الخميس، 26 نوفمبر 2009

التلامذة ليسوا "غبرة طبشورة"

تصوير باتريك نوتلي
"يلثغ الطفل في حرف العين ويلفظه همزة،
فيقول: إنّي أتألّم
وهو يريد أن يقول: إنّي أتعلّم.
في أكثر الأحيان، ليس ثمّة فرق. "
من كتابي
لأنّك أحيانًا لا تكون
*******
في بداية حياتي التعليميّة، "تبنّتني" زميلة اعتبرت أنّ من واجبها توجيهي إلى ممارسة وظيفتي بالشكل الأمثل وتعليمي كيف أتعامل مع التلاميذ. وممّا أذكره عن تلك الفترة أنّني كنت مرّة في رفقتها في سيّارتها، ومررنا بالقرب من أحد التلاميذ الذي أومأ أليّ محيّيًا فرددت التحية، فقالت لي الزميلة العتيقة في التعليم: أرجوك عندما تكونين معي لا تسلّمي على التلاميذ.
غير أنّ أكثر ما صعقني في وسائل التدريب التي اعتمدتها معي قولها لي ناصحة: عندما تخرجين من الصفّ عليك أن تنفضي كلّ ما يتعلّق بالتلاميذ عنك كما تنفضين غبار الطبشور العالق بثيابك.
بقيت هذه النصيحة تحفر في نفسي، وأنا أتخذ طريقًا في التربية مغايرًا لطريق تلك الزميلة التي كثيرًا ما تردّد نظريات تربويّة عالميّة لا تطبّق منها شيئًا، إلى أن كتبت يومًا أغنية ليؤدّيها تلاميذ الصفوف النهائيّة عند تركهم المدرسة ويقول مطلعها:
يا مطارحنا لا تنسينا لا تقولي بعدنا وتمحينا
نحنا مش غبرة طبشورة ولا ورقة دفتر تطوينا
نحنا المركب إنتِ المينا ورح ترجع لَيكِ مراسينا
مهما الريح تبيعد فينا
شعرت حينذاك أنّي أردّ على تلك الزميلة التي كانت تدّعي نسيان أسماء التلاميذ كي توحي لهم أنّها لا تقيم وزنًا لكيانهم ووجودهم. غير أنّ من يسمعها تحاضر في شؤون التربية ذاكرة أسماء كتب ومراجع عالميّة لن يصدّق كيف تتعامل هذه المعلّمة مع تلاميذها.
كان هذا النوع من الحوادث يعيدني مرّة بعد أخرى إلى التساؤل عن سرّ هذه الوظيفة/الرسالة التي لا يعلم خطورة ما يجري عبرها إلاّ من ارتكب "إثم" التعليم وعانى منه الأمرّين وكان صادقًا مع نفسه ومع الآخرين. وكنت دائمًا أصل إلى النتيجة نفسها: التعليم من أخطر ما يمكن أن يترك أثرًا على شخصيّة الإنسان ومن أكثر الوظائف ظلمًا للمعلّم والمتعلّم في وقت واحد.
********
مع مرور الأيّام وما حملته إليّ من خبرة، أخذت أنظر إلى التعليم نظرة مختلفة لا تشبه قطعًا نظرة تلك المعلّمة، ولكنّها بالتأكيد لا تشبه نظرتي الأولى لعمل كنت أعتبر أنّي خلقت لأقوم به لأنّي بواسطته قد أساهم في تقدّم المجتمع والناس. ولكن يبدو أنّني لم أحدث أيّ فرق يذكر في شخصيّات تلاميذ اكتشفت مع الوقت أنّهم مع احتكاكهم بالاختبار الحياتيّ الأوّل خارج إطار الكتاب والتلقين (على الرغم ممّا تدعيه المناهج الحديثة) يعودون، أكثرهم، إلى البيئات التي خرجوا منها: جهل (على الرغم من الشهادات) وغرور وطائفيّة وتخاذل وانبهار بالمظاهر الفارغة من المعنى وخضوع لذوي السلطة من أيّ نوع وعجز معيب عن التمييز بين الحقائق والأكاذيب.
التلاميذ ليسوا قطعًا "غبرة طبشورة" ولكنّهم صورة مصغّرة عن عائلات تعاني مشاكل لا تحصى، ومؤسسات تناست دورها التربويّ، ووطن لا هويّة واضحة له سوى في النصوص الرسميّة.
التلاميذ ليسوا قطعًا "غبرة طبشورة"، لكنّ النظام التعليميّ في لبنان يجعلهم مقتنعين بأنّهم كذلك، ولذلك ينفضون آثار معلّمهم عنهم عندما تنتهي حصّته أو دوامه قبل أن يقوم هو بمحوهم من ذاكرته.

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

سوق للبيع أم احتفال بتوقيع كتاب؟


على بطاقة الدعوة كتب الشاعر (أو الناشر بالنيابة عنه) إنّه يتشرّف بدعوتنا إلى حفلة توقيع كتابه. طبعًا المدعوون هم المحرّرون في الصفحات الثقافيّة، والإعلاميّون (وهي تسمية لبنانيّة تعني كلّ من ظهر على الشاشة ولو للتبصير والتنجيم) وأقرباء الشاعر وبعض المعجبين بشخصه الكريم، فضلاً عن شعراء سبق له وشارك في احتفالات توقيع كتبهم. وكما تراني يا جميل أراك.
بعض دور النشر تفرض على الأدباء هذه الحفلات وخصوصًا إذا كانوا في بداية مشوارهم الأدبيّ أو إذا كان أحدهم من النجوم التلفزيونيّة التي تستقطب الشريحة الكبرى من النساء والصبايا اللواتي يهرعن للوقوف إلى جانبه والتقاط الصور معه.
يحلو لي في مواسم معارض الكتب أن أقف متفرّجة على هذه الحفلات التي توحي لي بأنّني أمام سوق نخاسة من النوع المهذّب. وكنت أتابع بنظراتي بعض الأشخاص وهم يرمون الكتب التي وقّع لهم عليها الكاتب في سلّة المهملات بعدما قاموا بدورهم الاجتماعيّ وحرّكوا عجلة الاقتصاد في سوق الكتب الشحيح الموارد، والذي لا ينتعش إلاّ في مواسم المعارض، جاذبة المتنزّهين والضجرين والعجزة.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذه العجالة: ما الذي يدفع أدباء ميسورين إلى هذه الحفلات المهينة نظرًا لتصرّفات الضيوف فيها؟ لماذا يخترق قارئ ما الصفوف المتراصّة ليحظى بتوقيع ذيّل به الكاتب عبارة سخيفة سبق وكتبها للعشرات قبله؟ ولماذا لا نسمّي الأشياء بأسمائها ونقول إنّ الحفلة هي حفلة بيع كتب يعود ريعها إلى جيبي الكاتب والناشر والمطلوب هو جمع مبلغ من المال يشجّع الكاتب على كتابة المزيد من الكتب؟
رفضت في مناسبتين أن أرضخ لطلب دار النشر فأدعو إلى حفلة توقيع كتابيّ. قلت للناشر الصديق: أنا لا أعرف كيف أكذب على هؤلاء الناس فأكتب لهم عبارات محضّرة سلفًا وفي ازدحام المدعوين قد أوزّعها على غير مستحقّيها. وأنا في طبيعتي البشريّة الضعيفة أحتاج إلى بعض الوقت كي أفكّر في ما أكتبه في صدق لكلّ قارئ وصحافيّ وشاعر (الصدق يعني احتمال الهجاء قبل المديح).
طبعًا لم تكن هذه الحجج تقنع الناشر الذي يحسب الأمور بطريقة مختلفة. وتبيّن أنّ الحقّ معه فالقرّاء الذين كانوا يتابعونني عبر الصحف لم يشتروا الكتابين وحجّتهم الوحيدة أنّني لم أدع إلى حفلة توقيع ليروني خلالها ويتعرّفوا إليّ.

Alphonso Bresmez


حسنًا أيّها القرّاء الأعزّاء، عند إصدار كتابي الجديد سأدعو الراغبين منكم في شرائه إلى حفلة عظيمة أوقع فيها نسخًا من كتابي العظيم على أرجلكم لتعودوا إلى البيت وكلّ واحد منكم يلعن الساعة التي قبل فيها المجيء إلى حفلة "توقيع" تقيمها امرأة غاضبة. وليضرب الناشر رأسه في حائط عنادي ورغبتي في الفقر الاختياري...ففي كلّ الأحوال لن أنال جوائز على إبداعي وخصوصًا جائزة نوبل. على كلّ حال أرجو ألاّ يحصل ذلك، لأنّني سأحمل عند ذلك همّ التفكير في الفستان الذي سأرتديه إلى هذه المناسبة العظيمة التي سأرفع فيها اسم لبنان عاليًا كما تفعل عادة ملكات الجمال، ثمّ يتبيّن أنّ كلّ ما رفعنه هو الأنف والصدر والمؤخّرة والفستان والرصيد في المصرف، وهذا بالطبع ما أعجز عن تحقيقه.

غياب الحسّ النقديّ


(كتبت هذه المقالة خلال الحرب على غزّة)
بعد أن بدأت الحرب على غزّة نسي الناس حذاء الصحافيّ العراقيّ، ومالت بوصلة كتاباتنا إلى جهة الندب والنواح والرثاء بعدما كانت متوّجهة في ثقة إلى جهة الفخر والاعتزاز والشماتة. وأنا حين كتبتُ عن تاريخ الأحذية في ذاكرتي تساءلت عن الحدث الذي سينزل "صرماية" الصحافيّ "منتظر" عن رف الإعلام وتمنّيت أن يكون ذلك حريّة حقيقيّة، فإذا بمأساة غزّة هي الحدث، ولكنّ السؤال الآن ماذا بعد الكتابة عن غزّة؟
علينا أن نقوم بمراجعة فعليّة لما نكتبه في الصحف، وإذا فعلنا فسنكتشف أنّ المقالات تأخذ غالبًا أحد المنحيين: إمّا هي جمع للمعلومات من هنا وهنالك تختصر لك عشرات الدراسات، وشبكة الإنترنت صارت نبعًا فوّارًا يشرب الجميع من مائه ولا يرتوون، وإمّا تكون المقالات نتيجة انفعال يأتي تلقائيًّا بعد الحدث ولا يسبقه. أمّا ما هو عدد المقالات التي أحدثت تغييرًا أو تأثيرًا أو صنعت الحدث فسؤال نخشى كلّنا أن نعرف جوابه.
إنّ غياب الحسّ النقديّ هو الإعاقة التي يعاني منها مجتمعنا العربيّ. فنحن نخشى الأسئلة لأنّنا نخشى الأجوبة، ولذلك نميل إلى الخبث والكذب في البيت والمدرسة والعمل والسياسة وفي كلّ شأن من شؤون حياتنا. العواطف تحكم أقوالنا وتتحكّم بأفعالنا، فننفعل ولا نفعل. نصرخ لأنّنا نخاف إن سكتنا أن نضطر إلى التفكير، وهذا ما لا نريد مواجهته فنمعن في الهرب ولعق جراحنا مستمتعين. والحسّ النقديّ لا يقوى بين لحظة وأخرى لأنّه ممارسة يوميّة تبدأ منذ اللحظات الأولى لتكوّن وعينا، ولا ينمو هذا الحسّ وتتشعّب اهتماماته إلاّ في أجواء الحريّة، حيث يمكنه طرح الأسئلة من دون خوف من تكفير أو تجريم أو تخوين أو تهديد. ومع أنّنا جميعنا نعاني من تأثير هذه الإعاقة على مسيرة حياتنا ومصير أوطاننا إلاّ أنّنا نرفض الاعتراف بها وندّعي أنّ الأمور على خير ما يرام. والصحافة مطالبة على الدوام بأن تكون المساحة الحرّة المفتوحة لطرح الأسئلة لا بهدف تحقيق السبق الصحافيّ ولا بهدف إثارة الجماهير ولا في ادّعاء جرأة تكون في أكثر الأحيان اجترارًا لمصطلحات وكلمات خالية من المعاني، بل لتعليم فنّ التفكير والتحليل والتفكيك بهدف المعرفة، معرفة كلّ شيء.
وما دامت الصحافة تنتظر الحدث لتعلِّق عليه، فلن تعلَّق عليها الآمال. إذ لا يجوز أن نتذكّر أطفال غزّة عندما يموتون، والفقراء في مواسم الأعياد، وجيش الاحتلال عندما يقصف بيوتنا، كأنّ أطفال غزّة ولدوا من رحم القنابل الذكيّة، والفقراء نبتوا فجأة بين شقوق طرقاتنا كالعشب البريّ، وجيش الاحتلال وصل البارحة ليلاً إلى فلسطين ولم تعلم الصحف بأمره إلاّ بعدما ذهبت النصوص إلى المطبعة. أمّا إذا كانت الصحافة عاجزة عن هذا الدور الاستباقيّ بسبب تكوين مجتمعاتنا وأنظمتنا فلتكن على الأقلّ قادرة على التفكير بالنيابة عن مجتمع كامل وتحليل الحدث لا الانسياق خلف جماهيريّة الخبر وأخبار الجماهير. غير أنّه من المهمّ التذكير بأنّ الحس النقديّ ليس محصورًا في العمل الصحافيّ وإن كان هو الواجهة في عصر الإعلام السريع الخطوات. وتعليمه لا يكون في جامعات متخصّصة بل يكون جزءًا من تكونّنا العقليّ يطال الطعام والشراب واللباس والعلاقة مع الناس والطبيعة والله وكلّ نتاج العقل البشريّ. ولا يجوز أن يكون ثمّة محرّمات أو ممنوعات أو صنميّة أو عبوديّة حتّى ولو كان ذلك يخيف كثيرين ممّن يخشون على المقدّسات كأنّ المقدّسات هشّة لدرجة أنّها لا تصمد أمام العقل.
وإذا كان أئمة الدين وعلماء الفكر والفلاسفة في عصور التنوير عندنا طرحوا الأسئلة عن الله فهل يجوز أن يسكت الصحافيّون عن ممارسات حكّام وقادة ووزراء ينحصر دورهم في خدمة الناس، الناس أنفسهم الذين يؤمنون بأنّ الله أرسل أنبياءه من أجلهم. ولذلك على الصحافيّين اليوم، والمحلّلين منهم في شكل خاصّ، أن يبدأوا الكتابة عمّا بعد غزّة، فهناك المواضيع الساخنة.

الأحد، 22 نوفمبر 2009

إيّام التعتير


أربع مجانين وبسّ
برنامج تلفزيونيّ زمن الحرب
كتابة أنطوان غندور


(باللهجة اللبنانيّة)
1- فقرْ ونقّ وخوف كبيرْ
والعمر بيمرق مرقهْ
كلّ مين عندو هموم كتير
اللقمه منسرقها سرقهْ
القصّة ما بدّها تفكير
وحدكْ رح تبكي وتشقى
لازم تعرف ع بكّير
إنّو بإيام التعتير
الواحد وحدو رح يبقى


*****

2- مدري وين هنّي صاروا
ما عاد حدا يدقّ البابْ
ولا جارْ يسأل عن جارو.
البيت الضجرانه حجارو
وبردانه بقلبو نارو
مشتاق لصوت الأحباب
عنّن شو صعبه الفرقه.
الهيئة بأيّام التعتير
الواحد وحدو رح يبقى
*****

Marie Caroline Feral

3- بليالي الشتي والبرد
الوقت بيمرق ع السكّيت
والقاعد وحدو بالبيت
خايف ينسى كلماتو
عم يحكي وحدو ويا ريت
في مين يسمع حكياتو.
قلبو قدّيش بيلقى
وعارف إنّو بالتعتير
الواحد وحدو رح يبقى
*****
سمر مغربل

4- من مدّة بِعدوا وفلّوا
وصِرنا نشتاق يطلّوا
نحكي ونتخانقْ ونضلّْ
جيرانْ وأهلْ وما نفلّ
حتّى النجمة النعسانة
تحت لحاف الليل تغلّْ
يمكن وحدا المِشتلْقا
إنّو بإيّام التعتير
الواحد وحدو رح يبقى
***
* صحيفة "النهار"

ليس هذا ما يريده الخليجيّون!


سعيد عقل خلال تكريمه
هذا وجه من وجوه لبنان الذي يجب أن يعرفه العرب

ليس هذا ما يريده الخليجيّون!
بهذه العبارة يصفعنا القيّمون على الشؤون الثقافيّة والفنيّة والإعلاميّة والإعلانيّة، ويعلنون أنّ هذه الفكرة لا تصلح للتسويق في بلدان الخليج العربيّ وبالتالي لا تؤمّن الربح المطلوب. وفي شحطة قلم من ماركة عالميّة، ربّما هو هديّة من أحد النافذين، يرفض أحدهم عملاً إبداعيًّا، لأنّه واثق من أنّ الخليجيّين لا يريدون ثقافة راقية أو برنامجًا يوجع الرأس أو مقالة تتوجّه إلى النخبة أو عملاً تغيب عنه مذيعة مثيرة تدّعي المعرفة.
ربّما ساهم بعض الخليجيّين في ترسيخ هذه الصورة من خلال مواقع الإنترنت أو المحطّات الفضائيّة أو الصحافة التي تعرض صورًا لافتة للمطربات والممثّلات (لا رجال في أكثر الأحيان)، أو من خلال برامج التوك شو التي تطرح مواضيع حسّاسة ينظر إليها على أنّها من المحرّمات والممنوعات. غير أنّ المحطّات الفضائيّة العربيّة والصحافة تسمح لنا باكتشاف جانب غير تجاريّ وغير تسويقيّ في الخليج وفي سائر الدول العربيّة. فللشعر مكان، وللفكر مكان، وللنقد مكان. صحيح أنّ هذه الأمكنة ضيّقة ومحدودة ولكنّها على الأقلّ موجودة.

في العصر الذهبيّ المصريّ، كانت اللهجة في أفلامنا وأغنياتنا مصريّة، والمأكولات كذلك، وضيوف الشرف وأسماء الشوارع والأشخاص، أمّا الآن فهي خليجيّة، وبعد قليل قد تكون تركيّة، والآتي أعظم.
يقول المثل اللبنانيّ: مطرح ما بترزق إلزق، أي التزم بالمكان الذي يأتيك منه الربح، ولذلك اعتذرت إحدى المحطّات التلفزيونيّة عن عدم الموافقة على برنامج طرحت عليها فكرته وذلك لأنّه ثقافيّ جدًّا، ولا يسمح بإشراك الهاتف الخلويّ، ولا يصلح للمباريات لأنّ أحدًا لن يعرف الإجابة على الأسئلة، ولا يصلح للحوار لأنّه لا يوجد مقدّمة برامج جميلة ومثيرة وذكيّة ومثقّفة تستطيع إدارة الحوار فيه، (الرجال ينجذبون ولا يجذبون)، ولا يصلح لتلفزيون الواقع، ولا يغري المعلنين، ثمّ إنّ التلفزيون في رأي المسؤول صار للترفيه لا للتعليم (الطبخ حالة استثنائيّة)، وللربح لا للتثقيف، وتأتي أخيرًا الجملة النهائيّة: لماذا لا تكتبين مسلسلاً مثل مسلسل "نور"، والله كسّر الأرض.
ذكّرني ذلك بجملة مشابهة قالتها لي المسؤولة عن دار نشر لبنانيّة معروفة حين عرضت عليها كتابي الشعريّ: لأنّك أحيانًا لا تكون، إذ سألتني: لماذا لا تحوّلين كتابك إلى رواية فالناس يشترون الروايات ولا يحبّون الشعر.
طبعًا، عجزت عن الإجابة مع أنّني عادة لا أجيد السكوت وإن كنت أتمنّى لو أجيد الضرب والصفع والركل.
فيا أصدقائي أهل الخليج، أنا لا أقبل أن توصم نساء لبنان بصفات بعض اللبنانيّات اللواتي يطمحن إلى تحقيق الثراء السريع في بلادكم، فهل تقبلون أن يوصم أهل الخليج بصفات بعض الشبّان السكارى الذين يتحرّشون بالبنات اللبنانيّات في مواسم الاصطياف ويغرونهنّ بالسيّارات السريعة والسهرات الطويلة في المرابع الليليّة الصاخبة؟

الجمعة، 20 نوفمبر 2009

مواقف مجّانيّة


تضامن لبنانيّ...طبيعيّ

موقف السيّارة يكلّف في لبنان أكثر من أيّ موقف يتّخذه صاحب السيّارة من أيّة قضيّة اجتماعيّة أو إنسانيّة أو وطنيّة.
ففي موقف السيّارات، تدفع المبلغ المحدّد، وتعطي إذا كنت سخيًّا، مبلغًا إضافيًّا للموظّف في الموقف، وتذهب إلى حيث تقصد وأنت مطمئنّ البال إلى أنّ سيّارتك في أمان، وإلى أنّك قمت بواجبك تجاه وسيلة نقلك الحبيبة على قلبك. مع العلم أنّ أغلب مواقف السيّارات تنذرك، بواسطة لوحات إعلانيّة كبيرة، بأّنها غير مسؤولة عن أيّة سرقة تتعرّض لها السيّارة أو محتوياتها.
أمّا المواقف التي هي فعلاً مجّانيّة، فهي تلك التي يتمسّك بها أصحاب السيّارات حتّى الباهظة الثمن منها.
فمن السهل مثلاً أن يقف الإنسان إلى جانب أخيه الإنسان (المريض، والسجين، والحزين، والمطرود من عمله...)، فهذا الموقف مجّانيّ في امتياز، ولا يكلّف إلاّ بضع كلمات لا تسمن ولا تغني عن جوع، والكلام في وطننا الحبيب أرخص ما يمكن أن يوجد على الرغم من أزمة الغلاء وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة.
ولكن هل تعرفون أحدًا "وقف" فعلاً إلى جانب أحد بغير الكلام؟
هل تعرفون مثلاً والدة حلقت شعر رأسها تضامنًا مع ابنتها المراهقة المصابة بمرض السرطان والتي خضعت لعلاج كيميائيّ جعلها تفقد شعرها الجميل ما أجبرها على وضع شعر مستعار يجعل جلد رأسها يشتعل من الحرارة في صيفنا الملتهب؟ ولماذا لا نقوم نحن النساء والرجال بتشجيع المصابات والمصابين بالسرطان وذلك بحلق رؤوسنا والظهور علنًا ومن دون شعور مستعارة كي لا يخجل المرضى من أمراضهم ومفاعيل الأدوية؟
هل تعرفون والدًا امتنع عن التدخين من أجل أن يشجّع ابنه على الامتناع عن هذا النوع من الإدمان؟
هل تعرفون صديقًا تخلّى عن رحلة استجمام ليبقى إلى جانب صديقه المطرود من العمل؟
هل تعرفون زوجًا قدّم استقالته من العمل في الشركة التي طردت زوجته منها لأنّ المدير يريد أن يوظّف إحدى صديقاته؟ وهل ننتظر بعد ذلك من زميلاتها وزملائها أن يتضامنوا معها؟
لن تجدوا! وإن حصل ووجدتم فتمسّكوا بهم لأنّهم نادرو الوجود!
أمّا المواقف البطوليّة والدعم المعنويّ والمؤازرة وكلمات التعزية والتشجيع ومظاهرات التأييد، فكلّها أمور تزينيّة جميلة أساسيّة غير أنّها لا تحلّ مشكلة ولا تداوي جرحًا. طبعًا ليس المقصود ألاّ نقول شيئًا ولكن الأفضل هو أن نفعل شيئًا. فنحن ما زلنا حتّى الآن مقتنعين بأنّنا ببيت من الشعر نعلي شأن قبيلة ونحطّ من قدر أخرى. وما زلنا مؤمنين بفعل "الكتابة" على تغيير مصائر البشر وبأنّ "فكّ الكتيبة" ينقذ الإنسان من شرور الآخرين وحسدهم وبغضهم.
تخبر إحدى النساء إنّها، عندما أجبرت على تقديم استقالتها من العمل والبقاء بضعة أشهر في البيت بلا راتب أو تعويض، كانت تشعر بالحزن والإحباط عندما كان الناس يزورونها مشجّعين. والسبب في ذلك أنّ الأحاديث المتعلّقة بها كانت تأخذ وقتًا قليلاً على اعتبار أن ليس عندها ما تخبره بسبب مكوثها في البيت وحرمانها من أيّ نشاط اجتماعيّ، ثمّ تأخذ المواضيع الأخرى الحيزّ الأكبر من الوقت: فلان أجرى عمليّة تجميل، فلانة مسافرة للسياحة، فلانة تمضي وقتها على البحر، فلان أجرى عمليّة ليزر لعينيه ليتخلّص من النظّارتين الطبيّتين، وإلى ما ذلك من الأمور اليوميّة الكماليّة التي كانت تدفع المرأة إلى إجراء حسابات سريعة، لعلّها تعرف لمدّة كم من الوقت كانت كلفة عمليّات التجميل والليزر ستساعدها على البقاء في انتظار إيجاد عمل آخر، أو إلى التساؤل لماذا يزورها هؤلاء ويكلّفونها عددًا من أكواب العصير وفناجين القهوة.
في لغتنا اليوميّة اللبنانيّة نقول: الوردة لا تشبع لكنّها تطيّب الأنفاس. كلام جميل، ولكن رجاء لا تدعونا نختنق من رائحة الورد وخصوصًا إذا كنّا جائعين! ورجاء لا تعذّبوا أنفسكم بالوقوف إلى جانبنا لأنّ الوقوف يسبّب الـ"فاريس" في الساقين، فإذا جلستم لن تضرّوا أحدًا على ما يقول أبو نوّاس، ولا تضربوا عن الطعام من أجل قضيّة، فإذا أكلتم احتججتم أكثر على ما يقول الأخوان رحباني.

الخميس، 19 نوفمبر 2009

البحث عن السيرة الذاتيّة في الكتابات النسائيّة




Hrair
يقوم القارئ بدور التحرّي ويبحث بين الكلمات والأسطر عن سيرة الكاتب الشخصيّة في أيّ نصّ ينشر، أكان ذلك في الشعر أو الرواية أو النقد أو المقالة. ويكاد القارئ يجزم في أكثر الأحيان أنّه اكتشف حقيقة الكاتب الفلاني من خلال نصوصه وأعماله والمقابلات التي أجريت معه. ولعلّ الكتابات النسائيّة هي أكثر عرضة لـ"تهمة" السيرة الذاتيّة، كأنّ القارئ لا يصدّق أنّ مخيّلة المرأة قادرة على رسم شخصيّات لا تشبهها، أو تأليف حوار لا علاقة لها به أو كتابة نصّ على لسان أحدهم ولا يعبّر في شيء عن آرائها الخاصّة.
ولكن سِيَر الأدباء والأديبات تؤكّد أنّ النصوص الإبداعيّة مخادعة إلى درجة لا يتصوّرها عقل. وحين يظنّ القارئ أو المحلّل أنّه وضع يده على حقيقة أمر ما، تظهر لهما الأيّام والدراسات أنّ هذه الحقيقة ليست إلاّ صورة متخيّلة، أقنع الكاتب بها قرّاءه وفي أغلب الأحيان يقتنع هو بها. ويؤكّد تاريخ الأدب في العالم أجمع أنّ ما بدا واقعًا معيوشًا في كثير من سير الأدباء لم يكن إلاّ وهمًا فضحته الدراسات الحديثة والمسوّدات والرسائل التي يكشف النقاب عنها بين حين وآخر.

Hrair

وإذا كان من المحتمل أن يصدّق القارئ أنّ هذه الرواية لا تشبه حياة كاتبها (الرجل)، فمن شبه المستحيل أن يقتنع أنّ تلك الرواية لا تنقل بالتفصيل سيرة حياة مؤلّفتها (المرأة). ولذلك تدور أكثر المقابلات التلفزيونيّة والإذاعيّة والصحافيّة مع الكاتبات حول سؤال محوريّ تتفرّع عنه أسئلة تشكيكيّة: بماذا تشبهكِ بطلة الرواية؟

Hrair

ومهما حاولت الكاتبة أن تنفي أيّ علاقة لها بشخصيّات الرواية ما عدا تلك العلاقة التي من الطبيعيّ أن تربط المؤلّف بما أنتجته مخيّلته، فلن يصدّقها أحد، لا بل سيعتبرها كثر جبّانة تخشى الاعتراف بما حصل معها فعلاً فنسبته إلى شخصيّات وهميّة. وغالبًا ما تكون الكاتبات المتعرّضات لهذه المواقف مشاكسات يسرن عكس التيّار السائد ويكتبن ما يفترض أنّه حكر على الرجال كالجنس والسياسة والدين والنقد الاجتماعيّ والتحليل الاقتصاديّ. ويذكر متابعو الشأن الثقافيّ كيف اتّهمت ميّ زيادة بالجنون، وكيف اعتبر بعض النقّاد أنّ رجالاً كتبوا الروايات التي أسّست مثلاً لشهرة حنان الشيخ (فرس الشيطان)، وأحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد)، في حين لم يطرح هذا التشكيك حول أدب الكاتبة إميلي نصرالله على الرغم من شهرتها وانتشار رواياتها، لأنّ "التهذيب" الذي يجلّل كتاباتها حسب تعبير كثيرين، لا يمكن أن يصدر إلاّ عن امرأة. ولذلك تسمح المؤسّسات التربويّة بوضع روايات نصرالله بين أيدي التلاميذ وتحرّم قراءة كتب سواها من الكاتبات.

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

كم يبدو العالم صغيرًا في غرفتي!



يجتمع مئات الأشخاص في غرفتي كلّ ليلة. نسهر ونثرثر ونتشاجر ونتبادل الأخبار والصور والمعلومات وأحيانًا كثيرة يزدحم المكان فأطفئ جهاز الكمبيوتر وأطلب من الجميع، بكلّ تهذيب، أن يعودوا إلى غرفهم، إلى منازلهم، إلى البلدان التي فيها يقيمون.
"وجيه" يعود إلى فرنسا الباردة، "جيجي" إلى قطر الدافئة، "غسّان" إلى الولايات المتحدة القلقة، "أحمد" و"نزيهة" إلى البحرين وصحافتها صاحبة الجلالة، "موريس" إلى لندن الغارقة في حضن الضباب، "ريتا" إلى كندا القابعة تحت الثلج وغيرهم وغيرهم من الأصدقاء والعابرين الذين يعودون إلى قواعدهم سالمين ما أن أقول لهم: "تصبحون على وطن"، كما يغنّي محمود درويش بصوت مارسيل خليفة ولحنه. أمّا أنا "فأعود لا شيء معي إلاّ كلمات" كما يغنّي نزار قبّاني بصوت ماجدة الرومي وموسيقى إحسان المنذر .
برج بابل تصير غرفتي في الوقت الذي أجلس فيه أمام شاشة الكمبيوتر. تتداخل اللغات واللهجات والشكاوى وأحوال الطقس، وتتشابك الأحاديث حين يعاتب كلّ واحد الآخر ويسأله عن سبب تأخّره في الإجابة أو الكتابة، فأشعر بأنّ العالم قد صغر حتّى بات في متناول أناملي على لوحة الأزرار، وبأنّ غرفتي قد صغرت حتّى لم يعد ثمّة مكان لأحد، ثمّ أكتشف فجأة أنّ الذين رحلوا لم يرحلوا بل كانوا على مقربة حرف من يدي، وأنّ الذين ابتعدوا لم يبتعدوا بل كانوا على مقربة زرّ من الأزرار التي تؤلّف أسماءهم، وأنّني لم أنس أحدًا منهم وإن كنت أقنعت نفسي، لأحمي نفسي، بعكس ذلك.
الأسماء نفسها، ولكن الوجوه كبرت بعدما مرّت عليها خطوط العمر وحطّ عليها غبار السفر وأقامت فوق ملامحها تجارب الحياة: الذين كانوا صغارًا صاروا يضعون صور صغارهم باعتزاز وحنان كأنّ العالم اكتمل بهذه الوجوه الجديدة الواعدة. والذين كانوا متمسّكين بانعزالهم صاروا فخورين بصداقاتهم كأنّ ارتفاع عدد الأصدقاء يرفع نسبة الأمان. والذين كانوا خجولين صاروا نجومًا اجتماعيّة بعدما وقفت المسافات حاجزًا بينهم وبين من يدردشون معه عبر الإنترنت، في منأى عن المواجهة والأذى.
لعبة "الدردشة" عبر وسائل الاتصال الحديثة لا تزال تطرح عليّ تساؤلات حول ماهيتها وشروطها وأهدافها. فلماذا تخفت العلاقات الاجتماعيّة المباشرة وتزدهر الأحاديث والرسائل عبر الهاتف أو الإنترنت؟ وما هذه الحاجة الطارئة إلى التواصل، ولو مع الغرباء، بعدما ظنّ الإنسان أنّه يستطيع التخلّي عن الجميع والتحرّر من كلّ التزام أو واجب؟ وهل سننجح في تحويل هذه الوسائل الكونيّة في التخاطب والتعارف منارات إشعاع أم ستبقى كما هي الآن بالنسبة إلى الكثيرين منّا: مجرّد طريقة حديثة للثرثرة واللغو ونشر الأقاويل والإشاعات؟

الاثنين، 16 نوفمبر 2009

أكتب إليك



أنا لا أكتب لنفسي كما قد يظنّ البعض، فهذا أمر لا يعنيني لأنّني لا أجد فائدة ترجى من حمل القلم والانصراف إلى كتابة نصّ لن يقرأه أحد.
ولا أكتب لقرّاء لا أعرف كم يبلغ عددهم، فهذا أمر يخيفني ولا أجرؤ على التفكير فيه. فإن كان العدد قليلاً فهذا يعني أنّني لم أخرج في كتاباتي عن حدود "الأنا" الضيّقة، وإن كان كبيرًا شعرت بالاختناق لأنّني لا أحبّ الازدحام ولا أحبّ القيود التي يفرضها هذا الواقع. وهذا الأمر كان أحد الأسباب التي جعلتني أرفض إقامة حفلات لتوقيع كتابيّ: لأنّك أحيانًا لا تكون، ورسائل العبور.
وبالتأكيد لا أكتب من أجل الراتب، إذ من المعيب الإشارة إلى مجموع ما حصلت عليه خلال أعوام من الكتابة في صحف مختلفة. ولكنّي أشير – كي لا أكون ناكرة الجميل – إلى دعوات إلى الغداء يشكرني فيها صاحب الدعوة على نصّ كتبته. وهكذا أستطيع القول إنّي في المرّات القليلة التي لبّيت فيها الدعوات كنت أشعر أنّ لكلماتي طعم السلطة أو التبولّة أو الكبّة النيّة أو أيّ صنف أجنبيّ إذا كان صاحب الدعوة غربيّ الهوى والانتماء (المعويّ!).
أكتب من أجل قارئ واحد فقط. قد لا يكون هو نفسه دائمًا، ولكن لا بدّ من أن يكون ثمّة شخص هو بمثابة قارئ أوّل أكتب إليه، وفي غياب هذا الشخص لا أجد الرغبة في الكتابة. قد أخترع هذا الشخص، قد أضيف على شخصيّته وجوهًا وجوانب لا علاقة له بها، ولكن لا بدّ من وجوده ولو اضطررت إلى إخراجه من رحم الحبر إلى سرير الورقة أو الشاشة.
هل هذا الشخص هو الملهِم؟ ربّما. هل هو الناقد الصعب الإرضاء؟ ربّما. هل هو المعجب السريّ؟ ربّما. هل هو قارئ عابر؟ ربّما؟ هل هو رجل؟ ربّما. هل هو امرأة؟ ربّما؟ هل هو طفل؟ هل هو عجوز؟ هل هو جميل؟ هل هو قبيح؟ هل هو مثقّف؟ هل هو؟ربّما. ربّما. ربّما.
ربّما هو كلّ هؤلاء، أو واحد منهم. لا يهمّ. ربّما هو يعرف ذلك وربّما لا يعرف. لا يهمّ. المهمّ أن يوجد لأكتب من أجله. ولذلك يجب أن يكون دائم الحضور، دائم اللف والدوران حولي، ينتظر كي أكتب، وأنا أنتظر كي يقرأ.
أكتب إليك إذًا. أكتب عنك إذًا. ولا يعنيني إن وافقت أو عارضت، وإن بقيت أو رحلت. يعنيني وجودك الذي يلقّح الفكرة في رأسي فتولد الكلمات كانفجار الشُهب، أو "كما ينبت العشب"، أو كما تتفتّح الأزهار البيضاء في الربيع.
وحين تعبر أيّها الرجل العابر إلى مجد طموحك سأعرف دائمًا أنّك تقرأ، وأنّك تنتظر ما أكتبه.

قضايانا الوطنيّة ومسألة اللغة



خلال الحرب على غزّة، ظهر رجل على إحدى المحطّات الفضائيّة التي تنقل مشاهد الأطفال والنساء وهم يلتحفون دماءهم، وفي صراخه الهستيريّ أمام آلة القتل الإسرائيليّة وعدسة الكاميرا العربيّة قال: لن نستسلم وسنموت جُوعًا (بالضمّة على حرف العين)...وقبل أن يتابع صحّح لنفسه مرّتين كأنّه يريد أن يمحو "الخطأ" الذي ارتكبه وردّد جَوعًا، جَوعًا (بالفتحة على حرف العين). فهل تكون حركة "فتح" على جيم الجوع أصدق تعبيرًا من ضمّ الأطفال الشهداء إلى تراب الوطن؟ وكيف بدا الأمر كلّه بالنسبة إليه مسألة لغة؟
في 15 كانون الأوّل 2008 كتب محمّد السمّاك في صحيفة "المستقبل" اللبنانيّة إنّ العرب عام 1967 وقعوا ضحيّة خطأ في ترجمة نصّ القرار 242 حول الصراع العربيّ الإسرائيليّ، وذلك لاختلاف النصّ بين اللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة، ففي النصّ الفرنسيّ ورد: وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي العربيّة المحتلّة، وفي النصّ الإنكليزيّ طارت أل التعريف من كلمة الأراضي ونعتيها، وصارت: من أراضٍ عربيّة محتلّة.
الألف واللام! ألا يذكّراننا باللام والألف في لاءات الخرطوم الشهيرة: لا للصلح، لا للسلام، لا للاعتراف بإسرائيل؟ وهل ستبقى قضايانا رهينة الترجمة وأسيرة ألعابنا اللغويّة وشطارتنا في التفتيش عن غرائب الصدف في أحاجي الحروف؟ وما علاقة الأرض باللغة؟ وأيّهما المقدّس بينهما؟ وهل الأرض هي لغتنا الثابتة، واللغة هي بساطنا الطائر إلى كلّ أرض؟
نحن اللبنانيّين نقع أسرى اللغة وتصريف الأفعال كلّما مُسّت القضيّة الفلسطينيّة بسوء وهي لم تكن إلاّ كذلك، فما أن نبدأ بالخوف على الفلسطينيّين وأطفالهم وهم ناسنا وأطفالنا، حتّى ننشغل عنهم بالخوف على أنفسنا وأطفالنا، وتنتشر حال الهلع بين المواطنين، وتبدأ مرحلة جديدة من التكهنات وتحضير المؤن وتخزين المحروقات وإعداد البيوت البعيدة عن أماكن غير آمنة يفترض الناس أنّها أكثر من غيرها خطرًا وعرضة للقصف. وهكذا ننتقل فجأة من الضمير "هم" إلى الضمير "نحن"، ومن تعبير "الله يساعدهم" إلى "الله يساعدنا". ولكنّ اللغة تعبير عن واقع ولا تأتي من فراغ، واحتمالات فتح الجبهة عندنا سؤال يكمن لكلّ مسؤول في لقاءاته الصحافيّة، وبالتالي تبدو مخاوف الناس مفهومة ومبرّرة ولن يسخر أحد من عائلات حضّرت أماكن سكن بديلة وجهّزتها بالضروريّات خشية الآتي الأعظم.
فهل سيحصل شيء عندنا؟
العماد ميشال عون قال ردًّا على هذا السؤال: لا أريد أن أطمئن إسرائيل ولا أريد أن أخيف الشعب اللبنانيّ، ولذلك لن أجيب على هذا السؤال. ولكن الشعب اللبنانيّ خائف، وخوفه على أطفاله أنساه خوفه على أطفال غزّة، وكوابيس حرب تمّوز لا تزال تقضّ مضاجع الناس وهدير الطائرات لمّا يغب بعد عن مسامع الأولاد، وبقدر ما يتشوّق مناصرو الأحزاب الراغبة في تلقين إسرائيل درسًا جديدًا إلى حرب جديدة، يغرق آخرون في مخاوف حقيقيّة تزيدهم عزلة ويأسًا ورعبًا من مصير قاتم. ولذلك قرّرنا نحن والفلسطينيّون أن نتقاسم مصيرين أنشدتهما فيروز في أغنيةٍ صارت نشيد الرحيل: فهم باتوا يحترفون الحزن ونحن صرنا نحترف الانتظار. ومعًا ننتظر الآتي ولا يأتي إلاّ على شكل طفل يشبه أشلاء بلاده.
والخوف كلّ الخوف أن نشغل أنفسنا بالبحث في كتب اللغة عن أيّ الكلمتين أصحّ في هذا السياق: جَوعًا أم جُوعًا، وننسى أنّ أل التعريف وقعت خطأ من نصوص صاغها آخرون في غفلة عنّا، ولعلّهم الآن يفعلون الأمر نفسه. فأين نحن من اللغة والأرض والتاريخ والإنسان؟ أين نحن ممّا يحضّر لنا؟

الأحد، 15 نوفمبر 2009

لا تمنحوا منصور الرحباني وسامًا


اتركوا منصور الرحباني يرثي نفسه، فتّشوا في قصائده والأغنيات عن معاني الموت والخلود والوطن والحياة والإبداع، ولا تتعبوا أنفسكم فلن تجدوا ما يليق به أكثر من كلماته. لا تمنحوه وسامًا فهو الوسام على صدر الوطن والأمّة والإنسانيّة، ولا تؤلّفوا لجنة لإحياء ذكراه فاللجان مقبرة الذين لا يؤمنون بالقيامة، ولا تضعوا جائزة باسمه فاسمه هو الجائزة التي لم نكن نستحقّها. ولا تكتبوا عنه في زوايا الصحف والصفحات الداخليّة فهو من أعمدة الهيكل ولم يجد لخبر رحيله عنوانًا يحتلّ عواميد الصفحات الأولى. ولا تحشروه في كتاب مدرسيّ لينزل به معلّمو النثر تشريحًا يكرّه التلاميذ به. لا فضل لإنسان على آخر إلاّ بالدين، والدين جمال وحقّ وسموّ وإيمان بالله والأرض والإنسان، ومنصور الرحباني كان من هؤلاء المؤمنين المتدينين، فهل يشبه موته موت أيّ أحد؟ وإن ساوينا بين موت المبدع وموت أي إنسان آخر ألا نهين الإبداع الذي وضعه الخالق في هذا المخلوق؟
ويل لأمّة يحتلّ سياسيّوها وعسكريّوها عناوين الأخبار والصحف ولا يتركون لمبدعيها إلاّ نعيًا في صفحة الوفيّات ومن ثمّ على لوحة من حديد في شارع من شوارع المدينة الصاخبة.
ويل لأمّة تنتظر موت كبارها ليجد الصغار ملعبًا للهوهم، والحاسدون منفسًا لحقدهم، والأغبياء منبرًا يتكلّمون من فوقه على من لم يحسنوا الكلام في حضرة وجوده وفنّه.
كان التمييز بين عاصي ومنصور هوايتنا، نحصر الإبداع الشعريّ بأحدهما ونجعل الآخر صداه، أو نعطي أحدهما صفة الشاعر والآخر صفة الملحّن، أو نقول إنّ أحدهما هو الفكر والآخر هو الشكل، أو إنّ الواحد منهما كان للغة اللبنانيّة والثاني للقصائد، ونتخاصم من أجل ذلك، وبسببه يتكوّن أتباع لعاصي وأتباع لمنصور وأتباع لفيروز. ربّما! ربّما كان الإنتاج الرحبانيّ أكبر من شخص وشخصين وثلاثة، ربّما تضافرت له جهود شعراء وموسيقيّين وفلاسفة ومؤرّخين، ربّما نجد في كثير من النصوص أثرًا لذاك أو لذلك من الكبار الآخرين، ولكن هل يلغي ذلك عبقرية الاثنين التي صهرت كلّ ما صبّ فيها وأنجبت هذا الشعر وهذه الموسيقى وهذا الـ"لبنان" الذي جعلنا لا نكتفي بالوطن الذي بين أيدينا لأنّه ليس على مثال وطنهم. ربّما سنحتاج إلى أعمار كثيرة كي ندرس الإنتاج الرحبانيّ ونحلّل الإبداع فيه، وربّما سنجد فيه ما لم ننتبه إليه في حياة الأخوين رحباني وأثناء وجودهما لأنّهما كانا دائمًا يشغلاننا بالجديد عندهما حتّى بعدما رحل عاصي، ومن يصدّق أنّ ما قدّمه منصور بعد رحيل أخيه لا يحمل شيئًا من عاصي؟ وهل يخرج الإنسان من جلده، ويمحو ذكرياته والأحاديث التي بدأت في عليّة المقهى واستمرّت إلى ما بعد الموت، وها هي تستعيد الآن ضحكات الطفولة البريئة وعلامات الاستفهام الأولى عن الحياة وما خلف الحياة؟ الآن مات منصور الرحبانيّ، ولا نخدع أنفسنا بالقول إنّ العباقرة لا يموتون. إنّهم يموتون، صدّقوني، يموتون مليون مرّة في اليوم، يموتون من الحزن والحبّ والشعر والجمال، يموتون ويقومون من "ميتاتهم" ليعودوا ويموتوا وهذه هي مأساتهم: أن يموتوا مع موت كلّ إنسان، وعن كلّ إنسان. مات منصور الرحباني لأنّه تعب من التفكير والتحليل ومحاولة الفهم، فأوقفوا المذيعات والمذيعين عن ارتكاب مجازر الغباء في حقّ إبداعه، وكسّروا الأقلام التي تكتب عن علاقات خاصّة ربطت حامليها به أكثر ممّا تكتب عنه. وما دام موته لم يستحقّ أن يكون عنوانًا يمتدّ على العواميد كلّها في رأس الصفحة الأولى لأيّ جريدة لبنانيّة، أو الخبر الأوّل في نشرات الأخبار، فهذا يعني أنّ صورة لبنان التي كنّا نعرفها زالت إلى غير رجعة.

السبت، 14 نوفمبر 2009

الفنّ بين الفرديّة والمجتمع



قالت الممثّلة الأميركيّة الراحلة كاثرين هيبورن في إحدى المقابلات: كنت أفضّل أن أكون رسّامة عظيمة أو كاتبة كبيرة. التمثيل فنّ قاصر المشكلة فيه أنّه يتطلّب أن تتعاون مع آخرين. أعتقد أنّ الاعتماد على الذات أكثر إرضاء لي من أن أكون جزءًا من آلة كبرى.
ويوافق على هذا الكلام النقّاد ومؤرّخو الفنّ السابع الذين يؤكّدون أنّ الممثّلة الأميركيّة القديرة عشقت السينما ولكنّها كرهت الجانب الجماهيريّ، معتبرة أنّ في ذلك تذلّلاً للناس، وهي بالفعل لم تكن تهتمّ سواء أحبّها الناس أم كرهوها.
في المقابل، اعتبرت المخرجة المسرحيّة والممثّلة نضال الأشقر أنّنا في بلادنا العربيّة نفشل في العمل الجماعيّ وننجح في الأعمال الفرديّة، لذلك، بحسب رأيها، نجحنا مثلاً في الشعر والرواية والرسم ولم ننجح في المسرح والموسيقى السيمفونيّة والأفلام.
من نافل القول أنّ كلا القولين الصادرين عن كبيرتين، كلّ في مجالها ومكانها، صحيح ومتكامل بشكل واضح. ففي الولايات المتحدة حيث أثبتت "الآلة الكبرى"، كما سمّتها، قدرتها على جزّ كلّ ما يعترض طريقها من أعشاب ضارّة وطوّعت الفرد ليكون عنصرًا بسيطًا من مجموعة كبيرة، يحتاج المرء إلى فسحته الخاصّة حيث يعبّر كما يريد ويكتب ما يريد ويفكّر كما يريد. أمّا عندنا، حيث تطغى النزعة الفرديّة ونجد صعوبة في التعاون مع الآخر، فنحتاج إلى إعادة نظر في موروثاتنا الفكريّة والاجتماعيّة ومعالجة مشاكلنا النفسيّة كي نستطيع أن ننتج عملاً ناجحًا تتضافر فيه الجهود ولا يلغي أحد دور أحد.
عندنا في لبنان فنّان موهوب اسمه جورج خبّاز، اعترف له الفنّان القدير دريد لحّام بالموهبة وأعلن أنّه سيتعاون معه في عمل مسرحيّ. عندما أراقب أعمال خبّاز أكتشف أنّه يصعب عليه التعامل مع أحد، ففي مسرحيّاته هو الكاتب والمنتج والمخرج والممثّل ومؤلّف الأغنيات وملحّنها، ولذلك فثمّة ثغرة في كلّ وظيفة من هذه الوظائف. وينطبق هذا التوصيف على باسم فغالي، الذي يقوم بكلّ المهمّات لأداء أدواره، وكذلك على مقدّمي البرامج الحواريّة الذين يرفضون الاستعانة بمعاونين أو مستشارين بل يفرضون شروطهم بالاكتفاء بموظّفين يلبّون أوامرهم.
لا نزال إبداعيًّا نعيش في العصر الجاهليّ ونكتب قصيدة قائمة على أبيات متفرّقة لا رابط بينها إلاّ الوزن والرويّ والقافية. ولم نتعلّم بعد أن نكون أجزاء مترابطة ومتعاونة من منظومة واحدة. وإذا كان كلام كاترين هيبورن يصحّ في الرسم والكتابة في لحظة الإبداع فإنّ التسويق والعرض والبيع والتصحيح والتوجيه والإعلان والنشر مهمّات لا يقوم بها الرسّام أو الكاتب في الولايات المتحدّة وسواها من بلدان العالم المتمدّن بل يكلها إلى متخصّصين.
وإلى حين نتعلّم التعاون وقبول الآخر لنصير قصيدة منسجمة ذات وحدة عضويّة سنبقى طويلاً بيوتًا متفرّقة وقبائل متناحرة.

الجمعة، 13 نوفمبر 2009

قممنا الإبداعيّة وعوامل التفتيت والتعرية



تتعرّض الجبال والصخور لتأثير التغيّرات المناخيّة وتقلّبات الطقس، ما يجعلها عرضة لعوامل التفتيت والتعرية فتتغيّر أشكالها وتتقلّص أحجامها لتختفي بعد ذلك. ولكنّ هذه العمليّة تستغرق آلاف السنين لا بل ملايين السنين، ولا يستطيع الإنسان شيئًا حيال ذلك، لا بل هو يساهم في تلويث البيئة وتكسير الصخور وقطع الأشجار وجرف التراب. وإذا كان فعل الإنسان مرفوضًا حيال الطبيعة فهل هو كذلك حيال قممنا الإبداعيّة؟
يحلو للبعض أن يعتبر أنّ الأسماء "الكبيرة" في تاريخنا الإبداعيّ غير قابلة للنقد ولا يجوز أن تتطاول عليها أقلام وألسنة. وإذا كان في هذا الكلام بعض الصحّة فلا يعني ذلك أنّه غير قابل كذلك للنقد والتحليل والاعتراض. فالمبدع إنسان يخطئ ويصيب، ينجح ويفشل، وإذا كان من غير المقبول التحطيم والتهشيم والتجريح فالنقد العلميّ مطلوب، وما من مقدّسّات في هذا المجال. لا أحد ينكر مثلاً أنّ ما كتبه الأخوان رحباني وصل في إلى مرتبة من الشعر راقية وسامية تكاد تعجزنا عن الحديث عنها، غير أنّ هذا لا يعني أنّهما لم يكتبا كلمات لا علاقة لها بالشعر، ولولا اللحن وصوت فيروز لما وجد فيها أحد قيمة فنيّة. حتّى فيروز ليست بمنأى عن المساءلة، غير أنّ الناس اعتادوا على الانتقال من التفخيم والتعظيم إلى التهشيم والتحطيم من دون سبب عقلانيّ أو تحليل منطقيّ وفي أغلب الأحيان بالقلم نفسه. فحين غنّت فيروز في ساحة البرج هاجمتها الأقلام نفسها التي دافعت عنها حين قدّمت مسرحيّة "صحّ النوم" في دمشق. ففي المناسبة الأولى اعتبرها بعض النقّاد منحازة إلى مشروع رفيق الحريري وتغنّي على حساب أصحاب الأملاك الذين خسروا أملاكهم في وسط بيروت، في حين رأى فيها آخرون الصوت المبشّر بعودة الحياة إلى عاصمة لبنان. وفي المناسبة الثانية رأى من هاجمها أنّها عادت إلى قواعدها سالمة، أمّا الآخرون فشعروا أنّها خانتهم. وفي المرّتين غابت إلى حدّ كبير القراءات النقدّية العلميّة، والأخطر من ذلك أن يروح البعض إلى حدّ القول: هي محقّة في كلّ ما تفعله، فهي فيروز ولا يجوز الشكّ في تصرّفاتها.
وإذا كان مارسيل خليفة غنّى للثورة الفلسطينيّة أجمل القصائد وجعل شعر محمود درويش في متناول عامّة الناس، فهذا لا يعني ألاّ يكون لنا موقف من تركه لبنان والإقامة في فرنسا مع العلم أن لا خطر على حياته ولا موانع تعيق تحليقه الفنيّ، من دون أن ننسى أنّ الثروة التي جمعها وتسمح له بالإقامة في الخارج هي من أموال دفعها باعة الخضار الذين ذكرهم في أغنياته، والثوّار الذين يقيمون تحت القصف والنار، والفقراء الذين حرموا أنفسهم من رغيف خبز ليشتروا بطاقة لإحدى حفلاته التي صارت نادرة بعدما انتهت "ثورته" وبسبب غضبه على الناس العاديين الذين لا يرون فيه إلاّ مغنّي الحرب، ولم يواكبوا مسيرته الموسيقيّة ولم يتطوّروا معها. ولا أعرف إن كان مارسيل خليفة يسأل نفسه وهو الذي قاد الجماهير في طريق الثورة، لماذا عجز عن الارتقاء بهم إلى المستوى الذي وصل إليه.
من السهل الانتقال من هذين المثلين إلى مختلف وجوه الحياة الإبداعيّة وفي كلّ المجالات التي لا نستطيع ذكرها في هذه العجالة، لنقول إنّ الخوف على صورة مبدعينا لا يعني الخوف منهم، وإنّ عوامل التفتيت والتعرية قد تغيّر معالم الجغرافيا، ولكنّ هذه العوامل نفسها هي التي جعلت مغارة جعيتا أعجوبة طبيعيّة رائعة. وبالتالي ثمّة خيط رفيع وهشّ يفصل بين أن نرفع مبدعينا إلى قمم المجد ونأسرهم عليها وننحني أمامهم خاشعين، وبين أن نخضعهم لمزاجيتنا وآرائنا ورغباتنا. وفي الحالين الأمر ليس صحيًّا للجميع.

الكتابة على ورق الخسّ



متابعو هذه الكتابات ذات المزاج النسائيّ يذكرون حديثي عن المطعم القرويّ في بيروت، ولذلك يعرفون إنّ مقالتي عنه أثنت على الفكرة الذكية التي تقف خلف إنشائه، بقدر ما توقّعتْ انفضاض الناس عنه ما أن يضجروا من الحكاية التي أثارت اهتمامهم وجعلتهم يتساءلون عن هويّة الرجل الذي يحمل المطعم لقبه.
المشكلة مع الحكاية أنّ عليك أن تصدّقها أوّلاً كي تستطيع إقناع الناس بها، وكي تجعلها قابلة للتحوّل واقعًا. لذلك أصبح "راجح" (جوزف عازار) في مسرحيّة "بيّاع الخواتم" رجلاً حقيقيًّا خرج من الحكاية وصار له اسم وهويّة وشكل، ولذلك أيضًا لم تسافر "وردة" (فيروز) في القطار وهي التي زرعت في أفكار الناس "المحطّة" /الحلم، ورحل الجميع، إلاّها، عندما وصل "التران" وبقيت صاحبة الحلم واقفة على رصيف الانتظار لأنّها لم تشتر بطاقة سفر.
من السهل أن يفضح أصحاب المطعم أنفسهم عندما تتحدّث معهم لأنّك تكتشف فجأة أنهم "اشتروا" الحكاية كما يشترون أيّ سلعة أو زينة أو خسّة، ولا يمكن الجالس معهم أن يرى بريق الحلم في عيونهم ولن يتوقّع أن تنجب الحكاية حكايات أخرى. فهل هذا عقاب من يريد أن يرى عن كثب كيف تلمع كلمات الحكاية في عينيّ من حلم بها ذات قمر ونجمة وليل؟ وأين اختفى ذلك الحالم وبأيّ مبلغ باع حكايته؟
نشأت في بيروت علاقة قديمة بين المطعم أو المقهى والثقافة، وتزخر أدبيّات هذه المدينة بذكريات أدباء عن أيّام أمضوها في تلك الأمكنة/الفسحات، حتّى صارت أسماء أصحابها والعاملين فيها تترافق مع أسماء سياسيّين لبنانيّين وشعراء ومسرحيّين وثوريّين هاربين من بلادهم إلى حيث الحريّة الخلاّقة. وهكذا صار مطعم "فيصل" في مقابل الجامعة الأميركيّة، ومطاعم الروشة كاليلدزلار ونصر وشاتيلا، ومقاهي شارع الحمرا كالويمبي والهورس شو والمودكا والكافيه دو باري وسواها كثير، نقول صارت قلاع مقاومة فكريّة، أو مراكز حزبيّة أعدّت فيها أكثر من ثورة انقلابيّة. وكان القيّمون عليها يفتخرون بأّنّ مطاعمهم لم تعد مجرّد أمكنة عابرة لتناول الطعام بل تحوّلت بيوتًا يلجأ إليها الهاربون من الظلم والملاحقة، ومسارح يطلق من خلف طاولاتها الفنّانون والشعراء أفكارهم التي يخاف أيّ مكان آخر من احتمال جرأتها وحداثتها. ولذلك لا يزال ما بقي "حيًّا" منها يحتفظ على جدرانه بصور مبدعين عرب وأجانب، ولا تزال ذاكرة الأمكنة تحجز هذه الطاولة لذلك الشاعر وتلك الزاوية لذلك المفكّر، وهذا المقعد للأستاذ الفلانيّ.
لا تصل فرحتنا بمطاعم بيروت أو مقاهيها إلى أبعد من يوم أو اثنين أو ثلاثة، كأنْ كتب على هذه المدينة أن تصفعك دومًا وتصرخ في أذنك: استفق فلن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، وذاكرة بيروت صارت مجموعة آثار تعمل البلديّة على جمعها في مبنى خاصّ على تقاطع السوديكو، يبدو أنّه يحمل آثار الحرب أكثر من أيّ شيء آخر.
لم نعد نخترع الحكاية ونصدّقها، بل نشتريها معلّبة مع طريقة الاستعمال وانتهاء مدّة الصلاحيّة، ونحن نعرف مسبقًا بأنّها استثمار قصير الأمد وليست ارتباطًا بمكان وتاريخ. ولذلك تخلو المطاعم من الصحف وتزدحم بالأراكيل، وتغيب أحاديث الثقافة وتحضر في قوّة ثرثرات النساء السيليكونيّات، وتعبر في سرعة وخجل وجوه الشعراء والأدباء وتقيم آمنة وجوه إعلاميّات هذا الزمن وملكات جماله وعارضي الأزياء وفتيات الجامعات المتسكّعات، الذين لا نجرؤ على الرهان عليهم لتأسيس ذاكرة جديدة.

الخميس، 12 نوفمبر 2009

مطعم قرويّ في بيروت

في بيروت ...قديمًا

لا نستطيع طبعًا ذكر اسم المطعم الذي افتتح مؤخّرًا في بيروت، وفي بيروت يفتتح كلّ يوم مطعم جديد، لكي لا تتحوّل الكتابة حملة إعلانيّة تسوّيقيّة. ولكن لا بدّ من الحديث عن الحالة التي خلقها هذا المطعم والقصص الطريفة التي تنشر حول فكرته وأثاثه والإقبال الشديد عليه.
حين دعاني أحد الأصدقاء، وهو نيّق لا يعجبه العجب، إلى المطعم الجديد ظننت أنّه سيصطحبني إلى واحد من تلك المطاعم الأنيقة المعلّقة فوق أبراج بيروت وفنادقها الراقية، أو تلك التي تمدّ موائدها وصولاً إلى البحر الدافئ، غير أنّني فوجئت بأنّني أقف أمام مطعم يشبه بيتنا ذا الطابع القرويّ: طاولات عتيقة من الفورمايكا أو الخشب لا تختلف عن تلك التي كانت في بيت جدّي، وأغطية ذات زهور صغيرة من النايلون كتلك التي كان يحملها الباعة المتجوّلون في القرى، وكراسي توحي بأنّها عتيقة ومخلّعة وطبعًا هي ليست كذلك، وأدوات زراعيّة، وأطباق لبنانيّة تراثيّة وطبعًا: أراكيل من مختلف النكهات.
ولكن ما أضافه أصحاب المطعم وهم خمسة شركاء من العاملين في حقل المطاعم هو الحكاية.
فعلى لائحة الطعام وعلى الحيطان صور وأخبار عن رجل من المفترض أنّه والد صاحب المطعم. وأمام الباب سيّارة كاديلاك عتيقة كانت للوالد المملوءة حياته مغامرات ونساء وقبضايات وفنّانات وسياسيّين ورحلات، وما إلى ذلك من عناصر التشويق التي تجعل الحكاية قابلة لمزيد من تفاصيل وإضافات لن تبخل بها مخيلة الجالسين حول الموائد العامرة بالطعام الذي عادة ما نتركه في البيت وندفع ثمنه الباهظ في المطعم.
قلت لصديقي مازحة: لو علمت أمّي بأنّنا ندفع هذا المبلغ ثمن صحن اللبنة لما نامت الليل بسبب الإحساس بالغبن. ثمّ تابعتُ بكثير من الجدّ والرغبة في الفهم: نحن نتردّد في دعوتك إلى تناول العشاء تحت العريشة أمام منزلنا القرويّ على اعتبار أنّك تحبّ المطاعم الأجنبيّة ومفارش الموائد ذات الماركات العالميّة، فكيف تبدو مرتاحًا هنا؟ فكان جوابه المختصر: هون غير شي.
نعم، هنا في المطعم، تبدو الأمور مختلفة، وما كان مهملاً في القرية ومرميًّا في الحقول صار أدوات زينة تلفت الانتباه وتدعو أبناء المدينة إلى أن يتفحّصوها وأن يعرفوا أسماءها وطرق استخدامها، وعلى وجوههم إمارات الفرح الطفوليّ باكتشاف أمر غريب. حتّى حكاية الرجل الذي ترك ابنه الوحيد للخوض في عالم المغامرات ولم يترك له سوى طرابيشه النبيذيّة اللون، صارت مجموعة من الحكايات نكتشفها حين نسمع على الطاولات المجاورة أحاديث تحاول أن تكتشف صحّة الحكاية، أو تحاول أن تحلّلها أو تلصق بها ما علق في الذاكرة من حكايات تشبهها.
لا شكّ أنّ من يقف خلف مشروع الحكاية، أكانت حقيقيّة أم متخيّلة، بارع في التسويق ويعرف أنّ الناس على اختلاف أعمارهم يحبّون الحكايات ويحبّون كلّ ما هو جديد، حتّى ولو كان هذا الجديد طربوشًا قديمًا، أو طبقًا تقليديًّا أعطاه أصحاب المطعم اسم الزوجة التي أهملها رجل الحكاية فاهتمّت وحدها بابنها.
أدعوكم إلى زيارة هذا المطعم قبل أن يضجر الناس منه، ويضطر أصحاب المطعم أنفسهم إلى تغيير طبيعة المكان والديكور والحكاية ليجذبوا الزبائن أنفسهم ولكن بـ"إدارة جديدة" وإرادة لا تنثني عن اختراع الحكايات وتسويقها في عالم يبحث كلّ يوم عن فكرة ذكيّة وجديدة.

الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

لا ذنب لي في الحبّ والكره



أثبت العلم ما كنت أقوله دائمًا عن نفسي، ومن الواضح أنّه بات الآن يصحّ على الجميع، أنْ لا ذنب لي في الحبّ والكره وأنّ الأمر كلّه متعلّق بدوائر عصبيّة هي نفسها المسؤولة عن الحبّ والكراهية، وتقيم في مركزين في المخّ هما: بوتامان وأنسولا. طبعًا أنا ما كنت لأطلق عليهما هذين الاسمين!
هذا ما أكّده علماء في لندن كوليدج البريطانيّة بعد سلسلة من الأبحاث والتجارب أدّت غلى اكتشاف المراكز المسؤولة عن ظهور هذه المشاعر عند الإنسان.
هذه الحقيقة العلميّة تبرّئ أيّ واحد منّا من تهمتي العشق والكره وتضع اللوم على خلل في هذين المركزين أو في أحدهما على الأقلّ. وبالتالي لا بدّ من أن ننتظر لاحقًا عقاقير وأدوية تسمح بمعالجة هذا الخلل، فنخفّف من حالة العشق عند أحدنا قبل أن تودي به إلى الجنون أو الانتحار، ونلغي نسبة الكراهية عند آخر قبل أن تدفعه إلى ارتكاب جريمة يروح ضحيّتها مثير كراهيته. وكما هي الحال في كلّ الأدوية والعلاجات والعقاقير، لا بدّ من أن نخشى وقوعها في أيدي من يستغلّها فيتلاعب بتركيبتها ويغيّر أهواء الناس ومشاعرهم على مزاجه وتبعًا لمصالحه.
بين الحب والكراهية شعرة، هذا ما يقوله الناس في بلادنا، وكم من علاقة حبّ يائسة تحوّلت ( بسبب البوتامان والأنسولا كما صرنا نعرف الآن) حقدًا أعمى قضى على كلا الطرفين. وهواة الفنّ السابع لا بدّ يذكرون "الحرب" التي دارت رحاها في قصر "آل روز" بين زوجين عاشقين/ عدوّين أدّى دوريهما مايكل دوغلاس وكاثلين تورنر، وروى قصّتهما في الفيلم محامي العائلة الذي لعب دوره داني دو فيتو. والفيلم الذي نال شهرة واسعة عام 1989 كان قد سبقه فيلم آخر عن تحوّل العشق جنونًا مدمّرًا في "جاذبيّة قاتلة" عام 1987 مع مايكل دوغلاس كذلك والبارعة غلين كلوز.
في نهاية القرن الماضي كان العلم قد اكتشف كذلك الجينة المسؤولة عن الخيانة الزوجيّة، وقلنا يومها: صار للخيانة عذر شرعيّ يقرّه الطبّ. ولا شكّ في أنّ الاكتشافات المقبلة ستزيل الستار عن كثير من الخلايا التي تسبّب أمراضًا نفسيّة وحالات عصبيّة أو في المقابل إبداعًا وعلمًا وفنًّا. والذين يملكون بعض المعلومات عن الطبّ الصينيّ مثلاً يعرفون تمامًا أنّه قال مثل ذلك منذ أكثر من أربعة آلاف سنة حين ربط بين ما يحصل في داخل الإنسان وما ينتج عنه من تصرّفات.
ما يهمّني في الموضوع أنّني رفعت عن نفسي، بتأكيد من العلم وبراءة ذمّة منه، المسؤوليّة عن حالَتي العشق واللاعشق كي لا أقول الكراهية. وفي انتظار العقار السحريّ الذي يعالج البوتامان والأنسولا في مخّي أرجو أخذ حالتي "المرضيّة" بعين الاعتبار.

الاثنين، 9 نوفمبر 2009

ممثّلون فقراء في أدوار الثراء



ليس الفقر عيبًا وإن كان ليس هدفًا يطمح الإنسان إلى الوصول إليه؛ وستبقى حكمة الإمام علي بن أبي طالب ماثلة في أذهاننا حين نرى إلى الفقراء: لو كان الفقر رجلاً لقتلته... ستبقى ما دامت الأرض لمّا تمتلئ بعد محبّة وعدلاً وسلامًا وحقًّا. وليس فنّ التمثيل عيبًا بل هو من الفنون الراقية ما دمنا لا نتكلّم عن التمثيل بعقلنا ونظرنا وسمعنا، كما يمثّل المجرمون السفّاحون بجثث ضحاياهم. وليس الثراء مجرّد ملعقة من ذهب يأكل بها الأثرياء ما يعجز الفقراء عن شرائه، بل هو مستوى حياة وطريقة تصرّف وكلام ولياقة وجمال وذوق.
أمّا ما العلاقة بين الفقر والتمثيل والثراء فهذا ما سأحاول شرحه في أقلّ قدر ممكن من الكلمات المباشرة. فحين يكون الممثّل فقيرًا ويطلب منه أن يؤدّي دور ثريّ، فاحش الثراء، في مسلسل أو مسرحيّة أو فيلم، فعلى القيّمين على العمل الفنيّ أن يقوموا بإعداده خير إعداد ليؤدّي هذا الدور حتّى ينسى المشاهد أنّ هذا الممثّل الفقير الحال لم يدخل قصرًا في حياته، ولم يعرف أنّ الأثرياء يتصرّفون في قصورهم كما يتصرّف كلّ إنسان في بيته وليس كضيف يخشى أن يوقع الإناء فيكسره.
أنا لست من المدمنين على متابعة المسلسلات أيّا تكن جنسيّتها ما لم أكتشف من الحلقة الأولى أنّ هذا العمل يستحقّ أن أرهق نظري بمشاهِدِه وسمعي بحواره. ولأنني لست من الخبراء في البرامج التلفزيونيّة وخصوصًا بعد عصر الفضائيّات وازدحام المسلسلات الدراميّة على شاشاتنا، لا أستطيع أن أقول أنّ ما أكتبه عن المسلسل اللبنانيّ "بين بيروت ودبيّ" هو نقد متخصّص بل مجرّد انطباعات عاديّة لمشاهدة عاديّة لم تستطع أن تشاهد إلاّ بضع حلقات وبشكل متقطّع، خشية أن تفقد ما تبقّى من أعصابها وهي تتابع قصّة ليس فيها شيء من المنطق.
ولكن إذا وضعنا تمثيل كارمن لبّس وفادي ابراهيم وكارلوس عازار على حدة، لن يبقى في ذاكرتي عن هذا المسلسل إلاّ أنّ ابنة رجل الأعمال الملياردير كانت ترتدي منامة بعشرة دولارات، وقميصًا تائيّة (ت شيرت) بخمسة دولارات، وتحمل حقيبة يد من النايلون، وتتنقّل في قصر(ها) بحذاء يطقطق لأنّه يحتاج إلى كعبين جديدين، وليس لها، ولسواها من الممثّلين علاقة لا من قريب ولا من يعيد بحياة الأثرياء ولا بحياة أهل دبي.
إذا كان الإنتاج لا يستطيع تحمّل كلفة الحياة في القصور، فليكتب المؤلّفون قصصًا عن الفقراء والمرضى والمتسوّلين والمقيمين في العراء، فذلك أكثر احترامًا للفقراء والأثرياء وللمشاهدين على اختلاف طبقاتهم وفهمهم. خصوصًا أنّ ما يقال عن الملابس غير الملائمة لأدوار الممثّلين، يصحّ على المجوهرات والسيكار والسيّارات الفخمة والمطاعم الفاخرة والمشاهد الحميمة وإدمان المخدّرات.
يا جماعة، نحن نعلم أنّ الممثّلين والممثلاّت الذين تخرّجوا من الجامعات حديثًا لا يستطيعون تأمين الملابس والإكسوارات المناسبة لأدوارهم، عدا عن أنّهم لا يعرفون كيف تكون حياة من يطلب منهم تقليد حياتهم. فعلّموهم وثقّفوهم واسخوا عليهم وإلاّ فتوقّفوا عن إنتاج أعمال لا يملك المنتج المال الكافي لتنفيذها ولا يملك مخرجها السلطة الكافية لإدارتها ولا يملك أبطالها إلاّ النصوص التي بين أيديهم.
كان لمسلسلاتنا الدراميّة عهد ذهبيّ، وكان الممثّلون يقنعوننا بفقرهم ولو كانوا أثرياء ويقنعوننا بثرائهم ولو كانوا فقراء ويقنعوننا بإجرامهم ولو كانوا في براءة الأطفال، فرجاء لا تمثّلوا علينا بعد اليوم لأنّ المشاهد الذكيّ يعرف كيف يميّز بين ذهَب الموهبة الأصيلة وبين من ذهبت موهبته مع الريح، ولا تتبجّحوا بسيل الإعلانات، لأنّ المعلن الذكيّ هو الذي يعرف المستوى الحقيقيّ للمشاهدين.

السبت، 7 نوفمبر 2009

الموسيقى الكلاسيكيّة والأغنيات الوطنيّة والموت



وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة تحتار عند الأزمات السياسيّة في ما تبثّه من برامج وأغنيات. فهل دورها في المراحل الدقيقة إلهاء الناس عمّا يجري في غزّة أو لبنان أو اليمن أو العراق، وبالتالي دعوة الناس إلى متابعة الحياة كأنّ شيئًا لا يجري، أو أنّ من واجبها القوميّ العمل على تعبئة شاملة واستنهاض الهمم وبثّ روح المقاومة في الناس تضامنًا مع هذه الجهة أو تلك؟
الاتجاهات السياسيّة لكلّ مؤسّسة إعلاميّة تحدّد بلا شكّ نوع البرامج التي تبثّ والأغنيات التي تذاع واللهجة التي على الإعلاميّين استخدامها في تقديم الأخبار والبرامج السياسيّة عند وقوع أمر طارئ. ولذلك ترى الإذاعات أنّ الأغنيات الوطنيّة ومسرحيّات الأخوين رحباني خير مخرج في هذا الوضع الدقيق، أمّا التلفزيونات التي لم ترغب في الحديث على مدار الساعة عن الأوضاع الدقيقة في الوطن العربيّ فتختار الأفلام الوثائقيّة والبرامج التثقيفيّة لتعرضها على جمهورها في محاولة للهرب من مأزق قد تقع فيه إن اتخذت موقفًا واضحًا. غير أنّ العقل لا يستطيع إلاّ أن يسأل القيّمين عن تلك المؤسّسات عن هذا الميل المفاجئ في اتجاه الثقافة والتاريخ والعلم والموسيقى الكلاسيكيّة والأغنيات الوطنيّة في وقت تبدو فيه أعصاب الناس مشدودة ولا تحتاج إلى مزيد من الشحن "الوطنيّ" أو التعبئة "الثقافيّة" ؟ وأين كانت الثقافة قبل ذلك وهل تتعارض مع الحياة والفرح والسلام؟ وهل الوطن موسم، له بداية ونهاية، وبالتالي لا تذاع الأغنيات التي تتغنّى بأرضه وترابه إلاّ عندما يدقّ ناقوس الخطر وتتساقط القذائف على رؤوس الناس؟ وهل يعرف المسؤولون في الإعلام أنّ الموسيقى الكلاسيكيّة ليست محصورة بالحزن، وأكثرُ ما فيها، وما يبثّ غالبًا منها، وبسبب جهل فاضح، فرحٌ ومجد وانتصار وأعراس واحتفالات؟ وقد أحسنت إذاعة "صوت الشعب" اللبنانيّة صنعًا حين أعطت لبرنامج تثقيفي عن الموسيقى الكلاسيكيّة اسم "ما حدا مات" إذ جرت العادة في لبنان أن تبثّ وسائلُ الإعلام المرئيّة والمسموعة الموسيقى الكلاسيكيّة عند وفاةٍ تفرض الحداد الوطنيّ على البلاد. ومن المعروف أنّ هذا الخيار جاء كمهرب من التزام دينيّ رسميّ في حال بثّت صلوات لهذه الطائفة أو تلك، لأنّ الموسيقى الكلاسيكيّة محايدة وليست محسوبة على طائفة أو دولة أو حزب، وكذلك فيروز والأفلام الوثائقيّة والصور المتحرّكة. أمّا صباح فللفرح، ووديع الصافي فللجنوب وللمغتربين فقط وفي أغنيات محدّدة، وماجدة الرومي وباسكال صقر محسوبتان على فريق 14 آذار، وجوليا بطرس ومارسيل خليفة وأميمة الخليل وأحمد قعبور وخالد الهبر وشيخ إمام لجماعة 8 آذار. ويغيب الآخرون، كلّ الآخرين، في زمن الحروب والموت، كأنّهم أكثر هشاشة من أن يحتلموا خوفنا وغضبنا ويأسنا وأسئلتنا العميقة النابعة من عمق التجربة.
لا شكّ في أنّ المراحل الدقيقة والمصيريّة تتطلّب نهجًا إعلاميًّا خاصًّا، غير أنّه ليس من الثقافة في شيء أن نربط الموسيقى العالميّة الكلاسيكيّة بالموت، والأناشيد الوطنيّة بالحروب، والبرامج العلميّة بالحيرة أمام اتخاذ موقف. ونتساءل بعد ذلك لماذا ترفض ذائقتنا العامّة الثقافة "العاقدة الحاجبين" والمرتدية ثوب الحداد الأسود؟ ولا بأس إن شعرنا بأنّ الحياة مستمرّة وبأن لا خطر على الأمّة إن حكينا عن الحبّ في زمن الحرب، وإن لونّا أحلامنا في زمن الدخان والبارود، وإن كتبنا عن الفنّ في زمن الفتك. فبهذه نستمرّ.

الجمعة، 6 نوفمبر 2009

خيانة القارئ

Magritte
عندما كتبت هذا العنوان "خيانة القارئ" تساءلت وأنا أنظر إلى الحروف المطبوعة فوق الشاشة: ما الذي قصدته من هاتين الكلمتين ومن الذي يخون الآخر؟ هل الكاتب هو الذي يخون القارئ أم أنّ الخيانة هي من القارئ الذي أضيف إلى كلمة خيانة؟
ضجّ العالم الثقافيّ مؤخّرًا بالخبر المثير عن الأديب التشيكي ميلان كونديرا وذلك بعد نشر تحقيق صحافيّ يشير إلى أنّ هذا الكاتب العالميّ خان أحد مواطنيه ووشى به إلى النظام الشيوعيّ بتهمة التجسّس، فسجن الرجل عشرين عامًا مليئة بشتّى أنواع التعذيب والإذلال.
ومع أنّ كونديرا أصدر بيانًا ينفي فيه هذا الخبر، إلاّ أنّ وسائل الإعلام بدأت تطرح علامات استفهام كثيرة حول صورة الأدباء المخادعة، والطريف في الأمر أنّ الذين يكتبون في الصحف ويتعاطون الشأن الثقافيّ قد تطالهم التهمة نفسها بطريقة أو بأخرى، فالخيانة أنواع وهي تبدو عبر التاريخ نسبيّة تخضع للظروف والقوانين والقناعات وما يمكن أن يكون اليوم عملاً وطنيًّا أخلاقيًّا منسجمًا مع الواقع قد يكون في الغد غير ذلك تمامًا.

Magritte
إذا صحّ التحقيق الذي أعدّه ونشره آدم هاردليك بالتعاون مع بيتر ترنستك فهذا يعني أنّ كونديرا يعيش مع هذه "الخيانة" منذ 58 عامًا، وهي فترة طويلة من الأشغال الشاقّة وخصوصًا حين يكون المحكوم أديبًا عالميًّا توحي كتاباته بكلّ شيء ما عدا الغدر والخيانة والتهليل للأنظمة الديكتاتوريّة وهو يحيا منذ تلك الحادثة خائفًا طوال الوقت من افتضاح أمره. ومع ذلك فلا أعلم لماذا يفاجأ الناس في الاختلاف الطبيعيّ والمتوقّع بين الكاتب والعمل الإبداعيّ. ومن يستطيع أن يقول من المبدعين إنّه يشبه نصّه أو لوحته أو موسيقاه أو منحوتته أو مسرحيّته أو فيلمه، والحمد لله أنّ الأمر ليس كذلك، وإلاّ لكان العالم مكانًا قبيحًا لنحيا فيه.
Magritte
اعتبر اسكندر حبش في صحيفة السفير أنّنا نشهد سقوط بعض الكبار، وأعطى أمثلة عن سولجنستين الذي طالب بترحيل بعض الشعوب عن روسيا عند عودته إليها، والشاعر الألمانيّ غونتر غراس الذي كان يعمل مع النازيّين، وها هو كونديرا الشيوعيّ الحريص على أداء واجبه تجاه وطنه. غير أنّي لا أعرف لماذا لم يرد في المقالة نفسها أسماء كبار من العرب،ربّما سقطوا بالطريقة نفسها ولم يرغب أحد في فضحهم، على عادتنا في التستّر على عيوب بعضنا.
Magritte
في مرحلة من تاريخ الولايات المتحدة كانت العبوديّة قانونيّة فكرةً وممارسة، ولم يكن من يمتلك العبيد مجرمًا أو خارجًا عن القانون، ومع ذلك فلم يكن الضمير أو المنطق أو الدين أو الفكر ليرضى بالعبوديّة، ولكن الأمر يحتاج إلى أبطال أو قدّيسين لكي يستطيعوا إعلان بطلان القانون، والمبدعون ليسوا هؤلاء أو أولئك إلاّ في أعمالهم. هذه هي القاعدة وما سوى ذلك هو الشواذ. ولذلك يحفل تاريخ الإبداع على اختلاف وسائل تعبيره بمبدعين جبناء يمجّدون الشجاعة، ومثليي الجنس يكتبون أجمل النصوص عن الجنس الآخر، وخطباء وطنيين خانوا بلادهم، وقبيحي الشكل أجادوا في تصوير الجمال، وبخلاء يفيض الكرم من أدبهم، ومتحرّرات ثوريّات يتذللن للرجل.
Magritte
في بداية عملي الصحافي، وكنت أكتب باسم مستعار هو مي م. الريحانيّ ومن ضمن سجال نقديّ مع الإعلاميّ والشاعر زاهي وهبي عبر صفحات "النهار" كتبت نصًّا بعنوان " أسمعكم في مقاهي الحمراء وأكتشف الوجه المختبئ خلف الصفحات" (شارع الحمرا، شارع المقاهي حيث يلتقي المثقّفون) تحدّثت فيه عن خيبتي من اكتشاف عوالم الإبداع وأسفي لأنّني التقيت بمبدعين ألسنتهم كالمباضع في حقّ بعضهم. وما زلت حتّى اليوم أخشى الاقتراب من المبدعين في أيّ مجال لأنّني أفضّل صداقة النصّ الطويلة الأمد على لقاء عابر مع كاتبه، وجمال اللوحة على جنون راسمها، وانسياب الموسيقى على نظريّات الموسيقيّ.
Magritte
المتلقّي إذًا هو الذي يخون المبدع عندما يضع له هالة من القداسة فوق رأسه، وعندما يطلب منه أن يخون شخصيّته وينسى ماضيه ويتنكّر لأخطائه. ومع الأسف يقع المبدع في خديعة الصورة ويصدّق أنّه البطل الوحيد لرواياته وقصائده.
Magritte

الخميس، 5 نوفمبر 2009

الكتب والمتاحف والحياة

حين أصدرت كتابيّ الأوّلين: لأنّك أحيانًا لا تكون ورسائل العبور، كنت قد قرّرت ألاّ يكونا صالحين للمتاحف بل للحياة. كنت أتخيّل كتبي في حقائب اليد النسائيّة إلى جانب أقلام تخطيط الشفاه التي تخطّط في الوقت نفسه للقاءات، والمرايا التي تقول لكلّ واحدة: أنت أجمل النساء، وعلى طاولات المقاهي تشرب القهوة أو النسكافة أو الشاي ويتناثر عليها رماد السجائر وينتقدها رجال قرأت كلّ ما كتبوه وهم الذين علّموني الكتابة، أو هي على الطاولة إلى جانب السرير، أو تحت المخدّة، أو معرّضة للشمس والمياه عند شاطئ البحر، مبقّعًة بزيت الاسمرار ومملّحة بالرطوبة. كنت أتخيّل صفحات كتابيّ وقد كتبت عليها تعليقات القرّاء (لا يهمّ كم هو عددهم)، وآراؤهم وإضافاتهم ورسوماتهم الساذجة.
وحين سألني الناشر عمّا أريد لكتابيّ الجديدين، قلت له: الشكل نفسه لأنّ الهدف لا يزال هو نفسه. لا أريد الورق الفاخر، ولا الغلاف النيّق، ولا الحجم الباهر، لا أريد كتابًا للعرض في المكتبات تختاره سيّدات الصالونات لأنّ لون غلافه الجلديّ الصقيل يلائم لون الأثاث والسجّاد، بل كتابًا تتبادله الأيدي كالمنشورات، كالصحف اليوميّة، ولا يخشى صاحبه عليه من القراءة أو الغبار أو تقلّبات الزمن أو لصوص المكتبات الظرفاء، وهم دائمًا من الأصدقاء.
بعض الكتب، قلت للناشر، غلافها أجمل من مضمونها، وورقها يدفعك للبكاء على الأشجار التي تحوّلت في مجزرة رهيبة من غابة تعشش فيها الطيور إلى كتب يحتلّها الغبار، وثمنها يجبرك على التفكير قليلاً قبل الإقدام على مغامرة شرائها. لا أريد لكتبي يا ناشر كتبي أن يخاف الناس عليها بل منها، أن تضيء كلماتها ليل عقولهم، أن تقلق نومهم، أن تزعج سكينتهم، أن تثير حفيظتهم، أن تشعل غضبهم، أن تدفعهم لكي يقوموا ولو بعمل واحد مختلف عمّا اعتادوا على فعله كلّ يوم، وإلاّ فلن أكون أنا التي أكتب، ولن تكون كتاباتي هي الكتابات التي رغبت دائمًا في كتابتها.
*****
من تحقيق إخباريّ بثّته "العربيّة" عن المطالعة حفظت ما يلي: الأميركيّ يقرأ ما معدّله أحد عشر كتابًا في السنة، والبريطانيّ يقرأ ما معدّله سبعة كتب أمّا العربيّ فيقرأ ربع صفحة في السنة.
ربع صفحة في السنة؟ لا بأس، فلا شكّ في أنّ هناك قبيلة في مكان ما من العالم لا تقرأ كلمة واحدة طوال السنة، أمّا نحن فنقرأ في الفنجان، ونقرأ تحرّكات الكواكب، ونقرأ ما تخطّه الريح على الرمال، ونقرأ ما يرسله الناس إلى المحطّات الفضائيّة التي تبثّ الأغنيات فنسمع شعر عاصي الرحباني وأحمد رامي ونقرأ في أسفل الصفحة كلامًا سخيفًا يوجّهه شاب يبحث عن عمل لشابّة تبحث عن مغامرة.
نحن نقرأ الكلمات على لوحات الإعلانات، ونقرأ رسائل أصدقائنا عبر الفايس بوك والهاتف المحمول، ونقرأ ما تقوله الأبراج في الصحف، ونقرأ علامات الاشمئزاز على وجوه زعمائنا حين نطلب منهم تحقيق ما وعدونا به، ونقرأ ما يقوله ورق اللعب، ونقرأ ترجمات الأفلام.
نحن نقرأ إذًا، وليس هدفنا من القراءة أن نحقّق أرقامًا قياسيّة أو نسبق سوانا في الإحصاءات. نحن اخترعنا الحرف. ألا يكفي هذا الجهد؟ ونشرنا الكتب المقدّسة ليقرأها الآخرون لأنّنا نحفظ غيبًا ما فيها، فهل يجوز أن نأخذ دورنا ودور سوانا؟
*****
ومع ذلك، مصرّة أنا على الكتابة، ولو كان ما أكتبه ربع صفحة، قد يقرأها عربيّ في سنة وقد لا يقرأها أحد. ومصرّة على أن تكون كتبي، على عددها المتواضع، متواضعة الحجم والشكل تصلح للحياة، بوجهي الحياة المتكاملين: بالحبّ الذي فيها والكره الذي فيها، ولا تليق بالمتاحف الباردة حيث تخاف الأشباح من نفسها.

الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

بين القارئ والناقد



كيف ينجو الكاتب من تأثير الناس وأقلام النقّاد ليحافظ على استقرار واستقلال لا غنى له عنهما إن أراد الاستمرار في "معايشة" تلك النمرة التي اسمها الكتابة، والتشبيه هنا استعرته من الكاتب جبرا ابراهيم جبرا؟ ففي مجال الإبداع، على مختلف وجوهه ووسائله ومدارسه، غالبًا ما يقع الاختلاف الفاضح بين ما وجدته الجماهير الغفيرة (الفنّان فيلمون وهبي يسمّيها غفورة في أحد الأعمال الرحبانيّة) رائعًا ويستحقّ التهنئة والجائزة والتكريم، وما اعتبره النقد هابطًا وسيّئًا وغير قابل للحياة أو البقاء.
فكم من مرّة نجح فيلم عند شبّاك التذاكر، وسقط سقوطًا مريعًا في شِباك النقد والتاريخ، وكم من كتاب حقّق أعلى نسبة في المبيعات وانتشر بين الناس انتشار النار في أحراج لبنان خلال الصيف، ثمّ تبيّن أنّ شعبيّته لم تشفع له عند النقّاد والدارسين! وقس على ذلك في مختلف الأنواع الفنيّة الإبداعيّة، وفي كلّها يقع المبدع في فخّ التساؤل: من عليّ أن أرضي: الناس أم النقّاد؟ والمفارقة الطريفة في الموضوع أنّ المبدع نفسه لا يستطيع الإجابة بصدق على هذا السؤال لأنّ أيّ جواب يعطيه سيضعه في موقف حرج. فإن قال: لا أريد الجماهير التي تحبّ هيفاء وهبي وشبيهاتها قال له الناشر: إذًا لا تسألني عن المردود الماديّ لكتابك. وإن فكّر للحظة في أن يحظى بالانتشار الشعبيّ عيب عليه الأمر وقيل عنه: يكتب ليرضي الناس لا ليرشدهم.
ولذلك لم يستغرب الشاعر الكبير أدونيس حين قال له ناشر أحد كتبه أنّ نسخة واحدة بيعت من الكتاب طيلة العام، فأدونيس يعرف صعوبة شعره التي تعود في أسبابها إلى لغة خاصّة أصيلة وتراكيب عقليّة لا تصل بسهولة إلى القرّاء، ومع ذلك فهو ليس مستعدًّا للتنازل عن ذلك، ما أجبره - ربّما – على الانصراف إلى فنّ "الكولاّج" لتأمين مردود ماليّ محترم. وقد يكون نزار قبّاني من الشعراء القلائل الذين استطاعوا أن يوفّقوا بين الرقيّ الشعريّ والجماهيريّة الواسعة، من دون أن يعني ذلك أن لا تفاوت في المستوى بين قصائده أو أنّها لم تنل كلّها الحظّ نفسه في الانتشار وإثارة الإعجاب.
وفي غياب النقد الحقيقيّ الذي يجمع بين العِلم والموضوعيّة والأخلاق سيبقى المبدع راغبًا في قرارة نفسه في الاحتكام إلى عفويّة القرّاء والمشاهدين وإعجابهم العفويّ غير المدّعي، لأنّه بذلك يضمن على الأقلّ أن لا ضغينة تحمل قلم النقد ولا جهل يقرّر مصير الإبداع، ولا أصوليّة فكريّة إرهابيّة تضع رقيبًا فوق كتف كلّ كاتب أو فنّان أو مفكّر ليهمس في أذن كلّ منهم كلامًا يتزاوج فيه الترغيب بالراتب والترهيب من القصّ والمحو والإلغاء.
ومغرور ومدّع كلّ من يقول أنّه لم يرضخ لكلا الترغيب والترهيب في لحظة ما من لحظات إنسانيّته، وإلاّ لما استطاع كثير من الأدباء والشعراء والصحافيّين والفنّانين والفلاسفة والمفكّرين والعلماء أن يحافظوا على وجودهم ويضمنوا بقاءهم، ولكان شهداء الفكر والإبداع أكثر بكثير ممّا قد يخطر على بالنا.

