Like · 9
Hassan Dughman
لاتهذي بدنك بهيك زباله
January 19 at 9:34pm · Like · 12
Hanna Nicolas Helou maza natawaka3 min 3ahera
January 19 at 9:36pm · Like · 10
Ebaa Karfoul
هلأ كنت عم فكر بهالعاهرة
January 19 at 9:41pm · Like · 16
Jehad Shehab
عيب يا جماعه العاهرات بيخجلوا ينسبوها الهن
January 19 at 9:58pm · Like · 15
Leo Nakad c est une pute qui ne vaut pas le sou
January 19 at 10:01pm · Like · 7
Raed Anwar Hamadeh
حرام ليس عليها عتب..لقد تعرضت لحادث اليم أصاب دماغها بضرر كبير..شفاها الله
January 19 at 10:05pm · Like · 21
Wes Assaf
معاقه من قبل الحادث.
January 19 at 10:14pm · Like · 15
Saeed Jaber
صباطو ،، لا لا كتير هيك
قصدي صباطو كتير فيها

January 19 at 10:27pm · Like · 15
Fida Assaf
حيوانة كل عمرها رخيصة .هيدي قال دكتورة وبتعطي دروس بالجامعات.بزيادة عليا كم كلب متلا ينهشوا فيا .ما رح قول تفههه لان حتى البزقة ضيعانة فيا
January 19 at 10:38pm · Like · 17
نشوان جديد
واطيي وحيطا واطي ولك هي شماعة القرف
January 19 at 10:39pm · Like · 11
Hussein Mahmoud
مي شدياق مش صباط الشهيد بيسوى راسك ولك أرخص صباط بمحل خي حسين مونس بيسواكي كلك قصدي اللي باقي منك وكل مين شد على مشدك يا معاقة
Hussein Mahmoud's photo.
52 mins · Edited · Like · 130
Seleno Abou Radi
مالها المعاقة العاهرة بالمشبرحة
January 19 at 10:52pm · Like · 9
Georges Nehme
الحية الشهيدة. Menopause intellectuel
23 hrs · Like · 11
Tabet Bazzi
شريرةٌ وما في حدا يربكي
انت لستِ ب عاره او مومس
بل أنتِ تتمنين ذالك ولن يحصل.
..See More
22 hrs · Like · 14
Jessy Sassine Noun
العهر بيخجل قدامك يا معفنة عهر ... يلعنك الشيطان ما بكرهو قدك يا جاهلة ومدعية ومصدقة كذبتك ... انت وشهاداتك وكل مين بشد عمشدك كتير عليكن تنكبو بالزبالة ... تفه
19 hrs · Like · 30
Rima Jamous
ما في داعي نعلق عالموضوع طوني فرنجيه عطاها الجواب لي بتستاهلوا مدام بلاستيك
15 hrs · Like · 44
Lina Zammar
يا حقيرة يا سافلة ليس لك مكان سوى في المرحاض ....اللهم دون شماتة قليل يلي صابك يا عاهرة
14 hrs · Like · 30
Najib S Maddah
وبعد...
11 hrs · Like · 4
Mohamad Sadi
حبيت
4 hrs · Like · 3

*******
1- لا أعرف ما هي مناسبة الحديث عن الإعاقة هنا. فمواقف مي شدياق كانت هكذا قبل محاولة اغتيالها، وهي لم تخجل بها ولم تتراجع عنها. وهذا شيء يسجّل لها لا عليها. ولم أكن أعرف أنّ لحزب الله أو للحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ أو للتيار العونيّ مواقف من المعوّقين، تقضي بمنعهم من التعاطي في الشؤون العامّة، أو إبداء الرأي أو ممارسة حقوقهم في السياسة والاجتماع...علمًا أنّ أحدًا لم يهاجم تلفزيون المستقبل الذي لم ينقل وقائع تشييع الشهداء.
2- ولم أكن أعرف قبل أن أقرأ هذه الردود وسواها أنّ الشهداء يموتون كي تبقى هذه الشريحة من الشتّامين الذين لم يجيبوا على شدياق في السياسة والحرب ووضع البلد بل في أمرين يعودان بنا إلى العصر الجاهليّ: أي جنس المرأة (عاهرة، مومس، ...) والإعاقة الجسديّة... وبسبب هذين الأمرين كان وأد البنات الذي حرّمه القرآن.
3- ولكن ما صرت أعرفه أنّ عليّ أن أعيد قراءة كتب أنطون سعادة، فلا شكّ في أنّني فهمتها على غير معانيها الأخلاقيّة. وأن أعيد النظر في قائمة "الأصدقاء" على صفحات التواصل الاجتماعيّ عندي كي لا أفاجأ بأنّ من يضع لي "لايك" على جملة شعريّة عن الحبّ، قد يغضب منّي يومًا بسبب رأي سياسيّ لا يعجبه فينهال عليّ بالصفات والنعوت...
4- وما صرت أعرفه على الأكيد أنّني - وأنا المصابة بشلل الأطفال - سأواجَه يومًا بأنّ اعتراضي على الأداء المسيحيّ (المارونيّ تحديدًا) الفكريّ والروحيّ والسياسيّ والاجتماعيّ سببه أنّني امرأة (أي ساقطة وعاهرة) وأنّني عرجاء...وأنّ النقد الذي أمارسه في الأدب والشعر حين لا ينال رضا أصحاب العلاقة سيكون سببه أنّني امرأة (أي ساقطة وعاهرة) وأنّني عرجاء... وأنّ آرائي التربويّة التي قد لا تعجب كثيرين سببها أنّني امرأة (ساقطة وعاهرة) وأنّني عرجاء... وأنّ رفضي لسياسة حزب الله والمستقبل والحزب الاشتراكيّ والكتائب والقوّات والعونيّين والمردة ومن لفّ لفهم سببها أنّني امرأة (أي ساقطة وعاهرة) وأنّني عرجاء... وأنّ كلامي على الجهل العربيّ والتعصّب الدينيّ وقصر النظر السياسيّ سببه أنّني امرأة (أي ساقطة وعاهرة) وأنّني عرجاء...
5- فيا أيّها الرأي العام البغل - بحسب تعبير السوريّ القوميّ الاجتماعيّ الأمين الأديب سعيد تقي الدين - غباءُ العلمانيّين أوصلنا إلى بغاء الطائفيّين، واعتبارُ "الصبّاط" قيمةً لا يجوز المسّ بها جعل عقولنا في مستوى الأرض، وتركُ المجال للناس، كلّ الناس، للتعبير (بحجّة الحريّة) وإبداء الرأي (ع أساس الكلّ بيفهم ومثقّف وبيعرف يقرا ويكتب) أوصلنا إلى ديمقراطيّة الجهل...
6- فحين يحصل ستاتوس غدي فرنسيس عن مي شدياق على نحو ستة آلاف لايك، ويتشاركها نحو أربعمئة شخص... ولا يقرأ سوى عدد قليل ما يكتبه المفكّر علي حرب عن نهج حزب الله فذلك يعني أنّ الشلل ليس في رجلي ولا الإعاقة في جسد مي شدياق بل في كل هذه التركيبة اللبنانيّة التي تُحتضَر ولكن من دون أن يكون ثمّة أمل في أن تحيا سوريا. 

     

الأربعاء، 26 فبراير 2020

من الريف اللبنانيّ الساحليّ: تجربة رائدة انطلقت حرّة واللغة جواز سفر (3 آب 2001)







نماذج من الحياة الثقافيّة في الريف اللبنانيّ الساحليّ
تجربة رائدة انطلقت حرّة واللغة جواز سفر
بين البحر والجبل ثمّ مكان تشرف منه على الأزرق الواسع من دون أن تطالك رطوبة الهواء أو تعلق بشفتيك ملوحة دبقة. أعلى من مستوى البحر، وقبل أن تصل إلى قمم الجبال، ثمّ مكان انطلق منه روّاد حملوا في أفكارهم وكلامهم سعة البحر وعمقه وامتداده، وسعوا عبر الكلمة للوصول إلى قمم تعوّض عن تواضع مناطق سكنهم. من هذا الريف الساحليّ انطلقت تجربة رائدة لم يتّفق أصحابها على إطلاقها ولم يخطّطوا لها بل ظهرت كما تظهر زهور الربيع، في كثرة وهدوء.
لا شكّ في أنّ رصد هذه الظاهرة، وملاحقة أسبابها، وتسجيل نتائجها، عمل جدّيّ دقيق. لكنّ الإشارة إليها هنا تهدف إلى لفت الانتباه إلى لغة شعريّة شعبيّة ظهرت في الزجل والشعر العاميّ، وصولاً إلى الأغنية اللبنانيّة، وهي اللغة التي نقلت أحاسيس الناس ورؤاهم وصوّرت الطبيعة والتقاليد والأعياد.
يتميّز الريف الساحليّ بطبيعة خضراء تغذّيه مياه جوفيّة وأنهار غزيرة تسقي الأشجار والمزروعات في طريقها إلى البحر. وبما أنّها منطقة زراعيّة، كان على سكّانها أن يضبطوا إيقاع أيّامهم بتغيّرات الطقس وانتظار مواسم الزرع والريّ والقطاف والحصاد، علمًا أنّ تنوّع المواسم الزراعيّة وغناها ما كانا كافيين ليستسلم ساكنو هذه البقعة الجغرافيّة لمتعة الاكتفاء والبحبوحة، فالأرض نفسها علّمتهم الحذر والتنبّه، إنّما من غير تشاؤم أو قلق. لذا كان عليهم أن يجدوا بعض الحرف أو الوظائف البسيطة يؤمّنون بواسطتها حاجاتهم الضروريّة إن رغبت الأرض في حرمانهم من بعض خيراتها. هذا النظام الحياتيّ أتاح لأبناء المنطقة الاحتكاك بالأرض والاستمتاع بفصول الطبيعة (وكانت آنذاك معتدلة في توزيع بردها وحرّها بلا تطرّف أو خداع، فالربيع كان ربيعًا والشتاء شتاء)، والتزوّد من ناحية ثانية ما تقدّمه المدينة من علم وانفتاح، خاصّة أنّ أهمّ المدارس الوطنيّة والإرساليّات الأجنبيّة توزّعت على طول هذا الريف الساحليّ الأخضر المستسلم لزرقتين: زرقة السماء وزرقة البحر.
وهكذا، كان هناك وقت للاحتفالات ومآدب الطعام والنزهات في البقاع الخضراء والسهرات تحت الدوالي والعرائش أو حول مواقد النار، وكانت الحكايات والأغنيات الشعبيّة أو النوادر والطرائف، أو الأحجيات والحزازير، وأخبار المهجر والغياب، كلّها فاكهة حلال يأكل منها الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال. وها هم الفنّانون أنفسهم حين يتحدّثون عن طفولتهم في هذه البلدات يشعروننا بأنّ عالمهم ذاك كان في إطاره الطبيعيّ أشبه بالجنّة المفقودة تحنو عليه الجدّات اللواتي يحسنّ سرد القصص. بيد أنّّه كان من الناحية الاجتماعيّة على النقيض تمامًا.

حين اللغة جواز مرور
كتب على أبناء هذه المنطقة أن يكونوا على قاب قوسين من كلّ ما حولهم من غير أن ينغمسوا في ما حولهم. صحيح أنّ المدارس كانت قائمة بينهم تلقي بظلال قبابها وأسوارها على بيوتهم وأراضيهم، إنّما لم يكن متوقّعًا أن يدخل أولاد صغار المزارعين والحرفيّين، إلاّ في ما ندر، إلى تلك المؤسّسات التربويّة التي خرّجت الأطباء والمهندسين والمحامين والقضاة وبعض السياسيّين من أبناء الطبقة الأريستوقراطيّة. لذا بقيت الدراسة مؤمّنة لأولاد الطبقة الوسطى في مدارس صغيرة ومتواضعة، في حين بقي طموحهم مشرئبًّا يسعى للدخول إلى حرم المدارس الكبيرة، فما دخلوها إلاّ متأخّرين وذلك عبر قصائدهم وأغنياتهم ومؤلّفاتهم التي صارت واجبًا مدرسيًّا مفروضًا على أبناء النخبة الماليّة والاجتماعيّة.
صحيح أنّ البحر كان يمتدّ تحت أنظارهم، يحلمون بالسفر عبره إلى أنحاء العالم بحثًا عن الثروة والجاه على عادة اللبنانيّين الطموحين، ولكنّ اللغة التي بدأوا يتذوّقون مجدها وغناها وجمالها أعطتهم الانطلاق وأمّنت لهم أجنحة سافروا بواسطتها إلى أكثر من قارة وحلّقوا فوق أكثر من محيط.
والصوت الذي لم يجد مكانه في عالم المدرسة البعيد المنال، انطلق من الأماكن الدينيّة (الكنيسة غالبًا) ليطلّ بعد ذلك من فوق المسارح والمنابر حاملاً الكلمات التي ضاقت بها الصدور. فكانت أصوات المغنّين والمغنّيات المنطلقة من قرى الريف الساحليّ وبلداته تجمع في نبراتها وأوتارها عنفوان الجبل الذي تستظلّه وامتداد البحر الذي تشرف عليه وحيويّة الاخضرار الذي تسبح في تموّجاته.
كانت الكلمة، في الدرجة الأولى إذًا، بطاقة خروج من عالم ضيّق يطلّ على الدنيا كمتفرّج متلقٍّ لا يفعل بل يخزّن انفعالاته منتظرًا الوقت الملائم لإطلاقها، فكانت حصّة هذا الريف الساحليّ الحصّة الكبرى من مبدعي هذا البلد كلمةً ولحنًا وفكرًا. والكلمة نفسها هي التي وصفت الطبيعة وعبّرت عن الواقع السياسيّ و"هوبرت" أمام المواكب الانتخابيّة وناحت في المآتم وزغردت في الأعراس. ولن يغيب عن البال أنّ هذه المنطقة شهدت في كثير من بلداتها معارك عسكريّة وانتخابيّة على مرّ أعوام طويلة قبل الاستقلال وبعده، بل من فترة ما قبل الانتداب، وسجلّت فيها مواقف وطنيّة لا تزال ذاكرة التاريخ اللبنانيّ تستعيدها في المناسبات: فبعبدا مثلاً كانت مركز المتصرفيّة قبل أن تكون مقرًّا لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، وإنطلياس كانت مهدًا للعاميّات قبل أن تكون بلدة العائلة الرحبانيّة، وفي بشامون جرت "معركة" الاستقلال، بعدما انطلقت من الشيّاح مع الصحافيّ ( والنائب والوزير) ميشال زكّور مؤسّس جريدة "المعرض". ولم يكن ممكنًا أن تمرّ تلك الأزمات الوطنيّة من دون أن تترك أثرها في اللغة التي تمظهرت آنذاك في الزجل والأغنية والمقالة الصحافيّة، قبل ظهور وسائل الإعلام المرئيّة. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الزجل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحريّة، معلنًا إصراره على التفلّت من قيود اللغة العربيّة الفصيحة وشروط موسيقاها وقواعدها، إلى كونه وسيلة التعبير العفويّة عن الرغبة في التميّز في الهويّة الحضاريّة.

الشعر يزنّر بيروت
قد يبدو صعبًا تحديد هويّات بلدات الريف الساحليّ الذي نتحدّث عنه. فالارتفاع عن سطح البحر مؤشّر لافت، ولكنّنا نقع أحيانًا على منطقة ساحليّة جغرافيًّا إنّما تشبه في طبيعتها ومسارها التاريخيّ قرى أكثر منها ارتفاعًا، كبلدة برج البراجنة، ومنها على سبيل المثال الصحافيّ رياض حنين وأحمد السبع صاحب جريدة "الهدى". ويمكننا كذلك الحديث عن منطقة تعلو إلى ما فوق خمسمئة متر وتبقى كذلك صالحة لاعتبارها معنيّة بالبحث، كبلدة شملان التي ترتفع عن البحر سبعمئة متر، وهي مسقط رأس المؤرّخ فيليب حتّي. وكذلك يمكن حصر الحديث ببلدات قريبة من بيروت، لكن ذلك لا يعني أنّ بلدات أخرى بعيدة عن العاصمة لم تعرف حركة فكريّة أو ثقافيّة كالتي نتحدّث عنها. فبطرّام مثلاً ( ترتفع عن سطح البحر مئتين وخمسين مترًا) هي قرية المفكّر شارل مالك والدكتور إيلي سالم، والدكتور فيليب سالم، و"البربارة" (مائتا متر) بلدة الشاعر القرويّ رشيد سليم الخوري، وبلدة "عمشيت" (مئة وعشرون مترًا) ومنها على سبيل المثال أدباء كأديب لحّود وعفيفة كرم وإلهام كلاّب البساط وفنّانون كروميو لحّود ومارسيل خليفة، و"بصاليم" (ثلاثمئة متر) بلدة الشاعر موريس عوّاد، وكذلك "جون" (ثلاثمئة وخمسون مترًا) وهي بلدة الفنّانَين نصري شمس الدين وحسن علاء الدين (شوشو) أو الدبيّة (خمسمئة متر) بلدة آل البستاني ومنهم المعلّم بطرس واضع المعاجم ومنشئ المجلاّت، وسليمان معرّب ألياذة هوميروس، وعبدالله صاحب "قاموس البستان" وسواهم من الأدباء والصحافيّين، وهي البلدة التي اعتادت فيروز، حين كانت لا تزال نهاد، أن تمضي الصيف فيها لدى جدّتها من آل البستاني. لكنّ كثافة الإنتاج الفنّي والأدبيّ وكثرة المبدعين الذين انطلقوا من المنطقة المشرفة على بيروت تجعلنا أكثر اطمئنانًا إلى حصر صفة الريف الساحليّ المبدع في منطقة تمتدّ من بلدات تحيط ببعبدا وصولاً إلى كفرشيما امتدادًا إلى إنطلياس. ومعروف أنّ ما نقصده بالإبداع هنا ينحصر في الناحيتين الفنيّة والشعريّة اللتين أطلقتا تيّارًا إبداعيًّا لبنانيًّا ذا نكهة خاصّة لم يسبقه ما يماثله. ولا تزعم هذه المقالة بالطبع الإحاطة بكلّ الأسماء التي لمعت في سماء الكلمة واللحن والصوت، فكيف يمكنها الإحاطة بالمبدعين في ميادين الفكر والعلم والسياسة واللاهوت والاقتصاد وهم أكثر من أن يحصيهم قلم، خاصّة بعدما أتيح العلم للجميع وكثرت المدارس وقامت الجامعة اللبنانيّة التي تفرّعت لاحقًا لتفيد منها الفئة الكبرى من المجتمع اللبنانيّ.
قد يثير هذا الكلام حفيظة البعض من الذين يجدون فيه إجحافًا في حقّ كثر من مبدعي البلد، إلاّ أنّ الإضاءة على منطقة معيّنة وتيّار شعريّ فنيّ مميّز لا تعني أبدًا التعتيم على مناطق أخرى ذات تجارب مختلفة ولغة مميّزة. ولكن لا يسع أحدًا أن ينفي دور البلدات المشار إلى بعضها، والتي كانت تستحقّ التفاتة ولو سريعة.
إنّ المركزيّة السياسيّة والإداريّة التي كانت لبيروت ساهمت في إقامة أحزمة لم تصل إلى مرحلة البؤس عهدذاك، ولكنّها كانت تعيش في تواضع اقتصاديّ يوفّر الضروريّات الحياتيّة، أمّا مؤونتها فذاكرة تغذّيها صور الحياة التي تشعّ في غير مكان وأمام سواهم من الناس. لذا كان على أبناء هذه الأحزمة أن يجدوا مخرجًا لهذه الصور المتراكمة، فكانت اللغة التي نقلوا بواسطتها عالمهم أمام الطبقة الثريّة في الدرجة الأولى، والتي كانت تطرب لسماع هؤلاء يتحدّثون عن معاناتهم وقصص حبّهم وتفاصيل حياتهم اليوميّة. ومن المثير أن نستعيد الآن عناصر اللوحة الاجتماعيّة وهي تتكامل حين يصفّق أرباب الطبقة الثريّة لمجموعة من شعراء الزجل تتراشق بالكلام، أو لمطربة فقيرة الأصول تصدح بصوت فيه كلّ الحزن والعتب، أو لشاعر باللغة اللبنانيّة ينقل تعابير أهل القرى وأسماء الحيوانات وأدوات الزراعة. بل من اللافت كيف أنّ اللبنانيّين في المغتربات كانوا يستدعون الشعراء والمطربين والمطربات ليستمعوا منهم إلى وصف عالم يتعايش فيه الفقر والشرف، البدائيّة والبراءة، الأميّة والطموح، والمفارقة أنّ ذلك العالم كان هو نفسه الذي هرب منه هؤلاء المغتربون للبحث عمّا لا يشبهه.
المهرجانات وجوقات الزجل
انطلقت الحركة الفنيّة اللبنانيّة مع أبناء الريف الساحليّ وتغذّت المهرجانات من مشاعرهم وأفكارهم، فكان منهم الشعراء والملحّنون والمطربون والمطربات والممثّلون والممثّلات، الذين كانوا الروّاد ويعود إليهم الفضل في تأسيس المعاهد الفنيّة والجامعات المتخصّصة وإن لم يدرسوا هم أنفسهم في مدرسة أو جامعة، ما يدلّ على انفتاحهم ورغبتهم في إتاحة الفرصة لمن يأتي بعدهم للإفادة من العلم والدراسة إلى جانب الموهبة الفطريّة. ومع ذلك فإنّ المهرجانات الفنيّة التي أعطت لبنان سمعة طيّبة وجذبت إليه أنظار العالم المتمدّن إنّما تدين لهؤلاء الروّاد بانطلاقتها (الأخوان رحباني، صباح، عصام رجّي، فيلمون وهبي، روميو لحّود، وديع الصافي، نصري شمس الدين...) كما أن حفلات الزجل، خاصّة زمن الفرق الكبيرة، كانت تستقطب حضورًا كثيفًا وما برح الناس إلى اليوم يردّدون أبياتًا قالها شحرور الوادي أو طانيوس عبده القصيفي أو علي الحاج وسواهم.
ذكر منير وهيبة الخازن في كتابه "الزجل" مجموعة كبيرة من الشعراء المعروفين والمغمورين وكثر منهم ولدوا وعاشوا في هذا الريف الساحليّ، وحول ذلك يقول في مقدّمة القسم السادس المخصّص لشعراء عصر الانبعاث (1800- 1900): " ما أن أطلّ القرن التاسع عشر حتّى انتشرت المدارس في القرى اللبنانيّة انتشارًا عظيمًا تحمل النور إلى أقصى البلاد، فاتّسع مع النور ميدان الزجل وظهر شعراء نفضوا عن الفنّ غبار السنين، وعملوا بنشاط على توطيد دعائمه ورفع لوائه عاليًا". وكان لبلدات وادي شحرور وبدادون وبعبدا والشويفات وكفرشيما وسوق الغرب والكحّالة وبتاتر حصّة ذات ثقل بالنسبة إلى باقي البلدات والقرى اللبنانيّة. ولكن عصر النهضة (1900- 1950) يتابع الخازن أعطى الزجل اندفاعًا جديدًا بعدما "قام أصحابه يؤلّفون الجمعيّات الزجليّة والفرق المسرحيّة وينشئون الجرائد والمجلاّت" (ص 220). ونلاحظ أنّ أكثر الصحف والمجلاّت التي تعنى بالزجل اتّخذت بيروت عاصمة لها ما عدا مجلّة السبعلي لصاحبها أسعد السبعلي إذ صدرت من طرابلس. ومن الجوقات أشار الخازن إلى جوقة شحرور الوادي وجوقة زغلول الدامور وجوقة الرابطة العامليّة وجوقة الأرز وجوقة شمال لبنان وجوقة حسّون الزجل وجوقة كبار الزجل. كما أحصى الخازن في النصف الأوّل من القرن العشرين 131 شاعرًا زجليًّا من الذين عرف إنتاجهم الشعري، وكان من بين هؤلاء نحو ثلاثين شاعرًا ينتمون إلى الخطّ الريفيّ المطلّ على الساحل البحريّ.
والطريف في الأمر أنّ الشعراء الزجليّين، ولو كانوا من خارج هذا الريف الساحليّ، علموا عصرذاك أنّ انطلاقتهم الحقيقيّة إنّما من هذه المنطقة ولا يتمّ الاعتراف بهم إلاّ إذا دخلوا في جوقاتها أو تباروا معها أو غنّوا من على منابرها. كانت ذائقة الناس النقديّة في المنطقة مؤهّلة للحكم على ما يقال وينشد ويغنّى، كانوا كلّهم في نسب متفاوتة شعراء زجل. ومن لا يجيد "القول" منهم كان ناقدًا مخيفًا يلتقط الخلل ويعيب الصورة التي سبق واستعملت، ويسخر من الكلمة الركيكة الأثر، ويتأذّى سمعه من الصوت المتعب العاجز. ولا يزال الأبناء في هذه المناطق يستمعون إلى آبائهم وأجدادهم يردّدون في ساعات الصفاء أبياتًا قيلت في حفل الغداء الذي تلا عمادة فلان، أو في عرسِ آخر، أو في استقبال زعيم الحزب أو نائب المنطقة، أو في مأتم شابّ غدر به الموت، أو في صبحيّة أحد الشعانين... وكلّ تلك الأبيات لشعراء لم يسمع بهم أحد ولم تسجّل أسماءهم كتب التاريخ والمراجع.

الريف الساحليّ في خبر كان
عندما تكون هذه البقعة من الريف الساحليّ خضراء بطبيعتها، غنيّة بمواردها، قريبة من المدينة وأعلى منها في الوقت عينه، تجذب السيّاح والمصطافين، مسوّرة بتقاليدها من ناحية ومنفتحة على الآخرين من ناحية ثانية، تتفاعل مع الأوضاع السياسيّة من دون أن تنغمس في ألاعيبها، عفيفة إلى حدّ النسك، وراغبة في المتعة حتّى الاستسلام لأيّ عابر طريق، فذاك يعني أنّنا أمام منطقة واعدة، خصبة المواهب، جريئة الفكر والمشاعر، تذهب إلى أقصى حدود التطرّف في القول والعمل. وكيف لا يظهر كلّ ذلك في لغة خاصّة مميّزة ما فتئنا حتّى اليوم نبني على أساساتها ونتغذّى من جذورها؟
أمّا المستقبل فعلى صورة الحركة الثقافيّة في لبنان الذي نعرفه جميعًا. احتلّت الأبنية الشاهقة المساحات الخضراء، واحتلّ الأبنية من لا وقت لديه لرؤية البحر أو الجبل، واحتلّت سطوح الأبنية الصحون اللاقطة الجاذبة كلّ ما يجري في العالم إلى صحن الدار. وكان على الريف أن ينسحب متراجعًا أمام المدينة الهاجمة سريعة وعنيفة، يرافقها زوال الطبقة الوسطى التي كانت صمّام الأمان اقتصاديًّا واجتماعيًّا والتي غذّت الحركة الفكرية الثقافيّة في لبنان. وبعدما كان الريف الساحليّ يطلّ على العالم من غير أن يكون من هذا العالم، صار العالم ملك يديه وصارت الكلمة تاريخًا نستعيد أمجاده في المقالات الصحافيّة التي تطمح إلى من يقرأها.

بعض من أثرى الحركة الثقافيّة في بلدات الريف الساحليّ
من بعبدا: من آل الملاّط الشعراء شبلي (شاعر الأرز) ونصري وفريد وتامر. وفي الشعر الزجليّ جرجي عبده ناضر وطانيوس عبده القصيفي وإميل رزق الله (اللويزة)، وفي الصحافة يوسف صالح الحلو وأسعد خالد الحلو...
من الحدث: طنّوس وفارس وأسعد الشدياق، يعقوب صرّوف (أحد مؤسّسي مجلّة المقتطف في مصر)، المؤرّخان ابرهيم فارس يزبك ويوسف ابرهيم يزبك، الشاعران جرجس خوري كرم وجورج يزبك، المدبّر في الرهبانيّة الأنطونيّة يوسف الشدياق منشئ مجلّة "كوكب البرية"، كما صدرت في البلدة جريدة "البيرق" لمؤسّسها سعيد فاضل عقل وجريدة "النصير" لصاحبها عبدو بك أبي راشد، وأقيمت فيها المطبعة الشرقيّة عهد المتصرّف مظفّر باشا (1902- 1917)...
من الشيّاح: الصحافيّ والنائب والوزير ميشال زكّور والحقوقيّ إدمون نعيم...
من كفرشيما: ناصيف وابرهيم اليازجي، شبلي الشمّيل، إدوار حنين، جورج الرجّي صاحب جريدة "الراصد". ومن الفنّانين: فيلمون وهبي ووليم حسواني وعصام رجّي وملحم بركات وحليم وماجدة الرومي وماري سليمان...
من وادي شحرور: سليمة أبي راشد (أوّل أديبة من الشرق في المهجر) وعبّود وفارس أبي راشد ونخله أسعد الحلو وكميل خليفة (كروان الوادي) وجوزف الفغالي (بلبل الوادي) والمسرحيّان أنطوان ولطيفة ملتقى والشاعران أنيس روحانا الفغالي ورفيق الفغالي...
من بدادون: أسعد الخوري الفغالي (شحرور الوادي) والفنّانة صباح...
من القماطيّة: الشاعر الزجليّ علي الحاج...
من الشويفات: الأديبة نجلا صعب...
من أنطلياس: الرحابنة...
نشر هذا النصّ في جريدة النهار – الجمعة 3 آب 2001

الزجل اللبنانيّ والمازة (2009)



فلنتفّق أوّلاً على أنّ الزجل اللبنانيّ يختلف عن الشعر العاميّ اللبنانيّ الذي ولد من رحم الزجل غير أنّه استقلّ في بيته الخاصّ. ولنتّفق ثانيًا على أنّ ما أريد قوله عن الزجل اللبنانيّ يصحّ على كثير من وجوه التراث والفولكلور في لبنان وفي أيّ بلد آخر.
الزجل اللبنانيّ في ذاكرة الناس طاولة يجلس خلفها شاعران أو أربعة شعراء يتبارون في ارتجال شعر له نكهة خاصّة ومميزة، ومهما علت النبرة واشتدّت اللهجة وقست المفردات تنتهي المبارزة الشعريّة بتوافق الجميع وخلاصة ترضي الضمير والجمهور. وكانت الطاولة عبارة عن مائدة ملأى بالمازات اللبنانيّة وكؤوس العَرق، قبل أن يمتنع بعض الشعراء عن وضع الكحول احترامًا لمشاعر كثيرين. كانت المائدة لوحة لا يكتمل المشهد الزجليّ من دونها، وغالبًا ما كنّا، صغارًا، نراقب كيف يتطاول الشاعر ليرتفع رأسه فوق رأس البندورة في صحن الخضار الكبير الذي يزيّن وسط المائدة. وما نخشاه أن يزول الزجل وتبقى المائدة والمازة اللبنانيّة على عادتنا في التمسّك بشكل التقاليد من دون النظر إلى أبعد من صورتها البرّاقة.
مناسبة هذا الكلام، دعوة وزير الداخليّة زياد بارود إلى إدخال الزجل في المناهج التعليميّة. وجاء هذا الكلام خلال حفلة في رعاية الوزير وحضوره لمناسبة توقيع ديوان "غلال العشرين" للشاعر الزجليّ جورج ضوّ . صحيح أنّ هذه الدعوة نالت حصّتها من تعليقات البرامج الفكاهيّة على اعتبار أنّنا نداوي أمراضنا بالسخرية ونحلّ مشاكلنا بالنكات، غير أنّنا، ولو كان عندنا هموم أكثر خطورة، لا نستطيع إلاّ أن نوافق الوزير على وجوب إدخال الزجل والشعر العاميّ في المناهج الرسميّة على اعتبار أنّهما وجهان من وجوه ثقافتنا، ووسيلتان تعبيريّتان حضاريّتان جميلتان وغنيّتان في أزمنة الشتائم والقبح والقحط الفكريّ.
في الزجل كما في سواه من الفنون ما يستحقّ التخليد والتدريس بقدر ما فيه من الحشو والتكرار والمبالغات الصبيانيّة والركاكة. وحين نوافق معالي الوزير على طرحه نأمل عند الفرز أن يطرح الزؤان ويحتفظ بالقمح، خصوصًا أنّه قال في كلمته: "قلبي على الزجل اللبنانيّ في شكل خاصّ، وأضمّ صوتي إلى صوتكم في ضرورة جمع هذا التراث العريق، وتعليمه في المدارس. فشعر الجاهليّة جميل حفظه، ولكن حذار من جاهليّة لا شعر يحفظ فيها ولا تراث ولا شعراء يكرّمون".
ونضيف إلى تحذير الوزير: حذار من أغنيات لا شعر فيها، وحذار من شعر لا فكر فيه ولا جمال، وحذار من سياسة لا أخلاق فيها، وحذار من قشور لا نفع لها وقروش لا هويّة لها، وحذار من طوائف لا دين لها، وحذار من شعارات وطنيّة ترتفع فوق أنقاض الوطن.

الجمعة، 7 فبراير 2020

القدّيسون الموارنة ودروس الانتماء والالتزام 2010(من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)

القدّيس شربل

القدّيسة رفقا
القدّيس نعمة الله الحرديني
الطوباويّ إسطفان نعمة
لا يكفي أن يكون للموارنة عدد كبير من القدّيسين.
فحين تصير الأرض أضرحة ومزارات لا تجد من يزورها أو لا يعرف كيف يتعلّم من تجارب أوليائها وقدّيسيها، لا تبقى قيمة لعدد المكرّمين والطوبايين والقدّيسين.
فالأجساد التي لا تبلى موجودة عند مختلف الشعوب،
والصالحون المتواضعو القلب موجودون في كلّ طائفة،
ومقامات الدعاء والصلاة رافقت الإنسان مذ تفتّح وعيه على ما وراء المحسوسات.
العبرة في دروس الانتماء والالتزام: الانتماء إلى مكان والالتزام بإنسان هذا المكان. ومتّى فعل كلّ إنسان ذلك في بقعته الصغيرة صار ثمّ أمل للإنسانيّة.
لم يتعلّم الموارنة من شربل الناسك أن يسكروا بالله كما فعل، بل سكّر أكثرهم قلوبهم دونه وفهموا عزلته انعزالاً، وصمته سذاجة، ومحبسته مستشفى إلى أن يجد الأطباء علاجًا...
ولم يتّعظوا من علاقة رفقا بالألم بل استغلّ بعضهم آلام الناس للمتاجرة فسرقوا الدواء وأقفلوا أبواب المستشفيات في وجه المتألّمين، 
ولم يستفيدوا من تجربة الحرديني في المسؤوليّة والتعليم (تلميذه القدّيس شربل) بل استغلّ المسؤولون في المدارس مراكزهم للتسلّط والظلم،
ثمّ رفعوا مزارعًا اسمه إسطفان نعمة إلى مستوى التطويب ولا أرض باقية لهم وطنًا، فيه جذورُهم وإليه الانتماء.
وتطول اللائحة ولا من يتعلّم أو يقتدي...
وهم بقدر افتخارهم بقدّيسيهم يثيرون علامات استفهام وتعجّب عند سواهم من أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى. فما بين طرفة وسؤال، يتبيّن لنا أنّ ثمّة شرخًا واضحًا في طائفتنا لا نراه واضحًا، أو لا نريد الاعتراف بأنّنا نراه، بينما يبدو لسوانا فوهة خطيرة تجرفنا، موارنةً، وتجرّ معنا الآخرين، مسيحيين وغير مسيحيين.
فحين يتساءل غير المارونيّ عن كثرة القدّيسين وكثرة الصراعات الدامية في طائفة واحدة وزمن واحد، يخجل المارونيّ ويصمت.
وحين يسأل غير المارونيّ عن غياب القدّيسين عن رهبنات أخرى أو عن العلمانيّين، يتردّد المارونيّ في الإجابة.
وحين يريد غير المارونيّ أن يعرف كم تبلغ كلفة احتفالات التطويب وكم من أمتار أرض تشتري ليبقى المارونيّ في وطنه، تمنّى المارونيّ لو تنشقّ الأرض وتبتلعه.
ومع ذلك ولذلك، لا يجد الموارنة اليوم إلاّ تعليق الآمال على هؤلاء القدّيسين والطوبايّين بعدما تعذّر الحلّ عند أهل الأرض والسياسة.

الخميس، 6 فبراير 2020

كتاب مفتوح إلى مار مارون - صحيفة النهار - الثلاثاء 8 شباط 2011 (من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)






في مرحلة تكثر فيها الكتب المفتوحة إلى الزعماء والقادة، وتتلاحق الرسائل الملغومة والمفضوحة ما بين الموالين والمعارضين، وفي أيّام تشهد تغيّرات جذريّة تذكّر بما كانت عليه الأمور منذ أكثر من 1600 عام (تفكّك وتشكيك واضطهاد وبِدع)، أحببت أن أراسلك أيّها الناسك العزيز.

لكن اسمح لي أولاً أن أنبّهك إلى أنّني سأخاطبك بغير اللغة التي ستسمعها خلال هذا الشهر الذي يبدأ بعيدك في التاسع منه أي غدًا وينتهي برفع تمثالك في عاصمة الكثلكة. ولا أكتمك، أنّ رفع الكلفة ما بيننا يغريني، فكونك سابقاً للطائفة التي تحمل اسمك جعلك تنجو من لوثة الغرور وادّعاء المعرفة والتفرّد بالرأي، ولن يزعجك أو يحطّ من قدرك أن تسمع نصيحة أو أن يشير إليك أحدهم برأي، في حين غرق أكثر أتباعك في كلّ ذلك وفي ما هو أخطر منه.
سأحدّثك أيّها الناسك اللطيف عن الحقائب، وأنت الذي عاش بلا بيت أو حقيبة أو حرّاس، لأخبرك كيف أنّ أبناء شعبك موزّعون ما بين الذين يبتاعون حقائب الهجرة وأولئك الذين يتهافتون على الحقائب الوزاريّة. وسأحدّثك، يا من زهدت بالدنيا وافترشت التراب والتحفت عباءة النسك، عن الكراسي التي يتقاتل حاملو اسمك للحصول على أعظمها وأفخمها. لكن دعني بداية أعتذر بالنيابة عن القادة الموارنة المهمومين، وأطلب منك ألاّ تؤاخذهم إن صدعوا رأسك بالطلبات والتمنيّات التي لن تكون إلاّ على مستوى الدرك الذي انحطّوا إليه. غير أنّ القليل الذي أعرفه عنك والكثير الذي أعرفه عن موارنة اليوم يسمحان لي بالاعتقاد بأنّك لن تفاجأ بصلواتهم التي تثقل كاهلك وتتعب قلبك وتؤلم روحك، وإن كان لا ألم ولا تعب ولا عبء حيث أنت.
أيّها الناسك القدّيس،
كلّ سياسيّ مارونيّ يطلب منك اليوم منصبًا رسميًّا يرضي طموح والديه ويشبع رغبات حرمه المصون ويميت المارونيّ الآخر غيظاً، وكلّ صاحب سيادة من المطارنة يراهن عليك كي توصله إلى سدّة البطريركيّة المارونيّة ليستقرّ سعيداً على كرسي إنطاكية وسائر المشرق، وكلّ كاهن يحلم بعصا المطرانيّة، وكلّ علمانيّ يأمل في أن يكون من المنعَم عليهم في العهد الجديد المنتظر في آذار. وكلّ ذلك بشفاعتك ومن أجل الطائفة التي تحمل اسمك.
غير أنّ هذا الوضع لا يعني أنّ الموارنة لم يحقّقوا إنجازات سجّلها لهم التاريخ، فهم رغم اختلافاتهم وخلافاتهم، توصّلوا، وانسجامًا مع تاريخهم في المحافظة على اللغة والتواصل، إلى وضع معجم حديث للكلمات والمصطلحات التي تعلّمها زعماء الطوائف الأخرى واستخدموها وقاسوا عليها بحسب ما تقتضيه الظروف، حتى تفوّقوا على الموارنة. وإليك بعض الأمثلة كي لا تكون غريبًا عن لغة أبنائك: الحريّة صارت تعني الانفلات الأخلاقيّ، والمأسسة تعني تأمين مصالح ذوي القربى، والكهنوت وظيفة تؤمّن الدخل المحترم للمحترم، والرهبنة أسرع طريقة للشهرة، والمدرسة شركة مساهمة في نشر الجهل، والجامعة مزراب ذهب، والدير ثكنة عسكريّة ثمّ خليّة حزبيّة ثمّ محطّة للسياحة الدينيّة، والمغتربون ورقة ضغط تستعمل عند الحاجة، ومحاكم الطلاق خلايا نحل، وتحوّل العلمانيّ من حجر بناء إلى حجر رشق وتكسير، أمّا التطوّر فانتقال من الصومعة إلى الفندق، ومن العمل في الأرض إلى المتاجرة بها، ومن الكنيسة إلى الملهى، ومن تحت السنديانة إلى الصحراء. ولن أحدّثك عن المارونيّة السياسيّة لأنّ الشيعيّة السياسيّة تخطّتها بأشواط في مجال تهميش الآخرين، والسنيّة السياسيّة سبقتها بكثير في مجال سوء الرؤيا، والدرزيّة السياسية سجّلت عليها نقاطًا كثيرة في مجال التقوقع والتقلّب، وهكذا سائر المذاهب.
غداً يا أبانا مارون يحتفل الزعماء الموارنة بعيدك، ويطلبون من الله بشفاعتك سلامًا على قياس رغبات كلّ منهم، وأن يقبل بمحبّته وحنانه الذبيحة المقدّسة التي قدّموها وأن يجعل بها:
للخطأة (هم طبعا ليسوا منهم) غفراناً، وللمرضى (الذين أهملوهم لانشغالهم بمصالحهم) شفاء، ولمنكسري القلوب (زعاماتهم لا تصل إليها أصوات الأنين) رجاء، وللحزانى (الذين تسبّبوا بفقرهم) عزاء، وللموتى (الذين قتلوهم) راحة، وللأسرى (الذين لا يجرؤون على فتح ملفّاتهم) خلاصًا، وللمسافرين (الذين هجّروهم بحروبهم) رفيقا، وللبعيدين (الذين أبعدوهم بجشعهم) مرشداً، وللقريبين (الغارقين في اليأس) حافظًا، وللحكّام المؤمنين (كلٌّ منهم يؤمن بنفسه) نصرًا.

