فتاة
تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل
حضرة الأستاذ زاهي وهبي
في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض
الأمور التي أعانيها في بدء كلّ موسم دراسيّ، لعلكّ تعالجها في مقالاتك الخاصّة.
ولم أكن أنتظر أن أجد رسالتي منشورة في الصّفحة الثّقافيّة. أسعدني الأمر طبعًا،
وكنت أعتقد إنّ نشر الرّسائل في "النّهار" أمر شبه مستحيل.
المهم، ليست القضيّة أن نردّ بعضنا على بعض، بل المشكلة
في محاولة إيجاد حلّ لما أراه المشكلة الكبرى في كيفيّة التّوجّه إلى طلاّب
الصّفوف الثّانويّة الذين أعتبرهم مفتاح الحلّ. فأنت أدرى بالمناهج التّربويّة
الجامدة، والمدارس تضع العصيّ في دواليب أي نشاط ثقافيّ (لماذا ترتبط الثّقافة
باليسار؟) وطلاّبنا لا يقرأون باللّغة العربيّة.
أنا مدرّسة، وأصرّ على وجود أزمة نصّ نثريّ معاصر من حيث
النّوعيّة أو الكميّة. وكلّ كتاب أقرأه، أعرف مباشرة، أنّ المدرسة لن تسمح لي
بذكره.
فالأديبة المعاصرة الوحيدة التي يسمح لي المسؤول أن
أذكرها هي إميلي نصرالله (هنا أتحايل...) ألا يشعرك ذلك بالنّقمة؟ وإن حصل ووجد
نشاط ثقافي في مدرسة ما فهو في اتّجاه اللّغة الأجنبيّة. لست ضدّ هذا طبعًا بشرط
أن يتوافق مع "تجذير" لشبابنا في لغتهم وحضارتهم.
ولهذا، أطلب منك أوّلاً نشر رسالتي الثّانية هذه (دون أن
تخشى استمراري في إزعاجك)، ثمّ لفت انتباه المسؤولين عن "نهار الشّباب"
أو الملحق إلى إمكانيّة القيام بتحقيق شامل حول وضع اللّغة العربيّة في المدارس
وحول المشاكل التي يعانيها الطّلاّب في المطالعة باللّغة العربيّة. وشكرًا لما
بدأت به كلامك عن رسالتي، وشكرًا لما انهيت به كلامك لأنّه أتاح لي توضيحًا، وعودة
بالذّاكرة إلى ماضٍ جميل. وإلى اللّقاء في مقالة قريبة لك.
م.م.أ.
كان ذلك عام 1985، "والنّاس يموتون والبلد يحترق
ويتهدّم" بحسب تعبير الدّكتور ميشال جحا (1) عندما رآني أحد الأصدقاء اقتطع
من صفحات "النّهار" النّصوص التي تنعى مطعم فيصل، فسألني مستغربًا عن علاقتي
بهذا المطعم. وأنا التي كبرت في الحرب، ويفصلني عن المطعم ومنطقته معابر وسواتر
يصعب عبورها دون مواجهة الخطر أو، على أقلّ تقدير، الذّلّ والإهانة. ولم أعرف كيف
أبرّر تصرّفي. كلّ ما كنت أعرفه إنّ هذا المطعم الذي لا أعرف له طريقًا سوف يغلق،
وحين تندبه كلّ هذه الأقلام فهذا يعني إنّ ذاكرة ما في طريقها إلى الزّوال. وشعرت
إنّ احتفاظي ـ عبر القصاصات ـ بذاكرة الذين عرفوا مطعم فيصل هو احتفاظ بمرحلة لم
يسنح لي عمري أن أعايشها.
وما إن سمحت الظّروف الأمنيّة حتّى سألت عن مطعم فيصل،
ومررت أمامه استعرض عبر بابه المقفل تاريخ الذين مرّوا إلى طاولاته ورحلوا.
وما حصل معي لهذا المكان، تكرّر يوم فرح غسّان تويني
بعودة فلافل صهيون، فمررت من أمام المكان وكلّي فخر باكتشاف جزء من ذاكرة بيروت.
وتكرّر الأمر كذلك عندما قرأت عن الدولتشي فيتا وعن الحاج زهير السّعداوي الذي كنت
أناديه عمّو زهير حين جمعتنا صدفة نزوحه عن بيروت أيّام الإجتياح الإسرائيليّ إلى
عاليه، حيث أقام في منزل يخصّ بعض أقاربه. ولم تكن ثقافتي سمحت لي بالإطلاع على
أرشيف مقاهي بيروت لأعرف أيّ عمر قضاه عمّو زهير بين نهارات بيروت ولياليها، أو
كنت سرقت منه ما أمكنني من ذاكرة تلك المرحلة، والسّرقة حلال في هذا المجال. وعمّو
زهير لن يبخل عليّ بالأخبار وهو الذي كان بتواضعه وظرفه لا يتردّد في الإستماع إلى
آراء فتاة كانت، ولا تزال، تحبو على طريق الثّقافة.