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

"أنا في انتظارك ملّيت"

في انتظار غودو

1 - الشجرة العارية التي جلس عند جذعها أستراغون وفلاديمير بطلا مسرحيّة "في انتظار غودو" هي ما كان ينتظره الرجلان لو نظرا ورأيا. كان الرجلان موعودين بالمنتظَر الذي كان يعطي إشارات متباعدة إلى أنّه آت حتماً، ومع مرور الوقت، كان الانتظار يتحوّل مكانًا آمناً يخشى الرجلان الخروج منه لئلا يقعا في الفراغ، وصار الانتظار العقيم بديلاً من الشجرة التي كان ممكناً أن تكون خضراء مثمرة ظليلة لو انشغل المنتظران بتقليب تربة أرضها وتشذيب أغصانها وريّها، وهي التي لا تزال تحمل في نسغها بعض حياة. وهل يمكن أن تكون الشجرة استعادت الحياة في الفصل الثاني من المسرحيّة بعدما روتها أخبار الرجلين وحكاياتهما، عوضاً عن الماء، بالكلمات/ الأسئلة/ الشعر؟ وهل الرواية نوع من الريّ؟

*****

2- انتظار القطار أوصل القطار في مسرحيّة "المحطّة" للأخوين رحباني، ربّما لأنّ المنتظِر (بكسر الظاء) كان مستعداً للسفر، ولأنّ من بشّر بوصول القطار يتجوّل على الطرق مبشّراً بالحلم، مؤمناً به، يسبقه، ولأنّ القطار المنتظَر (بفتح الظاء) يحمل لا بدّ أكثر من مسافر، وينتظره أكثر من منتظِر.

*****

3 - عنصران أساسيّان نصل إليهما إذاً: الحركة والجماعة. عند بيكيت جمود وعند الرحبانيّين حركة (الحركة بركة). عند بيكيت رجلان قد يكونان رجلاً ومرآته، لو كان معه امرأة لانتظرا طفلاً وكوّنا مجتمعًا وهذا ما لا يؤمن به بيكيت، وعند الرحبانيّين قرية وعيد ولصوص ومتسوّلون وزوجات أي كلّ ما يمكنه أن يكوّن مجتمعًا (الجنّة بلا ناس ما بتنداس).

*****

4 - من الأدب الغربيّ، وصلت إلينا حكايات الأطفال حيث تنتظر المرأة وصول المخلّص: سندريلاّ انتظرت الساحرة الطيّبة ولم تتعلّم خياطة الملابس، ذات الجديلة انتظرت كي يطول شعرها ولم تتعلّم حياكة حبل، الأميرة النائمة انتظرت قبلة الأمير ولم تفعل شيئاً لأنّها في كلّ بساطة كانت... نائمة. ولعلّ هذا ما يميّز شخصيّة شهرزاد التي أتى خلاصها من رأسها وقراءاتها ومخيّلتها. في حكايات غربيّة أخرى أمير/ضفدع ينتظر الحبّ، ومارد قبيح ينتظر قبلة تزيل عنه السحر الأسود وتعيده شاباً وسيماً.

*****

5 - الشرق ينتظر المسيح المخلّص، المهدي المنتظر، عودة الراحلين في قمصان جديدة هي الأجساد المنتظِرة من يحلّ فيها لتنطلق في رحلة الانتظار من جديد. في الشرق مجتمع كامل ينتظر نجمًا يقود الرعاة المساكين والبدو الهائمين، عيونهم إلى السماء دومًا فضاعت الأرض.

*****

6 - في معجم ألفاظنا اليوميّة ترد كلمة الانتظار في شكل لم نعد نعيره اهتماماً: غرف الانتظار، انتظار المولود، انتظار الشفاء، انتظار الموت، انتظار قرع الجرس في المدرسة، انتظار وصول المسافر، انتظار راتب آخر الشهر، انتظار سيّارة التاكسي، انتظار الإشارة الخضراء، انتظار النادل في المقهى، انتظار نتائج الامتحان، انتظار الحبّ، انتظار عطلة نهاية الأسبوع، انتظار عطلة الصيف، انتظار جائزة نوبل... كأنّنا لا نفعل إلاّ الانتظار.

*****

Inbox (0) - 7: علبة البريد هي التي تغيّرت، الانتظار لا يزال كما كان مذ اختبرته أوّل امرأة. لم تعد علبة البريد أمام الباب، بل في غرفة النوم قرب السرير. ليس ثمّة خوف اليوم من أن ترصد الجارات الحسودات توقّف ساعي البريد أمام منزل الفتاة حاملاً رسالة من حبيب غائب، أو في أن تلتقط عيونهنّ دمعة عالقة على هدبها حين تعرف أن لا رسالة لها. صارت الرسائل تصل بسرعة البرق ومن دون صخب الرعد، ولكن الانتظار لا يزال كما كان، تختلط فيه المشاعر وتولد خلاله الأحلام وتموت الرغبات. لا تزال المرأة تنتظر، على رغم ثورتها وتحرّرها، أن يرسل إليها الرجل إشارة أو رسالة. ولا يزال الوجع كما هو حين تبقى علبة البريد فارغة.

*****

8 - بينيلوب لم تستقبل أوليس زوجها الذي انتظرته طويلاً، كان ذلك الذي وصل رجلاً آخر أغرمت به، وصودف أنّه كان زوجها.

*****

9- أنا في انتظارك "ملّيت" (ملأت) أيّامي بسواك، فنسيت أنّني كنت أنتظرك.
*****

* صحيفة النهار - الثلاثاء 3 تشرين الثاني 2009

أحسد الذين لا يقرأون

فان غوغ

حين أقرأ مقالات الاقتتال الثقافيّ والسياسيّ المعلّقة في ساحات الوغى (ولن تكون في يوم ما من المعلّقات) وكلّها يدّعي الدفاع عن الفكر والحريّة، أتمنّى لو كنت من الذين لم يتعلّموا القراءة.
فكأنّ الصراعات المذهبيّة لا تكفينا، والخصومات الطائفيّة لم تقض على ما تبقى من وحدتنا، أو كأنّ المشاكل الاقتصاديّة والمخاوف من الإرهاب لم ترهق كاهل بلادنا، حتّى ينحدر "المثقّفون" إلى درك الشتائم المقذعة وأساليب الهجاء البذيئة، لتكتمل بذلك حلقة انهيارنا ونفقد الرهان على ما كنّا نعتقد أنّه حبل خلاصنا.
ويصحّ في هذه الحال أن نستعمل لغة الحرب التي بتنا نحن اللبنانيين نجيدها ونضع المعاجم في أصول استخدامها، ونقول إنّ المحاور مشتعلة والطرقات غير سالكة وغير آمنة وينصح بعدم التجوّل بين صفحات الصحف لئلاّ يصاب أحد العابرين بكلمة من هنا وصفة من هناك، ويذهب ضحيّة رغبته في المطالعة والاطّلاع على أحوال الثقافة والشعر والفكر والسياسة.
حين كنت أعمل في مجال التربية، كنت وكثيرين سواي نعترض على إقحام قصائد الهجاء في مناهج تعليم اللغة العربيّة ونسأل: ما الهدف من تعليم سيل من الشتائم لتلاميذ أغرار في أوّل سلّم الحياة؟ غير أنّ ما يجري على صفحات الجرائد هذه الأيّام ينذرنا بأنّ ما كنّا نحذّر منه ونعترض عليه صار اللغة اليوميّة، ليس فقط في البرامج السياسيّة، أو خلال برامج التوك شو الفنيّة والاجتماعيّة، بل بين شعراء ومفكّرين نتوقّع أن تكون نصوصهم في القريب العاجل مادة دراسيّة يتعلّم تلاميذنا من خلالها التحليل والنقد البنّاء والحسّ الجماليّ والسمو وقبول الآخر. وإذا كنّا لم نعد ننتظر من أكثر العاملين في المجال الفنّي أو السياسيّ (مع الأسف الشديد) أن يرتقوا بالتخاطب إلى مستوى حضاريّ يحترم رأي الآخر ويقارعه الحجّة بالحجّة، فلا يمكننا في المقابل إلاّ أن ننتظر ذلك من الشعراء والدارسين والنقّاد والمحلّلين.
ومن المؤسف أن يصل هؤلاء المتحاورون المتقاتلون إلى مرحلة التشهير ونبش القبور والتعريض بالحالة الاجتماعيّة والخلفيّة الثقافيّة وتبادل الاتهامات بالسرقة الأدبيّة كأنّ كلّ واحد منهم مصرّ على إلغاء الآخر مهما كان الثمن، وبكلّ الأسلحة غير المشروعة. لا بل مؤسف أن يتمّ كلّ ذلك باسم حريّة التعبير والرأي وفي صحف نتوقّع منها ألاّ تكون صفراء إلاّ من أثر الزمن الذي عتّق أطرافها ومع ذلك نرفض التخلّي عنها.
ولّت أيّام بيوت الحجر المنحوت وبات الجميع يقيم في منازل من زجاج، سهل كسرها وسهل أن نرى ما في داخلها، لذلك على المتراشقين بالاتهامات أن يتذكّروا في كلّ مرّة يرفعون فيها حجرًا ليرموا به الآخرين أنّهم انتزعوه من أساسات صروحهم التي باتت مهدّدة.

الاثنين، 2 نوفمبر 2009

العرب والسياسة

من يستطيع أن يرسم الحدود بين السياسة والجوع والإنسانيّة



هل كان الكاتب البريطانيّ جورج أورويل يتحدّث عن العرب حين قال: "في عصرنا ليس هناك شيء اسمه الابتعاد عن السياسة. جميع القضايا هي قضايا سياسيّة"؟
من المعروف بحسب الإحصاءات والدراسات أنّ الناس في العالم الغربيّ يبتعدون عن القضايا السياسيّة، وأكثرهم لا يعرف ماذا يجري خارج حدود بيته أو بلدته، ولا يعنيهم في شيء أن يسمعوا ماذا يجري في العالم ما دام لا يترك أثرًا على مسيرة حياتهم المبرمجة كالساعات السويسريّة. أمّا نحن فيصحّ علينا كلام جورج أورويل جملة وتفصيلاً، لأنّنا لا نستطيع فعلاً أن نفصل السياسة عن أيّ مظهر من مظاهر حياتنا اليوميّة، وما دامت اللغة العربيّة تجيز بعض الحالات الإعرابيّة الغريبة مراعاة لما وصلنا من هذه القبيلة أو تلك أو احترامًا لما اتفق عليه اللغويون في تلك البلاد أو بحسب رأي ذلك المرجع الدينيّ، فذلك يعني أنّ السياسة تحكمنا منذ أن تكوّنا في أحشاء أمّهاتنا.
ولذلك نعجب حين نسمع أحد المسؤولين في صحيفة ما يقول لأحد الصحافيّين: تستطيع الكتابة في كلّ المواضيع ما عدا السياسيّة منها. ألا يوجد للرياضة سياسة ووزير، وللتربية سياسة ووزير، وللسياحة كذلك، وللثقافة والدفاع والتجارة والفنّ والمواصلات، وما إلى ذلك من شؤون الحياة، فكيف يمكن كاتبًا أن يكتب ما لا علاقة له بالسياسة؟ كتابات ابن المقفع، وقصائد المتنبّي، ومواقف أبي نوّاس الشعوبيّة، كلّها تنبع من آراء في السياسة، وبائيّة أبي تمّام في مدح المعتصم موقف سياسيّ وطنيّ، ناهيك عن قصائد الأحزاب في العصر الأمويّ والهجاء بين الفرزدق وجرير والأخطل مثال معبّر عن ذلك. ولا ننسى العصر الجاهليّ حين كان بيت من الشِعر يرفع قبيلة وبيت آخر يحطّ من قدرها. وإذا قفزنا إلى العصر الحديث، ألا نشعر بالغبن الذي لحق بنزار قبّاني حين اعتبره كثير من النقّاد شاعر المرأة مع أنّ شعره السياسيّ لا يقلّ عظمة في السبك وقوّة في التعبير عن شعره الغزليّ؟ على كلّ حال، الدفاع عن المرأة في حدّ ذاته موقف سياسيّ معارض لما خضعت له من كبت وحرمان خلال عقود وقرون. وهل نستطيع أن نضع الخطّ الفاصل بين السياسة واللاسياسة في كتابات جبران ونعيمة ونجيب محفوظ وأدونيس وأنسي الحاج ومحمّد الماغوط ومحمود درويش وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهّاب البيّاتي وصلاح لبكي وسعيد عقل وفؤاد سليمان والأخوين رحباني ويوسف حبشي الأشقر والياس خوري وغيرهم ما لا يمكن حصره من الأدباء، أشعراء كانوا أم روائيّين أم مسرحيّين؟
حين يكون انتخاب المختار في إحدى القرى عملاً سياسيًّا تتداخل فيه عوامل كثيرة ويثير حساسيّات لا حصر لها، فكيف يمكننا إذًا التفكير في ما يجري في غزّة من دون أن نفكّر في القضيّة الفلسطينيّة وكيف تمّ التعامل معها منذ نشوء إسرائيل؟ وهل نستطيع أن نعزل الشهداء والجرحى والمعتقلين عن الخطّ السياسيّ العربيّ الذي لن نجد له في علم الرياضيّات صفة تفيه حقّه؟
حين تصفعني صورة طفل تحت الأنقاض التي خلّفها القصف في أيّ مكان، لا أستطيع أن أبقى ملتزمة سياسة الحياد، ولا أستطيع أن أشغل رأسي بالتفتيش عمّن كان السبب في المصير الذي آل إليه، لأنّ المنطق يقول إنّنا كلّنا مشاركون في صنع تلك الصورة، وإلاّ لما تكرّرت ملايين المرّات بلا خجل أو وجل.
يحاول الطفل أن يرفع رأسه من تحت الأنقاض لعلّ وجهه يعانق وجه الشمس ويغتسل بالمطر، أمّا الكبار فيبحثون عن حفرة يخفون فيها وجوههم خجلاً وجبنًا فلا يجدون سوى أحضان نسائهم.
(نشر هذا النصّ في صحيفة البلاد البحرينيّة خلال الحرب على غزّة)

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.