الأحد، 20 يناير 2019

عن رواية "ماكنة الخياطة" للأديبة مي منسّى




ماري القصيفي
صحيفة الحياة - الخميس ٧ يونيو ٢٠١٢
تتابع «مي منسّى» في رواية «ماكنة الخياطة» الصادرة عن (دار «رياض الريّس») عمليّة المصالحة مع ذاكرة تنوء بآلام عائلة عانت نوعين من الفصام: انفصام شخصيّة الابن الذي كان يعِد بأن يكون شاعراً كبيراً فإذا به ينتهي في مصحّ للأمراض النفسيّة، وانفصام الهويّة اللبنانيّة التي كانت تعد العالم بالأعجوبة الحضاريّة الجميلة فانتهى بها الأمر شظايا مجتمع وفتات بشر.
لا تخفي الروائيّة ملامح السيرة الذاتيّة عن روايتها غير أنّ الشأن الخاصّ لم يطغ على العامّ الذي بدا في خلفيّة الصورة العائليّة، فالحرب اللبنانيّة وتداعياتها وآثارها على البشر والحجر، ليست مجرّد إطار زمنيّ تجري فيه أحداث الرواية بل هي السبب في كلّ تغيير طاول حياة الناس، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا التغيير نحو الأسوأ أو نحو الأفضل.
لذلك تقدّمَ سيرُ الرواية على خطّي الخاصّ والعامّ في شكل متساوٍ، فكانت العائلة تغرق في العتمة حين تسدل ستائر البيت كي لا يرى الجيران ما يجري مع الشابّ المريض، وكان الوطن يغرق في ظلمة الحرب التي لم يبدُ أنّها ستعرف فجراً قريباً، وما توزُّع أفراد العائلة بين المصحّ والهجرة والتهجير، إلّا صورة معبّرة عن توزّع أبناء الوطن بين الغربة في الوطن والغربة خارجه.
ماكنة الخياطة التي كانت تملكها والدة بطلة الرواية وضاعت خلال الحرب صارت الهويّة. هي الآلة التي كانت الأم تخيط عليها فساتين بناتها الثلاث اللواتي كن محرومات من حياة مرفّهة ومحاطات بالكتب، فهي بالتالي الآلة التي كانت شاهدة على الفقر والحرمان، وحين أتيح للإبنة أن تبيع بيت والديها بكلّ ما فيه كانت على الأرجح تريد أن تتخلّص من صورة الفقر وصوت الآلة الرتيب يغنّي لليل طويل من المعاناة والعزلة. ولكن حين سألتها أمّها من على فراش المرض عن الماكنة، شعرت الابنة أنّ استعادة تلك الآلة العتيقة قد تكون مصالحة مع الماضي واعتذاراً من تلك الأمّ الحاضرة في تفاصيل حياة أولادها، ولولاها لما نجوا من معاناتهم مع مأساة العائلة ومآسي الوطن. وإن كانت الماكنة ضاعت في الواقع، ففي الرواية تصير عند امرأة من الجنوب ترفض التخلّي عنها. وفي الحالين، تطوى صفحة الماكنة في الحياة، لتفتح المجال لصفحات وصفحات في رواية تعتبر «مي منسّى» أنّها تعالج نفسها بها عبر تغميس ريشة قلمها بحبر ألمها ومعاناتها بين والد عسكريّ متشدّد، يحبّ اللغة الفرنسيّة، وأمّ ممرّضة وخيّاطة تحبّ جبران خليل جبران ابن بلدتها بشرّي، فكانت النتيجة ابناً فقد توازنه العقليّ، وفتيات ثلاث تختبئ الواحدة منهنّ في حنان الأخرى، لعلهنّ يجدن مجتمعات ما يعطيهنّ حصانة وخلاصاً.
لا تضع «مي منسّى» أقنعة في عملها الروائيّ، بل في أعمالها الروائيّة: عائلتها، طلاقها، عملها الصحافيّ كناقدة فنيّة، إصابة كتفها، أمومتها، حفيدتاها، ثقافتها الشاملة المتنوّعة، وحدتها، حديقتها الصغيرة، أحلامها وأفكارها وعواطفها، خيباتها العائليّة والعاطفيّة، آثار الفقر والحرب، كلّ ذلك موزّع في حنايا الرواية بلغة شعريّة إنّما غير خياليّة، كأنّ الشعر وسيلةٌ تجمّل بها واقعاً بشعاً، أو بابٌ للهرب من نثر الحياة. لكنّ اللغة الشعريّة على شفافيتها الجارحة وجمالها الغريب لا تخدع القارئ الذي يكتشف صفحة بعد صفحة كيف تصير الكتابة عيادة نفسيّة تفرغ فيها الكاتبة/ البطلة مخزونها من الألم في انتظار أن تزورها حفيدتاها اللتان تهديهما الكتاب، فتعود معهما طفلة تلعب وتغنّي وترسم، وتؤلّف معهما ثلاثيّاً قد يعوّض عليها طفولة لم تستمتع بها مع شقيقتيها، حين كان عنف الوالد ومرض الشقيق يحرمان الفتيات الصغيرات من أن يحلمن بالحبّ والأمان والاستقرار.
هل تبلسم الكتابة جراح الماضي؟ سؤال يفرض نفسه بعد قراءة الرواية التي تمعن في نبش الذاكرة، كما تنبش فتاة موؤودة التراب بيدين نحيلتين عاريتين، تعرف أنّهما وســـيلتها الأخيرة للحصول على جـــرعة هواء محــيية. بعض الكتابة جَلْد ذاتيّ، وبعضها ثأر من حياة تركت تلك الجراح التي تنزّ أسى ومرارة، وبعضها ولادة من رحم المعاناة. وقد تكون «ماكنة الخياطة» كلّ هذه مجتمعة.

الأربعاء، 9 يناير 2019

كيف يثور شعب هذه أمثاله الشعبيّة؟ (2011)




"جدّتي كانت فعلاً على حقّ"(Ma grand-mère avait bien Raison!) عنوان كتاب صادر في فرنسا (دار فيرست – 2011) تعيد فيه المحلّلة النفسيّة "Béatrice Millêtre" قراءة بعض الأمثال الشعبيّة وأقوال الأجداد المأثورة في ضوء معطيات علم النفس، وتصل فيه إلى النتيجة التي يختصرها عنوان الكتاب، أي أنّ الأسلاف كانوا محقّين في ما توصّلوا إليه بالخبرة والتجربة، واختصروه في خواطر وحكم وأمثال تركوها للخلف الذي غالبًا ما اعتبرها موضة قديمة أو آراء عفا عليها الزمان ولم تعد تصلح للمجتمع الحديث. ومن خلال أكثر من خمسين مثلًا شعبيًّا أولتها المحلّلة النفسيّة دراسة نقديّة علميّة موضوعيّة نقع على كثير ممّا نتداوله نحن في بلداننا العربيّة، إن بتأثير التجربة الإنسانيّة الواحدة بغض النظر عن التاريخ والجغرافية، أو بتأثير الترجمة والتبادل الحضاريّ. وهناك في طبيعة الحال الأمثال ذات الخصوصيّة البيئيّة أي المرتبطة بمكانها ولكن لها ما يشبهها في أمثالنا الشعبيّة. فالمثل الفرنسيّ الذي يقول: نقطة الماء التي طفح بها الكوب، يقابله مثل عربيّ يقول: القشّة التي قصمت ظهر البعير...