صحيح أنّنا نعيش اليوم في أواخر التّسعينات، ولكن
ذاكرتنا الثّقافيّة مرتبطة بغير هذه المرحلة. وما يقال عن المقاهي في بيروت يصحّ
أن يقال عن كلّ ما عرفته هذه المدينة في عزّ نشاطها الثّقافيّ والسّياسيّ ـ
والمقاهي هي التّسجيد المكاني لها ـ ما يجعلني أحسد هؤلاء الّذين عاشوا بيروت ـ
ولا أقول عاشوا فيها ـ في تلك المرحلة، وتركوا لي متعة لملمتها من قصاصات الصّحف
وحواشي الكتب.
تلك الذّاكرة عن بيروت لا تحمل همّ لبنان
فقط، بصراعاته السّياسيّة والحزبيّة والعقائديّة، وتيّاراته الثّقافيّة والفكريّة،
ونزواته المجنونة، وصرعاته الباهرة، ومهرجاناته الصّاخبة، هذه الذّاكرة تحمل كذلك
فلسطين وأسماء مدنها، وأنواع برتقالها، وألقاب قادة ثورتها والشّعر، وفيروز
و"راجعون".
وتحمل هذه الذّاكرة الصّراع العربيّ ـ
العربيّ، والعربيّ ـ اللاّعربيّ، وتحمل همّ العالم وثوراته حين تتحوّل هذه كلّها
إلى همّ لبنانيّ خاصّ.
نحن نعيش، إذن في التّسعينات ولكنّنا نحمل
ذاكرة لا تمتّ إلى الحاضر بصلة روحيّة. نحن في العصر وخارجه، نزور الأماكن التي
تحمل بصمات الرّواد، نسأل عنهم، ونطالبهم بالنّتائج، بكشف حساب، نعاتبهم ونحمّلهم
مسؤولية الإنفصام الذي نعيشه، ونبحث عندهم عن رمز الثّورة نخاف أن نجاهر برغبتنا
في إعلانها.
لا نجرؤ على المعارضة، ولا نجرؤ على تسمية
الأشياء بأسمائها. الأسماء الكبيرة كبيرة إلى حدّ نمتنع معه عن التّعرّض لها،
والأسماء الصّغير صغيرة إلى حدّ تغييبها. فلا حركة سياسيّة صحيحة الرؤيا، ولا حركة
أدبيّة ناشطة والنّقد لا يريد أن يفضح من يتحمّل المسؤوليّة وهؤلاء مطمئنّون إلى
وضعهم.
يزور نزار قبّاني بيروت من غياب، ويتهافت
النّاس إلى "حضور حفلته الأولى" في الجامعة الأميركيّة، وتضرب إمرأة
مسنّة حارسًا بحقيبة يدها لأنّه منعها من الدّخول لعدم الأمكنة للوقوف، ولا يجد
أنسي الحاج مكانًا ليجلس، ويلقي نزار قبّاني قصائده. فكم صحافيًّا تجرّأ وقال له:
كان عندك قصائد سياسيّة أفضل، وكان عندك قصائد غزليّة أفضل. أمّا الذي قلته في
حفلتك الأولى بعد غياب فلا علاقة له بالشّعر؟
ويقدّم منصور الرّحباني عملاً مسرحيًّا،
ولا يسمع من يقول له: لا يحقّ لك التّنازل عن المستوى الذي كنت فيه، لأنّك ما عدت
ملك نفسك بل صرت ملكًا لتراثنا الفنّيّ أكان ذلك المستوى نتيجة جهد شخصيّ أم جهد
مشترك. ولا يحق لك ـ وأنت الموسيقيّ الذي يحمل مسؤوليّة تاريخيّة في كلّ رأي يبديه
ـ لا يحقّ لك أن تسخر من الأوبرا ـ علنًا ـ وتقول إنّ زمنها ولّى لوجود
الميكروفونات ولم يبق هناك من داعٍ للصّراخ. وهل الأوبرا صراخ يا أستاذ منصور؟
ويمشي "المثقّفون" مع اتّفاق
غزّة ـ أريحا، بحجّة أنّه اتّفاق سيفتح ثغرة في الجدار الإسرائيليّ، وصار يمكننا
أن نتسلّل عبرها للقضاء على إسرائيل، وهي التي تحضّر برنامج صواريخ
"أرو" بمساعدة أميركيّة وبتكاليف تبلغ 1,3 بليون دولار، فما الذي ستفعله
تلك الثّغرة المزعومة في رأي المثقّفين الذين يغيّرون رأيهم للصّلح مع إسرائيل
سريعًا. فلترم إذن أغاني الثّورة كلّها...
