كنيسة في جبيل |
قبل المجمع المارونيّ المفترض عقده قريبًا (؟)، لا بدّ للكنيسة المارونيّة من وقفة تأمّل تسترجع فيها تاريخها وتقرّر في ضوء أحداثه ما هو الثابت وما هو المتحوّل في عقيدتها وانتمائها ورموزها وسياستها وفكرها، وإلّا فستبقى المارونيّة عباءة فضفاضة كعباءة الساحر تخبّئ تحتها ما يحتاج اليه العرض أمام الجماهير فيخرج من تحتها الطريف والغريب والجميل والمخيف، لا كعباءة الكاهن التي من الواجب أن تكون في سواد قماشها رحم الإنسان الجديد، وفي بياضها أمام المذبح ثوب العمادة الطاهر للولادة الثانية.
تبيّن كتب التاريخ التي تسجّل حكاية الموارنة تبيانات فاضحة في الميول والأهواء، تخضع المادة العلميّة التأريخيّة لمزاج كاتبها وميله السياسيّ، بل تفعل أكثر من ذلك إذ تكشف في شكل فاضح التغيّرات السياسيّة والتحالفات المتناقضة التي كان الموارنة طرفًا فيها على مرّ عصور وجودهم في هذه البقعة من الأرض. وصار من الواجب اليوم، على أبناء هذه الطائفة، أن يقرّروا وفي خطوة ثابتة ومصيريّة موقفهم النهائيّ من شتّى التحديات التي يتعرّضون لها. فإذا كان الموارنة خائفين على وجودهم في هذا الشرق، فعليهم أن يعلنوا ذلك في وضوح وصراحة، احترامًا لأبناء الطائفة أوّلًا، ولسائر الطوائف المسيحيّة المرتبط وجودها حكمًا بوجودهم، ولسائر الطوائف الإسلامية التي تتحمّل، في شكل او آخر، المسؤوليّة عن الخوف المارونيّ خصوصًا، والمسيحيّ عمومًا.
بات علينا أن نعرف فعلًا إن كنّا كموارنة عابرين في هذا البلد، أم ثابتين فيه، وذلك بصرف النظر عن تحالفات زعمائنا مع السنّة أو مع الشيعة أو مع الدروز. ولم يعد مسموحًا أن تتغيّر كتب تاريخنا بتغير المراحل، فحين نكون في حالة خوف على المصير نخفي تعاملنا مع الغرب، وخصوصًا مع الفاتيكان وأوروبا، وحين نشعر ببعض اطمئنان نعلن ذلك ونتباهى به ونبحث عن الوثائق التي تؤكّد حدوثه، ونوزّع الكتب التي تتحدّث عن "إخلاص" الموارنة لحاضنيهم الغربيّين واستعدادهم لمدّ جيوشهم الغازية أو المخلّصة بمئات الألوف من المقاتلين الموارنة الأشدّاء، وذلك لحماية الدين والأرض. ومرّات تكون المارونيّة أمّة متكاملة المكوّنات، مكتفية بنفسها ولا تحتاج الى أحد سواها، ثمّ تتغيّر المعطيات ويصبح الموارنة بشحطة قلم أبناء هذا الشرق وحماة اللغة العربيّة وأخوة متضامنين مع أخوانهم في الوطن والأمّة.
خلال الحرب اللبنانيّة أصدر بعض المفكّرين مؤلّفات تنظر الى تاريخ الموارنة الغارق في القِدم من خلال نتائج آنيّة لحرب داخليّة تشابكت فيها الأوضاع المحليّة بالظروف الإقليميّة بالتغيّرات العالميّة. فجاءت هذه الكتابات ضيّقة الأفق، خاضعة لعوامل نفسيّة فرضها الخوف على الحياة والمصير، ما جعل هؤلاء الدارسين يبحثون في التاريخ المارونيّ عن محطّات البطولة والإبداع والانتصارات، وربطوها، من غير وجه حقّ، بمعارك تجري في الشوارع أمام بيوتهم، تختلط فيها المصالح وتتعارض. فأتت هذه المؤلّفات منطقيّة حينًا وانفعاليّة حينًا آخر، كأنّها تدوّن بتأثير اتفاقات وقف اطلاق النار التي لا يمكن أن يختصرها رقم أو بفعل عامل الخوف من القصف والخطف والموت. وليس بهذا الأسلوب يكتب تاريخ الأمم والشعوب والطوائف، فكيف إذا كان الدارسون رجال دين وتاريخ فكر ممن كان لهم التأثيران السياسيّ والدينيّ اللذان ما انفكّت عرى روابطهما على الرغم من وصيّة المعلم: ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟ ولذلك كان الموارنة مرّة مع قيصر ومرّة مع الله. بل حاولوا أن يتلاعبوا بالواقع ويعملوا على التوفيق بين قيصر والله، أو أن يكونوا رسل سلام بينهما، ولكنّ ذكاءهم خانهم أكثر من مرّة، ما جعل الطائفة تدفع أثمانًا غالية بسبب التذاكي الذي لم يحسن وضع الأمور في نصابها الصحيح.
إنّ من يقرأ الأدبيّات المارونيّة التي صدرت خلال الحرب ويقارنها بمؤلّفات كتبت قبل ذلك، أو بمقالات تكتب حاليًّا، يلاحظ في سهولة مطلقة حال الانفصام في الشخصيّة المارونيّة، كأنّ هذه الطائفة تراهن على قصر ذاكرة الناس، أو على أنّ أحدًا لا يقرأ، وإن قرأ فلن يفهم، وإن فهم فلن يحفظ، وإن حفظ فلن يحاسب، وإن حاسب فلن يقسو، وإن قسا فإلى حين. ولذلك ليس غريبًا أن تجد رجل الدين المارونيّ نفسه، يتّخذ مواقف سياسيّة متناقضة تفرضها مصالح بعض رجال الكنيسة أو مخاوف الناس أو ضبابيّة الموقف العامّ، وما على المؤمنين الخاشعين إلّا أن يقولوا: آمين. وليس غريبًا ولا مستهجنًا كذلك أن تصدر دراسات عن الفكر المارونيّ عبر التاريخ وضعها لاهوتيّون وآباء ورهبان تضع في فصل واحد أعلامًا فكريّة من أمثال خرّيجي المعهد المارونيّ في روما في القرنين السابع عشر والثامن عشر كجبرائيل الصهيوني وابرهيم الحقلاني ويوسف السمعاني وغيرهم، ثمّ الشيخ موريس الجميّل والدكتور منوال يونس ومؤسّس "الندوة اللبنانيّة" ميشال أسمر، وفجأة الأحزاب التالية: الكتائب والأحرار والكتلة الوطنيّة وحزب الاتّحاد الدستوريّ، وحرّاس الأرز والتجمّع العسكريّ الزغرتاويّ ولو كان التيّار العونيّ موجودًا خلال الحرب لورد ذكره بطبيعة الحال.
لن تستقيم أمور الطائفة المارونية ما لم توضع مقدراتها في عهدة علماء وأدباء ومفكّرين من ذوي الثقافة والاختصاص. فالفكر هو الذي يوجّه السياسة والاقتصاد والتربية وهو الذي يقرأ الماضي قراءة نقديّة منطقيّة وهو الذي يستخلص العبر والدروس وهو الذي يخطّط للمستقبل لأنّ له القدرة على الاستشراف والاستنباط والتحليل والتصويب، بعيدًا عن الانفعال والمزاجيّة والمصالح الضيّقة، وهو الذي يملك الجرأة على دراسة أسباب الخوف والانعزال والتقوقع أو نتائج الانفتاح والانصهار والذوبان. وما لم يحصل ذلك، وما لم تعد عبارة "عالِم كمارونيّ" الى معجم المصطلحات العربيّة والعالميّة، فلن يبقى للموارنة إلّا أن يتذكّروا أنّهم كانوا فلّاحين روّضوا الصخر وزرعوا الوعر، ثم صاروا علماء أيقظوا الشرق على ضجيج مطبعة قزحيّا قبل حملة نابليون بونابرت بمئتي سنة بحسب تعبير الدكتور فؤاد افرام البستاني، فهل يقبلون اليوم بتحوّل دورهم الى الخدمات: أمصرفيّة كانت أم ترفيهيّة أم فندقيّة؟
*صحيفة النهار - الجمعة 27 شباط 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق