الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017

يعبر ملكًا (النصّ الثاني من كتابي رسائل العبور - 2005)



كملك يعبر شوارع مملكته في يوبيله الذهبيّ ثمّ يعود إلى قصر البُعد والارتفاع. هكذا يعبر صديقي الآن. أنظر إليه وألوّح له كسائحة وُجدت صدفة بين رعايا مملكته، ولا تستحقّ أكثر من نظرة ملكيّة عابرة.
وحين يعود صديقي إلى قصره، لن يتذكّر سوى الجموع التي كانت تتدافع على جانبي الطريق، ولكنّه، لن يستطيع، مهما حاول، أن يتذكّر وجهًا واحدًا منها.
والصديق العابر كملك، لا يُظهر اهتمامه بمشاكل الرعيّة. وحين ينزل عن عرشه ويزور الناس يبدو راغبًا فقط في الاستماع إلى ما يقولونه عنه، وكيف يصفون حدائقه الجميلة المحيطة بقصره، والشوارع الفسيحة التي تكاد لا تتّسع لموكبه، والعربة المذهّبة التي لا تليق إلاّ بأمثاله. وعندما يبدأ أبناء المملكة بالحديث عن أنفسهم يضجر الملك ويتثاءب ويدخل إلى قصر نومه كبطل في مسرحيّة انتهت عروضها مع نهاية الموسم. ولكن يحلو لي أن أؤمن بأنّ صديقي، الذي يعبر كملك، ينهار خلف الستائر المسدلة على مسرح حياته، ويكتم تعب الأيّام تحت قناع الصمت، ويخبّئ حزن الأمكنة وراء لامبالاته بمن حضر وبمن غاب عن احتفالات تنصيبه.
أعرف أنّ صديقي لا يعرف ما أعرفه. وإن عرفه فلن يعترف به. ولن يقبل أن تصدر صحف المعارضة في مملكته لتشير إلى خلل في رؤياه المستقبليّة، سببه تفسّخ في جدران قصره القائم على أسس الماضي الواهية. ولكنّي أحبّ صديقي الذي يعبر الآن إلى قصر غيابه. ولأنّني أحبّه أحاول أن أومئ له لأشير إلى المتربّصين بعرشه، إلى التشقّقات في سقف مملكته، والحُفر أمام عربته، ولكنّه دائمًا كان يظنّ أنّني ألوّح له كسائحة غريبة عن تقاليد مملكته فيردّ عليها متسامحًا ويمضي.
أحبّ صديقي الذي يهيّئ الآن احتفالات عبوره. ولأنّني أحبّه سأتركه يرحل إلى حيث يريد، وسأشهق بالبكاء كمراهقة أمام موكب نجم عالميّ، وسأكتفي مثلها بذكرى اللقاء العابر أخبر عنه الأيّام الآتية. وسأكتب على الجدران كالمقاتلين الذين يتركون على حيطان متاريسهم آخر كلماتهم: صديقي مرّ من هنا، ومضى. وعندما يحلّ السلام، وتُمحى كلمات المعارك من ذاكرة البيوت التي عاد إليها أصحابها، سأتذكّر أنا، آخر المقاتلين، أنّ صديقي الذي مرّ من هنا ومضى إلى مجد طموحه، كان ذكيًّا فترك ساحة المعركة قبل أن تمزّقه أمّ المعارك وأشرسها، تلك التي يواجه فيها الإنسان نفسه.
يدخل صديقي العابر ضباب الذكرى وهو لا يزال هنا، أنظر إليه وهو أمامي مباشرة، على مسافة أصابع، وأقنع نفسي بأنّه ليس هنا، وبأنّ الذي أراه ليس إلاّ طيفه يعود إلى حيث كنّا نلتقي.
أترك المسافة بين الواقع والآتي. أحاول أن أفيد من الجرعة الأخيرة من دواء مفقود، من القطرات الأخيرة من العطر الهديّة، من لمسات الشمس الأخيرة قبل موسم البرد، من مرور نيزك في لحظة نادرة من ليل أسود.
أرغب في أن أمسك الآن يد صديقي العابر، المشغول حتّى الاحتفال بلحظات عبوره الملوّنة بألوان رغباته المتناقضة. ولكنّ يده مشغولة بالتلويح للجماهير المجتمعة حول عربته الذهبيّة، وهو يمرّ كملك جميل آت من حكاية قديمة، ليعبر إلى مخيّلة طفلة، أخبرتها جدّتها بأنّ الحلم هو الحياة.


السبت، 18 نوفمبر 2017

في غياب رجالات الوطن - 2011


الرجل الكرسي

لم نكن نستعمل كلمة "رجالات" إلاّ لربطها بالوطن. ومنذ صار الوطن ورقة خريف في مهبّ الرياح، غابت الكلمة من قاموسنا وحلّت مكانها مفردات كثيرة لا توحي بالأمان: زعماء، شهداء موتى وشهداء أحياء، قادة أحزاب، رؤساء، شيوخ، بكاوات، رفاق، أساتذة، جنرالات.

حين كنّا على مقاعد الدراسة، كان كتاب التاريخ مسرحًا لرجالات الوطن والاستقلال وسجلاًّ لأساطير وحكايات عن البطولة والحروف الأبجديّة ولون الأرجوان ومرور الفاتحين ورموز الآثار والكتابات، ولم يكن يعنينا أن نطرح علامات استفهام عن حقائق الأمور وخلفيّاتها السياسيّة والإقليميّة والدوليّة، كنّا نريد وطنًا فوجدناه بين دفّتي كتاب وفي قوافي القصائد، واكتفينا. ربّما لأنّ الذين علّمونا كانوا كذلك مؤمنين بما في الكتب، أو ربّما لأنّهم كانوا يخشون مثلنا أن يطرحوا الأسئلة المحرجة، فكنّا ندخل كلّنا، معلّمين ومتعلّمين، إلى كتاب التاريخ ونعود محمّلين أمجادًا وانتصارات حقّقها رجالات الوطن.
لم يكن هناك شهداء أفراد على ما أذكر، أو على الأقلّ لم يكونوا بالأعداد التي نتباهى بها اليوم، كانت المدن بكاملها تغلق على نفسها الأبواب وتحترق بكلّ من فيها كي لا تقع في أيدي الأعداء المحاصرين أسوارها. أمّا الآن، ففي كلّ يوم شهيد، والأيّام عند العرب هي المعارك، ونحن نتعارك بسبب الأيّام، ولا أحد يريد أن يتعلّم أنّ ثمّة يومًا لك ويومًا عليك، ولا يدوم ملك إلاّ لصاحب الملك.

تفضح اللغة المتكلّمين بها. لذلك لم نعد نستعمل كلمة رجالات، ولا كلمة أيّام، بل صارت المصطلحات أرقامًا تشير إلى أحزاب وتيّارات، وتواريخ تؤكّد أن لا تاريخ متّفقًا عليه. وخلوّ اللغة من معاني البطولات وامتلاؤها بكلمات التضحية والشهادة يعني أنّنا صرنا نحتفل بالموت أكثر من احتفالنا بالحياة، وأنّ رهاننا على الذين رحلوا أقوى من ثقتنا بالذين بقوا. ومع ذلك لم نتفق عليهم، ووزّعنا أوراق الروزنامة على عدد الشهداء، كي لا يعتب أحد، ووزّعنا الأدوار كي تتاح الفرصة للخطباء كلّهم للكلام، ووزّعنا الساحات كي يجد الجميع أماكن لهم، ووزّعنا الأعلام كي يبدو المشهد مؤثّرًا، ووزّعنا المظلاّت في حال أمطرت السماء، ووزّعنا الملصقات على السيّارات والأزرار على الصدور، ووزّعنا رجال الأمن، والكاميرات، والصحافيّين، والباصات على القرى والبلدات، والأموال على الأتباع، فهل يصعب علينا بعد ذلك أن نوزّع البلد حصصًا ومقاعد نيابية على قياس المصالح لا على قياس الوطن.
هل نجرؤ اليوم على الحلم برجال لمستقبل آت، فتنضم الألف والتاء علامتا التأنيث إلى رجولة السياسة ليعود لنا وطن لا تختصره كتب التاريخ ولا يخشى الأسئلة عن انتمائه لأنّه لن ينتمي إلاّ إلى نفسه من دون انعزال ولا تبعيّة؟


الجمعة، 10 نوفمبر 2017

فلتمطر السماء ولتهتزّ الأرض (2011)







     ضجر الكون منّا، وملّ الناس في بقاع الأرض أخبارنا، وتخلّت عنّا حكومات العالم، ولن يكون لنا خلاص إلاّ بطوفان يغرق قبحنا وعهرنا وغرورنا، أو زلزال يدمّر معابدنا وأنفاقنا وأبراجنا. لعلّ المصيبة تجمع الناجين منّا بعدما فرّقتنا الأهواء والنزعات والأطماع. الحروب جرّبناها، واتفاقات السلام أثبتت سذاجة رُعاتها والمراهنين عليها، وحكومات الوحدة الوطنيّة بيّنت كم نحن مشرذمون، فلم لا نجرّب فناءً لا يبقي ولا يذرّ، أو كارثة طبيعيّة لا نتّهم أحدًا بها، أو موتًا جماعيًّا يولد من رماد ضحاياه شعب جديد؟

     أؤمن بأنّنا صرنا نستحقّ عقاباً من هذا النوع بعدما أُعطينا الفرصة تلو الفرصة لكي لا نخسر الفردوس مرّة جديدة. إنّنا اليوم مشاريع شؤم وفساد ونتن. الأب المتحمّس لزعيمه مشروع فجيعة يتحقّق لحظة يروح ابنه ضحيّة هذه الحماسة، والأمّ المتعصّبة لمذهبها مشروع ثُكل يبدأ العمل به متى اصطاد التعصّبُ المواجه وحيدتها على قارعة الطريق، وطلاّب الجامعات مشاريع قيد التنفيذ تحويلهم قنّاصين وسفّاحين ومجرمي حرب أو مخطوفين ومعوّقين ومدمنين. وحين يتحكّم الغباء بالأبوّة، وتتغلّب القسوة على الأمومة، وتغرق صروح العلم في الجهل والتطرّف، يزول كلّ أمل وينطفئ كلّ رجاء ويحيق الموت البطيء المرعب الموجع بكلّ حيّ. عند ذلك، لا بدّ للسماء من أن تُشهر علينا بروقها، وتصرخ بنا مرعدة، وتمطرنا بمياه معموديّة تخلّصنا من شرورنا أو بنار وكبريت يأكلان آثامنا، ولا بدّ للأرض من أن تهتزّ تحت أقدامنا وتقذفنا بلهب باطنها، ثمّ تبتلعنا لتطهّر وجهها من دنس وجودنا.

     سئم منّا الجميع، ولم نسأم من التقاتل. تعب منّا الجميع ولم نتعب من الكذب والخداع والتذاكي والسرقة والقتل. استسلم العالم أمام جنون ما نحن فيه وأوصد أبوابه في وجه وقاحتنا، ولم نتوقّف عن تسوّل المناصب والثروات وجوازات السفر. فلتمطر السماء غضبًا، ولتهتزّ الأرض اشمئزازاً، قد أدّى هذا الوطن رسالته، وانتهى دوره، وصار على اللبنانيّين أن يعترفوا بأنّهم لم يستحقّوا هذه الأرض، وبأنّ الشعارات التي رفعوها في تمجيد أنفسهم والتبشير برسالة بلدهم ونشر حضارتهم صارت كلّها ذكريات جميلة تروى لأطفال يعرفون أنّ ما يسمعونه ليس إلاّ حكايات تجمع ما بين الماضي والمتخيّل ولا علاقة لها بالواقع. وما علينا الاعتراف به الآن من دون تردّد أو خجل، هو أنّ هذا البلد ليس طائرًا يطير بجناحيه المسيحيّ والمسلم، بل هو طائر يرقص رقصته الأخيرة بسبب المسيحيّ والمسلم، وهو لم يعد بلد الرسالة الحضاريّة، بل بلد الرسائل الملغومة ما بين القوى الإقليميّة، وليس صحيحًا أنّه أكبر من أن يُبلع وأصغر من أن يُقسّم فقد تقاسمته وحوش الجشع وابتلعته حيتان الطمع وانتهى الأمر. وصار من السخف أنّ نردّد أنّ اللبنانيّ ناشر فكر وعلم بعدما صار ناشر عرض وعهر، ولم يعد عندنا حروف أبجديّة نصدّرها، بعدما شوّهنا الحروف والكلمات حين مسخناها تسميات تثير السخرية والبكاء.


     لا شكّ في أنّنا ننتفض ما بين حين وآخر على تشاؤمنا، ونقرّر ألاّ نرضخ لسوداويّة واقعنا، فنقول بأنّنا في أزمة وسوف نخرج منها كما فعلنا سابقًا، وبأنّ تاريخنا يشهد على أنّنا شعب يحبّ الحياة ولا يعرف الهزيمة. ثمّ ماذا؟ وإلى متى نستمرّ في خداع أنفسنا ونحن نتوهّم أنّ الوطن الذي كنّا نعرفه لا يزال هو نفسه أو أنّنا قادرون على اجتراح أعجوبة نفض الموت عنه وبثّ الحياة فيه، الحياة اللائقة الكريمة العظيمة. نتصرّف كالمريض الذي يرفض الاعتراف بمرضه فيؤخّر علاجه واحتمال شفائه. وسنكون أشدّ الناس مكابرة إن لم نعترف بأنّ وطنًا آخر يتكوّن على حساب الوطن الذي قتلناه ونطعنه كلّ ساعة للتأكّد من أنّه لن يقوم من موته، وبأنّنا نزداد طائفيّة ومذهبيّة وتحزّبًا وتقوقعًا وحقدًا ومرارة وكرهًا وغضبًا وجهلاً وغباء ونرفض الاعتراف ولو بجزء من ذلك.

أنا شخصيًّا لم أعد أريد أن أضع اللوم على "الآخر" في ما ينتظرني في هذا البلد، أيّاً تكن هويّة هذا "الآخر". فليكن غضب السماء علينا هو سبب موتنا وليأت الطوفان الغامر على عجل؛ وليكن ضيق صدر الأرض منّا هو سبب فنائنا، وليقع الزلزال المدمّر في أسرع وقت. ولتأت النهاية على غير يد الناس ولنضع اللوم على الطبيعة، فقد تعبنا من مقاومة بعضنا وتخوين بعضنا وإلغاء بعضنا، وآن أوان الاعتراف بهزيمتنا الحضاريّة والإنسانيّة، فقد نجد سلامنا الداخليّ حين نتوقّف عن تصديق هذه القصيدة الجميلة التي اسمها لبنان، والتي حوّلها ضيقُ أفُقنا موضوع إنشاء سخيفاً يُفرض على تلامذة المدارس المنتظرين موعد الرحيل عن هذا البلد إلى غير رجعة.
***
صحيفة النهار - الثلاثاء 25 كانون الثاني 2011

الخميس، 9 نوفمبر 2017

سقوط الأقنعة الحديديّة - 2011



يسقط كلّ يوم قناع عن وجه ما، فنظنّ أنّ الوجوه ستبدو أخيرًا على حقيقتها، غير أنّ الحقائق أعمق من أن تصل إليها العين المجرّدة، فالقناع يخبّئ قناعًا في لعبة سخيفة وبطيئة لا نهاية لها. مع كلّ يوم، نكتشف أنّ الوجه العاري محرج أكثر من الجسم العاري، لأنّ فيه حقيقة الكائن الموجود خلف الواجهة التي تتزيّن مع كلّ مناسبة وتتزيّا برداء مختلف مع كلّ موسم.
غير أنّ للقناع الحديديّ حين يسقط دويًّا وقرقعة لا يمكن عاقلاً أن يتجاهلهما، أو ألاّ يرى إلى الوجه المختبئ خلفه وكم أخذ من جمود الحديد الذي التصق به طيلة عمر كامل. حين تتساقط الأقنعة الأخرى يختلف الأمر، بعضها يتطاير كالريش والقطن، وبعضها يتمزّق كالورق العتيق، وغيرها يطوى ويلفّ لطواعيّته، أمّا القناع الحديديّ فشأن آخر فهو لا يسقط من تلقاء نفسه، بل يحتاج إلى معدّات خاصّة وطرق معالجة ليست مطلوبة لسواه، وإلى وقت وصبر ودراية، ولكن صوت سقوطه حين يتدحرج على الأرض محدثًا الضجّة الخاصّة به يستحقّ كلّ الوقت الذي أعطي لفكّ مفاصله الصدئة بعدما تركت عليه عوامل الأيّام آثارها. فالقناع الحديديّ سميك وثقيل يزعج حامله غير أنّه يبقى أخفّ ثقلاً عليه من أن ينظر في مرآة تعكس صورة وجهه. وهو كلما طال اختباؤه خلفه كرهه، وكلّما ازداد كرهه له عنفت رغبته في الاحتماء به، وتدور الأيّام وهو يدور في حلقة مفرغة إلاّ من فراغ أيّامه. هل نحن في مرحلة سقوط الأقنعة الحديديّة؟ لعلّ عصر العولمة والسرعة في انتشار المعلومات عبر وسائل الإعلام ساعدا في تحطيم بعض الأصنام وأزاحا الأقنعة عن وجوه كثيرة، غير أنّ طبيعة الإنسان المعجونة بالخوف تأبى أن تخلع ما تظنّ أنّه حصنها أو سورها مخافة أن تصير عرضة للأذى. وما أن يسقط قناع حتّى يتكوّن آخر، وقد نمضي عمرنا كلّه مع أشخاص لن نعرفهم على حقيقتهم مهما ظنّنا العكس. لذلك يبدو الأشخاص "الحقيقيّون" نادرين.
"المزيّفون" هم الذين يضعون أقنعة تخبّئ حقائقهم ولو كانت جيّدة ( وهذا منتهى الخبث). أمّا "الحقيقيّون" فهم يعرضون ذواتهم لضوء النهار كما هي: بخيلة أو أنانيّة أو متكبّرة أو لئيمة، أو ربّما عكس ذلك، ولكنّهم لا يخدعوننا ولا "يتمسكنون" بينما هم أقوياء، ولا يدّعون الشجاعة بينما هم خائفون، ولا يؤدّون أدوار الشاعريّة بينما قلوبهم مستنقعات ملأى بالأقذار والدنس. هؤلاء تأمن لهم، تشعر أنّك تعرفهم وتعرف كيف تتعامل مع حسناتهم وسيّئاتهم، أمّا "المزيّفون" فهم الخطرون الذين يلدغونك حين لا تتوقّع.
ثمّة أمر يثير الاشمئزاز في المزيّفين، يشعرني بأنّهم آتون من كواكب أخرى رماديّة ميتة، أو كأنّهم مخلوقات لزجة كريهة المنظر، أو كأنّهم كائنات ثقيلة تنوء الأرض بها ويتشوّه جمال الطبيعة بأشكالها، أو كأنّ ثمّة شرخًا كبيرًا بين داخلهم وخارجهم. يتشابه "المزيّفون" بشكل رتيب ومملّ، لا شغف عندهم ولا جموح ولا مزاجيّة ولا شاعريّة. يضعون الأقنعة الحديديّة نفسها، المصبوبة في القالب نفسه، المطلية باللون نفسه، ويتحرّكون بحسب إيقاع واحد، فلا يفاجئوننا ولا يدهشوننا. يا إلهي ما أبشع "المزيّفين" وما أكثرهم. غير أنّني أحيانًا، وفي لحظات تعب وجوديّ، أتمنّى لو بقيت الأقنعة الحديديّة على وجوه حامليها "المزيّفين"، فهي على قبحها وبرودتها وغياب ملامحها أجمل ألف ألف مرّة ممّا اكتشفته خلفها.


مواجهة الحياة (النصّ الرابع والثلاثون من كتابي رسائل العبور - 2005)


مع بداية كلّ نهار، تسأل نفسها عن سرّ رغبتها في البقاء والاستمرار.
تستيقظ تعبة وتكاد لا تجد القوّة الكافية لتغادر السرير. وعندما تفعل ذلك أخيرًا وتجلس منحنية مهزومة تكتشف أنّ سلسلة الأعمال التي عليها القيام بها في هذا اليوم تلتفّ حولها وتكبّل حركتها وتخنقها.
تعرف أنّها بعد قليل ستواجه وجهها في المرآة وستكتشف أنّ يومًا آخر ينتظر كي يمتصّ ما تبقّى من طاقتها وشبابها. وبعد ذلك يكمن لها أفراد عائلتها مسلّحين بطلباتهم المختلفة، عارضين عليها شؤونهم وشجونهم، صارخين غاضبين محتجّين، كمجموعة من المعارضين المتظاهرين لا يريدون إلّا تحقيق مطالبهم. ثمّ ستخرج إلى الشارع حيث تحاصرها زحمة السير وتصمّ أذنيها أصوات الباعة وأبواق السيّارات، قبل أن تصل إلى عملها مرهقة يائسة حزينة. تنظر إلى الساعة، إنّها الثامنة والربع صباحًا. فجأة يصفعها السؤال المخيف: كيف ستنجح في العبور إلى الضفّة المسائيّة لهذا اليوم الطويل؟
ومع نهاية كلّ نهار، تكتشف أنّها نجحت في البقاء والاستمرار، واستطاعت أن تحتمل التعب والركض والمنافسة والخبث، والحرّ الخانق والبرد الشديد، والأزمة الاقتصاديّة والتصريحات السياسيّة، وبقيت على قيد الحياة في انتظار يوم جديد من دون أن تعرف كيف، ومن دون أن تعرف لماذا.
لا تعرف أيّ إيمان يدفعها إلى الحياة. أهو الإيمان بالله الذي تظنّ أحيانًا أنّه لا يريد ان يسمعها؟ أم إيمان بالإنسان مع أنّها تعجز عن التواصل معه؟ أم إيمان بالوطن الذي يخذلها مرّة بعد مرّة ويدفعها دفعًا إلى التفكير في هجره؟ أم هو الإيمان بقدرتها على مقاومة كلّ هذه الشكوك لأنّ ثمّة من يحتاج إليها؟
بدأت تعتقد أنّ الذين يقرّرون الرحيل أو الغياب أو العبور إلى الأماكن الأخرى هم المقتنعون بأنْ لا حاجة إلى وجودهم/ هنا/ الآن/ في هذا المكان/ وفي هذه اللحظة، وبأنّ الآخرين يستطيعون إكمال حياتهم من دون الاستعانة بهم أو التبرّك بوجودهم أو الاغتناء بحكمتهم أو التفاؤل برؤيتهم أو الفرح بلقائهم، فاتّخذوا قرار العبور حين اكتشفوا فجأة أنّ بقاءهم ورحيلهم متساويان في القيمة والهدف، وأنّ الشمس ستشرق وتغيب سواء وجدوا أو غابوا، وعندئذ يستسلمون لرياح الرحيل تحملهم إلى حيث تشاء.
حاجتهم إليها! حاجتهم إلى وجودها! المسؤوليّات التي اختارت أن تحملها، الأهداف التي رسمتها، الوجوه التي تحبّها ضاحكة، الأشخاص الذين تريدهم معافين وأصحّاء وأقوياء، كلّ ذلك يدفعها إلى الاستمرار والبقاء، فتغادر تعبها صباحًا، وتخلع نعاسها، وتغسل وجهها وجسمها من آثار الهزيمة، وترتدي ثوب الحياة الجديدة لتستقبل نهارًا آخر بعدما غاب، ولو إلى حين، ليل القلق والشكّ، ثمّ تفكّر في المساكين الذين لا يحتاج أحد إلى وجودهم، وينتظرون في لهفة شمس الاهتمام لتشرق عليهم.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.