ولنمنع أنفسنا عن الحديث في المقاهي
البيروتيّة عن التّحرّر والتّحرير والعودة. ولتبع دواوين الشّعراء المطرودين
والملاحقين، في المزاد العلنيّ.
ولنمت في خجلنا ونفاقنا وادّعاءاتنا.
ولكن دعونا نسأل قبل ذلك:
أيّ مستقبل سنترك للّذين بعدنا؟
ماذا سيقول الشّعراء والمسرحيّون
والمثقّفون في أعمالهم "الإبداعيّة" المقبلة؟
لأيّ ذاكرة سيؤسسون؟
وهل يأتي ـ بعد ذلك ـ ولو بأعداد ضئيلة من
يتمنّى لو عاش في التّسعينات؟
تزداد غربتنا يومًا بعد يوم، نعمل
ومراهقين بلا ثقافة ولا تاريخ. نحاول أن نعرف ماذا يريدون ولأيّ مستقبل يعملون،
لعلّنا نجد الوسيلة كي نوصل إليهم بعض القيم، ولكنّنا ـ في حرب الطّواحين
الهوائيّة هذه ـ نقع غالبًا في برودة غربتنا، نقرأ كتابًا فتزداد المسافة بعدًا عن
الّذين حولنا.
نتمثّل بأديب فنتّهم بالسّذاجة.
نذكر بيت شعر في معرض ما فينظر إلينا وكأنّنا نتكلّم لغة
غريبة.
نوفّر بعض المال لحضور أكثر من عرض لمسرحيّة قليلة
المشاهدين فنبدو كالمجانين.
هذا ما فعلته بنا تلك الذّاكرة، هذا ما فعلته بنا قصاصات
الورق من الجرائد والمجلاّت، غرّبتنا عن عصر أفلت زمام قيادته منّا، وصار يركض على
غير هدى، وكم نخاف بعد ذلك أن تخوننا الذّاكرة.
نشعر بالغربة والرّجعيّة، ولا نملك إلاّ أن ننقلهما إلى
غيرنا، فطفلة منزلنا لم تتمّ الثّالثة من عمرها بعد، تحبّ فيروز، وتردّد مع أميمة:
عصفور طلّ من الشّبّاك... وتجلس معنا صباحًا مصرّة على حصّتها من الصّحف تقلّبها
وتقلّدنا، هذه الطّفلة "المثقّفة" وجدت من يعلّمها من الجيران أن تجيب
من يسألها عن إسمها: إسمي ماريّا مرسيدس. فإلامَ ستظلّ هذه الطّفلة تقلّدنا قبل ان
يعلّمها آخرون ان تقول لنا: كم أنتم رجعيّون!
في ردّي السّابق (2) على مقالة الأستاذ زاهي وهبي (3) لعبت
دور محام الشّيطان. هذا الرّدّ كان فعلاً " فشّة خلق" بيني وبين نفسي
أوّلاً إذ، في الحقيقة، لم أتوقّع أن يصل إلى أولي الأمر، ولا أن يحظى بما حظي به
من نشر وقراءة متمعّنة أحرجتني وأفرحتني، وخاصّة إنّ الإسم الموقّع لا يحمل صفة أو
لقبًا يثيران انطباعًا ما عند متتبّعي الصّفحات الثّقافيّة.
حاولت أن ألبس في هذا الرّدّ لباس الّذين يعيشون في هذا
العصر ولا يشعرون بالغربة، ولا يجعلون هموم الثّقافة تأكل معهم، وتنام معهم، أردت
ولو لوقت قصير أن أحارب "الشّيخوخة" التي تسرّبت إلى عمري فجعلتني أقرأ
الصّحيفة، صباح الأحد، في المقهى، وأصغر واحد من روّاده له من العمر ضعف عمري.
والسّبب هو إنّ هذا المكان يتلاءم مع الذّاكرة التي أحملها والتي ورثتها.
أنا أيضًا إبنة "جيل غير هذا الجيل، وإن كنت أقاربه
عمرًا"، أنا أيضًا أشعر بالغربة والخوف وانتظر جواب شوقي أبي شقرا لعلّه
يطمئنني.
أنا أيضًا أحنّ إلى جيل السّتينات وأسأله "أين
الخطأ؟" حتّى وصلنا إلى ما نحن عليه.
ولكنّي، أنا، لم أقع في الخطأ الذي وقع فيه زاهي وهبي،
لم أقل عندنا أزمة ثقافيّة، وأنهيت الحديث.
نعم، عندنا أزمة، ولكنّها أزمة "المثقّفين"
الّذين يتحاورون بعضهم مع البعض داخل الصّفحات الثّقافيّة المحسوبة على
"الخاصّة" لغة ومضمونًا.
عندنا أزمة مثقّفين يقولون في أحاديثهم الخاصّة عكس ما
يعلنونه عبر وسائل الإعلام، لأنّ الثّقافة صارت كسياسة البلد: محسوبيّات ومراعاة
مشاعر وأذواق إلى حدّ النّفاق.
نعم، نحن في مأزق، لأنّنا نعتبر إنّ أزمة النّصّ
النّثريّ تفصيل، وإن مشكلة الجيل الجديد مع المطالعة تفصيل، وأن لا يعرف المسؤولون
عن المدارس والجامعات ما ينشره أدباؤنا وشعراؤنا تفصيل، وكلّ هذه التّفاصيل لا
تستحقّ التّوقّف عندها. معه حقّ زاهي وهبي، فما دامت إسرائيل تقتطع مساحات من
أرضنا دون أن يتوقّف أحد عند هذا الفعل ـ صرنا شعبًا لا يفعل ولا ينفعل ـ وما دمنا
نعتبر إنّ هذا الأمر من التّفاصيل في حمّى السّلام... فعلامَ العتب؟
نعم، عندنا أزمة، لأنّ النّاقد ما عاد تحرّيًّا أو
محقّقًا وصار يكتفي بالقول: "المسألة في مكان آخر، في الثّقافة عامّة، وفي
المأزق الذي على الكوكب" ولم يبقَ من واجباته أن يبحث عن المسؤول. شرلوك
هولمز يحقّق في جريمة تركت عددًا محدودًا جدًّا من الضّحايا. ولكن المسؤول عن
جرائم ترتكب في حقّ ثقافة شعب وذاكرته، ألن يجد من يجرؤ على تسميته بإسمه؟
ألم يحقّق طه حسين في تأريخ مرحلة أدبيّة كاملة؟ ألم يشر
إلى المسؤولين عمّا اعتبره تحريفًا أو تزويرًا دون أن يخاف عاقبة تسمية الأشياء
بأسمائها، وكلّنا يعلم ما كان عليه الأمر من كسر لطوق الجمود الأدبيّ؟ ألم يكن
"تحرّيًّا ثقافيًّا" في كتابه "في الأدب الجاهليّ"؟ هذا مثل
واحد.
نعم، عندنا أزمة ثقافيّة اليوم، وكان مَن قبلنا يقول: عندنا
أزمة، وسيبقى الأمر كذلك ما دام الواحد منّا لا يجرؤ على إبداء رأيه في مناقشة
عامّة حول عمل ما، وذلك لأنّنا من خارج إطار الدّائرة الثّقافيّة التي يعرف
أفرادها بعضهم بعضًا كما في حزب سرّيّ (كما حصل في مناقشة أفلام محمّد ملص عندما
طرح أحدهم ـ وهو غير معروف ـ رأيًا معارضًا وقوبل باستهجان أفراد الحلقة
الثّقافيّة التي اعتبرته دخيلاً، ولو كتب لاستغربت السّيّدة لورغريّب جرأته).
في مقالة لأمين ألبرت الرّيحانيّ (4) (بدون تعصّب
عائليّ) ورد: لا يمكن أن يبقى المثقّفون طبقة من الطّبقات الإجتماعيّة. فإمّا أن
يكون الشّعب برمّته مثقّفًا أو أن يكون ثمّة عاملون في الشّأن الثّقافيّ أو تبقى
"طبقة المثقّفين" عاجزة ـ كما هي الآن ـ عن القيام بمسؤوليّتها".
وحتّى ذلك الوقت، حتّى يصير الشّعب مثقّفًا، ما رأي
الأستاذ وهبي لو نعير اهتمامًا ـ ولو ببعض العناء ـ لمل سمّاه "تفاصيل"
فالتّفاصيل" هي التي تجعل حياتنا اليوميّة "زاهية" ومميّزة وحميمة.
ميّ م. الرّيحانيّ
جريدة "النّهار" الثلثاء 5 تشرين الأوّل 1993
1 ـ "النّهار" الخميس 7 تشرين الثّاني 1985
2 ـ "النّهار" الثّلثاء 21 أيلول 1993
3 ـ "النّهار" الثّلثاء 14 أيلول 1993
4 ـ "النّهار" 31 آب 1984
* الرّسالة الثّابتة إلى زاهي وهبي مساجلة في شجون
الثّفافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق