أكتب في كبريات الصحف منذ أكثر من خمس عشرة سنة ولم أقبض قرشًا واحدًا فاكتشفت أنّ الزاوية في الشارع للتسوّل تؤمّن ربحًا صافيًا يعطيك الأمان أكثر من أيّ شهرة تحقّقها الزاوية الأسبوعيّة في الصحيفة.
ونشرت كتابًا لم أستفد منه بقرش مع أنّ الآراء أجمعت على الإشادة به والتنويه بأفكاره ولغته. فاكتشفت أن العمل في المنزل ونشر الغسيل على السطوح تحت أشعة الشمس الساطعة أكثر صحّة من كتابة تعمي النظر وتحني الظهر.
وعملت في المجال التربويّ لأكثر من عشرين عامًا، فلا الذين علّمتهم اعترفوا لي بالفضل ولا المؤسسات التربويّة احتملت أن أصاب بالمرض.
ولذلك أنا أبحث عن عمل يؤمّن لي دخلاً كافيًا.
وبما أنّي لا أجيد سوى الكتابة والقراءة، ولا أملك مواهب فنيّة ولا أجيد العلاقات الخاصّة وفاشلة تمامًا في العلاقات العامّة، فليس أمامي سوى العمل في المجالات التالية:
أنا مستعدّة لإعطاء دروس خصوصيّة لأولاد الأثرياء الذين لا وقت عند أهلهم لمتابعة دروسهم لأنّهم يعلمون أنّ أولادهم سينجحون في الحياة مهما كان مستواهم المدرسيّ. فقد تعبت من تعليم أولاد الفقراء مجّانًا بعد الدوام المدرسيّ لمساعدتهم على النجاح ثم يختفون بعد ذلك ولا أعود أعرف عنهم شيئًا.
وأنا مستعدّة لكتابة التقارير والخطب لمن يرغب من السياسيين والأمراء والزعماء لأنني قرّرت أن أمارس الكذب والخداع وإعطاء الوعود وإثارة العواطف والتصفيق. وبما أن هؤلاء المسؤولين لا يحسنون تأليف جملة مفيدة فأنا أعرض عليهم لغتي ومعلوماتي في مقابل المال.
وأنا مستعدّة للعمل في مجلاّت الفضائح الاجتماعيّة والأخبار الفنيّة والحفلات ذات الوجوه المتشابهة. فأنا أملك مخيّلة خصبة وأجيد نسج الحكايات وأحسن تأليف القصص والمبالغة في الوصف وأبرع في التعليق على الصور. وبما أنّ هذه المجلاّت "قابرة الفقر" فلماذا لا أعمل فيها مقابل راتب محترم؟
وأنا مستعدّة لتأليف الأغنيات للمغنّين والمغنيات، فما دام المطلوب هو "صفّ الكلام" وتكرار المعاني والصور والتركيز على روي يتكرّر كي يظنّ الناس أنّ هذا الذي يقال شعر، وبما أنّني سمعت أنّ ثمن هذه الكلمات المصفوفة باهظ عند من تقف وراءه شركة إنتاج ثريّة، ولا يقدّر بثمن عند من يقف وراءها ثري منتج، وبما أنّ ما كتبته قدّر بالكلام ولم يؤمّن تكاليف الحبر الذي به كتب، فكّرت في تأليف الأغنيات السخيفة وتحصيل المال لدفع تكاليف التأمين والاستشفاء.
وأنا مستعدّة للعمل في شركات الإعلانات. فقد سمعت أن بعض الشركات يدفع مبالغ كبيرة في مقابل جملة أو كلمة فيها إيقاع و"لعب على الكلام"، وبما أنّي ألعب بالكلمات منذ طفولتي فلماذا لا أجرّب حظّي وأعمل في إحدى هذه الشركات التي غالبًا ما يسرق العاملون فيها الأفكار من الخارج و"يعرّبونها".
وأنا مستعدّة للعمل مع المؤسسات التي تحضّر الأعراس في تأليف بطاقات الزفاف ومع مؤسسات دفن الموتى في صياغة أخبار النعي وكلّ ذلك بأساليب جديدة وتعابير مبتكرة تثير الفرح أو البكاء لا فرق. المهمّ أن أقبض ثمن كلماتي.
وأنا مستعدّة للعمل مع أيّ حزب يدفع لي مالاً لا بل مستعدّة للإيمان بمبادئه والمناداة بها. ولذلك أعرض على من يهمّه الأمر أن أؤلّف للحزب نشيدًا يهزّ المشاعر، وأنظم له أغنيات تثير العواطف وتضاعف عدد المناصرين وأكتب له شعارات على الحيطان تجذب اللامبالين وتثير غيرة الأحزاب الأخرى. ولكل أمر من ذلك ثمن.
غير أنّي الآن أنظر إلى موضوع العمل من زاوية أخرى. فلماذا هذا الإصرار على التعامل بالكلمات؟ ألم تكف التجارب السابقة؟ لماذا لا أعمل في مجالات أخرى تؤمّن لي دخلاً ثابتًا ولو متواضعًا؟ لماذا لا آخذ خطوات جريئة تعفيني من التفكير والتحليل والتأليف والقراءة والكتابة؟
لماذا لا أعمل مثلاً في غسل الصحون في المطاعم التي لا تعدّ ولا تحصى. إنّه عمل يؤمّن لي الانعزال الذي أفضّله على التعامل مع الناس، ويبعدني عن الحاجة ولا يسمح لي ببناء قصور من الرمال على شواطئ الأحلام والرغبات؟
ولماذا لا أعمل بائعة في دكّان صغير، محدود الزبائن، محدود الطموح، لا مجال فيه إلا لرؤية الشارع من خلف زجاج يسمح لي بمراقبة الناس والسيّارات وتأليف القصص عنهم. لا، لا يعني ذلك أنّي سأعود إلى الكتابة لتسجيل تلك القصص بل سأحتفظ بها لنفسي وأتسلّى.
ولماذا لا أعمل في كنس الشوارع مع العمّال الآسيويين والأفارقة؟ فأنا أهوى المشي على الطرقات، والتعرّض للشمس والمطر بلا خوف على تسريحة الشعر أو الملابس السريعة العطب. وبما أن أحدًا لا ينظر إلى وجه كانس الشارع، بل يحفظ الناس لون بزّته الخضراء ومكنسته ولا يعنيهم من يكون، فأنا أريد الآن أن أعبر على الطرقات بلا انتظار ولا انتظام.
ولماذا لا أعمل مع قاطفي المواسم وزارعي الأرض ورعاة المواشي؟ فأنا أحبّ الشجر والمطر والبراعم ورائحة التراب، وأحبّ أن أعيش على إيقاع الفصول وأن أتغيّر مع تغيّرات الطقس وأن أبرد في مواسم البرد وأن أتصبّب عرقًا في مواسم الحرّ وأن أنام مع حلول الليل وأن أصحو مع طلوع الضوء، وأن أكتفي بما يُشبع وبما يستر. وما دمت لا أحصل الآن، وبعد آلاف وآلاف من ساعات العمل والتقيّد بالأنظمة والقوانين والمواعيد، إلاّ على ما يشبع وما يستر والباقي يدفع لتسديد فواتير لم تؤمّن لي الأمان ولا الرفاهيّة، فلماذا لا أترك كلّ شيء وأتبع هذا النداء؟
يقولون لي: "أنت تعملين اسمًا" وتحقّقين شهرة حين تكتبين وتنشرين كتاباتك. فأردّ: لا الاسم ولا الشهرة دفعا فواتير المستشفى حين مرضت.
يقولون لي: تحقّقين متعة ذاتيّة، وتعبّرين عن آرائك. فأجيب لا متعتي حمتني من خيبة الأمل ولا آرائي غيّرت وجه التاريخ.
يقولون لي: تحسدين الفقراء والمعوزين والمتعبين من الأعمال الشاقة. فأقول: بل أحسد من لا ينتظر كلمة شكر لأنّه صار يملك من الحكمة ما يجعله يكتفي بأداء عمله دون زيادة أو نقصان ثم يقبض أجره وينصرف إلى بيته، وأحسد من لم يُطعن في الظهر لأنّه كان ذكيًّا فلم يستند في حياته إلاّ إلى الحائط. وأحسد الذين يحسنون تقييم عملهم بالمال ويجيدون المطالبة به والدفاع عنه. وأحسد من يؤمّن له عمله متعة العمل بحدّ نفسه ومهما كان نوعه، والاطمئنان النفسيّ والتقدير الماديّ.
وبناء على كلّ ما تقدّم، أكرّر القول إنّي أبحث عن عمل مربح ومثمر ماديًّا، ولا يدفعني إلى طلب المساعدة من الأهل أو من أحد الأصدقاء. فعلى من يملك فكرة حول هذا الموضوع، أو من يعرف طريقة يساعدني فيها على تحصيل المال الذي أستحقّه أن يمدّني بهما في أسرع وقت ممكن، شرط ألا يكون ذلك على علاقة بالكتابة أو بالقراءة.
* صحيفة الرأي العامّ الكويتيّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق