‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 14 يوليو 2019

مهرجان الشمندور بضيعة "بَيْتَين وتنّور" (21 أيّار 2017)




استيقظ مختار قرية "بيتين وتنّور"، ولم يجد ركوة القهوة إلى جانب سريره. انشغل باله على المختارة، فنفض عنه اللحاف وقام ليبحث عنها. وجدها إلى طاولة المطبخ، منكبّة على الكتابة وتختيم الأوراق بختمه الرسميّ.
الطنجرة فوق النار، والصحون نظيفة، وكلّ شيء في مكانه، فالمختارة إذًا بخير.
سألها حين لم تعره اهتمامًا: شو عم تعملي مختارة؟ شو فيه؟
أجابت من دون أن تلتفت إليه: قرّرت أعمل مهرجان بالضيعة!
اضطرب المختار وقال في نفسه: جنّت المختارة. ثمّ ملأ الركوة ماء ووضعها على النار، وهو يسألها بلهجة محايدة كي لا يثير حفيظتها: مهرجان شو من غير شرّ؟
مهرجان الشمندور! أجابت المختارة بكلّ جدّ ووقار.
أفلت المختار قهقهة مدويّة، فتركت المختارة ما كانت تفعله ونظرت إليه مليًّا قبل أن تجيب: شوف مختار! تمسخر قدّ ما بدّك. أنا اخترتك ومخترتك، بس خلصنا! من وقت ما استلمت الختم، ما عملت شي ينفع الضيعة، والبلد كلّو مليان مهرجانات، وما في مرتْ مسؤول إلّا ما عملت مهرجان وتريّشت وتريّست. وبما إنّو ما حدا أحسن من حدا، رح أعمل مهرجان تكريم لبقرتنا "عيّوقة" ورح يكون إسمو مهرجان الشمندور.
     ارتمى المختار على الكرسي المواجه، وفي باله فكرة واحدة: ماذا يفعل أمام حالة زوجته العصبيّة؟ لكنّه تماسك وقال وهو يقلّب عينيه بين الأوراق التي تعلن فيها المختارة عن مشروعها:
-      يا مرا شو صرلك؟ بدّك تضحّكي الناس علينا؟ حدا عاقل بيعمل مهرجان بضيعة آخر الجرد وما فيا غير بيتين وتنّور؟
قاطعته المختارة: لو كنت مختار شاطر كان صار التنّور معلم أثريّ بيجيب السوّاح...
بهت الرجل، لكنّه تابع: بلا جنون دخيل ربّك عند هالصبح. مهرجان قال، مهرجان الشمندور كمان... ليش مين رح يفهم شو يعني الشمندور أصلًا؟ تخيّلي مذيعات التلفزيون عم يتحزّروا شو يعني الشمندور... اعملي قهوة وبلا هالمسخرة...
صرخت به زوجته: بعد ناقصني إعتل همّ مذيعات التلفزيون! ليش هنّي بشو بيفهموا أصلًا... بعدين واجباتنا نعلّم الناس التراث، والشمندور من التراث...
حاول الرجل أن يكتم غيظه، وقال مسايرًا: طيّب. فيي إفهم منين طلعتلك هالفكرة؟
استقرّت المرأة في كرسيها وهي تطمئن نفسها إلى أنّ زوجها بدأ يقتنع بالفكرة:
-      نسوان الزعما من وقت زلفا شمعون بيعملوا مهرجانات، وأنا مش ناقصني شي ت أعمل مهرجان غير شكل، يحكي عنّو البلد، ونعرّف الناس ع ضيعتنا، حتّى نحرّك العجلة الاقتصاديّة فيا.
-      هلأ، بقرتنا "عيوقة" يللي بالكاد فيا تحرّك إجريا، صار مطلوب منها تحرّك العجلة الاقتصاديّة؟ وضيعتنا يللي كلّ ولادها نزحوا عنها، وأوّلن ولادنا، بدّك ياها تصير حديث الناس؟ شو جنّيتي؟ بعدين يا مرا عم تحكي عن زلفا شمعون إنتي؟ ما نحنا عم نتمسخر ع نسوان النوّاب والزعما المفكّرين رجالن متل كميل شمعون يللي بني المدينة الرياضيّة بنصّ بيروت مش بضيعتو، ومرتو عملت معهد للعميان متل ما عملت مهرجانات بعلبك...
-      والله مختار ما بها شي معلوماتك!!! مش هيّن حضرتك!!! بس بكون مجنونه إذا بتركك تغيرلي مشروعي. ما رح ردّ عليك.
-      طيّب ليش ما بتعملي شي تاني ما خصّو بالمهرجانات وهالمسخرة، اعملي شي عن الزباله، ما البلد كمان مليان زباله مش بس مهرجانات...
-      ومين قلّك ما فكّرت؟ رح أعمل مهرجان الصيصان للأولاد...
-      شو؟ وشو خصّ الصيصان بالزباله والأولاد؟
-      الله يساعدني عليك، بدّي ضلّ إشرحلك... منعلّم الولاد إنو الصيصان بياكلو الزباله العضويّة، وهيك منعمل بطاقة الدخول كيس زباله من بقايا الأكل..
هبّ المختار عن كرسيه هبّة عنيفة، فوقعت كرسي المخترة. وصرخ بزوجته:
-      نشّفتي دمي ونشّفت المي بالركوة، قومي اعملي قهوة، هيدا يللي بينفعك هلأ. بلا مهرجانات بلا بلّوط. ورح إحكي ولادك يجوا ياخدوك عند شي حكيم... بعد ناقصني بهالآخرة إحكي كلمة بمهرجان الشمندور والصيصان!!
-      غلطان مختار! إنت ما رح تحكي شي! أنا المشرفة ع المهرجان، وأنا يللي رح وصّي ع فستان وإطلع إحكي، ليش يللي عم يطلعوا يحكوا أحسن منّي... شوف نسوان المخاتير حوالينا مْرات وحيد ومْرات سعيد ومرات سليم ومْرات نبيل،  كلّن عملوا مهرجانات وكلّن ربيوا ع الشمندور، وليك اسم الله وين صاروا، وين الغلط نذكّرن بطفولتن؟... بعدين متل ما في مهرجان للكرز والتفّاح والزهور والجنارك، لازم يكون في مهرجان للشمندور! هيك قرّرت...
-      وأكيد بدّك تنقّي مطربه تغنّي بالمهرجان، مين من غير شرّ اخترتي؟
-      نسيت إسما، هيدي يللي نافخه حالا وما بتعرف تغنّي بس بتجيب ناس!
-      حلو كتير! يعني "عيّوقة" وإنتي والمطربه، وولاد حاملين زباله وعم يغنّوا للصيصان، مش ناقص غير حمار متلي ينعزم ع العرس!
-      إيه مختار! بس مش أيّا حمار! حمار بختم رسميّ! بتفرِق منيح...

