السبت، 16 مايو 2020

ثلاثية الستّين – بين الشلل والكورونا – جزء ثالث وأخير



لا أذكر أنّني أقحمت الله في مسألة شلل الأطفال مذ تفتّح وعيي على واقع الأمر، فلا ألقيت اللوم عليه أو جعلته السبب في ما أصابني، ولا طلبت منه "عجيبة شفاء" على الرغم من الزيارات الكثيرة التي قامت بها العائلة، على شرفي، إلى الكنائس والأديرة ومزارات القدّيسين. وأذكر أنّ إحدى عمّاتي اصطحبتني مرّة إلى منطقة النبعة، حيث قيل إنّ القدّيس شربل جعل التراب يرشح زيتًا، وحين غادرنا المكان سألتني إن كنت صلّيت بحرارة طالبة شفائي، فأومأت برأسي أن نعم فعلت، لكنّي لم أصارحها بأنّني طلبت ألّا يتساقط شعري الأسود الطويل. كنت أحبّ شعري، ولكن كلّما طال قليلًا وصار يستحقّ أن أتباهى به، أجبر على قصّه كي يسهل على والدتي غسله وأنا مسمّرة أكثر الوقت في السرير. وكان شعري في تلك المرحلة من عمري أهمّ من مسألة شفاء رجلي، ولأنّني كنت، وما زلت، أضع علامات استفهام كبيرة حول مسألة الأعاجيب والمعجزات. وحين تبيّن أنّ المكان في النبعة كان معملًا للشمع، ما جعل التراب مشبعًا بالزيوت، قلت: منيح ما صلّيت ع الفاضي.
أكثر الناس اليوم يعتبرون الكورونا غضبًا إلهيًّا، حتّى في الصلاة التي تصل أصداؤها إليّ من غرفة الجلوس، أسمع: إرحم يا رب إرحم شعبك ولا تسخط علينا إلى الأبد... فأسأل نفسي ما الفرق بين إيمان أمّي البسيط والعفويّ وإيمان البطريرك المارونيّ الذي يرأس الصلاة كلّ ليلة من أجل الخلاص من الوباء، ولماذا لا يزال الله ساخطًا مع أنّنا صرنا في "العهد الجديد"؟
قد يتساءل البعض عن هذه الأهميّة التي أعطيها لشلل الأطفال وقد مضت على إصابتي به ستّة عقود، وفي العالم أمراض وأوبئة وإعاقات لا تُعدّ ولا تُحصى. محقّون في تساؤلهم، لكنّ شلل الأطفال نفسه، وفي لبنان تحديدًا، لا ذكر له في أدبياتنا ومراجعنا الطبيّة. ولعلّ قصّة "الصبيّ الأعرج" لتوفيق يوسف عوّاد، الوحيدة التي تشير إلى هذه الإعاقة، في معالجة أراها تجنح إلى الكثير من العنف والقسوة إن نحو الأعرج أو في تصرّفاته. ويوم نشرت في جريدة النهار نصًّا بعنوان "عرجاء... ولكن" (العنوان مستوحى من الفيلم المصريّ "عذراء ولكن")، استغرب الأصدقاء تطرّقي إلى المسألة، ولم يفهموا أسباب رغبتي في ردّ الاعتبار إلى العَرج الذي لا يحلو لمعلّم قواعد اللغة إلّا أن يعطيه مثلًا حين يشرح درس أفعل التفضيل، وكيف يصاغ، فيضعه في خانة العيب حين يقول أعرج/ عرجاء... فيلتفت إليّ بعض التلامذة!
وعند البحث عن هذا الوباء وضحاياه عبر شبكة الإنترنت لا نجد ما يستحقّ الذكر عن تلك المرحلة، لكن هناك إشارة إلى طابع بريديّ صدر عام 2017 في مناسبة خلو لبنان من الشلل للعام الرابع عشر على التوالي، ما يعني أنّ الشلل بقي إلى عهد قريب ينال من الأطفال. فلماذا حُيّد عن الرواية والشعر والتأريخ؟ ففي مقالة للشاعر والناقد عبده وازن في الأندبنت العربيّة، تحمل عنوان "الأوبئة تجتاح الرواية"، نجد الطاعون والكوليرا والعمى والإيدز وكورونا، ولا نجد شيئًا عن الشلل.