غداً، يا صاحب العيد، لا تأت إلى العيد، فثيابك الرثّة لا تليق بالعباءات المطرّزة والبذلات الأنيقة، ولحيتك الكثّة ستسرق الأضواء عن الذقون الناعمة، ونحول جسمك سيفضح ترهّل الأجساد.
غداً أيّها السيّد الصغير لا تأت إلى العيد لأنّ مرافقي السادة الكبار لن يسمحوا لك بالدخول إلى حيث الاحتفال بك راحلاً وتاركا لهم ما يتنعّمون به ويعيشون من خيره. ولكنْ في بيتك يا مارون منازل كثيرة، وعشرة صالحون يستحقّون شفاعتك وصلاتك. فلأجل هؤلاء أنقذ الموارنة ممّا هم فيه، وعلّمهم أن يتاجروا بالوزنات التي أعطيت لكلّ منهم لا بالوطن الذي بنوه، وأن يشعلوا المصابيح وينتظروا الخلاص لا أن يحرقوا الأرض ويتخلّصوا من بعضهم بعضاً، وأن يكونوا أصحاب دور حضاريّ لا أصحاب طموح آنيّ، وأن يتحالفوا مع السماء لا مع الشيطان، وأن يفهموا النسك طريقًا للآخر وملجأ له لا انعزالا عنه وهربًا منه، وأن يعرفوا أنّ الحريّة بمعناها الحقيقيّ هي رسالتهم أينما وجدوا، وأن يفهموا أنّها لا تكون من دون ثلاثة: الشجاعة لكي تُمارَس، والمحبّة لكي لا تكون على حساب الآخر، والوعي لكي لا تكون غرائزيّة هوجاء.
فهلاّ تشفع للموارنة يا مارون ليستعيدوا المجد الذي كان لهم؟
***
صحيفة النهار - الثلاثاء 8 شباط 2011



الأربعاء، 5 فبراير 2020

أين نجح الأرمن وأين فشل الموارنة؟ (2010 - من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)


قطعُ الأشجار في وادي قنّوبين... اقتلاع تاريخ




* صحيفة النهار - الثلاثاء 4 أيّار 2010

     بعيداً عمّا إذا كانت المقارنة تصحّ بين الموارنة والأرمن باعتبار الاختلاف بين أن تكون المارونيّة مذهبًا لا قوميّة، وبين ما إذا كانت مسيرة الأرمن التاريخيّة محكومة بكونهم أبناء مذهب مسيحيّ أو بكونهم شعبًا لوطن له اسم وكيان وتاريخ. بعيدًا عن كلّ هذا، يمكننا أن ننظر إلى الشعبين كأقلّيتين مسيحيّتين تعرّضتا للاضطهاد أو المجازر، فتعاملت كلّ منهما مع الأمر بأساليب مختلفة، وكانت النتيجة أنّ الأرمن يحقّقون رغبتهم في الحصول على اعتراف بقضيّتهم وبالمجازر التي تعرّضوا لها ونجحوا في فرض وجودهم في دولة خاصّة بهم أو في مناصب رسميّة واجتماعيّة في الدول التي حلّوا فيها، في حين يتعرّض الموارنة لخيبة تلو أخرى. فأين نجح الأرمن وأين فشل الموارنة؟

     1 - العامل الأوّل الذي جعل الأرمن ينجحون هو تكتّلهم في وحدة متراصة متضامنة. فعدا عن تجمّعهم في أماكن خاصّة بهم، شبه مغلقة من غير أن تكون منغلقة، حياديّة من غير أن تكون منعزلة، بقيت صلاتهم بعضهم ببعض قويّة مهما بعدت المسافات بين النازحين والمقيمين، وبين المهاجرين إلى الغرب والمتشبّثين بأرض الشرق. لذلك نراهم يتعاضدون ويتبادلون الخدمات مهما اختلفت آراؤهم في معالجة قضيّتهم الجوهريّة. وهذا ما لم يستطع الموارنة تحقيقه، فلا قضية واحدة تجمعهم، ولا تضامن بينهم، ولا صلات وصل قويّة وفاعلة بين المقيمين منهم في لبنان وبين المستقرّين في بلاد الانتشار. وفي حين يجذب الأرمنيّ سائر الأرمن الذين يعرفهم إلى حيث يعمل أو يقيم، نرى المارونيّ يهرب من الموارنة بذريعة الانفتاح ورفضًا لتهمة الانعزال، فكان الزواج من الأجانب وعدم السعي الى حمل الجنسيّة اللبنانيّة وبيع الأراضي.

     2 - العامل الثاني هو اللغة. فلقد اعتبر الشعب الأرمنيّ أنّ اللغة هي الرابط بين تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، وهي الجسر الآمن بينهم مهما تفرّق شملهم. وهذه اللغة تحمل حكاياتهم وأحلامهم وحضارتهم، ومن دونها لا بقاء لهم. في المقابل لا يملك المارونيّ لغة خاصّة به: فمن الآراميّة إلى السريانيّة إلى العربيّة إلى الفرنسيّة ثمّ الإنكليزيّة، تنقّل اللسان المارونيّ غير قادر على حسم أمر انتمائه. لذلك، يبدو من الطبيعيّ أن تطالب فئة من الموارنة بإعادة تدريس السريانيّة في المدارس المارونيّة لحفظ لغة الأسلاف، ويبدو من الطبيعي كذلك أن تنظر فئة مارونيّة أخرى إلى هذا الطلب متسائلة عن جدواه في وقت تكاد اللغة العربيّة نفسها تنقرض أمام هجمات اللغات الأجنبيّة أكانت غربيّة أم آتية من أقصى الشرق. ويرتبط باللغة حكمًا كلّ ما له علاقة بالتاريخ والتراث والفنون، ما يجعل الأرمني في ذلك قادرًا على استحضار ماضيه بكلّ ما فيه من خيبات وإنجازات، ويعجز المارونيّ عن تحديد هويّته الحضاريّة.

     3 - العامل الثالث هو العمل: فلقد فهم الأرمنيّ مذ طاولته يد الإجرام أن عليه أن يعلّم أولاده الناجين حبّ البقاء، في انتظار العودة إلى أرمينيا. لذلك، كان العمل هدفًا أساسًا لم يأنف الأرمني من السعي إليه مهما تدنّى مستواه أو ضؤل أجره. فعمل الشعب الأرمنيّ في كلّ المجالات، ولا يذكر أحد أنّه يعرف متسوّلاً أرمنيًّا. وهذا الإصرار على العمل بنشاط جعل الأرمن ينجحون في مجالات لا يمكن حصرها، حتى بات بعض الحرف والمهن حكرًا عليهم، وصولاً إلى مراتب عالية في الوظائف والإدارات. وهذا ما لم يفعله الموارنة الذين خرجوا من الوظائف الحكوميّة والإداريّة وتعالَوا عن الانضمام إلى الجيش وتخلّوا عن العمل في الأرض والحِرف، واكتفوا عمومًا بقطاع الخدمات حيث ينصاع الإنسان لأوامر من يدفع له أكثر، مما انعكس سلبًا على نفسيّاتهم التي صارت أسيرة مقيّدة بعدما كانت حرّة طليقة.

     فَهِم الأرمن بعد المجازر الرهيبة أنّهم ضحايا مؤامرات دوليّة وأنّهم أقليّة تعرّضت للإبادة أمام صمت العالم كلّه، ولذلك عليهم الاتّكال على قدراتهم والرهان على الوقت. أمّا الموارنة فآمنوا بأنّهم محور الأرض وأنّ سياسات الدول تبنى على قياس رغباتهم وأنّ السماء لن تتخلّى عنهم وأنّهم حاصلون على خبزهم لأكثر من يومهم ولو لم يعملوا أيّ شيء. وبنتيجة هذين الاقتناعين، تقترب المسألة الأرمنيّة من فرض نفسها في كلّ مكان وعلى كلّ الناس حتّى في تركيا نفسها وعلى المثقّفين الأتراك في الدرجة الأولى، بينما يفقد المثقّفون الموارنة الثقة يومًا بعد يوم بأهليّة زعمائهم وقادتهم الزمنيّين والروحيّين، ويجدون أنفسهم في دفاع سخيف عن قضيّة لا يعرفون ما هي في الحقيقة ولا كيف يقنعون غيرهم بها. وإن لم تكن هذه الحال نهاية الموارنة فثمّة خوف مشروع في أن تكون النهاية أقرب بكثير مما يظنّ المتعامون عن الحقائق والأرقام، والمتجاهلون واقع المجتمع.


الثلاثاء، 4 فبراير 2020

المسيحيّون اللبنانيّون بين معتقل العيب وحريّة المحبّة - 2018(من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)