السبت، 6 أبريل 2019

عاهرة باب أوّل (قصّة قصيرة) - 2015

Aleister Crowley



     اليافطة الأنيقة الخفرة بدت في غير مكانها. ففي مدخل البناء الفخم، وعند بوّابته الإلكترونيّة النظرات، لا يتوقّع المرء أن يجد كلّ يوم، بين يافطات مختلفة الخطوط واللغات لأطبّاء ومهندسين ومحامين، واحدة تعلن عن مكتب للخدمات الجنسيّة
     لكن هذا ما حدث للأستاذ الجامعيّ الذي كان يلج المكان للمرّة الأولى، قاصدًا طبيب أسنان أرشده إليه زميله في التعليم
     بُهت الرجل الأربعينيّ حين وقعت عيناه على اللوحة ذات الخطّ المرسوم بعناية فنّان وذوقه: خدمات جنسيّة راقية - ط 3، وراح يتساءل كيف يرضى أصحاب الشقق الأخرى بوجود بيت دعارة بينهم، وكيف تكون الخدمات الجنسيّة الراقية في مكان يقصده زوّار وضيوف لا يتوقّعون أن يجدوا شقّة مشبوهة بين مكاتب وعيادات محترمة.
     أفكار كثيرة تصارعت في رأس الدكتور وهو يقاوم رغبته في استكشاف هذا الأمر، مقنعًا نفسه بأنّ من واجبه كأستاذ للعلوم الاجتماعيّة أن يعرف ماذا يجري في هذه المدينة الملأى بالعجائب والغرائب. فلعلّ الموضوع يصلح لاحقًا مادّة لكتاب جديد وعد ناشره بإعداده لمعرض الكتاب المقبل.
     باب غرفة الناطور نصف مغلق، وما من حركة تشير إلى أنّ أحدًا سيلاحظ أنّ الدكتور سيضغط على زرّ الطابق الثالث. ثمّ إنّه غريب عن المبنى، ولن يعرفه أحد فيه، وسيسهل عليه أن يقول إنّه أخطأ في الطبقة، إن وَجد في المشهد كلّه ما يثير الريبة أو ما قد يحرجه.
     في الطبقة الثالثة، ثلاث شقق: مكتب محاماة، مكتب الخدمات الجنسيّة، ولا يافطة تشير إلى وجهة استخدام الشقّة الثالثة التي بدا بابها مغبرًا عتيقًا كأنّها غير مأهولة.
     على باب شقّة الخدمات، دعوة بخطّ صغير تطلب من الزائرين قرع الجرس والدخول. وهذا ما فعله عالم الاجتماع.
     استقبله صوت فيروز، فتراجع إلى الخلف خطوتين ليتأكّد من أنّه لم يخطئ في العنوان. وكاد يهرب خجلًا من صوتٍ حنون ينطلق من حيث لا يدري ليقول بلهفة صباحيّة صادقة: تبقى ميّل تبقى سآل، متل الأول ضلّ سآل... وحين تأكّد من أنّ الشقّة هي فعلًا شقّة الخدمات الجنسيّة تساءل عمّا تفعله فيروز هنا!!!
     المكان غارق في الضوء، ونباتات جميلة ونادرة تتوّزّع الزوايا، ومكتب أنيق إلى يمين المدخل، ولا أحد خلفه. لكن يبدو أنّه حين قرع الجرس ودخل، ثمّة من تنبّه إلى وصول زائر (زبون) فظهر خيال خلف باب عريض زجاجيّ يفصل بين المدخل وسائر أقسام المكان، وقبل أن يفكر الدكتور بالهرب من جديد من موقف أقحم نفسه فيه، خرجت امرأة ثلاثينيّة، شديدة الأناقة، جميلة بشكل يقطع الأنفاس، وعلى وجهها ابتسامة ترحيب دافئة.
أصيب الرجل بدوار وظنّ أنّ في الأمر خدعة أو مقلبًا من ذلك النوع الذي يراه على شاشة التلفزيون.
     صباح الخير. بادرته المرأة. بلا غنج أو دلال أو إغراء. هل الجنس الراقي يكون بمثل هذا التهذيب والكبرياء؟ تساءل الدكتور قبل أن يسرع في الردّ كأنّه يدافع عن نفسه: أعتذر، أنا أستاذ علوم اجتماعيّة ولفتني مكتبكم، هل يمكن لي أن أعرف المزيد عنكم.
ابتسمت السيّدة وهي تومئ برأسها كأنّها تتعرّض لهذا التبرير للمرّة المليون، ودعته بحركة من يدها للجلوس، بينما استقرّت هي خلف المكتب.
- أهلًا بك ومرحبا. طبعًا من حقِّك كأيّ زبون أن تسأل عمّا تريد، وأنا هنا من أجل ذلك. فليس هناك "نحن" لتعرف عنّا. أنا وحدي صاحبة هذه الشقّة ومديرة شؤونها. فماذا تريد أن تعرف.
- عفوًا على السؤال الذي قد يبدو فجًّا: لكن أليس هذا بيت دعارة؟ يأتي رجل ليمارس الجنس فيه مع امرأة؟
- لا أعرف كيف تعرّف أنت بيوت الدعارة، أو ماذا يأتي الرجل ليفعل بالتحديد في بيوت الدعارة كما تسمّيها حضرتك. لنقل هو كذلك. أنتَ بالتحديد ماذا تريد؟ وماذا تفعل هنا؟
- قلتُ لك أنّني أستاذ جامعيّ لفتني الإعلان. ولم أحضر لأخون زوجتي التي أحبّها وأحترمها.
- دعني أوضح لك من البداية أنّ الرجل يخون نفسه ولا يخون أحدًا آخر. فقد تكون الخيانة في أن تنام مع زوجتك. ولكن ليس هذا موضوعنا. سأشرح لك آلية العمل عندنا لإرضاء فضولك العلميّ على الأقلّ
    أعطت المرأة الوقت لنفسها كي تبتسم بحريّة، وكي تتركه يستعدّ لما ستقول. وتابعت:
- حين يقصدني زبون طالبًا خدمة جنسيّة راقية، عليّ أن أجري معه مقابلة، تسمح لي بالتعرّف إليه وعلى ما يريد، انطلاقًا من ذوقه وأفكاره وأخلاقه ولباسه وطريقة تصرّفاته... ثمّ آخذ معلومات عن عمله وعائلته وصحّته، وأحدّد له موعدًا آخر بعد أن أقوم بدراسة الوضع وتقييم المعطيات. وقد أعتذر منه إذا لم أجد عندنا ما يناسبه من خدمات، أو أرشده إلى حيث تنتظره امرأة تقدّم له الخدمات الجنسيّة الراقية الملائمة له.
- يعني عاهرة باب أوّل؟؟؟ هتف الرجل ساخرًا كأنّه وجد لقية أو كنزًا، أو قال ما لم يسبقه إليه أحد.
حافظت المرأة على رصانتها وهدوئها وأجابت:
-
إن أردت أن تصفها بهذا الشكل فلا مانع عندي. لكنّي أرى الأمور كلّها بمنظار مختلف. لذلك أتمنّى أن تقرّر ماذا تريد أن تفعل الآن، وإلّا فأنا مضطرّة لإنهاء المقابلة، إن لم تكن زبونًا.
وُجم الدكتور وشعر بأنّه طالب في الصفّ يتلقّى تأنيبًا على سوء السلوك، وكاد يغادر نادمًا على إقحام نفسه في مسألة غريبة كهذه،  بل خشي أن يكون قد وقع في مصيدة تخرب بيته.
بدا على المرأة وهي تراقبه كأنّها تعيد قراءة عنوان عريض في صحيفة سبق أن قرأت تفاصيل الأخبار فيها. وقالت بهدوء واستفزاز:
- لا تخشَ يا دكتور من ردّة فعلي، فمن الواضح أنّك لستَ من طراز زبائننا، فلا قدرتك الماديّة تسمح لك بذلك، ولا شخصيّتك مؤهّلة لخوض غمار مغامرة كهذه. وسيبقى أمر زيارتك لنا سريًّا.
    
     فجأة انتبه الرجل إلى الكاميرا الصغيرة المصوّبة نحوه، وتأكّد له من أنّه وقع في مصيدة عصابة ستبتزّه وتقضي على سمعته ومستقبله
     مرّة جديدة، بدت المرأة مستعدّة لتطوّرات المشهد، وتابعت:
- ما من أسرار في عالمنا اليوم، إلّا تلك التي نخفيها عن أنفسنا. الكاميرات موزّعة في المبنى كلّه، وأمام كلّ شقة ومكتب وفي المصعد. ويكفي أن أبحث عنك على صفحات المواقع الاجتماعيّة لأعرف من أنت وماذا تفعل. أو يمكنني أن أعرض صورتك على زبائني وكلّهم من السياسيّين والأمنيّين ورجال الأعمال وقادة الأحزاب، أو على السيّدات العاملات معي، وكلّهنّ من طبقات اجتماعيّة وثقافيّة وعلميّة راقية، كي أجد بالتأكيد من يعرفك ويعرف تفاصيل حياتك كلّها. لكنّي قطعًا لا أفعل ذلك. فاطمئنّ.

    وقف الرجل على عجل. واستأذن بالمغادرة، كتلميذ صغير يريد أن يقضي حاجته التي حرّكها خوفه من الامتحان.  
***
     بعد أسبوع، عاد الدكتور إلى مكتب الخدمات الجنسيّة طالبًا امرأة تلائمه. لم تشر المرأة إلى لقائهما الأوّل، لكنّ الرجل عرف أنّها كانت تنتظره. سحبت أوراقًا من دُرج مكتبها، وطلبت منه أن يملأ الاستمارة، قبل أن تقول له: سأتركك مع صوت فيروز وأدخل لأعدّ لنا فنجاني قهوة. أم تفضّل شيئًا آخر تشربه؟
    فيروز وقهوة وخدمات جنسيّة، ما الذي ينتظره بعد؟
   وافق على القهوة، وأخذ القلم من يدّ السيّدة الجميلة، وبدأ يجيب على الأسئلة.
***
    بعد أسبوع آخر، وبناء على اتصال ورده من السيّدة، حضر الرجل إلى المكتب ليعرف إن كان نجح في الامتحان، وإن كان من طبقة الزبائن المرموقين، وإن كان يستحقّ نعمة الجنس الراقي
استقبله صوت فيروز بأغنية "يا ريت إنت وأنا بشي بيت" فارتجف قلبه تفاؤلًا، ورأى نفسه في أحضان امرأة مثيرة من سيّدات المجتمع المخمليّ... وكاد لولا دخول السيّدة عليه أن يشمّ العطر الفاخر الفاجر...
     دعته المرأة كي يتبعها، فاصطكت ركبتها: هل الموعد هنا؟ هل تنتظره المرأة المثيرة خلف الباب الزجاجي؟ أيّ عالم ينتظره حين يعبر إلى الجانب الآخر من الشقّة؟ ثمّ تمنّى لو أنّ السيّدة أعلمته بذلك عند اتّصالها ليستعدّ للقاء من هذا النوع.
     لكنّها استوقفته أمام خزانة فيها عشرات الملفّات، وسحبت واحدًا منها مختومًا، وسلّمته إيّاه وهي تقول مبتسمة بحنان:  
- تجد هنا المعلومات المطلوبة عن السيّدة التي تلائمك، تلك التي وصفتها بأنّها عاهرة باب أوّل. وتجد كذلك طريقة اللقاء بها وسائر التفاصيل، حتّى المبلغ الذي تدفعه لها.
- ألستِ أنتِ من يهتمّ بالجانب الماديّ؟ سأل الرجل متعجّبًا.
- أنا أثق بالسيّدات اللواتي يعملن معي، وبهذه السيّدة خصوصًا. أجابت المرأة وهي ترافقه إلى الباب. ثمّ تابعت:
- أتمنّى، قبل أن تخوض هذه المغامرة، أن تقرأ الملفّ بعناية، وأن تتفحّص الصور والمعلومات التي أعدّها المكتب لك. فحين تعجبك تجربة الخدمات الجنسيّة الراقية لن يسهل عليك الإقلاع عنها. 
     لم يعرف الرجل ماذا يقول، فتركته السيّدة، وعادت إلى ما خلف الباب الزجاجيّ قبل أن تتاح له الفرصة ليشكرها، في حين كانت فيروز تقول: كان غير شكل الزيتون...

     في السيّارة، فتح الرجل الملفّ متلهّفًا لمعرفة محظيّته التي ستؤمّن له متعًا جنسيّة لم تعرف امرأته يومًا كيف تحقّقها له، وإذا به يرى صورة زوجته، ملصقة على ورقة كتب عليها بالخطّ العريض:
     
بعد البحث والتنقيب، وَجد مكتبُنا أنّ زوجتك عاهرة باب أوّل وهي المرأة التي تستحقّها، لأنّ تحقيقاتنا، مع أهلك وأهلها وجيرانكما ومعارفكما وزملائكما، أكّدت لنا أنّها بلسانها السلّيط وأخلاقها السيّئة وعقدها النفسيّة وأقاويلها الكاذبة وتمسكنها المخادع ونميمتها الغبيّة، تمثّل العهر الحقيقيّ الذي يخرب البيوت والعلاقات!