عهدذاك، لم تكن وسائل الإعلام والتواصل متاحة كما اليوم ولم يكن ثمّ وقت للحديث عن الأمراض، ولم تكن تسمية "ذوو الاحتياجات الخاصّة" قد استحدثت، وكان العَرج علامة فارقة، لكنّي كنت صاحبة وجه جميل وذكاء لا بأس به، ما علّمني كيف أجعل موضوعًا كانتعال حذاء أنيق ذي كعب عالٍ أمرًا غير ذي أهميّة في لوحة المرأة التي رسمتها بنفسي لنفسي، ولوّنتها بتجاربي مع الناس.
هذه المرأة هي التي تكتب الآن الجزء الأخير من ثلاثيّة الستّين، وتودّع جزءًا بسيطًا من قصصها الشخصيّة مع شلل الأطفال لتنظر بأسى إلى عالم مشلول عاجز عن إيجاد علاج للسرطان والعمى والشلل والصَّمم والبكم والباركنسون والإلزهايمر والفشل الكلويّ والتصلّب اللويحيّ والإيدز والسارس والكورونا والأمراض النفسيّة والعقليّة والتشوّهات الخلقيّة... عالَم عاجز عن الحبّ: أساء إلى الطبيعة، وقتَل الحيوانات لمجرّد الهواية والمتعة، ولوّث الماء والهواء والتراب...
هذه المرأة هي التي تكتب الليلة، بالنيابة عن جميع المتألّمين الموجوعين والوحيدين المتروكين والمخطوفين المعذَّبين، تحتفل بعيدها الستّين برفقة الكلمات التي ما خذلتها يومًا، وتقول كما في كلّ سنة: لا يعنيني يا سنة جديدة ماذا ستحملين لي، بل أخبرك ماذا أحمل لك أنا: سأكون أكثر جنونًا وعنادًا وثورة وشغفًا ممّا كنت عليه/ سأكون أكثر تطلّبًا في العشق، وأكثر رفضًا للظلم والغباء والجبن، وأكثر إصرارًا على إحداث فرق/ سأكتب أكثر وأضحك أكثر وأبكي أكثر لأنّني في كلّ ما أفعل لن أكون إلّا أنا / كوني كما تريدين أن تكوني يا سنة جديدة / وأنا سأكون كما أريد أن أكون، مالكة كلماتي، رافضة ما لا ينصاع له فكري، متمسّكة بحريّتي في أن أقول نعم أو لا، وحيدة وحيدة وحيدة كالشمس والقمر ونجمة الصبح!
هذه المرأة هي التي تكتب الليلة: تستحضر وجوه الرجال الذين عبروا ويعبرون، تبتسم لهم في حنان، تشكرهم على قصص الحبّ التي أوحوا ويوحون لها بها، تعذر مخاوفهم الموروثة، وتعتذر عن جنونها حين تُقدِم، وعن جرأتها حين لا تلتفت إلى الوراء، وعن غضبها حين تصبّه عليهم حممًا لأنّهم لا يشبهون صاحب القميص الأزرق، ولا يشبهون الكلمة، ولا يشبهون الكتابة، ولا يشبهون الأشجار وعشب الحقل...
هذه المرأة التي يظنّ كثر أنّهم يعرفونها - وهم مخطئون- هي التي تكتب...
هذه المرأة التي اعتقد كثيرون أنّهم خدعوها - وهم مخطئون - هي التي تكتب...
هذه المرأة التي تحبّ أن تُخضع الناس لاختبارات صعبة تعرف أنّهم لن ينجحوا فيها هي التي تكتب الآن، 
هذه المرأة التي تتنفّس برئة هي الكتابة والصمت ورئة هي الحبّ هي التي تكتب الآن لتشكر الحياة والألم ورِجلها المشلولة العنيدة، ورِجلها السليمة التي تحمّلت معها الكثير، ثمّ تجلس لتراقب وطنها وهو يتعثّر في مشيته، وتشاهد العالم وهو يحاول أن يقف على رجلين اثنتين سليمتين... 