ولكن إن تخطّينا مضمون الكتاب واستعنّا بهدفه ومنهجيّته في قراءة أمثالنا الشعبيّة، سنجد، خصوصًا في الظروف التي تمرّ بها البلدان العربيّة، أنّ الأجداد لم يشجّعونا على الثورة بل دعتنا أقوالهم المتناقلة جيلاً بعد جيل إلى الصبر على الظلم، والاتّكال على السماء لتخلّصنا من الحاكم الظالم، عملًا بالمثل القائل: "اللي ما فيك ليه دير الله عليه"، وفي انتظار تحقّق ذلك علينا القبول بالواقع، والخضوع لأولي الأمر ومسايرتهم انطلاقًا من مبدأ التقيّة.
فأن نكبر على أمثال تعلّمنا: "إيد اللي ما فيك تطالها بوسها وادعي عليها بالكسر" أو "العين ما بتعلى عالحاجب" أو "أبعد عن الشرّ وغنّيلو" أو "عند تغيير الدول احفظ راسك"، فذلك يعني أنّ الثورة ممنوعة حتّى في أحلامنا، وأنّنا محكومون بالذلّ منذ نعومة أظفارنا وحتّى قساوتها التي لن تنفعنا في تمزيق وجه المعتدي بل في حكّ جلدنا تطبيقا للمثل القائل: ما بيحكّ جلدك غير ضفرك".
وأن يعلّمنا أهلونا أنّ "كلب المير مير" وأنّ "اللي بياكل من خبز السلطان بيضرب بسيفو" وأنّ الحلّ المناسب هو "لا يموت الديب ولا يفنى الغنم" و"إذا بدّك تستريح قول عن كلّ شي مليح" و"جدّف مع الريح واستريح" فذلك يعني أنّنا تشرّبنا الخضوع والخنوع ولن يسهل علينا أن نتخطّى مخاوفنا من السلطة مهما كان شكلها وشأنها ومستواها، وفي هذا قال قدماؤنا: "بأس الأسد بانيابو وإبن الحكومة بتيابو"، و"حاميها حراميها"، فكانت الدعوة إلى "العضّ على الجرح" وكتم المعاناة، و"خلّيها بالقلب تجرح ولا تطلع وتفضح"، فهل يعضّ أحدنا الكلب الذي عضّه أو يبتعد عنه ويحتمي منه؟
من الواضح أنّ عهود الاستعمار والاحتلال الطويلة علّمت العربيّ أنّ الانحناء للعاصفة أفضل من مواجهتها، فكانت الدعوة "الحكيمة" إلى "المشي مع الحيط ويا ربّ توصّلني عالبيت"، أو الحذر من الفاجر لأنّه "يأكل" مال التاجر، والتنبّه إلى أنّ المجتمع "مع الواقف" أي صاحب السلطان الذي تأخذه أوهام السلطة بعيدًا عن الناس لأنّ "الكرسي بتنسّي".
إنّ شعبًا هذه أمثاله "الشعبيّة" لن تجرؤ أجياله على الخروج من المنزل إلّا للترفيه عن النفس على اعتبار أنّ "أحلى دوا شمّ الهوا" و"اللي ما بيسكر وبيسهر لشو حياتو؟" أمّا الخروج إلى الشارع في ربيع لبنانيّ وعلى أرض "أدونيس" فذلك يعني سلسلة حكم وأمثال من مثل: "خربت عمرت، نزلت طلعت، حادت عند ضهري بسيطة"، "شو بدنا بهالشغلة"؟ "بدنا السترة!"، "ما في شي رح يتغيّر: دنب الكلب بقي بالقالب أربعين سنة وبقي أعوج"، "فالج لا تعالج"، "ما متت ما شفت مين مات؟"، "ألف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمو"... وعلى هذا فنحن خير سلف لخير خلف! 

الاثنين، 7 يناير 2019

يا حبيبي!



يا حبيبي!!! أنا بسّ حبّك، ما بكون عم حبّك بسّ/ بكون عم قاوم إسرائيل وداعش المسلم والمسيحيّ وأعداء البيئة والوحوش البشريّة والزعما والتاريخ والجغرافية/ وبس يطلع خلقي عليك بيكون لأني شايفة فيك قدرة وشجاعة إنت مش شايفن بحالك/ ولأنّي ما بقبل كون عارفة شو بدّي من الحياة ومنّك، وإنت بعدك عم تدرسلي شخصيتي وتحطّلي لايك...

يا روحي!!! الحبّ فعل مش انفعال وبيت القصيد مش القصيدة والتراب مش الزهرة والسما مش الغيمة/ ويا حبيبي ما في شي إسمو بحبّك كتير وشوي وقبل الضهر وبعد الضهر وبس إفضا/ يا حبيبي الحبّ دوام كامل ودوام إضافيّ كمان... والحبّ ارتباط مش رباط، والتزام مش إلزام، وضحكة مش دمعة، وحركة كلّا بركة مش تأمّل وتحليل...
يا حياتي!!! العجقة بالعرس حلوة بس بالحبّ ما في إلّا اتنين سايعين الكلّ ومش سايعتن الدني/ والغزل حلو بس بيدوب بالشوب وبيجمد بالرد، ولكن الحبّ مغزال بإيد الدني ت ما تبرد قلوب الناس
يا قلبي!!! لو كلمة بحبّك بتجيب ولاد كان صار عندي أكبر طايفة بالبلد وأكبر حزب بالمنطقة، قد ما صرت سامعتها، بس أنا بنت الكلمة، الكلمة الشجاعة يللي صارت جسد، والجسد يللي هوّي طريق، والطريق يللي بتمرق حدّ القبر الفاضي وبتكمّل ع السما... وإذا بدّك تضلّ كلمة ما بقا تحكي معي ولا كلمة...
يا تقبر غيري!!! وحياتك مش ناقصني حكي، بحكي قدّ قاضي معزول... وفيي إكتب لحالي قصايد حلوة كمان... 
يا حبيبي كلّ القصّة سؤال: إنت عارف شو بدّك منّي؟؟؟

الثلاثاء، 1 يناير 2019

بصبّحك بالخير يا عين




     في أوّل يوم من السنة كانت "بربارة" جدّة أمّي تنطلق مع الفجر إلى عين المياه المتفجّرة بسخاء في وسط الضيعة. تحمل المرأة المنتصبة القامة كالألف في يدها اليسرى الجرّة الفارغة وفي اليمنى صحنًا من الفخّار فيه كمشة من أصناف الحبوب التي أنتجتها الأرض كالعدس والحمّص والفاصولياء والقمح، وحين تصل إلى العين تبادرها قائلة: "صبّحك بالخير يا عين، ينعاد عليك وتضلّك تعطينا مي". تتابع العجوز الحكيمة تحيّاتها وتمنيّاتها وشكرها وهي ترمي الحبوب من الصحن الفخّار في حضن العين هديّة لها في مناسبة السنة الجديدة.
     النساء اللواتي يحاولن كلّ سنة أن يسبقن "بربارة" يصلن متأخّرات دائمًا ويردّدن اللازمة نفسها: إم يوسف سبقتنا وعيّدت العين قبلنا.
     وكانت العين تخجل من المرأة العجوز التي تقدّر معنى العطاء، فتتدفّق مياهها طيلة السنة إكرامًا لأمّ يوسف المعترفة بجميل الأرض وخير السماء وكرم الطبيعة. ومن أجل عين "بربارة" تسقي عين المياه المقيمين وعابري السبيل، الناس والحيوانات والزرع، فتكتمل حلقة الأخذ والردّ وتتناغم الكائنات وتنسجم، ولم يكن أحد يفكّر في أنّ أمّ يوسف مجنونة أو خرفة تتكلّم مع العين وتقدّم لها التهنئة بالعيد ولو كان الطقس عاصفًا مثلجًا لا حرارة تذيب الصقيع فيه لولا تلك التي في قلوب الناس.
     في ليلة العيد، تجتمع العائلة في بيت المرأة. خلال النهار أخرجت ابنتها "هنديّة" الحصر ونفضت عنها الغبار وما تساقط من رماد الموقد، و"مرحت" أرض الدار الترابية بالتراب الممزوج بالماء (دلغان). تعرف خالة أمّي كيف تداوي التراب بالتراب، مع أنّها لم تسمع بأبي نوّاس. ابنة أمّ يوسف الثانية "حنينة" نتفت ريش الدجاجة وحضّرتها للعشاء، جدّتي "هند" والدة أمّي ترتّب المكان، فالليلة سيأتي أفراد العائلة في الحيّ الفوقاني ليسهروا في بيت عميدتهم أمّ يوسف، أمّا عائلة الحيّ التحتاني فتجتمع في بيت آخر، الطريق الوحيدة التي تشقّ القرية هي الحدود بين الحيّين. في تلك الليلة يتوقّف القتال على جميع الجبهات، ويحمل جميع أهل الحيّ أطباق القشّ وعليها ما حضّروه ويجتمعون في بيت واحد، ليسلّموا على السنة الجديدة ويسلّموها أمنياتهم وأحلامهم.
     تتابع أمّي وصف مجريات السهرة وهي تعلن شوقها إلى تلك الأيّام، فأفكّر في أنّ المياه شحّت في لبنان لأنّ النساء نسين كيف يشكرن الطبيعة ويستدررن عطاءها. جفّت الصدور والغيوم والينابيع. فصار الحليب مجفّفًا والمطر كبريتيًّا والمياه ملوّثة. وحين تمتلئ الصدور بالسيليكون لا بدّ أن تكون الأجيال الجديدة من النايلون.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.