الأحد، 18 أكتوبر 2015

حكاية الرجل الذي اكتشف أن ليس لديه وقت للحبّ



(2010)

لم يقل له أحد أنّ المهمّات التي ألقتها الحياة على عاتقه تتطلّب حضورًا دائمًا والتزامًا جديًّا وانتباهًا كاملاً، لذلك حين وقع في حبّ امرأة غير زوجته لم ينتبه إلى أنّه سيظلم نفسه قبل أن يظلم أيّ أحد آخر.
هو زوج صالح ملتزم طوال الوقت،
هو والد متفانٍ منتبه طوال الوقت،
هو ابن بارّ محبّ طوال الوقت،
هو شقيق مخلص خدوم طوال الوقت،
هو موظّف نشيط متوفّر طوال الوقت،
هو صديق وفيّ عطوف طوال الوقت،
هو مثقّف متابع شغوف طوال الوقت،
فهل يمكنه فضلاً عن هذه السباعيّة المتكاملة المتطلّبة أن يكون حبيبًا عاشقًا حاضرًا طوال الوقت؟
لم يكن يعلم أنّ الوقت القليل الذي يسرقه بين هذه الشخصيّات السبع تسمح له بممارسة الحبّ (11 دقيقة بحسب باولو كويللو) لا الحبّ، وحين عرف ذلك اكتشف أنّه سيدفع غاليًا ثمن هذه المعرفة، وأنّه من غير الإنسانيّ والعادل أن يطلب الإنسان من نفسه أن يكون رجل الخدمة ليلاً ونهارًا لكلّ من حوله، لأنّه سيفشل في مكان ما بلا أدنى شكّ، هذا إذا كان حظّه جيّدًا وذكاؤه خارقًا ما قد ينقذه من أن يخسر كلّ شيء.
لم يكن الرجل يعلم طبعًا أنّه سـ"يقع" في الحبّ لا بل أنّه سـ"يحلّق" مع الحبّ، لذلك كانت التزاماته الجميلة الأخرى متكاملة متجانسة منظّمة، لكلّ منها موعده وجدوله الزمنيّ، وكانت الحياة مدروسة الخطوات لا مكان خاليًا فيها لأيّة مفاجأة أو خلل، ولكنّ من صفات الحبّ أن يقتحم الأمكنة التي لا تخطر على بال، أن يخربط ما كان منظّمًا، ألاّ يحمل ساعة في يده، ألاّ يحترم مواعيد النوم والعمل والغداء والراحة، أن يكون مشاغبًا مشاكسًا عنيدًا، طفلاً يحتاج إلى عناية واهتمام وانتباه، فهل يستطيع أن يكبر بالقامة والحكمة وسط هذه المهمّات الجديّة الدقيقة أم سيبقى طفلاً عاجزًا عن النمو، يبحث عن مكان للعب بين أقدام الكبار، ثمّ يختبئ خجلاً من قامته القصيرة ويهرب خوفًا ممّن قد يؤذي طراوة عوده؟
هكذا فكّر الرجل وهو يرزح تحت التعب والإرهاق. ترفٌ أن يحبّ وهو مطالَب في كلّ لحظة بعمل ما، بمهمّة ما. سيظلم نفسه ومن يحبّها إن استمرّ في توزيع نفسه ووقته على هذا الشكل ولن يبقى لها، خصوصًا هي، إلاّ فتات يعرف أنّها ستقتات بها وتكتفي لأنّها تحبّه. ولكن إلى متى سيمكنه أن يحتمل صيامها المفروض عليها، واكتفاءها ببقيّة عاطفة ووقت؟
كانت الأفكار تتنازعه وهو يحاول التشبّث بحبّ قد لا يشعر بمثله في آتي أيّامه، وفي الوقت نفسه لا يرضى لنفسه بأن يخلّ بأيّ من التزاماته الأخرى التي تشكّل مشاهد أساسيّة من هذه اللوحة الجداريّة التي اسمها حياته، ولن يقبل طبعًا بالإساءة إلى من لا ذنب له في عاطفته الطارئة أكان هؤلاء في بيته أو في عمله.
وكان يعرف في قرارة نفسه أنّه يهرب إلى التزامات جديدة ليهرب من التفكير في حلّ، وأنّه سيتعب من هذه الالتزامات الإضافيّة، وأنّ ما كان يحتمله جسده وهو شابّ لن يرضاه وهو كهل، وأنّه سيقع يومًا تحت وطأة كلّ ذلك. فهل سيجد الجواب عندها؟ هل سيكون لحسه المبرد هو الحلّ مع أنّه يعرف جيدًا أنّ ما يسيل هو دمه وما يخسره هو حلمه بنوع آخر من السعادة؟

الأربعاء، 17 يونيو 2015

من مذكّرات امرأة واقعيّة (قصّة قصيرة)


كان هذا الشهر مليئًا بالنشاطات، وأنا فخورة بنفسي لأنّي أنجزت وفي نجاح تامّ عددًا من الأعمال والمهمّات:
كتبت مجموعة مقالات أثارت موجة من الإعجاب وحرّكت عددًا مرتفعًا من الأقلام وقمت بدراسة مجموعة نصوص لأدباء محليّين وعالميّين،وشاركت في ندوة ضمّت كبار المفكّرين، وألقيت محاضرة في جامعة خاصّة، وأنهيت تصحيح مسوّدة مجموعتي القصصيّة فأضحت جاهزة للطبع، ولبّيت كذلك الدعوات الكثيرة التي وجّهتها إليّ الجمعيّات الأدبيّة والصالونات الفنيّة، وحللت ضيفة مكرّمة في أكثر من برنامج حواريّ، ثمّ سافرت إلى أوروبا لمشاهدة مجموعة عروض مسرحيّة، وهناك غيّرت لون شعري، وخضعت لجلسات تدليك، واشتريت مجموعة من الملابس وبعض الأحذية وحقائب اليد، وهدايا ثمينة لرئيسي في العمل ولزوجته وأولاده ولبعض الصحافيّين، والتقيت صديقي الذي سبقني إلى هناك فمارسنا الحبّ حتّى التعب. لكنّي كنت أشعر طوال الوقت بأنّ عليّ أن أقوم بعمل ما غير أنّي نسيت ما هو. ولم يسعفني صديقي على التذكّر فأهملت الأمر كي لا أنغّص عليه أجواء الرحلة.
عدت إلى البلد وفي رأسي مجموعة هائلة من الأفكار والمشاريع حتّى أنّي لم أكن أعرف من أين أبدأ. إنّما خلال مرحلة التخطيط والفرز وقبل اتّخاذ أيّ قرار تعرّضت لحادث سيّارة. صحيح أنّ الأضرار كانت ماديّة، لكنّ السائق الغبيّ كاد يتسبّب في عرقلة أعمالي وتنفيذ مشاريعي، إذ كان عليّ أن أتنقّل بسيّارات الأجرة، ولأنّ أعصابي المتوتّرة لم تحتمل ثرثرة السائقين استأجرت سيّارة بيد أنّي بقيت متأكّدة من أن هناك ما يجب القيام به أيضًا، لكنّي لم أملك فكرة واحدة عمّا يمكن أن يكون. ورغم أنّي راجعت دفتر مواعيدي مرارًا وتكرارًا لم أكتشف ذاك الذي نسيته وأعلم بوجوده في زاوية من ذاكرتي. ثمّ قرّرت أن أهمل الأمر كي لا أسيء إلى أدائي.
كنت أعود إلى المنزل في ساعة متأخّرة، وغالبًا ما كنت أمضي الليل لدى صديقي الذي عاد بعدي إلى بيروت. وتذكّرت مرارًا أنّ حقائبي تنتظر إلى جانب السرير كي أفرغها، لكنّ أفكاري كانت مأخوذة بأمور أخرى وتقف أمام تحديّات لا يمكن التهاون في شأنها. وكم أعجبت بنفسي وهنّأتها عندما استطعت في وقت قصير أن أضع مختلف الأمور في نصابها الصحيح. فحصلت على التهنئة والترقية والشهرة في فترة قياسيّة قياسًا بالآخرين. وحين كنت أحتفل بانتصاراتي مع صديقي الجديد، لأنّ القديم أضجرني بآرائه "المتفلسفة"، صدح صوت هاتفي الخلويّ: إنّها أمّي، قلت في تأفّف، وحين أجبتها في صوت محايد كي أفهمها أنّي لا أستطيع الاسترسال في الحديث، فاجأتني بسؤال: هل أستطيع أن أعرف متى ستجدين الوقت لاسترجاع ابنتك؟
* النهار – الاثنين 12 كانون الثاني 2004

الأربعاء، 14 يناير 2015

بين الشعر والنثر (حكاية قصيرة للأولاد)




قال لي سلطان النثر: أحبّيني وانسَي الشعر!

نظرت إليه باستعلاء وأجبته: لك حبيبات كثيرات فدعني لحبيبي!
غضب سيّد الكلمة المحايدة، وأمر عبيده الصحافيين البلا مبدأ، والخطباء البلا نبرة، والمحاضرين البلا توهّج، بأن يزوّدوني بكميّات من الطعام ويرموا بي في برج بعيد مرتفع. ثمّ صرخ بصوت عظيم لا يخيف أحدًا ولو اهتزّت له الجدران:
ما دمت تحبّين الشعر، فسأجمع لك دواوين الشعراء من أربعة أقطار العالم، وأجعلها رفيقتك الوحيدة، إلى أن تعتذري عن نظرة الاستعلاء هذه!

مرّت أيّام وأنا في سجني الكبير، أتنقّل من كتاب إلى آخر، محتارة بين متعة الاستسلام لموسيقى الشعر وصوَره، أو مهمّة التفكير في طريقة للتخلّص من مكان مهما حلت الإقامة فيه يبق سجنًا، إلى أن سمعت صوت شابّ يغنّي تحت النافذة غناء صمتت من أجله الطبيعة، فناديته قائلة:
بحقّ المعاني الجميلة التي تغنّيها، والموسيقى التي تصدح من جرْس كلماتك، والصوت الذي وهبتك إيّاه السماء، أنقذني من سلطان النثر الذي رماني في هذا البرج!
أجاب الشاب: لولا الشعر الذي يتوهّج به صوتك لما فكّرت لحظة في مساعدتك. ولكن علينا أن نجد طريقة لإنقاذك، فالأمر ليس سهلًا.
أسرعت في طمأنته قائلة: عندي الحلّ، فأنا هنا تحيط بي ملايين الكتب، وسأقوم برميها لك، وأنت ترصفها بشكل ثابت لتصل إلى نافذتي، فأنزل عليها. فهل عندك الصبر لفعل ذلك؟
فردّ مبتهجًا: أنا أحبّ المطالعة ولكنّني غالبًا ما أعجز عن شراء الكتب، فلا تخشي عليّ إذًا من الملل، لأنّني خلال مرحلة تجميع ما ترمينه لي، أستفيد بما حلمت طويلًا بالاطّلاع عليه.
وهكذا بدأت عمليّة إنقاذي، التي تخلّلتها فترات راحة غرق فيها كلّ منّا في قصيدة . وحين كنت أقرأ ما يعجبني أرمي له الكتاب، فيقرأ بدوره، وحين كان يقع على نصّ لم أجد الوقت له يتلوه عليّ مرّة بعد مرّة، لننطلق بعدها في نقاش يختلط فيه الجدّ بالمزاح حول ما في عالمه الجميل، أو نتبارى في من يحسن إلقاء القصيدة أفضل من الآخر، أو في محاولة تلحينها وغنائها. 
وهكذا، كتابًا بعد آخر، كانت المسافة بيني وبين الشاب ذي الصوت الجميل تقصر، وحين التقينا على تلّة الكتب، عند طرف النافذة، كنّا حبيبين عندهما الكثير ليقرأاه ويتحدّثا بشأنه. 