الجمعة، 15 مايو 2020

ثلاثية الستّين – بين الشلل وكورونا– جزء 2



ارتبط وباء الشلل بالأطفال، أمّا الكورونا فهدفه المتقدّمون في العمر. لذلك بدا لي الأمر مزحة سمجة تلقيها الطبيعة على مسمعي وهي تحذّرني: نجوتِ من الموت طفلة، فانتبهي كي لا يقضي عليك هذا الوباء، فأنت لم تعودي صغيرة.
في الواقع لم تعن لي شيئًا مسألة العمر التي عالجتها بأسلوبي الخاصّ: فالشلل حرمني من عشرين سنة، كنت فيها أسيرة البيت أو المستشفى، وهذه ليست مسؤوليّتي، فأنا الآن إذًا في الأربعين من العمر!!! قد يبدو الأمر لبعضكم طرفة مضحكة، لكن حياتي بدأت فعلًا في العشرين، حين تحرّرت من انتظار مواعيد الأطباء والعمليّات الجراحيّة والمشي بأقل نسبة من العَرج. لكنّ التحرّر الأهمّ – كما أقنعت نفسي في تلك المرحلة – هو التحرّر من الألم. فأنا قد نلت حصّتي منه وليس من العدل في شيء أن أتعرّض لألم آخر ولو بسيطًا.
أعرف الآن، وبالتأكيد عرفت دومًا، أنّ الأمر لن يكون بمثل هذه البساطة... ولكن هذا موضوع آخر، فلنبق في مسألة العمر الذي صودف أنّ شكلي لا يفضحه، فكنت أبدو دائمًا أصغر سنًّا ممّا أنا عليه.
ففي الأعوام التي أمضيتها في السرير، كان الوقت طويلًا بطبيعة الحال، وعهدذاك كان الترفيه الوحيد، بالنسبة إليّ هو المطالعة وتلفزيون لبنان (تابعت عبره في العاشرة من  عمري تفاصيل مأتم جمال عبد الناصر)، وإذاعتا لبنان ومونت كارلو... فضلًا عن استقبال الضيوف العُوّاد وكلّهم من عمر والديّ. في بداية الإصابة وكان عمري سنة وثلاثة أشهر أبعد الأهل أطفالهم عنّي خشية العدوى، ثمّ صار أترابي يبتعدون شيئًا فشيئًا كي يلعبوا أو يذهبوا إلى المدرسة. ما يعني أنّ مجتمعي صار محصورًا بمن هم أكبر منّي، إن عبر التلفزيون والراديو (برامج الأطفال لم تستهوني يومًا)، أو عبر الضيوف. حتّى الكتب التي قرأتها كانت ممّا يتوفّر في مكتبة خالي ميلاد حين أقيم عند بيت جدّي في عاليه، خصوصًا في الصيف. وهي طبعًا ليست كتبًا للأولاد.
نستنتج إذًا أنّني عشت طيلة عشرين سنة متألّمة وأسيرة وأقرأ كتبًا للكبار، فضلًا عن أنّني كبيرة إخوتي، ما تطلّب منّي ولو عن غير قصد من الأهل أن أكون مسؤولة وقدوة، ما جعلني أكره المثل الذي كانت تردّده أمّي: الوِعي الكبير بيساع الزغير. فكتبت لاحقًا: الوعاء الكبير، فارغًا فقط، يتّسع للوعاء الصغير...
وأنا كنت ممتلئة ببياض المستشفيات، ورائحة المعقّمات، وأنين المرضى، وصار من الملحّ أن أكتشف الألوان... لكن الحرب التي كانت بالمرصاد وتدخّلت في مسيرة حياتي وأنا في الخامسة عشرة، نقلتني إلى رماد الدخان وأحمر الدم وسواد الحِداد، فكيف أبدأ حياتي من جديد وآخر عمليّة جراحيّة خضعت لها جعلتني على تماس مع الجنون، ما جعلني أكتب لاحقًا:
"أذكر في كثير من الأسى تلك الشابّة التي وضعوها في غرفتي في المستشفى لأنّها كانت مصابة بنزيف. كنت صغيرة وخاضعة لعمليّة جراحيّة في رجلي تمنعني عن الحركة. وفي أوائل الليل، انفجرت أصوات القصف في مكان ما من بيروت، فتوتّرت أعصاب المريضة وخرجت عن إطار السيطرة. علمت فيما بعد أنّ المرأة كانت في مركز للأمراض العقليّة، وأتوا بها إلى هذه المستشفى لعلاج نزيفها. ولم يكن من المسموح أن يضعوها مع أحد
     في ذلك الوقت كانت الحرب تسمح بمخالفات كثيرة فهل سيهتمّ أحد بمجنونة موضوعة في غرفة واحدة مع طفلة
     أذكر المشهد كما لو أن الأمر حدث اليوم: كيف كانت تحضن المخدّة على اعتبار أنّها ابن أخيها الذي كانت تحبّه على ما يبدو بشكل مميّز، وتغنّي للمخدّة، وتقفز بها من زاوية إلى زاوية هربًا من قصف موجود في تلك اللحظة في رأسها فقط، إلى أن اختبأت تحت السرير وهي تصرخ.
     ثمّ أخذت تقترب منّي لتخبّئني تحت الغطاء كي لا يطالني القصف
     لم تنفع محاولات الأطباء والممرضات في تهدئتها رغم الأدوية التي أعطيت لها والحقن. ولما لم يكن هناك مجال لوضعها في غرفة أخرى بقي طبيب وممرّضة طيلة الليل حاجزين بيني وبينها.
     لا أذكر أنّني كنت خائفة منها، بقدر ما كنت أراقب ما يجري وأحاول أن أفهم. كان الدم النازف منها يملأ المكان ويلوّث ملابسها وفراشها وغطاءها ولم يكن من مجال لترتيب وضعها وتصحيحه قبل أن تهدأ. وكانت عيناي المفتوحتان ترصدان كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ نقطة دم. وساعدني الضوء الذي أبقوه مشتعلاً على تثبيت نظري عليها وملاحقتها في رقصة رعبها الطويلة والمرهقة.
     في ساعات الفجر الأولى، غرقت المرأة النازفة في نوم عميق بعدما أعطى خليط الأدوية مفعوله أو بعدما تعبت. لا أدري. ولكن حين تمّ نقلها على سرير متحرّك إلى سيّارة إسعاف لإعادتها إلى المصحّ العقليّ كانت المرأة لا تزال نائمة. أهلها الذين أتوا لمرافقتها اعتذروا من أهلي عن ليلتي الصعبة كما وصفوها. وقالوا إنّ الحرب هي التي فعلت ذلك بها، وأنّها فعلًا متعلّقة بابن أخيها الطفل وتخاف عليه.
     أعتقد أنّ ارتباط الجنون بالحرب وثيق، فالجنون يولّد الحرب والحرب تنتج الجنون. حلقة مفرغة يدور فيها الإنسان. ولهذا سيبقى العقل البشريّ بالنسبة إليّ أمام علامات استفهام وعلامات تعجّب لا نهاية لها".
حين أستعيد كلّ ذلك وأنا أكتبه، أتأكّد أنّ مشكلتي لم تكن في رِجلي، بل في ذاكرتي التي تحتفظ بالصور والروائح، في مراقبتي ما يجري وحفظ ما يُقال، في رغبتي الجارفة في معرفة الأسباب وتحليل النتائج... هل كنت سأكون هكذا لولا الشلل؟ لا أعرف. لكنّي أعرف أنّ الشلل أعطاني الكثير من الوقت للتأمّل والتفكير والقراءة... ثمّ الكتابة التي جعلتها حيلتي وحبل خلاصي من الأسر. فحين كتبت روايتي الأولى وأنا في الرابعة عشرة من عمري، بل اشترطت على شقيقتيّ وقريباتي (الصبيان لن يتركوا اللعب من أجل رواية حبّ) أن يأتين لأقرأها لهنّ... وهذا ما حصل. فهل الشلل هو ما جعلني أكتب لجذب شِلل الأولاد، وهل كنت لولاه سأكتب... لا أعرف، لكن، لولاه لكنت أردت أن أكون ممثّلة مسرح...
ليت العالمَ مسرح كبير جميل، هو حلبة صراع بلا قوانين أو ضوابط، هكذا كان وهكذا سيبقى... وكلّ ما فعله فيروس كورونا أنّه فضح الأمر أمام من كان يتجاهله!
(يتبع جزء ثالث وأخير)


الأربعاء، 13 مايو 2020

ثلاثية الستّين – بين الشلل والكورونا – جزء 1

أنا عند بيت جدّي في عاليه، بعد خمسة أشهر في السرير / كما أشير بيدي (تبقّى لي بعدها ثلاثة عشر شهرًا)
  وذلك بعد العمليّة الجراحيّة الأولى وكنت في العاشرة من عمري
أضع خاتمًا ذهبيًّا أهدانيه جدّي لأنّني درست في البيت 

ونجحت في السرتفيكا
وقد حملني المرحوم خالي ميلاد إلى مركز الامتحانات
وكافأني بعدها بمشاهدة فيلم هنديّ في بيروت 

أن أبدأ مشوار حياتي مع شلل الأطفال، وأن أحتفل بعيد ميلادي الستّين مع الكورونا أمر لا فرادة فيه. ففي نهاية خمسينيّات القرن العشرين وبدايات الستينيّات كان وباء شلل الأطفال يصيب ملايين الناس تاركًا خلفه الموتى والمعوّقين المشلولين، واليوم، وبعد ستّين عامًا، ينتشر وباء الكورونا في كافّة بقاع الأرض شالًا الحركة في العالم كلّه.
ولكن أن يكون المرء ذا حساسيّة مفرطة تجاه الألم والمرض والموت، فهذا ما يجعل الأمر مميّزًا، ويضعني في خانة لا أُحسد عليها، بل يجب على الأرجح أن يُرثى لحالي.
لقد تمنّيت دومًا لو أنّني نظرت إلى واقع إصابتي بالشلل على أنّها أمر خاصّ وشخصيّ، أكتب عنه مرّة واحدة أفرغ فيها مكنونات الصدر وأرتاح. لكنّي عجزت عن تحقيق ذلك، لا بل أجرؤ على القول إنّني تخطّيت موضوع الشلل والمشية العرجاء منذ البداية، لكنّي بقيت أسيرة الأسئلة التي يطرحها المرض بشقّيه الجسديّ والنفسيّ، وصولًا إلى الموت. وما زلت أذكر كيف أنّني مذ وعيت طبيعة حالتي كتمت مرارًا صوت ألمي لأصغي إلى أنين المرضى وصراخهم. وها أنا وقد تقدّم بي العمر ما زلت أحفظ، في وضوح تام، تفاصيل الإقامة في المستشفى، ويوميّات الحياة فيها، ولكن من خلال المرضى والطاقم الطبيّ والزائرين، ما شكّل مادة دسمة لعدد من القصص القصيرة والمقالات التي نشرتها.
واليوم، مع انتشار وباء جديد، شبّهه بعض العلماء بشلل الأطفال بل اقترحوا أن يكون لقاح الشلل علاجًا له، عادت التساؤلات التي ظننتني شفيت منها لتفرض نفسها عليّ. كيف لا والحجر الصحيّ يعيق ما اعتبرناه حياة طبيعيّة، والوضع الاقتصاديّ يهدّد أبسط مقوّمات الحياة؟
بين الوباءين، شكّل السرطان حالة خبيثة لم توفّر صغيرًا أو كبيرًا، وحصدت أمراض أخرى غريبة عجيبة أرواح كثيرين، وكذلك حوادث السير، والحروب، وأمام هذه كلّها كنت أراقب وأحفظ وأنا أتمنّى لو أنّني لا أراقب ولا أحفظ.
ستّون عامًا من انتظار الأجوبة إذًا، والنتيجة وباء جديد تنقسم الآراء حول نشأته وطبيعته ووسائل علاجه، بل يشكّ كثر في حقيقة وجوده ويضعونه في خانة المؤامرات العالميّة.
ستّون عامًا من انتظار الشفاء من الأسئلة، والجواب الوحيد والأكيد سؤال جديد.
ستّون عامًا من الانتظار: انتظار الخروج من المستشفيات، انتظار العمل والانطلاق في الحياة، انتظار نهاية الحرب وتحرير القدس، وقف إطلاق النار، فتح المعابر، الكهرباء، قيام الدولة، عودة المغتربين،... والنتيجة ثورة لا تعرف ماذا تريد.
ستّون عامًا من الانتظار: انتظار الحبّ، انتظار رجل على قياس القميص الأزرق، لا يضجر من أسئلتي، ولا يستقوي على رِجلي ويخاف من رأسي...
***
الرئة الاصطناعيّة 
منحوتة تمثّل مصابًا بشلل الأطفال في العصر الفرعونيّ
1403–1365 قبل الميلاد
خطر لي منذ بدء الحديث عن كورونا، ومن دون أيّ متّكأ علميّ طبيّ أنّه يشبه شلل الأطفال الذي كنت أعرف الكثير عن نشأته (منحوتات فرعونيّة تشير إليه) وتاريخه وانتشاره ولقاحه. ولكنّ أمورًا محدّدة جعلتني أربط بينهما كآلة التنّفس المرعبة التي يوضع فيها المصاب بشلل يعيق رئتيه عن العمل (عاد الحديث عنها)، أن يحمله أحد ولا يصاب به بل لا يعلم أنّه أصيب به، وكيفية انتقاله. لاحظوا كيف تصفه منظمّة الصحّة العالميّة عبر موقعها: "شلل الأطفال مرض فيروسيّ شديد العدوى يغزو الجهاز العصبيّ وهو كفيل بإحداث الشلل التامّ في غضون ساعات من الزمن. ويدخل الفيروس جسم الإنسان عبر الفم ويتكاثر في الأمعاء. وتتمثّل أعراض المرض الأوّلية في الحمى والتعب والصداع والتقيّؤ وتصلّب الرقبة والشعور بألم في الأطراف. وتؤدي حالة واحدة من أصل 200 حالة عدوى بالمرض إلى شلل عضال (يصيب الساقين عادة). ويلاقي ما يتراوح بين 5% و10% من المصابين بالشلل حتفهم بسبب توقّف عضلاتهم التنفسيّة عن أداء وظائفها". (الوفاة لا تكون إذًا إلّا عند تعطّل عمل الرئتين).
أمّا طرق انتقال الشلل بالعدوى فتتمّ بملامسة مُخاط أو بلغم الشخص المُصاب بشلل الأطفال، أو ملامسة البراز للشخص المصاب، أو الاتّصال المُباشر مع المُصاب بشلل الأطفال، وفيما يتعلّق بفترة الحضانة فهي تتراوح هذه الفترة بين 5-35 يوم، ويُشار إلى إمكانيّة نقل الشخص العدوى للآخرين بشكلٍ فوري قبل ظهور الأعراض، وحتّى أسبوعين بعد ظهورها.
فضلًا عن كلّ ذلك، استعدت أحاديث سمعتها عن انتشار شلل الأطفال في لبنان مثلًا:
غياب الدولة عن الاهتمام وتأمين اللقاحات (اضطرّت عائلتي لتوسيط إحدى المسؤولات في وزارة الصحّة لتأمين اللقاح لشقيقتي المولودة حديثًا)، وعدم اقتناع الأطباء بجدوى اللقاحات ورفضهم إعطاءها ما تسبّب بحالات شلل كثيرة، وغياب التوعية، طبعًا عهدذاك كانت وسائل التوجيه محصورة بتلفزيون لبنان والإذاعة الرسميّة والصحف، وهذه كلّها كانت غير متاحة للجميع خصوصًا في الأرياف والجبال وعند الطبقة المتوسّطة وما دون.
