السبت، 29 أبريل 2017

الحصاد التربويّ (2009)

هل نربّي على الحقّ والخير والجمال؟

ما لم تستقم أمور التربية والتعليم في بلادنا فعبثًا نكتب ونخطب ونصرّح ونطالب! القضيّة كلّها تبدأ من على مقاعد الدراسة حيث يتمّ إعداد الصبيان والبنات ليكونوا رجال الغد ونساءه. ولكنّ نظرة سريعة على ما نعلّمه في مدارسنا تظهر طبيعة التناقض الذي يقع فيه التلاميذ.
نعلّم التلاميذ مثلاً الغزل ونعرّفهم تحديدًا على مدرستين في هذا الفنّ انطلقتا في العصر الأمويّ، فنقول لهم إنّ هناك نوعين من الغزل: العذريّ أو البدويّ أو العفيف، والإباحيّ أو الحضريّ أو العُمَريّ، ونعطيهم نصوصًا لجميل بن معمر زعيم المدرسة الأولى، وعمر بن أبي ربيعة زعيم المدرسة الثانية. ماذا يستنتج التلاميذ بعد هذين الدرسين المهمّين إن لم يجرؤ المعلّم على فتح آفاق جديدة؟ أن لا خيار ثالثًا في الحبّ، فإمّا أن تكون - كجميل - هائمًا في الأرض، مهووسًا بامرأة أصبحت لسواك، مريضًا ومرذولاً وهاربًا من أحكام المجتمع آنذاك، أو أن تكون – كعمر – "نسونجيًّا" تتنقّل من امرأة إلى أخرى وتهوى المغامرات الليليّة والتنكّر في ثياب النساء للهرب من منزل إحداهنّ، وتستغلّ المناسبات الدينيّة لاصطياد الفتيات والمتزوّجات. عظيم! كلّ هذا موجود ومن طبيعة الحياة، ولكن ماذا عن الخيار الثالث؟ ماذا عن الحبّ "الطبيعيّ"، ماذا عن احترام المرأة وعدم التشهير بها وعدم استغلالها وعدم خيانتها؟ ماذا عن النظر إليها ككائن حرّ ومستقلّ يرفض أن يعبد ويوضع على منصّة عالية حيث لا تطاله أيدي البشر، أو أداة متعة ومصدر وحيّ؟ وهل نعتب بعد ذلك على تلاميذنا إن بحثوا عن أنواع الحبّ الأخرى في أماكن أخرى وعند حضارات أخرى؟
ونطلب من تلاميذنا أن يعبّروا عن آرائهم ويدافعوا عنها بتقديم البراهين والأمثلة والحجج، ونحثّهم على الكتابة في مواضيع الإنشاء عن آمالهم وطموحهم ومشاريعهم، ونحاسبهم بحسم علامات إن قصّروا في ذلك. ولكن عندما يكبرون ويحاولون أن يعبّروا بالأسلوب البرهانيّ نفسه عن آرائهم وأفكارهم كممنا أفواههم وزججنا بهم في السجون، وأدرنا عليهم خراطيم المياه لتبديد شملهم وتبريد عزائمهم. فكيف سينظر التلميذ بعد ذلك إلى معلّمه الذي كان يطرح عليه في درس الأدب والتعبير السؤال نفسه: ما رأيك في هذا القول؟
ونطالب تلاميذنا بالتقدّم من الشهادات الأجنبيّة الفرنسيّة أو الأميركيّة أو العالميّة لما تفتحه من آفاق أمامهم ولما تقدّمه لهم من معلومات حديثة ومنهجيّة علميّة، ولكنّنا في الوقت نفسه نعمل في حصّة الدين على محاربة ما تعلّموه في حصّة العلوم والفلسفة، وفي ساعة التاريخ العربيّ على تصحيح ما تعلّموه في حصّة التاريخ العالميّ، ونعلّمهم كيف يكتبون في الشهادات الأجنبيّة ما يلائم هذه الشهادات، وفي الشهادات المحليّة الوطنيّة ما يلائم واقع الحال المحليّ. أيّ خبث هذا؟ وأيّ كذب؟ وأيّ استهتار بعقول المراهقين؟
وندعو تلاميذنا إلى تنمية قدراتهم الفنيّة والرياضيّة ونقنعهم أن لا صحّة بتاتًا لمقولة: موادّ أساسيّة وموادّ ثانويّة، وأنّ الإنسان كائن متكامل وعليه أن يولي الآداب والعلوم والفنون والرياضة الأهميّة نفسها، ولكنّنا عند حسم الأمور في آخر العامّ الدراسيّ، نهنّئ من نجح في الموادّ العلميّة ونرفّعه صفًّا، ونطرد الفنّان لأنّه مزاجيّ، والرياضيّ لأنّه لا يكفّ عن الحركة، والأديب لأنّه ليس بارعًا في الحساب.
والأدهى من كلّ ذلك أنّنا نثور لأنّ الخبث سيّد المواقف، ولأنّ الناس يكذبون ويتحايلون ولأنّ أوطاننا من دول العالم الثالث وما دون، ولأنّ تلاميذنا لا يملكون حسًّا نقديًّا ولا يعرفون حتّى أن يحلّلوا نتائج "ستار أكاديمي" و"سوبر ستار".
نحصد ما نزرع ولذلك فلن نحصد من مناهجنا التعليميّة الحاليّة إلاّ الغباء والاجترار والجبن.

الجمعة، 28 أبريل 2017

رواتب آخر الشهر تقتل الشعر (2009)



1 - كان حكّام الأزمنة الغابرة يفهمون الشعر ويحبّونه فازدهر الشعر، ويوم أغلقت أبواب البلاطات أمام الشعراء وشرّعت أمام الكاميرات دون سواها تراجع الشعر، وصارت الأقلام معاول تحفر فتحات للنور والهواء والطعام في نفق الحياة الضيّق.
*****

2 - يعرف الشعراء اليوم أنّهم، في الوقت الذي قد يصرفونه على نظم القصيدة وتنقيحها وتصحيحها وتوسّل زاوية لنشرها، يكتبون عشرات المقالات للصحيفة، أو يقدّمون عشرات الحلقات التلفزيونيّة أو الإذاعيّة، أو يصحّحون مئات الأوراق لمئات التلامذة، أو يخلّصون معاملات آلاف المواطنين، وكلّ ذلك في سبيل تأمين رواتب آخر الشهر. فإذا كان السيّد المسيح قال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فذلك لا يعني أنّ الشعر وحده يفعل.
*****

3 - من بين الشعراء المعاصرين، ارتبط اسم الشاعر سعيد عقل في شكل واضح وصريح بالإصرار على حقّ الشاعر في أن يعيش محفوظ الكرامة من ريع كتاباته والمقابلات التي تجرى معه. وقد نقلت عنه مواقف وآراء، قد يكون فيها شيء من المبالغة، تعلن أنّه لا يرضى بالكتابة مجّاناً ولو سطراً واحداً ولا بالظهور في أيّ برنامج ما لم ينل حقّه الماديّ كاملاً، غير أنّ الناس يتناسون جائزته الشهريّة التي كان يقدّمها من جيبه الخاصّ لمبدعين في شتّى المجالات. ولكنّ الآخرين ليسوا هو، وبالتالي لم يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم كما فعل، فكان عليهم أن يبقوا في وظائفهم أو أن يبحثوا عن عمل يؤمّن لهم راتباً يقيهم العوز، أو على الأقلّ كان عليهم أن يجاهدوا طويلاً، ويخسروا الكثير قبل أن يصلوا إلى المرحلة التي يقرّرون فيها متى وأين يكتبون وماذا يريدون مقابل إبداعهم.
*****

4 - لا تنفع المهرجانات في رفع شأن الشعر، ولا تستطيع الجوائز السنويّة أن تفي الشاعر حقّه، ولا يقنع أحداً القولُ إنّ المعاناة هي التي تحرّك قرائح الشعراء. الحريّة وحدها هي التي تنتج شعراً، وحين يتحرّر الشعر تتحرّر تلقائيّاً الفنون كلّها والإبداعات كلّها. الحريّة هي التي تجعل الشعر يثمر ويعطي ولا يختنق في أدراج سريّة. ومن دونها، من دون التحرّر من كلّ رقابة أو سلطة أو حاجة أو عوز أو دَين، لا يمكن أن يولد شعراء كبار، وعلى الأكثر سيكون عندنا موظّفون يكتبون مقالاتهم بطريقة شاعريّة.
*****


5 - خَلاصُ الشعر في أن تفهم السلطة ما يقوله الشعراء، لا أن يرضوا عمّا يقولونه أو يوافقوا على ما فيه. وأكاد أجزم أنّ الأنظمة التي تضطهد الشعراء هي الأنظمة التي لا تفهم ما يقوله الشعراء لا تلك التي تعترض على ما يقولونه. فالسلطة تفضّل إسكات الشعراء كي لا يفضحوا جهلها معاني الشعر، وصور الشعر، وموسيقى الشعر، ومضامين الشعر، ورموز الشعر. فقتل الشعراء أسهل من فهمهم.
*****

6 - ألا يخجل الشاعر من المطالبة بحريّة الوطن وهو عاجز عن تحرير نفسه من متطلّبات مديره في العمل؟
*****

7 - تعلّم الشعراء أنّ رواتب آخر الشهر موعدها آخر الشهر، ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بموعد الوحي أو ساعة الإلهام. فالشعراء الذين كانوا من حملة الأقلام وأكثر الناس جهلاً بعلم الأرقام صاروا موظّفين من حملة الآلات الحاسبة ودفاتر الحسابات المصرفيّة.
*****

8 - بعض أصحاب الصحف يقول للشعراء: ادفعوا لنا كي ننشر قصائدكم لأنّنا نقدّم لكم فرصة نادرة للظهور في زمن استقالة الشعر من قيادة العالم. ومعظم الشعراء يقبل.
*****

9 - لا تتوقّعوا جائزة نوبل أيّها المبدعون العرب قبل أن تستحقّوا جائزة النبل.
*****

10 - تعدّدت اللغات والمضمون واحد.
*****

11 - ما نفع الشاعر إن كان في رأسه أكثر من بيت وليس فوق رأسه سقف واحد؟
*****

12 - قالت المرأة لزوجها الشاعر وهي تطلب منه الطلاق: خذ كلّ بيت كتبتَه وأنا آخذ هذا البيت!
*****

13 - حين وقّعتُ عقد العمل في المؤسّسة علمت أنّني لن أوقّع كتاباً جديداً.
***

* صحيفة "النهار" - الثلاثاء 17 تشرين الثاني 2009

الأربعاء، 26 أبريل 2017

ثمار بطنها وثمار فكري (من كتابي أحببتك فصرت الرسولة)


ثمار بطنها أولاد يؤرجحون عمرك بين الأمل والملل
تعطيك إيّاهم الحياة
وهي تذكّرك في كلّ لحظة بأنّهم ليسوا منك ولك
بل ودائعُ عندك يؤخذون منك مهما اعترضت ورفضت
وثمارُ فكري كتب تحكي للأطفال حكايات
وتروي سيَر الرجال ليتعلّم منها الأولاد
أوزّعها للناس ولا أترك منها
ولو نسخةً واحدة عندي
***
ثمار بطنها فاكهة الحبّ الحلال
وثمار فكري محرّمات تلاحقها محاكم التفتيش
ثمار بطنها مباركة
وثمار فكري تلاعب اللعنة
وتستفز شياطين الشعر
وتشاكس الممنوع
فماذا تختار يا رجل الاشتهاء؟
***
في عينيها هناءة القانعات الراضيات الآمنات
وفي عينيّ استفهام يرتسم علامات
تتعلّق بالسماء
وتحاول أن تقف على الأرض
في صدرها حليب الخصب المحيي
وفي صدري نار آكلة ملتهمة
في بطنها أجنّة آمنة تنتظر موعد الولادة
وفي رأسي أفكار متوثّبة لا تطيق الأسر
فمن تختار يا رجل الحيرة؟
***
حاولت أن أكونها
تلك المرأة التي هي على صورتي ومثالي
وحاولت المرأة التي هي بعضُ أنَاي أن تكونني
حاولنا فعلاً
حاولت أن ألقّح بطني ببذار الخصب
ألتقطها من أفكاري المتراكمة المتزاحمة
فضاقت أحشائي عمّا يدور في رأسي
وحاولت المرأةُ التي هي أناي الأخرى
أن تلقّح عقلها بصور الأجنّة المرسومة على جدران بطنها
فوجدت خيالها ممتلئًا أطفالاً وأولادًا
من مختلف الأعمار والألوان والجنسيّات والأشكال
وفشلنا وصار عليك أن تختار
فمن تختار يا صاحب الأبوّة المعلّقة؟
***
أنا وهي لن نلتقي
يا صديق الآلام والأشجان
ويا عشير العصافير والأشجار
لأنّنا وجها ميداليّة الحبّ التي علّقتها الحياة فوق صدرك
فحين تعرض (أنت) وجهها للناس أختبئ أنا فيك
وحين تختار (أنت) أن تكون معي تختفي هي
فكيف ظننت أنّ في إمكانك أن توفّق بين وجودي ووجودها؟
ومن أين لك هذا الإيمان
بأنّ الحياة ستمنحك ما حرمت منه سائر البشر؟
وكيف ظننت أنّك قادر على توليد الخصب في كلتينا
لننجب لك ذريّة صالحة من الأطفال والكتب؟

الجمعة، 21 أبريل 2017

بحيرة الدموع الزجاجيّة (النصّ الثاني والعشرون من كتابي رسائل العبور - 2005)

(Pierre Auguste Cot (17 February 1837 – 2 August 1883


    اخترعتك لأنّني في حاجة إليك، وقبل ذلك لم يكن لوجودك وجود.