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

وطنٌ مصادَر

الوطن ليس قالب حلوى

وطنٌ مصادَر

     كان يا ما كان، وليس من قديم الزمان، رجلٌ يقيم في وطنٍ الأرز واللُبان.
     صدّق الرجل حكاية العنزة التي يحسدها الناس على مرقدها في جبل لبنان، فعمل طيلة حياته كي يكون له بناء يورثه من بعده للأبناء. وفي انتظار أن يكبر الأولاد، ولكي يكون له ما يساعده على تعليمهم وتربيتهم على حبّ الأرض، عرض شقق بنائه للإيجار. وهكذا امتلأ البناء بالجيران.
    مرّت الأيّام، ونشبت الحرب، وانهار الاقتصاد، وانخفضت قيمة الليرة. فصار مجموع الإيجارات لا يشتري دواءً لارتفاع ضغط الدم، في شرايين رجل، يرى إلى بناء عمّره بعرق الجبين، فصار إرثًا لمستأجرين، يتركه الوالد منهم للأولاد والأحفاد.
     هاجر أولاد الرجل بعدما عجزوا عن إقناع المستأجرين بإخلاء الشقق، وبعدما يئسوا من تحديث القوانين التي تظلم مالكي الأبنية. وماتت الزوجة من لوعتها على تعب العمر وغياب الأبناء، فبقي الرجلُ وحيدًا، مجروحًا في شعوره الوطنيّ، ناقمًا على وضعه المعيشيّ، مقهورًا لمجرّد التفكير في أنّ عليه أن ينتظر راتبه الشهريّ من أولاده المغتربين.
    وفي أحد الأيّام، قرّر مستأجرو الشقق في البناء القديم الجميل، أن يوظّفوا ناطورًا جديدًا يهتمّ بصيانة البناء، وتنظيف الدرج والمصعد، وترتيب الحديقة، وتأمين الماء للخزّانات، وحمل عشرات الأغراض والأكياس من سيّارات السيّدات إلى شققهنّ. فتقدّم صاحب المبنى طالبًا الوظيفة.
     شعرت لجنة أصحاب الشقق بالتردّد في بادئ الأمر، لأنّ الرجل عجوز، وقد يقصّر في أداء وظيفته. لكنّ سيّدة من اللجنة، تتميّز بقدرتها على الجمع بين الحكمة والحماسة للأعمال الإنسانيّة، ارتأت أن يوظّفوا الرجل. وشرحت فكرتها الذكيّة وهي تبتسم: من حسنات الأمر أنّ الرجل يقيم في بيته، وبالتالي لن يحتاج إلى بيت الناطور، فيضع فيه أولادنا وأحفادنا درّاجاتهم. وهو، فضلًا عن ذلك، يعرف مشكلات المبنى، وخفايا إمداداته الكهربائيّة والمائيّة وأنابيب الصرف الصحيّ فيه. ثمّ لا تنسوا أنّه عجوز لبنانيّ ويحتاج إلى مبلغ الثلاثمئة دولار، وهو أحقّ بها من نازح غريب، أو أجنبيّ أفريقيّ أو آسيويّ!
     أبدى سائر أعضاء اللجنة إعجابهم بالفكرة الرائعة، وفي بال كلّ منهم صورة صاحب المبنى وهو يتحوّل موظّفًا عندهم. وأجمعوا على ضرورة أن يذكروه بهديّتين على الأقلّ في عيدَي الميلاد والفصح. وأن يهبوه ثيابهم القديمة، وألّا ينسوا تنبيه خادماتهم إلى أن يرسلوا إليه صحن طعام.
     وهكذا، صار المالك، الذي كان سعيدًا، ناطورًا لبنائه، بقرار من مستأجرين يتذرّعون بالقانون القديم، فلا يخلون الشقق ولا يقبلون بقانون جديد يعيد المُلك لصاحب الملك.
     ألا تشبه حكاية هذا البناء لبنان الذي احتلّه الغرباء وسمحوا لنا – حتّى الآن – بأن نكون مجرّد نواطير عليه، في انتظار قرار دوليّ جديد، يحيلنا إلى التقاعد؟


الاثنين، 7 نوفمبر 2011

العمليّة النوعيّة للمواطنة س. م.

Lisa Strombeck - 2008
استيقظت المواطنة س. م. من نومها في حال نفسيّة سيّئة كما في كلّ صباح. عدّت دقّات الساعة الكبيرة المعلّقة في الصالون وهي تعرف مسبقًا بأنّها ستكون ستّ دقّات. اطمأنّت إلى أنّها لا تزال تملك بعض الوقت قبل أن تبعد اللحاف عنها وتنهض مرغمة من السرير لتواجه وجهها في المرآة. تمنّت لو كانت تستطيع الذهاب إلى العمل من دون هذه المرحلة التي تحاول خلالها إصلاح ما أفسده الدهر. ولكنّها كالعادة، ألقت نظرة تفقديّة على جذور شعرها لترى إن كان يحتمل تأجيل موعد صباغه، وأحصت التجاعيد حول عينيها وفي عنقها، وراقبت ترهّل ذراعيها، وانتبهت، كما منذ صباها، إلى أنّها تتقدّم في العمر بطريقة بشعة. وفكّرت في أنّها لو قرّرت الخضوع لعمليّات تجميل فستمضي ما تبقى من حياتها في المستشفى وسيمضي طبيبها حياته ثريّاً.



LOLEK
ثمّ خرجت المواطنة س. م. من منزلها، فالتقت بجارة جديدة لم ترها قبل اليوم. فكّرت في أنّها من سكّان الأبنية التي ارتفعت حديثًا حول بيتها وحرمتها الشمس والهواء. كانت المرأة الرياضيّة القوام ترافق كلبتها الصغيرة المتباهية بعقد من الذهب حول عنقها في نزهة صباحيّة وهما خاليتا البال. حين وصلت صاحبة العقد إلى حفرة مياه صغيرة، وقفت ونظرت إلى سيّدتها التي انتبهت للأمر وانحنت وهي تقبّلها وتعتذر ثمّ حملتها كي لا توسّخ قوائمها. جرّت المواطنة س.م. رجليها إلى سيّارتها وانطلقت إلى عملها وهي تفكّر في ليونة جسم المرأة وتناسق أجزائه.

في الشركة، أخبرتها زميلتها بأنّها غيّرت سيّارتها، فهنّأتها ثمّ انتبهت إلى أنّ سيارة الزميلة القديمة كانت جديدة، ولمّا استوضحت الأمر قالت لها: اشترينا كلبًا جديدًا وهو من الصنف الذي يكبر، ولن تعود السيّارة تتّسع لنا، فاشتريت واحدة رباعيّة الدفع من النوع الضخم، كي يجلس الأولاد والكلاب وهم مرتاحون. فكّرت المواطنة س. م. في مصدر ثراء زميلتها الموظّفة وفي عدد عمليّات التجميل التي جعلتها تبدو واحدة من قطيع المغنيّات والمغنّين الجدد.
في طريق عودتها إلى البيت قرّرت أن تصبغ شعرها، فأوقفت سيّارتها قرب الرصيف العريض، أمام صالون المزيّن، وما أن ترجّلت من السيّارة حتى غرقت رجلها في أوساخ حيوان مرّ من هنا منذ قليل، ولمّا تلفّتت حولها باحثة عن المذنب، وجدت رجلاً عجوزًا يجلس أمام باب دكّانه العتيق ينظر إليها ويهزّ رأسه أسفًا، ثمّ يقول لها مؤاسيًا: لست وحدك من يصيبه ذلك يا ستّ. ولكن صار عليك أن تنتبهي، فالرصيف صار للكلاب. وأومأ برأسه في اتجاه صبيّة رائعة الجمال تهنّئ كلبها لأنّه قضى حاجته بسرعة.

عند مزيّن الشعر قرّرت أن تسترخي وتريح أعصابها وتبعد أفكارها عن كلّ توتّر، ولكن لسوء حظّها اختار لها المزيّن مقعدًا إلى جانب سيّدة شقراء جميلة وثريّة تداعب بأصابعها الأنيقة كلبة جالسة في حضنها. الكلبة الصغيرة النحيلة التي لا ترتفع عن مستوى سطح الأرض إلاّ بضع سنتيمترات، وترتدي صديريّة مطرّزة من شغل الأرتيزانا، راحت تراقب المواطنة الغريبة بفضول ممزوج بعدائيّة، ولم يلهها عن ذلك إلاّ اتّصال هاتفيّ تلقّته صاحبتها الجميلة السعيدة، فراحت تتابع الحديث وهي تتململ كأنّها تعرف من المتّصل وما فحوى الحديث. واستطاعت المواطنة أن تفهم أنّ السيّدة دعت صديقتها المتّصلة للانضمام إليها عند الكوافير، ويبدو أنّ المرأة الأخرى مرتبطة بموعد هام، فقالت لها صاحبة الكلبة الصغيرة: هوغو معي، فلم لا تأتي الخادمة بسيسي كي تراه وتلعب معه، ألم تشتق إليه؟


Marie Laurencin




كانت الصدمة قويّة على المواطنة س. م. إذ تبيّن لها أنّ الكلاب صاروا كالبشر لا يُعرف ذكَرهم من أنثاهم، ما جعلها لا تنتبه إلى أنّ لابس الصديريّة المطرّزة من فئة الذكور. فخجلت من نفسها وأبعدت نظرها في اتجاه آخر لتهرب من نظرات الكلب الذي عاد يراقبها وهو ينتظر سيسي ابنة الصديقة المتّصلة التي ستأتي مع الخادمة (فليبينيّة طبعًا) لتلعب معه. وما هي إلاّ دقائق حتّى دخلت الخادمة، فليبيّنية طبعًا، إلى الصالون وبين ذراعيها كلبة صغيرة لم تستطع المواطنة س. م. إلاّ أن تتأمّل جمالها ورقّتها وأناقتها. هبّ هوغو ملهوفًا لملاقاة سيسي التي لم تكن فتاة شقراء ولطيفة كما توقّعت المواطنة س. م.
وكان لقاء عاطفيّ تقشعرّ له الأبدان، راقبته عيون جمهور النساء المصبوغات الشعور والوجوه بتأثّر واضح ودموع صادقة.

لم تخرج المواطنة المتأثّرة من متابعتها الفيلم العاطفيّ إلاّ حين سألها "الكوافير": هل تتناولين أدويّة معينة أو هل أنت مريضة؟ استغربت المواطنة السؤال وسألت بدورها: لماذا تسأل؟ فأجاب المزيّن وهو يفكّر ويحلّل: غريب، الصباغ لم يترك أثرًا على شعرك الذي لا يزال أبيض.

بعد أيّام من التفكير واستعادة المشاهد التي مرّت أمامها، قرّرت المواطنة س. م. أن تجري مجموعة من عمليّات التجميل. وقالت في نفسها، لا لمرآتها: ماذا ينفعني أن أحتفظ بالذهب الذي تركته لي أمّي، وبالأرض التي تركها لي والدي؟ سأبيع كلّ ما أملك، وأجري العمليّات اللازمة لأعيش من الآن وصاعدًا عيشة لائقة محترمة.


Francis Picabia - 1926
عند الطبيب المعروف ببراعته في تغيير الأشكال وتجميل ما شوّهته الطبيعة، جلست المواطنة س. م. واثقة من قرارها، ومستعدّة لاحتمال الآلام والأوجاع التي تصاحب عمليّات من هذا النوع. وبعدما عاين الرجل الجميل وجهها وجسمها ودرس ماذا يلغي وماذا يضيف، ومن أن يشفط وأين يضخ ما يشفطه، وماذا يكبّر وماذا يصغّر، سألها إن كان هناك شكل معيّن تتمنّى أن تشبهه أو ترغب في أن تمتلك بعض ملامحه، فأخرجت المواطنة من حقيبة يدها صورة وقالت للطبيب بكلّ ثقة: أريد أن أكون مثل سيسي.

الأربعاء، 11 مايو 2011

انتقام نبتة (قصّة)




اليوم أيضًا استيقظت على ضجيج جارتنا المجنونة في الطابق العلويّ. امرأة لا أذكرها إلّا غاضبة، تكره الناس والأشجار والعصافير. تحمل مكنستها الطويلة الساق وتلاحق بقشّاتها المتكسّرة أوراق الأشجار المتطايرة، ثمّ ترفعها لتطرد بها العصافير إن تجرّأت واقتربت من شرفتها. ساحرة عجوز شرّيرة محتها الأيّام من حكايات الأطفال ونسيتها فوق بيتنا. عاجزة عن الحبّ تتسلّح بمكنسة عاجزة عن الطيران.
قبل أن تنطلق حركة الناس إلى إعمالهم تبدأ العجوز بالرواح والمجيء وهي ترتّب بيتًا لا يزوره أحد وتنظّف أرضًا لم تلوّثها إلّا دعساتها. ولكنّ الأصوات الصادرة عنها اليوم اختلف إيقاعها كأنّ في الأمر جديدًا ما أثار حشريّتي ودفعني لمغادرة دفء الفراش في هذا اليوم الربيعيّ المنعش بحثًا عمّا جعل المرأة تغيّر عاداتها. خرجت إلى الشرفة وإذا بأوراق نبتة الغليسّين (لحلح) تتطاير تحت ضربات قضيب معدنيّ، ينهال بلا كلل أو ملل على الأغصان الطريّة الخضراء المتسلّقة بجمال وأنفة جدران المبنى الخارجيّ. لا تريد المرأة للنبتة ذات العناقيد البنفسجيّة أن تصل إلى شرفتها.
كان الضرب عنيفًا لا رحمة فيه ولا شفقة. حقد لا أحد يعرف كيف يحمله الجسد النحيل المحدودب الظهر يجعل الأوراق ترتعد هلعًا، وتتشتّت بعيدًا عن النبتة المسكينة الممتدّة أمام بيتنا، مانحة إيّاه ظلالًا نديّة وربيعًا بهيجًا وعيونًا لا تشبع من رؤية الجمال. باستثناء نظرات الجارة الجائرة. انتهت حفلة التعذيب وارتاح القضيب المعدنيّ الرفيع بعدما تعبت الذراع المعروقة المترهّلة. قلت في نفسي ستتكرّر هذه الحفلة ما دامت النبتة تريد الحياة والعجوز تكره كلّ ما في الحياة.
جمعت الأوراق الشهيدة والأغصان المبتورة ووضعتها عند جذع النبتة وأنا أعتذر منها متمنّية عليها أن تصبر معي على جيرة نستجير بالله منها.
وكان نهار. وكان ليل.
وإذا بصراخ المرأة يشقّ سكينة العتمة كصوت سكّين غادر غمده وغدر بضحيّته. يا إلهي! ما بها الآن؟ ماذا أصابها في هذا الليل؟ ألا يكفينا جنون النهار؟ ازداد الصراخ عنفًا، فأضيئت المصابيح الكهربائيّة في البيوت المجاورة، وخرج الجميع إلى الشرفات حين سمعوا استغاثة زوج المرأة وهو يطلب من الناس أن يهرعوا إليه. لبّى كثر النداء وهم يتساءلون عمّا يجري في البيت المسكون بأشباح ولا يزوره إنسيّ. وحين وصلوا فوجئوا بأغصان النبتة الخضراء ممتدّة في أرجاء البيت وغصن من أغصانها الخضراء ملتفّ حول عنق المرأة الراقدة في سريرها، يخطف أنفاسها ويمتصّ غضبها، وكلّما كان لون المرأة القاتلة يزداد شحوبًا كانت أوراق النبتة تزهو اخضرارًا وأريج عناقيدها يملأ المكان عطرًا.
حاول الجيران أن ينقذوا المرأة لكنّ الأغصان المتشابكة بسرعة لا تخطر لأحد لم تسمح لهم بالوصول إلى العجوز التي جحظت عيناها ولفظت آخر نفس وهي حانقة على زوجها الذي جعل الناس يوسّخون أرض بيتها النظيف.