واليوم، مع الحجر الصحيّ المفروض في العالم كلّه، يتخوّف مسؤولون في منظّمات صحيّة من عودة شلل الأطفال إذا صرّح ميشال زافران من منظمة الصحة العالمية الذي يرأس المبادرة العالمية للقضاء على شلل الأطفال "لقد دمرتنا حقيقة أننا يجب أن نوقف نشاطاتنا التي نقوم بها من أجل القضاء على مرض عملنا بجد للتخلص منه".
وأضاف أن المنظمة "لم تضطر" إلى وقف البرنامج بهذه الطريقة من قبل. وما زالت هناك دولتان فقط حيث يستمر فيروس شلل الأطفال الموجود في الطبيعة بالانتشار هما باكستان وأفغانستان، لكن السلالة المتحوّرة من اللقاح نفسه تسبّبت أيضًا في تفشي المرض في العديد من دول إفريقيا."
وما بين أن يكون لقاح الشلل علاجًا للكورونا، أو أن ينتشر الشلل بسبب كورونا، يبدو العالم كلّه مشلولًا عاجزًا عن إنقاذ نفسه. أمّا أنا فأنظر إلى الطفلة والمراهقة اللتين كنتهما وقد خضعتا لعمليّات جراحيّة رائدة في ذلك الوقت، وأفكّر في أنّني عشت في حرب طويلة مريرة، وبين وباءين، وتقدّمت في العمر والخيبة، ومع ذلك ما زلت أؤمن بالحبّ... فأبتسم ولا أعرف لماذا...
بعد الخضوع للعملية الجراحيّة الثانية
رجلي اليمنى في الجبس (الجفصين)
(يتبع جزء ثان)

السبت، 2 مايو 2020

الموت في زمن الكورونا (عن رحيل بطرس بو نادر)




مات اليوم بو عبدو، عمّو بطرس بو نادر، إشبين والدي ورفيق عمره، وعرّابنا نحن الأولاد الخمسة. مات في تسعينات عمره، كما يفترض بالإنسان أن يموت. مات بعد صراع طويل مع المرض وصعوبات الحياة وآلام الفقد، كما هي حال أكثر الناس في هذا العصر، مات وحيدًا في غرفة العناية الفائقة كما يجري عادة حين تتدهور حال المريض.
لكنّ الرجل الطيّب، ذوّاقة الزجل ونبع الحكايات، لم يكن وحيدًا كما تظنّون. فمن سلمت له ذاكرته كما أتيح له لا يموت وحيدًا، ومن لم يتأخّر عن واجب عزاء أو عيادة مريض، لا يموت غريبًا بين الغرباء، ومن يهرع عارضًا خدماته حين تلمّ بأحدهم مصيبة لا يمكن أن يبقى بمفرده ولو حوصر الناس في بيوتهم.
وغدًا، في مأتمه، لن يستطيع من سلّفهم محبّة وسؤالًا وزيارة أن يردّوا له الدَّين ويشاركوا في وداعه، لكنّهم سيقولون دائمًا حين يتذكّرونه: مات ودفن في زمن الكورونا، حين كنّا نموت مئة مرّة في اليوم.
لكنّ عمّو بطرس الذي مات في اليوم الأوّل من الشهر المريميّ عرف قيمة الحياة، واختبر حلوها ومرّها (يكفيه فقدُ حفيدين صغيرين في حادث سير مروّع وقع منذ أعوام). لكنّه تعلّم كيف يقاوم اليأس (لا الحزن) وكيف يتحدّى المرض ولو بربع رئة، وربع أمعاء، وربع نَظر، لكأنّ الربع الرابع منه وقد جُبل بالإيمان هو الذي أنقذه، أضف إليه حكايات قديمة عن صيد السمك سكّنت أوجاع روحه، وقصائد زجل يحفظها مغربلًا السخيف منها والسطحيّ، محتفظًا بالقيّم الدسم.