     أيّها العابر بين الحلم واليقظة وبين النعاس والنوم، ها أنا الليلة مشوار عبورك وأريحك من همّ السفر فوق الأسطر المنتظرة وطء الكلمات يرسمها مرورك الضبابيّ. وأقلب القلم رأسًا على عقب لأمحو صورتك المصنوعة من وهم احتفالي بك وشوقي إلى احتمال انبثاقك من بين جفنَي الانتظار.
    أيّها المصنوع من ندى صيفيّ وبروق شتائيّة، أمزّق الليلة الورقة الأخيرة من روزنامة الفصول وأسدل الستائر على الشبابيك المنتظرة وجهك، وأعلن نهاية الرواية.
    أيّها الرجل المتنزّه على صراخ الألم، والمتفرّج على انتحار اللذّة، والساخر لحظة يبكي الحنين! دعني أصدّق الليلة أنّي قادرة على الاغتسال ببكائك النهائيّ، وعلى الإقامة ولو للمرّة الأخيرة في بحيرة عينيك الآمنة كالرحم، وعلى أن ألبس دموعك ولو للمرّة الأولى جلدًا مائيًّا كغلالة عروس.
   لم أكن أعرف حين أنجبَتك رغبتي فيك أنّك قادر على البكاء، أنت الرجل الذي أغمض عينيه كي لا يراني لأنّه يخاف أن يرى، والذي كان يتكلّم كي لا يترك لي الفرصة للكلام لأنّه يخاف أن يسمع ما أرغب في البوح به، والذي كان يخبّئ يديه كي لا أرى رعشة الاشتياق في أصابعه.
   وحين فاجأتني وبكيت بدا العالم جميلاً ونظيفًا كأنّه يغتسل بماء المطر الأوّل، وبدت الدموع قادرة على محو الآلام والأحزان، كأنّك تبكي عن كلّ المتألّمين، وعن كلّ التائبين، وعن كلّ العشّاق، وعن كلّ المتروكين. بيد أنّ لحظات قليلة كانت كافية ليتبدّد كلّ ذاك الذي بدا للحظة حزينًا وحنونًا وحقيقيًّا، وإذا بعينيك الجافّتين المصنوعتين من الزجاج الملوّن الجميل تجودان بدمع غريب يحرق لكنّه أضعف من أن يشفي، يهمي لكنّه أبخل من أن يروي، يغسل لكنّه أعجز من أن يطّهر.
    أيّها المصنوع من أحلام طفلة وأوهام عجوز، حكتكَ من خيوط الكلمات التي لن تغفر لي خطيئة صنعك، لأنّ جنون كبريائك جعلك تتعالى عليها هي التي تباهت بك منذ لحظة تكوينك.
    فلتُمحَ إذًا الكتابة التي جعلت الرجال يحسدونك، ولتُمزّق الصفحات التي تمدّدتَ فوق بياضها ملكًا لا انتهاء لملكه، ولتتحطّم العناوين التي وضعتك عنوانًا لكلّ كتابة. ولتُغفر خطيئتي لأنّي جدّفت على الكلمة حين آمنت في صدق أنّ اللقاء بك أجمل ممّا أكتبه.
(نشر في صحيفة النهار عام 2003)

الأربعاء، 19 أبريل 2017

عن رواية "كلّ الحقّ ع فرنسا" بقلم الشاعر جوزف أبي ضاهر


رواية لها مهابة أسرار المطر فوق قرميدٍ وناسٍ أشجار حياة
وردة تجاوزت الحبّ كي لا تَخسَر... العشق
جوزف أبي ضاهر
صحيفة الأنوار اللبنانيّة - 19 نيسان 2011


قليلةٌ هي الروايات التي تأسر، وتهيمن، حتّى لتجعل القارئ واحدًا من أبطالها، يُطارد ظلالاً فوق الورق، تشاكسه، وتمتنع عن بوحٍ انتظره، وتنجح في أخذه إلى حيث تريد.
أنا أحد الذين أخذتهم رواية كلّ الحق عَ فرنسا لماري القصّيفي، لأشاهد بعض ما ظننت أني شاهدته سابقًا، أو سمعت عنه، ولأشهد على أفعال غَطّاها المجتمع برماد خوفه من الألسنة والدين والعادات، وهي ما تجاوزت عتبة بيته أو قريته، وإذا ابتعدت وصلت إلى حدود غربة المدن التي تبتلع كل شيء.



حضور النساء في الرواية، حضور حسّي لحياة مضطربة. تأتي الصور من غير مصدر، ولو في تشابه، وكلّ امرأة تحتفظ بصورة أو أكثر... وحتّى الرجال، يحتفظون ببعض صور توحي بما يضمرن، من دون إفراط.
وحدها وردة فلشت حضورها. اضطلعت بدور البطولة، منذ فَرنَج اسمها أول عابر بها، قطف رغبةً، وما انتظر ثمرًا، ولو ندهته الفتنة شوقًا. تقمّص دورًا، وانتقل إلى آخر، كان له فيه من ينتظره، وعلى عكس انتظار الحاضر، الراضخ للإمتلاك بالكليّة جسدًا حُرم الوقوف في ضوء العري المبارك، من دون وَجَلٍ أو خجل.
مُلِكتْ، ولم تَملُك. الملح في الجرح دعوة للخروج من شرنقة التعثّر إلى الارتماء فوق الموج... ولتتعب الخيانة، وحدها، من التجذيف عكس التيّار.

وردة التي فرنج اسمها الكولونيل إلى روز، تجاوزت الحبّ في سيرتها، كي لا تَخسَر العشق.
القبض على الأجساد إرضاء وحاجة، في آن، واختصار غضبٍ وتعبٍ وقرفٍ ما استطاعوا اقتلاعها من حديقة العائلة، والممرات النابت فيها الشوك.
بعد زيجة لم تتم وانتهاء خدمة الكولونيل، وعودته إلى عائلته في فرنسا، خلعت روز جسدها ونشرته في الشمس، ليجفّ من رائحة كانت المسام اشتهتها، وما عادت خرجت.
ذاكرة النساء مثل ذاكرة المسام، تحتفظ بالأحداث، وتسمح بإظهار ما لايطالها بذنب، أو بِرَدّ فعل أو انفعال.
قد يُظن أن ذاكرتهم كتاب فُتح على وجوه، لكن اللهاث، هربًا من الإجابة، يُشكّل ضبابًا كثيفًا يضمن له الحماية.
لم تهرب وردة روز من الأصوات والعيون والريح التي لاحقتها عاصفة.
هربت مما في داخلها، تعبت مما لم تملك، وهي التي مَلّكت. شعرت بهزيمة لا غفران في الانقلاب عليها، أو التخلص منها، إلا بدخولها، وفعلت.