الخميس، 2 ديسمبر 2010

ضوء في ليل الشاعر (من مجموعتي القصصيّة: نساء بلا أسماء)

تنسيق (من تصميمي)
...يوم دفنه استرجعت حكاية الحبّ القديمة كلّ وهجها، واستعيد وجه الشاعر الساهر على سطح منزله المطلّ على بيتها. وتحوّل سكّان البلدة في مأتمه الهادئ صفحات صفراء كُتب على كلّ منها مشهد من قصّة الحبّ الضائع. كان الناس مشغولين بالبكاء على الرجل الذي رحل فجأة وباكرًا، لكنّهم لم يستطيعوا ألاّ يتساءلوا منذ اللحظة الأولى لانتشار خبر موته إن كانت ستأتي إلى الدفن.
كان الليل طويلاً وحزينًا، انتظر كثر نهايته ليشاهدوا مع انتصاف النهار المرأة التي لم تنظر إلى الرجل الميت.
دخلت إلى الغرفة المجاورة وجلست في مكان محايد وبكت ورحلت مع تحرّك الموكب إلى الكنيسة. لكنّها استطاعت أن تلقي نظرة على التابوت البنّي متراقصًا فوق الراحات. في حين كانت عيون الناس الدامعة تراقب تحرّكاتها وثوبها الأسود وبشرتها البيضاء وشعرها الذي كان يخفي جانبًا من وجهها، حين كانت تنحني لتحتمي به من النظرات المستكشفة...

***
من كتابي : نساء بلا أسماء

الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

خطيئة مميتة (قصّة قصيرة)







كلّ الخطايا المميتة التي ارتكبتها تلك المرأة لم تشعرها بالذلّ والمهانة اللتين شعرت بهما يومذاك:
فلو أساءت إلى المحبّة وهي الوصيّة الأولى لقالت إنّها تستحقّ تلك النظرات الغاضبة، لكنّها مذ بدأت بتناول الحبوب المهدّئة وهي تشعر بسلام داخليّ وحبّ غريب لكلّ الناس والكائنات والحياة.
ولو استسلمت لرغبات الجسد ومالت مع ميوله لقالت إنّ ما يصيبها الآن قليل بالنسبة إلى ذنبها، غير أنّها منذ زمن لا تذكر أوّله تحمل جسدها عبئًا ثقيلاً كحمار ينوء تحت ثقل ما يحمله وينتظر بفارغ الصبر أن يريحه صاحبه منه.
ولو تسبّبت بأذيّة أحد الناس عمدًا وعن سابق تصوّر وتصميم لهان عليها الأمر، ولقالت إنّها تستحقّ العقاب مهما كان قاسيًا وشديدًا.
إلاّ أنّ كلّ ما فعلته هو أنّها تكلّمت مع ابنة أختها المراهقة باللغة العربيّة في معرض الكتاب الفرنسيّ.
جملة واحدة لا غير في خضمّ الازدحام والضجيج كانت كافية ليحلّ صمت تام يشبه ذاك الذي سيطر على بعض المناطق اللبنانيّة يوم تحدّثت فيروز باللغة العربيّة مع مقدّم البرامج، الفرنسيّ الشهير فردريك ميتران، وهو صمت يشبه تمامًا السكوت الرهيب الذي يسبق لحظة الدينونة.
جملة واحدة سمعها الجميع فسكتوا وهزّوا الرؤوس استنكارًا ثمّ أحنوها خجلاً وهم يتساءلون عن سرّ تلك المرأة الغريبة الدخيلة. لكنّ ابنة أختها أنقذتها من كلّ ذلك، أو هكذا ظنّت، حين شدّتها بثوبها إلى الخارج لتنهال عليها لومًا وتأنيبًا. وعبثًا حاولت الخالة الخاطئة أن تدافع عن نفسها، فالفتاة المحرجة لم ترض بالعودة إلى المعرض وصمّت أذنيها عن سماع خالتها وهي تقول: صحيح يا صغيرتي أنّ هؤلاء يتكلّمون باللغة الفرنسيّة ولكنّ اللغة الفرنسيّة لم تجعل منهم أشخاصًا أقلّ جهلاً ولم تحرّرهم من العصبيّات العائليّة والطائفيّة والمذهبيّة والعنصريّة، ولم تجعلهم يحملون الكتب في الباصات والحمّامات والمنتزهات والمطاعم، ولم تمنعهم عن رمي النفايات على الطرقات أو عن مراقبة الآخرين وإزعاجهم، ولم تعلّمهم احترام حريّة الآخرين والقبول بالاختلاف والتنوّع، ولم تنقل إليهم عدوى الانفتاح والثقافة والجديّة في العمل واحترام الأنظمة والقوانين، ولم تدفعهم إلى التعلّق ببلادهم ولغتها كما يتعلّق الفرنسيّ ببلاده ولغتها.
كانت المرأة تتكلّم باللغة العربيّة وابنة أختها الغاضبة تقاطعها باللغة الفرنسيّة طالبة منها الابتعاد عن هذا المكان قبل أن يراهما ويسمعهما أحد أصدقائها.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.