مات جسده مرارًا وتكرارًا، عمّو بطرس، مات مع موت شقيقيه، وابن شقيقه شهيدًا في الحرب، وزوجته، وحفيديه، لكنّ تفصيلًا واحدًا من تفاصيل العمر لم يغب عن باله، فما أخطأ في تذكّر اسم، أو تردّد في استرجاع بيت شعر، أو تلعثم عند سرد حكاية. وكنت أسأل نفسي وأنا أصغي إليه إن كانت الذاكرة تؤلم صاحبها إن احتفظ فيها بكلّ مجريات حياة ناهزت التسعين. ولماذا لا يستسلم هذا الرجل ويسأم كما فعل صاحبنا زهير بن أبي سلمى؟
أعتقد أنّ عمّو بطرس قاوم النسيان والموت من أجل وحيده عبدو ومن أجل ابنتيه نجلا ونهلا وأولادهما. صحيح أنّه كان يستمدّ منهم القوّة والعزيمة، وكان وجودهم سنده وعكّازه بعدما صاروا هم أولياء أمره، لكنّه في الوقت نفسه كان يشعر، على الرغم من أمراضه وشيخوخته، أنّه لا يزال مسؤولًا عنهم، ويخشى أن يتركهم بعدما تركتهم أمّهم باكرًا.
لكن ليس ذلك فقط ما أردت قوله عن رحيل عرّابي، أردت الكتابة عن حزن والديّ على إشبينهما، عن غضبهما علينا لأنّنا نحن أولادهما نمنعهما عن المشاركة في مأتمه: والدي يخبّئ دمعة ويصمت، والدتي تقول: كان يحمل قنينة الأوكسجين ويأتي لزيارتنا، إنّه إشبيننا! ولكن كيف نقنع زوجين عجوزين مريضين بأنّ جائحة الكورونا غيّرت نمط حياتنا ونسفت تقاليدنا الاجتماعيّة من أساسها، وحرّمت علينا الفرح والحزن، ولم تترك لنا سوى الخوف من الموتى والأحياء على حدّ سواء.
حزن والديّ العجوزين، وهما يطفئان التلفزيون بعد نشرة الأخبار، ثمّ ينزويان في غرفتهما، يختزل حزن العالم كلّه، لا لأنّهما يبكيان رجلًا تسعينيًّا في زمن صار فيه الموت مشهدًا يوميًّا أبطاله كبار وصغار، بل لأنّهما يحصيان في صمتهما الراحلين من الأهل والأصحاب والجيران، ويسترجعان زمنًا كان فيه للموت قيمة، ويخافان: يخافان علينا، على نفسيهما، على البلد، على الحياة وقد صار الجميع يستعجل إتمام مراسم الدفن استعدادًا لرحيل آخر. هو خوف من نوع آخر لم يعرفاه قبل اليوم، ولم يخبرهما عنه أحد، إذ لم يسمعا قبل اليوم عن عجائز تؤخذ منهم آلات الأوكسجين لتعطى لمن هم أصغر سنًّا. خوف مشروع لا علاقة له بالعمر أو الخبرة أو تراكم التجارب لأنّه خوف على مصير الناس كلّهم، وقد ارتبط بمأتم رجل لم يره أحد إلّا مبتسمًا وحنونًا، ومع ذلك مات في زمن الكورونا (لا بسببها)، فلماذا عليه أن يدفع الثمن فيدفن بصمت وكأنّه قد ارتكب ذنبًا؟
عمّو بطرس، إشبين والدي وعديله (كما كنت تحبّ أن تناديه) وعرّابي: لقد أحببتَ كثيرًا فادخل إلى فرح سيّدك القائم من الموت، ولا تتوقّف عند تفصيل صغير اسمه مأتم... فالمسيح قبلك دفن على عجل قبل أن يبدأ يوم السبت، ولا تخف على والديّ من حزنهما، لقد تركت عندنا إرثًا من الفرح، وثروة من الحكايات، وتاريخًا من الذكريات، بها نقاوم الوباء والحَجْر والفراق، ولا تخف على أولادك وأحفادك، إذ يكفيهم فخرًا أنّك لوّنت أيامهم بالأمل، ورويت أمسياتهم بالشعر فلم يعرفوا الملل، وزرعت فيهم الوفاء فوزّعوه خيرًا ومحبّة.
#ماري_القصّيفي






مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.