صحيح أن وردة هي زهرة الكتاب الذي فلش أوراقه من زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، في النصف الأول من القرن الماضي، مرورًا بالنصف الآخر منه، والحرب... وربما إلى الآن، وما تزال بعض الأوراق تنتظر حبر الذاكرة، لتخرج لابسة امتداد حكاية هي نمط حياة كاملة لمجتمعات متداخلة بعضها ببعض، ولرغبات يختلط فيها واقع الحال، بتداعيات أحلام لم تكن كلّها بنت مخيّلة، بعضها صُنِع وحقّق مآرب، ولو على حساب رومنسية أصيبت بخيبة ميول تَعرّت، وتحوّلت في اتجاه معاكس، وجاء القبول تعوّدًا.
صحيح أن كلّ امرأة تُحبّ أن تأخذ الحكاية إليها، وأن تكون هي بطلتها، لكن هذا لا يعني أن الباقيات تركن حَقّهن يضيع، وخرجت كل واحدة إلى الضوء بما سمح لها موقعها.
الأم التي غضت طرفًا، لترتيب زواج لابنتها وردة من الضابط الفرنسي، لم تستسلم للنتائج. منعت الفضيحة من الدخول إلى مجتمعها وبيتها، وحوّلتها إلى نعمة استفادت منها ماديًا، وخصوصًا بعد امتهان روز لجسدها.
وفي مشاهد تشبه مجتمعًا بتناقضاته، حدثت في العائلة زيجة مختلطة، وزيجة من شريكين غير متكافئين، ودخل الابن الأكبر مهنة تهريب المخدرات قبل أن يشبّ، وحظي برضى الأم التي أخذت الغلّة وباركت، إلى الحرب وجنون القتل والقنص والخطف فالعصفورية وسكّانها من المرضى، ومن يُظن انهم أصحاء، إلى تأثير الدين والتطرّف والممارسات، والدخول في العادات إلى حدّ إلباسها مهابة من القدسيّة، وصولاً إلى نهاية لا تضع نقطة في آخر النص، ولو كانت انتحارًا، فتستفيق الذهنية الجماعية التي تُسقط الخاص على ما عداها، وهي منه في الصميم.
قصة وطن، قصة مجتمع، قصة طوائف ومذاهب وتناقضات تمثّلها قصة عائلة، وعائلات في كلّ زمان ومكان.

هدهدت الكاتبة الكلمة في نصّها، دلّلتها، صيّرتها نغمًا، زهرًا، عطرًا لا ينزل إلا على جسد تمرّد ظاهريًّا، ثم ضعف واعترف.
القلم أطاعه الجمال صياغةً، فإذا النثر في موقعه البهيّ تألقًا، تأتيه الأفكار ناضجة، لثقة تصل بها إلى الكتاب المشرّع على السفر إلى الضوء.
صناعة النص لدى ماري القصّيفي تأخذ خصوصيّة الجوهرجي، وكأنها من عصب يتسارع، يجيء، قبل أن يهدأ من فرط ما حمل من مشاعر وأحاسيس، هي من النِعَم هويّة وميزات، لنا منها حظّ المطلِّ الناظر إلى المدى، حيث تغيب شمس، لتشرق أحلام الحكايات في مدن، وفي ضياع تقابلها.
أما الأسلوب فما عرف العادي من السرد، إذ لا كلمة في غير موقعها، ولا عبارة شابها نقص في مضمون، أو في شكل يُحسب له الحساب في نص، قصر أم طال، إنه الضرورة في الكتابة.
تنوع في بلاغة، يزيد في التماع لسكب نهر من السواقي يصل إلى مصبٍ في بحرٍ تأخذ الرواية منه مكانتها، وتعبر، من واقع إلى واقع، وبين الاثنين ما جُمع من حقيقة، أو مخيّلة، ومن خصوصيّة هي لبّ، من دونه يقع النص في مجانيّة لا حياة دائمة فيها، ولو تَجمّلت.

لحكاية كلّ الحق عَ فرنسا مهابة أسرار المطر، فوق صخرٍ، فوق ترابٍ، فوق قرميدٍ وناسٍ أشجار حياة، لكلّ شجرة زهرها وشوكها وثمرها ونكهة الحضور في العين والفم والقلب. وأما العقل فلا يبتعد عن دور له، أَظَهَر فوق بياض الورق، أم تخفّى.

كلّ الحق عَ فرنسا رواية ماري القصّيفي، منشورات دار سائر المشرق في 337 صفحة من القطع الكبير.

الثلاثاء، 18 أبريل 2017

إلى عاصي ومنصور الرحباني - 2015


27  تشرين الأوّل 2015

صيّف الصيّف بس أكيد رجعتنا صارت بعيدي كتير،
ونسّم الهوا ويا ريتو ما نسّم لأنّو فاحت ريحة الزباله والدخّان،
ودخيلِك يا دني لا تشتّي أحسن ما يزيد موسم الأمراض والأوبئة،
وما بدّي حدا يزرعني بأرض لبنان لأنّها ملوثة وموبوءة...
ودرج الورد صار مدخل بيوت كتيري... بس برّات لبنان،
ومنيح يللي ما كنت أنا وحبيبي وحدنا بالبيت، الأبعد بيت، لأنّو كانو جماعة داعش قتلونا...
ومبلى لازم تخافي ع سالم البردان بجرود عرسال، ومتروك جوعان وفزعان...
وبتتلج الدني وبتصيّف الدني وما في شي رح يتغيّر...
والقمطة العنبيّة لبستها البنت الأثيوبيّة ت تنزّل تنزّه الكلب بالبرد...
ولمّا سألت حبيبي لوين رايحين جاوبني: خلص وصلنا ع الهاوية...
وبيتي صار بيوت الكلّ ما عدا بيتك يا الله، وبالحالتين ما إلي حدا...
والسمرا إم عيون وساع شفتها آخر مرّة ع المطار مهاجرة...
وقمرة جرّبت تطلع ع الشجرة بس ما لاقت ولا شجرة، مع إنّو حبيبا وصّاها تضلّ بالبيت أحسن ما حدا يعتدي عليا...
وكان لازم كون أنا لحبيبي وحبيبي إلي، بس العصفورة البيضا ماتت قبل ما نلتقي...
ولمّا رحت ت إكتب إسمو ما لقيت لا حور عتيق ولا رمل ولا زهرة للكتاب والمزهريّة...
ودمع الزهر نزل دمّ من همّ العمر ومواسم العصافير صارت قصيري والبحر الكبير صار مقبرة الهاربين...
ولمّا جرّب الهوا يدقّ ع الباب ما قدر لأنّو بوابنا صارت مصفّحة أحسن ما حدا يهجم علينا...
وحدّ القناطر كان محبوبي ناطر لمّا انخطَف واختفى وما عدت عرفت شي عنّو...
وكان كلّ عمرو بدّو القمر من السما العاليي ولما طلعت ع السطح ت جيب القمر صابتني رصاصة طايشي...
والجبل البعيد يللي كان خلفو حبايبنا ما عاد جبل ولا بعيد لأنّو الكسّارات أكلتو وبعدين صار مكبّ نفايات وما عاد خصّو بجبل الغيم الأزرق ولا قمر الندي والزنبق...
وجيراني بالقنطرة هاجروا من زمان وما عاد في حدا حتّى الصدى...
يا عاصي ومنصور
الله يسامحكن...


السبت، 1 أبريل 2017

الشاعر والمؤلّف الموسيقيّ بشارة الخوري في سطور


الفنّان بشارة الخوري في سطور
بقلم ابراهام أوهنّسيان*


بمناسبة عيد مولد الشاعر والمؤلّف الموسيقيّ بشارة الخوري الستين، الموافق يوم الثامن عشر من آذار ٢٠١٧، نرى لزامًا أن نُسلّط المزيد من الضوء على هذا المبدع، فنتناول مَحتِده، سيرتَه وأعماله.

* ولد في طرابلس شمال لبنان. هاجر سنة ١٩٧٥. مقيم حالياً في مهبط السماء (Skyfall) في اسكتلندا.


أوّلاً – المَحتِد:

وُلِدَ بشارة الخوري في حيّ النقاش، من أعمال بلديّة أنطلياس، بتاريخ ١٨ آذار ١٩٥٧، في بيتٍ يَصُحُّ القول بأنّه مستَنبَتٌ للعباقرة (Une pépinière de génies).
جدّه لوالده، هو الشاعر بشارة عبد الله الخوري (١٨٨٥ – ١٩٦٨) المُلقّب بالأخطل الصغير، الذي أسّس جريدة "البرق" سنة ١٩٠٨، وانتُخب نقيباً للصحافة سنة ١٩٢٥. له "الهوى والشباب" و"شعر الأخطل الصغير". وهو من أشهر شعراء الغزل. نظم أيضًا قصائد وطنيّة ضمّنها هجاءً لاذعًا في حقّ الساسة الفاسدين وفي حقّ الشعب المتواني عن مقاومة الظلم والفساد، الأمر الذي من شأنه إيجاد تفسير لرفض السلطات اللبنانيّة، غداة الاستقلال عن فرنسا، طلب إعادة إصدار جريدة "البرق" التي عطّلتها سلطات الإنتداب، سنة ١٩٣٢، وأوقفتها عن الصدور*.

*  الدكتور جوزف الياس، مقال بعنوان "مئة سنة على صدور جريدة "البرق"– جريدة النهار: العدد ٢٣٤٥، تاريخ ١- ٩ - ٢٠٠٨


بُويِع الأخطل الصغير إمارة الشعر العربيّ إبّان احتفالٍ تكريميّ في القاعة الكبرى، بقصر الأونيسكو، سنة ١٩٦١ برعاية رئيس الجمهوريّة آنذاك، الأمير اللواء فؤاد شهاب، وبمشاركة كبار الشعراء العرب.

المؤلّف الموسيقيّ بشارة الخوري في حضن جدّه الأخطل الصغير

والده، عبد الله بشارة الخوري (١٩٢٢-٢٠٠٥)، هو نجل الأخطل الصغير. حاز إجازة الحقوق الفرنسيّة من جامعة القدّيس يوسف، في بيروت، سنة ١٩٤٤. مارس مهنة المحاماة، فكان من أبرز رجالاتها. لكنّ ذلك لم يُثنه عن كتابة الشعر سرّاً مذ كان تلميذًا في مدرسة الحكمة، ثمّ علناً حين ألقى، سنة ١٩٦٩، بمناسبة مرور سنة على وفاة الأخطل الصغير، قصيدة "مولد الموت" وفيما بعد، حين نشر ديوانين شعريَّيْن باسم عبدالله الأخطل: "الديوان الأخير"، سنة ١٩٨١، و"عمري ألف عام"، سنة ١٩٨٤. ولعبدالله الأخطل أيضًا مخطوطات غير منشورة.


بشارة الخوري مع والده عبدالله الأخطل

من كتاب زينه صالح كيّالي - ص 18

والدة بشارة الخوري، هي سلوى حنّا الرحباني (١٩٢٩-٢٠١٣)، التي رافقت شقيقيها، عاصيًا ومنصورًا، كمغنيّة تؤدّي أعمالهما عند ابتداء مشوارهما الفنيّ، وذلك قبل التقاء عاصي الرحباني بنهاد حدّاد (فيروز). تعلّمت سلوى العزف على آلة البيانو. كانت شاعرةً رهيفةً. لها خواطر شعريّة منشورة، في بعض الصحف، باسم "هلا الريم". وقصّةٌ منشورةٌ باسمها الأصليّ (وجهي الآخر)، فضلاً عن خواطر وأقاصيص غير منشورة.
سلوى الرحباني والدة بشارة الخوري

من كتاب زينه صالح كيّالي -  ص 16
***

أخوال بشارة هم الرحابنة عاصي (١٩٢٣ – ١٩٨٦)، منصور (١٩٢٥ – ٢٠٠٩) والياس (تولّد سنة ١٩٣٧)، الأغنياء عن التعريف. قدّم الرحبانيّان، عاصي ومنصور، في المرحلة الممتدّة من ١٩٥٧ إلى ١٩٧٥، مع فيروز والفرقة الشعبيّة اللبنانيّة، أعمالاً حقّقت نهضة موسيقيّة عارمة في لبنان استمرت أصداؤها إلى اليوم.*
وساهم الياس الرحباني في إدخال اللحن الغربيّ على الأغنية اللبنانيّة وفي انتشارها في أصقاع متعدّدة من العالم.
يتبيّن، ممّا تقدّم، أنّ بشارة الخوري تكوّن ووُلد ونشأ بين ربّة الشعر وربّة الموسيقى. وهذا ما يتبدّى بصورة أكثر وضوحًا، عندما نلقي نظرة شاملة على سيرته.

* كمال ديب، تاريخ لبنان الثقافي من عصر النهضة إلى القرن الحادي والعشرين، بيروت، المكتبة الشرقية، ٢٠١٦، ص. ٢١٣


ثانياً – السيرة:



ظهرت سيماء النبوغ الشعريّ والموسيقيّ لدى بشارة الخوري منذ الطفولة. فالولد الشقي، ذو السنوات الأربع، بدأ يقول أبياتًا شعريّة من "عنديّاته"، فتتولّى والدته أمر تدوينها على دفاتر صغيرة ملوّنة*.
وكان يُبدي فرحاً عارماً خلال دروس العزف على البيانو التي كانت تتلقّاها سلوى، والدته، على يد مادلين مدوّر بيليفانيان**، في "الفيلّلا" العائلية المتربّعة فوق تلال حيّ النقّاش، الخضراء وقتذاك، والمطلّة – بلا استئذان – على البحر.
في السادسة من عمره، شرع بشارة الخوري بتعلّم أصول العزف على البيانو. إلا أن نقطة التحوّل الحاسمة باتجاه ارتقائه أدراج الإحتراف العالي، في الموسيقى، تكمن في التقائه، سنة ١٩٦٩، وكان في الثانية عشرة، بالأستاذ هاكوب أرسلانيان***. فلهذا الأخير، وهو المتمرّس في تدريس المواد النظرية المتعلقة بأصول الكتابة الموسيقية، مَقدرة فريدة على شرح هذه المواد (المعقّدة والمنفّرة بالنسبة إلى كثيرين) بطريقة واضحة، بسيطة وسهلة من دون الوقوع في السطحيّة والإختزال، وعلى تلقينها للتلامذة بسلاسة قلّ نظيرها إذ يَعتبر أنها مجرّد أدوات لصقل الموهبة (هذا إن وُجِدَت) لا لتكبيلها. وهو يطبّق المنهاج نفسه، المتميّز بالبساطة والسرعة والفعّاليّة والنأي عن التعقيد، أيضاً عندما يقوم بإعطاء دروس في العزف على البيانو.
درس بشارة على الأستاذ هاكوب أصول التناغم الصوتي العامودي (harmonie)، والتناغم اللحني الأفقي (contrepoint)، والـ (fugue)، التي هي من إرهاصات الـ (contrepoint) وتمتاز بالقالب الهندسي الصارم؛ ومادّتَي التحليل الموسيقي (analyse) والتوزيع الأوركستراليّ (orchestration)، فضلاً عن العزف على البيانو. كما توطّدت أواصر صداقة شخصيّة عميقة بين هذا التلميذ وذاك المعلّم.
من كتاب زينه صالح كيّالي - صفحة 38

من سنة ١٩٦٩ إلى سنة ١٩٧٩ (وهي حقبة تخلّلتها سنوات الدراسة على الأستاذ هاكوب أرسلانيان)، توالت مؤلّفات بشارة الخوري الموسيقيّة، (وتنوّعت)، بحيث اشتملت على سمفونيات وكونشيرتات لآلة البيانو والأركسترا، ومقطوعات (صولو) لهذه الآلة، وقصائد سمفونية للأوركسترا، كما تضمنت إصدار إسطوانتين من الموسيقى الخفيفة والمنوعات الشرقيّة، فضلاً عن بعض الأغاني.
* أنظر بالفرنسيّة Figures musicales du Liban, Bechara El-Khoury compositeur, par Zeina Saleh KAYALI, éd. GEUTHNER, Paris, 2016, p.16
** المرجع ذاته  p.20    ibidem 
*** من مواليد المصيطبة، بيروت، سنة ١٩٤٥. هو ابن مهران أرسلانيان الذي كان قائداً لأوركسترا الجيش. تتلمذ في الموسيقى على بوغوص جلاليان واستيبان إميان. موسيقار علّامة ذو فضل في تربية جيل من الموسيقيّين المحترفين.

في سنة ١٩٧٣، أصبح قائد جوقة التراتيل في كنيسة مار الياس الكبرى – أنطلياس، فوضع ألحانًا كنسيّة عديدة من بينها "إذهبوا في الأرض كلّها"، "يا من تعمّدت في نهر الأردن"، "يا جسدًا على الصليب"، إلخ.
في ميدان الشعر، أصدر بشارة الخوري ثلاثة كتيّبات: "السكوت المتوحّش" (١٩٧١)، "الرياح الأخيرة" (١٩٧٢) و"مجيئك الغريب صدفةً" (١٩٧٣). منحه الرئيس سليمان فرنجية، وهو في الخامسة عشرة، جائزة "الشاعر الأصغر سنًّا"، في احتفال اقتصر على المقرّبين.

مع اندلاع الحرب اللبنانية قرّ الرأي على وجوب مغادرة بشارة الخوري لبنان. فهو صاحب موهبة موسيقيّة فذّة، ولم يعد باستطاعة هذا البلد، الداخل في الفوضى والتحلّل والخراب، أن يتيح أيّ مجال لموهبة مثل موهبته. الأمر الذي دفع بالأستاذ هاكوب أرسلانيان إلى تشجيعه على الرحيل*. وَلكن إلى أين؟ فقد صُرِف النظر عن الذهاب إلى  أرمينيا (الجمهورية السوفياتية وقتذاك) وإلى إيطاليا. وكان لا بدّ من اتخاذ قرار بالسفر... إلى باريس. فَحُزِمت الحقائب في ١٢ شباط ١٩٧٩، ولمّا يبلغ بشارة الثانية والعشرين.
وصل بشارة الخوري إلى باريس وفي يديه حقيبتان كبيرتان: واحدة تحتوي الملابس وثانية تضمّ مؤلفاته الموسيقيّة!... وهناك التقى بيار – بوتي (١٩٢٢-٢٠٠٠)، المؤلّف الموسيقيّ الفرنسيّ والناقد في صحيفة "الفيغارو" (Le Figaro) ومدير المعهد العالي للموسيقى في باريس (L’Ecole Normale Supérieure de Musique) الذي أدرك، منذ اللقاء الأوّل، أنّه يواجه عبقريًّا في الموسيقى. فوافق على إعطائه دروسًا خصوصية تكميليّة في الكتابة للأوركسترا وفي هندسة المؤلفات الموسيقيّة**.
لعب بيار بوتي (Pierre-Petit) دوراً حاسماً في انطلاق موسيقى بشارة الخوري نحو الشهرة على الصعيد الفرنسي. فقد عرّف تلميذه الفذّ إلى كبار العازفين وكبار قادة الأوركسترا وكبريات دور النشر الموسيقية في باريس. كذلك، دبّج بيار- بوتي (Pierre-Petit) عدّة مقالات عن موسيقى الخوري في جريدة "الفيغارو" (Le Figaro)، أوّلها المقال الصادر في ١٨ كانون الأوّل ١٩٨٣، تحت عنوان: " لقد وُلد مُؤلّف" (Un compositeur est né)***، بعد تسعة أيام من تاريخ إقامة أوّل أمسية موسيقيّة مخصّصة بالكامل لأعمال بشارة الخوري السمفونيّة من قبل أوركسترا كولون الباريسية العريقة (Orchestre Colonne)****، بقيادة بيار ديرفو (Pierre Dervaux)*****. إشارة إلى انعقاد تلك الأمسية (Concert de gala) مساء الجمعة ٩ كانون الأول ١٩٨٣على مسرح الشانزيليزيه (Théâtre des Champs-Elysées) بمناسبة الذكرى المئويّة الأولى لولادة جبران خليل جبران، تحت رعاية رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة آنذاك، الشيخ أمين الجميّل (ممثّلاً بوزير التربية الوطنية، نقيب المحامين سابقاً، الأستاذ عصام الخوري)، وإيلاء تلفزيون لبنان مهمّة نقلها مباشرةً.

*Zeina Saleh KAYALI, op. cit., p.37.
**Zeina Saleh KAYALI, op. cit., op 39-40: “[Pierre – Petit] me dit alors qu’il n’a pas grand-chose à m’apprendre à part quelques techniques d’orchestration et un peu plus de structure dans la composition d’une oeuvre”.
***أنظر بالفرنسية المرجع ذاته               Zeina Saleh KAYALI, op. cit., p.43.
****  تاسست هذه الأوركسترا سنة ١٨٧٣ في باريس. وقد تعاقب على قيادتها مؤلفون موسيقيون مرموقون من أمثال سان – سانس (Saint – Saëns)، فاغنر (Wagner)، تشايكوفسكي (Tchaïkovsky)، ريشار ستروس (Richard Strauss)، ديبوسي (Debussy)، كيكلان (Koechlin)، إلخ ...           
 *****  من أهم قادة الأركسترا الفرنسيين (١٩١٧-١٩٩٢). ناصر الموسيقى الفرنسية المعاصرة. ترأس وقاد أركسترا كولون (L’Orchestre Colonne) من سنة ١٩٥٨ حتى وفاته سنة 1992، كما ورد في المرجع ذاته، Op.cit.p.58.



استمرّ التعاون المثمر بين بشارة الخوري وأوركسترا كولون (Orchestre Colonne) لسنين عديدة.
سرعان ما تخطّت موسيقى بشارة الخوري (أكانت مكتوبة للأوركسترا أو لموسيقى الحجرة أو للآلات المنفردة) "القُطر الفرنسيّ، وعُزفت في أماكن عدّة من بينها بودابست، القاهرة، بيروت، لندن، كييف وموسكو، وصولاً إلى بازل، هامبورغ، برلين، أبو ظبي وديترويت...
حاز الخوري على الجنسيّة الفرنسيّة سنة ١٩٨٧.
نال دِرع الفنون والثقافة من المؤسسة اللبنانيّة للإرسال سنة ١٩٩٤ وفي العام ٢٠٠٠ جائزة "روسّيني" التي يمنحها المعهد الفرنسيّ (L’Institut de France). وقلّده رئيس الجمهوريّة اللبنانية، العماد إميل لحّود، وسام الأرز الوطني من رتبة فارس في احتفال خاص أقيم للمناسبة،  بتاريخ ١٧ آذار٢٠٠١، في السفارة اللبنانيّة في باريس.
كما تسلّم "جائزة سعيد عقل" في احتفال أقيم سنة ٢٠١٥ في جامعة N.D.U.، في الذكرى السنويّة الأولى لرحيل "المعلِّم".

تُعتبر مسابقة ماستربرايز (Masterprize) العالميّة للتأليف السمفونيّ، التي تُقام سنويًّا في العاصمة البريطانيّة، نقطة صعود نجم بشارة الخوري في اتّجاه الشهرة العالميّة. فمن بين ١٥٠٠ متسابق من بلدان العالم أجمع، تمكّن من التأهُّل، مع خمسة متسابقين آخرين، إلى المرحلة النصف – النهائيّة إبّان دورة العام ٢٠٠٣، ما أتاح المجال لتأدية مقطوعته المشاركة في تلك المسابقة "الأنهار الغارقة" (Les fleuves engloutis)، من قبل أوركسترا لندن السمفونيّة (London Symphony Orchestra)، بقيادة المايسترو دانييل هاردينغ (Daniel Harding)، وذلك في قاعة باربيكان (Barbican Hall) في لندن. فتح وصول بشارة الخوري إلى نهائيّات مسابقة ماستربرايز (Masterprize) الدوليّة الطريق إلى تسجيل أوّل أسطوانة CD، من أعماله، في Abbey Road Studio اللندنيّ المرموق، مع أوركسترا لندن السمفونية بقيادة كل من قائدي الأركسترا دانيال هاردينغ (Daniel Harding) ومارتين برابنز (Martyn Brabbins). مع العلم بأنّ شركتي ERATO  و forlane الفرنسيّتين سبق وأن أصدرتا ألبومات تتضمّن أعمالاً أوركسترالية لبشارة في كل من العامين ١٩٨٣ و ١٩٩٦.
في المقابل، توطّدت علاقته مع أوركسترا فرنسا الوطنيّة (L’Orchestre National de France) وأوركسترا باريس (L’Orchestre de Paris) الأكثر شهرةً بين الأركسترات الفرنسيّة. كذلك، أدّت أوركسترات أخرى مرموقة أعمالاً من تأليفه مثل أوركسترا NDR السمفونية في هامبورغ، الأوركسترا الوطنيّة في أوكرانيا، أوركسترا موسيقى الحجرة في بازل، الأوركسترا الفيلهارمونيّة في ستراسبورغ، أوركسترا بوتسدام في برلين، أوركسترا ديترويت السمفونيّة، إلخ ... ونذكر أبرز مؤدّي موسيقى بشارة: قادة الأوركسترا بافو يارفي (Paavo Järvi)، دانييلي غاتي (Daniele Gatti)، إيفيند غولبيرغ – يانسن (Eivind Gulberg-Jensen)، كورنيليوس مايستر (Cornelius Meister)، هانس غراف (Hans Graf) فضلاً عن الراحل كورت مازور (Kurt Mazur).
ومن العازفين المنفردين 
عازف الناي (flûte) إيمانويل باهو (Emmanuel Pahud)، 
عازف المزمار (Clarinette) باتريك مسّينا (Patrick Messina)، 
عازف البوق (Cor) دافيد غيرييه (David Guerrier)، 
عازفو الكمان جيرار بوليه (Gérard Poulet)، دانييل هوب (Daniel Hope)، سارة نمتانو (Sarah Nemtanu) وفاني روبيّار (Fanny Robilliard)، 
وعازفو البيانو باسكال أمواييل (Pascal Amoyel)، جيل بن كيمون (Gilles Benkemoun)، عبد الرحمن الباشا، تاتيانا بريماك – خوري (قرينة المؤلّف الموسيقيّ اللبنانيّ هُتاف خوري)، وسيمون غريشي (ٍSimon Ghraichy) البرازيليّ من أصول لبنانيّة، إلخ ...
استطاع بشارة الخوري أن يكتب اسمه على القائمة الذهبيّة بين المؤلّفين الموسيقيّين المرموقين. يعود الفضل في هذا إلى موسيقاه، ما يحدو بنا إلى مقاربة هذه الموسيقى بما يتيحه نطاق هذا المقال.


ثالثًا – أعمال بشارة الخوري الموسيقيّة:

في المُستَهَلّ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ جميع أعمال بشارة الخوري الموسيقية المعروفة هي تلك الواردة في الفهرس الرسميّ (Catalogue officiel) لمؤلفّاته*، أي المؤلّفات التي شرع بكتابتها في باريس إثر تتلمذه على بيار – بوتي (Pierre-Petit). فلا أثر بالتالي، في أيّ فهرس آخر، لمؤلّفاته الغزيرة العائدة لمرحلة الطفولة والصبا في لبنان والسابقة، في مطلق الأحوال، لسنة ١٩٧٩. بيد أن هذا الأمر لا ينفي عن مؤلّفات "الحقبة اللبنانيّة" الجودة العالية التي اتّسمت بها كما يؤكّد عارفو بشارة، وبخاصّة  الأستاذ هاكوب أرسلانيان.
  *Zeina Saleh KAYALI, op. cit., p.116
كذلك نشير إلى أنّ الشعر لطالما شكّل مصدر إلهام أساسيًّا لموسيقى بشارة الخوري (الذي يكتب أيضاً قصائد بالفرنسيّة)، ولا سيّما كتابات فريديريك نيتشه، وجبران، وطاغور، ولامارتين، وتشارلز بوكوفسكي، إلخ...، فضلًا عن نظرته الرومنطيقيّة إلى الطبيعة، وعشقه للحياة وللنساء، قراءته الفَجائعيّة (vision tragique) للحال الإنسانيّة (La condition humaine).

من المؤكّد أنّ هذه المعطيات تركت بصمات واضحة على موسيقى بشارة. فهذه الأخيرة تمتاز بخصال قلّما نجدها في الموسيقى المعاصرة الجادّة: فهي تستوقف السامع، تجتذبه إليها، وتخرجه عن أطواره (كما تفعل الريح الماطرة بالعشب الراكد) مُرغِمةً أحاسيسه وأفكاره على الارتقاء إلى ما يَحجُبُه الروتين الآمن المُطمَئنّ.

                                                                                          
المؤلّف الموسيقيّ بشارة الخوري مع Daniel Hope
     
اتّبعت موسيقى بشارة الخوري مسارًا تصاعديًّا واضحًا يسمح بتجزئتها إلى مراحل ثلاث:

١- مرحلة الوصول إلى باريس والأعمال الموسيقية الأولى (التي يعترف بها المؤلّف). يطغى النفس الرومنطيقيّ والوجدانيّ على هذه الأعمال رغم حداثة اللغة الموسيقيّة المعتمدة.
أبرز أعمال هذه المرحلة هي تلك التي عُزفت في الأمسية الموسيقيّة الباريسيّة الأولى (سنة ١٩٨٣) والتي تضمّ أعمالاً للأوركسترا، منها:
 "اللحن الجنائزيّ لشهداء الحرب اللبنانيين" (Requiem)، 
القصيدة السمفونيّة الأولى "لبنان يحترق" (Le Liban en flammes)، 


القصيدة السمفونيّة الثانية "مراكب من ورق" (Les bateaux de papier)، 
مقطوعة "آلهة الأرض" (Les Dieux de la Terre
المجموعة السمفونيّة "الليل والمجنون" * (La Nuit et le Fou). والعملان الأخيران هما من وحي جبران.
*المهداة إلى الأستاذ هاكوب أرسلانيان.

٢- مرحلة التحديث والتجريد (إن جاز التعبير). تبتدئ مع طباعة الأعمال الموسيقيّة لبشارة الخوري لدى دار النشر الباريسيّة Max Eshig، (التي اندمجت فيما بعد مع شركة
durand- salabert) وألفونس لو دوك  Alphonse Leduc ولا سيّما السوناتة الأولى لآلة البيانو (Sonate no.1 pour piano)*، الكونشيرتو للبيانو والأوركسترا (أداء عازف البيانو عبد الرحمن الباشا وأوركسترا Colonne  بقيادة Pierre Dervaux في Salle Pleyel  يوم ١٧ آذار ١٩٨٦)، وسمفونية "أطلال بيروت" (Les ruines de Beyrouth) المكتوبة سنة ١٩٨٥ والتي أدّتها الأوركسترا الفلهارمونيّة اللبنانيّة، في كنيسة الآباء اليسوعيّين، سنة ٢٠٠٩، بقيادة فوشياك شيبيل.
* المرجع ذاته Zeina Saleh KAYALI, op.cit., p.86-89



٣-  مرحلة الجمع بين النقائض المُشار إليها أعلاه (أهي نقائض حقيقيّة؟). وهي متزامنة مع بدء اشتهار موسيقى بشارة الخوري على الصعيد العالميّ بدءًا من سنة ٢٠٠٣. من أعمال هذه المرحلة: 
"الأنهار الغارقة" (Les fleuves engloutis) وهي المقطوعة الأوركستراليّة التي فازت في مسابقة ماستربرايز (Masterprize)، 
"نيويورك، الدموع والأمل" مهداة إلى ضحايا الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ وهي للأوركسترا، 
New York, Tears and Hope 


القصيد السمفونيّ رقم ٦ "أمداء – تشظيّات" (Espaces –fragmentations)، 
افتتاحيّة "عواصف" (Orages) للأوركسترا (سنة  ٢٠١٣ (، إلخ ...



هناك ثوابت يمكن استخلاصها من مجمل النتاج الموسيقيّ لبشارة الخوري: امتلاك ناصية الأوركسترا وطاقة هائلة على تطويعها، ما يتيح القول، من دون مبالغة، إنّ بشارة الخوري معلّم من معلّمي هذا النوع من الكتابة في القرن الحادي والعشرين (Un maître de l’écriture pour l’orchestre au XXIème siècle)، أسلوب موسيقيّ متفرّد، قادر على تخطّي التناقضات الجماليّة (Les divergences esthétiques) القائمة، في الغرب، بين المدارس والتوجّهات الموسيقيّة المتنوّعة، والمتباينة، وعلى استنباط لغة مغايرة لا تشبه إلّا ذاتها.
***
Avec le chef David Molard et la violoniste Triin Ruubel


Kurt Masur,Bechara El Khoury and Sarah Nemtanu.
Avec Vicens Prats 

ما كتبناه عن بشارة الخوري سوف ينتهي بعد أسطر قليلة. لكن يهمّنا التأكيد على أنّ سيرة بشارة ومسيرته هي سطور لا تنتهي! ... فسُنّة الإبداع أن لا ينضب الإبداع إلّا برحيل المُبدع.
هنيئاً لك العيد الستون، يا عزيزي! وَلتَبتَكر عبقريَّتُكَ بعد ...

أ.أ.



ملاحظة: يمكن لمحبّي الموسيقى الراغبين في الاستماع إلى أعمال بشارة الخوري الموسيقيّة إيجاد بعضها على "غوغل"،  عن طريق النقر على الرابط: Bechara ElKhoury compositeur (كما يفعل كاتب هذه السطور!) أو على يوتيوب. إلّا أنه من الأفضل شراء الإسطوانات (CDs) المتضمنة بعضًا من أعمال بشارة والتي تنتجها شركة "ناكسوس" (Naxos).
للمزيد من الاطّلاع على "الديسكوغرافيا" الكاملة، فضلاً عن سيرة هذا الفنان الاستثنائيّ، ننصح بقراءة كتاب زينة صالح كيالي باللغة الفرنسيّة، الصادر سنة ٢٠١٦، في باريس، عن دار Geuthner، والذي استعنّا ببعض محتوياته في معرض الإعداد لهذا البحث المتواضع.
إشارة إلى إرفاق الكتاب المذكور بمفتاح USB يتيح للراغبين الاستماع، بواسطة الحاسوب إلى بعض المختارات من أعمال بشارة.


مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.