القدّيس مارون بريشة الفنّان مارون الحكيم


العائلات المسيحيّة، المؤسّسات المسيحيّة، المناسبات الاجتماعيّة المسيحيّة، محكومة، ما عدا استثناءات نادرة، بتلافي العيب لا بمعانقة المحبّة.
عيب أن يسمع الجيران أصواتنا، عيب ألّا ننتخب فلانًا، عيب ألّا نشارك في مأتم أو عرس، عيب ألّا يكون بيتنا على مستوى الزائرين، عيب أن تكون سيّارتنا قديمة الطراز، عيب أن يتخصّص أولادنا في المجال المهنيّ، عيب أن نرتدي الثوب نفسه مرّتين...عيب ألّا نأتي بخادمة... عيب أن أضع والدي في بيت العجزة، عيب ألّا يكون على المائدة مئة صنف من المازة، ...
عيب وشو رح يقولوا الناس، وجرصة، ومش ناقصنا حكي، استرونا،...خلّيها بالقلب تجرح ولا تطلع وتفضح، وغيرها من العبارات والكلمات التي تفضح طبيعة قائليها وخلاصتها أنّ الخوف من كلام الناس هو الذي يدير شؤون حياتنا، فلا محبّتنا لهم تجعلنا نهتم بهم، ولا محبّتهم لنا تطمئننا إلى أحكامهم، وبالتأكيد لا علاقة لله بكل ذلك.
ولكن الكارثة هي حين تغيب المحبّة ويتغاضى الإنسان عن العيب، عند ذلك نصير على ما نحن عليه الآن: لا حدود للعهر والخبث والكذب، ولا ضوابط للأخلاق، ولا موانع تقف سدًّا أمام الفساد والشرّ.
أين هي المحبّة المسيحيّة حين يكره سياسيّ مسيحيّ سياسيًّا آخر ثم يتناولان القربان المقدّس نفسه؟ أين هي المحبّة المسيحيّة حين تضرب حاملة شهادة اللاهوت أباها وتطرده من البيت، وحين يتقاتل الأشقّاء على الإرث، وحين لا يتخاطب اثنان وهما خارجان من القدّاس نفسه، وحين يغار كاهن من آخر ويحقد عليه، وحين يرتشي الموظّف ثمّ يذهب إلى الكنيسة كأنّ شيئًا لم يكن؟
أين هي المحبّة المسيحيّة حين يعمّ الفساد في المستشفيات والمدارس والجامعات؟ وحين تسرق أموال الفقراء في المؤسّسات الخيريّة الإنسانيّة؟ وحين تهدر أموال الكنيسة على ما لا يضمن بقاء المسيحيّين؟ وحين يُقتل الشهداء مرّة بعد مرّة؟
أين هي المحبّة المسيحيّة، جوهر الإنجيل، والموضوع المفضّل في عظات الكهنة من كلّ ذلك؟
أين هي المحبّة المسيحيّة وأنت حين تلجأ إلى كاهن شاكيًا أمرًا أو طالبًا خدمة يحوّلك إلى الصليب الأحمر أو الطبيب النفسيّ أو القوى الأمنيّة؟ فهو ليس حلّال مشاكل ولا حائط مبكى! ويللي مش عاجبو مع السلامة...
أين هي المحبّة المسيحيّة وأنت إن نظرت إلى معلّم مسيحيّ رأيت النقمة، وإلى طبيب مسيحيّ رأيت الغرور، وإلى مهندس مسيحيّ رأيت الزعبرة، وإلى محام مسيحيّ رأيت السمسرة، وإلى قاض مسيحيّ رأيت الظلم، وإلى موظّف مسيحيّ رأيت الرشوة، وإلى مصرفيّ مسيحيّ رأيت الجشع، وإلى رجل أمن مسيحيّ رأيت الغضب، وإلى إعلاميّ مسيحيّ رأيت الزحفطونيّة، وإلى عامل مسيحيّ رأيت الكسل، وإلى طالب جامعيّ مسيحيّ رأيت طلب هجرة؟
***
لا يحتاج المسيحيّون اليوم إلى مجامع لاهوتيّة تقرّب وجهات النظر، أو مؤتمرات تأسيسيّة تدرس الهيكليّة التنظيميّة، أو حركات تصحيحيّة تبعد فلانًا وتعيد فلانًا، أو مساءلة في روما وتحقيق. وبالتأكيد لم يعودوا في حاجة إلى أحزاب وعقائد وتيّارات، بعدما أثبتت كلّها فشلها في حلّ الأزمات أو على الأقلّ إدارتها.
مسيحيّو لبنان في أمسّ الحاجة اليوم إلى لقاء روحيّ لا فضل فيه، إلّا بالتقوى، لرجال الدين على علمانيّين مشهودٍ لهم بالحريّة والشجاعة والالتزام، بهدف العودة إلى جوهر المسيحيّة؛ وإلى خلوة فلسفيّة فكريّة اجتماعيّة تنظّف المسيحيّ من أدران الحروب وتبعات الشرذمة؛ وإلى انتفاضة تأريخيّة تعيد النظر في مفاهيم البطولة والقداسة والشهادة، فتنفض الغبار عن الفكر المضطَهد وتعتذر عن الأخطاء/ الخطايا.
مسيحيّو لبنان اليوم في حاجة ماسّة اليوم إلى مؤسّسة رسوليّة جامعة تنشر الكتب وتكرّم الشعراء والروائيّين والصحافيّين، إلى رجال اقتصاد يوزّعون فرص العمل ويعالجون البطالة ويستفيدون من ممتلكات الكنيسة لما فيه خير الجميع، إلى وسائل إعلام تستضيف نساء ورجالًا يملكون مواهب وأفكارًا تحرّك المياه الراكدة في مستنقعات الحياة.
هل هو كلام طائفيّ محدود النطاق؟ لا، بل هي دعوة لطائفة أعرف تاريخها ومزاياها بقدر ما أعرف أخطاء كثيرين من مسؤوليها وأتباعها لكي ينظّف أبناؤها حياتهم الروحيّة وبيوتهم الروحيّة ومؤسّساتهم الروحيّة ليستطيعوا بعد ذلك أن يطلبوا من الآخرين أن يحذوا حذوهم، فيلتقي الجميع في بوتقة المواطنيّة.
فهذا التكوين اللبنانيّ القائم على التقويم الطائفيّ لن يحلّ أزماتِه المغرقة في التاريخ والجغرافيا زواجٌ مدنيّ، أو تحسم أموره ثورة نعلم كلّنا أنّها لن تجتمع على هدف. ولعلّنا مدعوون إلى حركة تحرّر داخليّة، تعيد ما لله لله كي نستطيع في مرحة لاحقة أن نعطي القيصر ما له.
وإلّا، وبعدما تحوّلت المحبّة تهمة سذاجة، وبعدما صار العيب موضة بائدة، على المسيحيّين أن يكفّوا عن الشكوى والنقّ، وعلى زعمائهم السياسيّين أن يخجلوا من الحديث عن بطولات وهميّة، وعلى قادتهم الروحيّين أن يتوقّفوا عن التطلّع إلى سماء لا تنحصر اهتماماتها بالهمّ المسيحيّ اللبنانيّ!  

الاثنين، 3 فبراير 2020

استقالة مارونيّة شبه جماعيّة (2018)



الموارنة – ما عدا قلّة منهم تقاوم حتّى الشهادة كي تبقى الخميرة الروحيّة والخمرة الجيّدة – مستقيلون من دورهم، دورهم الوحيد المطلوب منهم بلا حصريّة أو تقوقع: أن يكونوا جماعة نسك وحريّة وعِلم.
أساقفتهم وكهنتهم وراهباتهم مستقيلون: يريدون كلّ شي وهم يردّدون أنّهم لا يريدون شيئًا: يريدون الرسالة والوظيفة والشهادة والسفر والحياة الاجتماعيّة وتأمين العائلة فلا يجدون وقتًا لحوار لا يؤمنون مسبقًا بأنّهم منتصرون فيه. مشغولون دائمًا بألف همّ وهمّ، ما يوتّر أعصابهم ويبعدهم عن سكينة لا تستقيم حياة روحيّة من دونها. مهتمّون بأمور كثيرة والمطلوب واحد. يعطون لقيصر ما له حين يكون القيصر من حزبهم، ويقاسمونه حين لا يناسب تطلّعاتهم. مدّعو معرفة وفَهم كأنّهم وحدهم يملكون الحقيقة. لا وقت عندهم لحلّ مشكلة عائليّة، ينأون عن حاجات الناس، يحكمون كدكتاتوريّين على أساس أنّهم غير منتخبين ولا رأي للجماعة في أدائهم إن في الرعيّة أو المدرسة أو الجامعة أو المستشفى... نفّذ ثمّ اعترض ... وفي أكثر الأحيان لن تجد مجيبًا مهما اعترضت. إن بان عليك تعب أو قلق أحالوك إلى طبيب أمراض عصبيّة، إن تشاجر أخوان يوجّهونهما إلى القوى الأمنيّة، إن كنت فقيرًا وجّهوك إلى وزارة الشؤون الاجتماعيّة، إن كنت ثريًّا أجلسوك في صدور مجالسهم، إن طالبتهم بحقوقك قالوا لك: لا تكنزوا في الأرض، ولا يهمّكم ما تأكلون وتشربون، وإن زايدت عليهم في الترفّع عن الأمور الماديّة قالوا لك: القانون لا يحمي الأغبياء، وكونوا حكماء كالحيّات. على مزاجهم أنت ابن الدولة، وعلى مزاجهم أنت ابن الكنيسة. مؤسّساتهم الإعلاميّة تجذب العجزة والمرضى ولا تطلق ثورة. كنائسهم صالونات فسيحة لا هويّة واحدة لها. 
أمّهاتهم وآباؤهم مستقيلون: الفقراء ينجبون ويرمون على طرقات الغربة، والأثرياء ينجبون ويرمون في المدارس. خذوهم عنّا، هي عبارتهم الأثيرة، وردّوهم إلينا حملة شهادات. كان ينقصهم الهواتف الخلويّة، والنوادي الرياضيّة والرحلات السياحيّة ومن يؤمّن لهم الخدمة المنزليّة، كي يكتمل اغترابهم عن أولادهم وأرضهم. لغتهم هجينة، تصرّفاتهم مستوردة، صلواتهم واجب بين الترويقة والغدا... يَصِلون إلى القدّاس متأخّرين، يتأفّفون إن لم يجدوا مقعدًا يعجبهم، يستعجلون الانصراف، وفي خلال كلّ ذلك أولاد يصخبون ويلعبون والحجّة أنّ المسيح قال: دعوا الأطفال يأتون إليّ. عبارة وحيدة يحفظونها من غير فهم ومن خارج السياق. غير ملتزمين بأرض أو هويّة أو وطن، متنكّرون لتاريخهم وتراثهم وأهلهم، متسكّعون بين المتاجر، كانوا يربّون الماعز ويتخلّقون بأخلاقها العنيدة الأبيّة صاروا يربّون الكلاب ويكرّمونها وينظّفون قذارتها. أسنانهم أكثر بياضًا من قلوبهم، سيّاراتهم أكثر حداثة من أفكارهم، ملابسهم أكثر أناقة من أخلاقهم. أولادهم مدمنون، طائرون في سيّارات، مثليّون من باب التجريب والتحدّي والموضة، لا قيمة عندهم لكتاب أو شجرة أو التزام. صناعاتهم وحرفهم إلى زوال، حقولهم دائمًا مطروحة للبيع، زراعاتهم موضة بائدة قديمة، مدارسهم وجامعاتهم تجارة، فنّانوهم الأصيلون مهمّشون، والمزيّفون مغنّون في بلاطات الأثرياء، مفكّروهم منسيّون، أحرارهم مضطهدون، شهداؤهم يموتون كلّ يوم، أحلامهم هجرة، وآمالهم ثروة سريعة، وطموحهم وظيفة في دولة عربيّة غنيّة، أعراسهم ومآتمهم تجارة وثنيّة، يثرثرون أكثر ممّا يقرأون، بيوتهم من زجاج، نساؤهم من سيليكون، أطفالهم من كوكا كولا، رجالهم من تَنْبك.
وما سياسيّوهم سوى انعكاس أصيل لهذا المجتمع الهجين.
وكلّ من يرى غير ذلك متعامٍ عن الحقيقة، ينظر ولا يرى، يسمع ولا يصغي... يعيش على بقايا تاريخ من القداسة والانتصارات، يستعيدها يومًا بعد يوم، وعظة بعد عظة، لعجزه عن إحداث ثورة روحيّة فكريّة ثقافيّة حضاريّة.
والآتي أخطر...

الأحد، 2 فبراير 2020

ترانيم الآلام في الطقس المارونيّ تؤرّخ مسيرة الاضطهاد (2 شباط 2020)



    يسيطر الشجن والأسى على الترانيم والتراتيل المارونيّة السريانيّة، ولا يكفي أن يحتفل المؤمنون بالميلاد أو الفصح أو يصلّون للعذراء كي تخفّ نبرة الشكوى. فلا الترنيمة الميلاديّة "أرسل الله ابنه الوحيد" تصدح بالفرح، ولا طلبة الفصح التي تبدأ بمريم كفّي البكاء تكفي لمحو آلام الجمعة العظيمة، ولا ترنيمة "إليك الورد يا مريم" تبعدنا عن واقع مأساوي بكلمات مثل: على الأبواب أطفال/ لهم في العمر آمال/ يذوب القلب إن قالوا/ جودوا علينا/ فإنّ الجوع يضنينا...
    ومع ظهور قدّيسين جدد كشربل ورفقا والحرديني وغيرهم، نظمت لهم ترانيم وتراتيل، على ألحان تراثيّة معروفة، حزينة الإيقاع، شجيّة النغم، وكلّها تشي بحال الأسى وانتظار الخلاص وطلب المساعدة، كأنّ المسيح لمّا يأتِ بعد، ولبنان لم يكن يومًا ملجأ أمينًا.
    لذلك تبدو هذه الصلوات صوت جماعة متواضعة الثقافة لا فلسفة ولاهوت يعيقان فهمها، تصدر عن حرقة ولوعة لا عن عظمة وانتصار ولا عن مجد يُفترض أنّه للبنان وأعطي لهذه الطائفة.
     وأرى أنّ دراسة هذه الترانيم والتراتيل، بكلماتها وألحانها، وبغض النظر عن تأثيرات مشرقيّة مختلفة، أو لاتينية متنوّعة المصادر، سيوضح كيف أنّها، أي هذه الترانيم والتراتيل، إنّما هي صورة عن الواقع المارونيّ ببعده السياسيّ المأزوم دومًا، والاجتماعيّ المنطلق من بيئات زراعيّة فقيرة. ولافت كيف أن بعض الترانيم المستوردة بألحانها "تمورن" أي صار مارونيًّا، أي حزينًا، بطيء الإيقاع، مقطوع النفس، كأنّ من يؤدّيه عانى الأمرّين.
    وللدلالة على ذلك، ليس كترانيم الآلام المارونيّة العتيقة التراثيّة، بكلماتها البسيطة ولحنها الشجيّ، ما يصلح لوصف الوضع المارونيّ ماضيًا وحاضرًا وأكاد أقول مستقبلًا.
    فحين أسمع "يا شعبي وصحبي" تصل إليّ من خلال كلماتها أصوات جماعة مضطهدة تهرب في وادي قنّوبين من مغارة إلى أخرى. وإذا بحثتُ عن صوت المصلوب فيها فلا أسمعه سوى من خلال حزنه على مصير هؤلاء الناس أكثر من حزنه على مصيره.
    وحين ينطلق الصوت بعبارة "أنا الأم الحزينة"، لا تطالعني صورة مريم عند الصليب، بل لوحات للأمّهات المارونيّات يندبن، جيلًا بعد جيل، أولادهنّ المأخوذين أسرى، الممزّقين بين أحزاب وفئات ومناطق وتيّارات، الباحثين عن بلدان بعيدة عن هذه الأرض تأويهم وتحميهم...
    وحين تنادي الأمّ الحزينة "وا حبيبي"، أسمع أصداء الحزن في أجراس الكنائس، تتردّد في الأودية المهدّدة في كلّ زمن بغاصب أو مجتاح أو محتلّ... أو فاسد يبيعها أو يشوّهها!
    وحين يعلن المرنّمون أنْ "مات المسيح معذّبًا" قبل أن يقولوا "قامت مريم تندب ابنها"، تجيب الجبال بأسى: أما من نهاية لهذا الندب؟ أما من حظيرة آمنة لهذا القطيع التائه؟
    ما أعرفه عن تراتيل الآلام عند غير الموارنة – ولا أدّعي الإحاطة بها – لا تثير الشجن والحزن اللذين تنضح بهما رتبة الآلام عند الموارنة. فهل هو تاريخ هذه الطائفة يضع نقاط الدم فوق حروف المعاناة، أم هي لوعة البسطاء تفيض دمعًا في كلمات تعبّر عن سوء حظّهم بزعمائهم ورعاتهم عبر تاريخهم الطويل؟
    لقد باءت بالفشل محاولات كثيرة قامت بها الكنيسة لتجديد كلمات رتبة الآلام، والتذكير بأنّها آلام خلاصيّة تنتهي بالقيامة. وفي حين استطاعت بعض الترانيم اختراق الموروث، بقيت الذاكرة  الشعبيّة الجماعيّة حريصة على استعادة دربِ صليب مشته الطائفة مرغمة بين معابر الجغرافية ودروب التاريخ، بحثًا عن وطن لا يزال مفقودًا.
    ولكن الترانيم الجديدة كذلك لم تنجُ، لكونها لصيقة بالموسيقى المتوارثة أو مستوحاة منها، من تأثير وجعٍ يعصر القلب، ويتّخذ من موت المسيح مناسبة للتفجّع على الأحوال، وإن بكلمات شعريّة مختارة ومضمون أكثر انسجامًا مع اللاهوت.
    ولكي تكتمل صورة الفجيعة، تزدحم الكنائس بالناس. حتّى أولئك الذين يغيبون عادة عن الاحتفالات الدينيّة، يحضرون للمشاركة في مأتمٍ تَدفن فيه هذه الطائفةُ أملها بالخلاص، وترتدي النساء أثواب الحداد، اعترافًا بموت جماعة يُخشى ألّا تكون بعده قيامة.
    نعم، ثمّة حزن طاغٍ يتعارض مع أبسط شروط الإيمان بقيامة تمّت لحظة الصلب. ولكن متى وضعنا حزن هذه الترانيم في إطار الجماعة المضطَهدة عبر العصور فهمنا سبب هذا الندب والعويل والعتب والتساؤل عن مصير ظالم غير مبرَّر، يبدو فيها المسيح ناطقًا باسم جماعة تدفع ثمن انتمائها إليه.
    وأرجّح أن تبقى هذه الترانيم لصيقة بالوجدان المارونيّ لا من باب المحافظة على التراث، والتراث عرضة للزوال والتشويه، بل لأنّ الواقع يزداد مرارة، ودرب الصليب تطول وتصعب، في حين تسهل دروب الهجرة وتنفتح مشرعةً أبوابُ اليأس.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.