الأحد، 31 مارس 2019

قراءة الأستاذ يوسف طراد لمجموعتي القصصيّة "نساء بلا أسماء" - نقلًا عن موقع مون ليبان





من وحي القراءة.

يوسف طراد

تجدون في كتاب «نساء بلا أسماء» للكاتبة ماري القصّيفي نقشًا للمشاعر على أشعة الشمس، لترتسم أحلامًا قيد التنفيذ.
كاتبة أعطتنا شيئًا نملكه ولا نستعمله لجهلنا طريقة الاستعمال. وضعت في داخل القارئ أحاسيس تضحك على جمال الخارج. كاتبة لن يشيخ قلمها لأنه يتمتع بالقدرة على ترجمة جمال الأدب ورسم الحبّ العذريّ بأجساد غير منظورة. إذا أردتم القراءة وبمحبّة، فأنكم لا تقرأون في الواقع بل في بقعة من مجاهل الطقوس الغامضة.
لا تستطيعون الغوص في النصوص ومهما فعلتم تبقون على السطح. وحده قلبكم الذي يغوص سابقًا وعيكم، كلّما قرأتم وفهمتم فكرة يزداد نبض أوعيتكم الدموية.

تقرأون في الكتاب: أنغامًا سحرية من "يدان بلا عمر". حكاية معلّقة بين الخسارة وعدم الندم. ضياع كلمات أجوبة في زحمة لقاء مفروض بعد أعوامٍ من الغربة. على الجانب الآخر من الحياة تفتّشون عن معنى الآية الإنجيليّة التي تقول (دعوا الموتى يدفنون موتاهم). تحتارون بالصفة المشتركة لرجال القرن الحادي والعشرين ولا تجدون سوى النوم المضطرب. تتأسفون لمحاولة (الصدق الفاشلة) الصادرة عن مخيّلة خصبة وليس عن قلبٍ عاشق. هل تتوقّعون ماذا يحصل (عندما تغضب السماء) وكيف أن قميصين واحدة من حبّ وأخرى من حرير أنهت عشقًا بانتحار غريب ...!

ترون ضحكة رجل ميت تجاري القدر كأنّها هي التي رسمته. فعلًا كانت عاشقة دون اسم تلك التي انتظرت حبيبها البطل بعد خروجه بنفق من المعتقل ودخوله نفقًا آخر في الحياة لا نهاية له. تجدون (حالة رعب) مستمرّة في أرجاء الوطن يوميًا بتقنيات متطوّرة، وقصصًا أخرى غريبة عن واقعنا تعيش في دقائقنا.
المراحل التسعة للسيّدة (ياء) في الكتاب لا تشبه مراحل درب الصليب ولا أسرار البيعة السبعة التي هي شرط الكنيسة للخلاص بعد الوصايا العشر التي أُنزلت أوامر إلهيّة للبشرية.

التساؤل سيّد الموقف: هل أن السيّدة (ياء) من العذارى التي انتظرت العريس وكان سراجها مملوءًا بالزيت وكيف يمكن أن تنتظر النهاية بشوق لترى إلهًا ينتظرها إشباعًا لرغبة فضولها.
(ثقة) في سطورٍ تبيّن أن الجميع مشغول عن الجميع وتأتي المنية ولا تثنيهم عن أعمالهم. تجدون حالة حبّ لامرأة (كممثّلة تؤدّي في صدقٍ مؤثّر دورًا في مسرحيةٍ عنيفة). عندما تدخل في صمتها الضبابي المريع إنّما تذهب إلى الذي (ليس له أين يسند رأسه- مت 29:8) ونحن نخفي الهفوات التي نحاسب عليها كي يُقال عنا "كاملون" ونهمل الكمال الحقيقي ومواجهة الحياة. هل أن النسك يعوّض خسارة حياة عشناها ولم نعشقها؟

عندما وصلت السيّدة (ياء) إلى ياء أبجديّة الحياة وصفت بأسف الموتى الذين يدفنون موتاهم واهتمامهم بأمورٍ كثيرة والمطلوب واحد.
مخيّلة ماري قصيفي ابتسمت عارية كالشمس وأسدلت ظلالها على همسات مترقرقة في ثنايا الروح فولد كتاب (نساء بلا أسماء).
يوسف طراد

الجمعة 29 آذار 2019


قراءة في رواية للجيل عندنا خمسة فصول للأستاذ يوسف طراد - نقلًا عن موقع مون ليبان



الأستاذ يوسف طراد

يوسف طراد
سقط الكرم بسقوط الجبل بكلّ ما يعنيه من حلاوة دبس وخمر مقدّس وبقيت حقيقة بطلة قصّة كتاب (للجبل عندنا خمسة فصول)، بطلة (نسيت أن تكبر وما زالت عالقة هناك، على الطريق بين قريتها ودير القمر). فهل تستطيع أن تمحو على الأقل ما حفرته الأيّام فيها أو أن تنصرف إلى تحقيق المصالحة مع جبل اعترفت بأنّها تكرهه.
نعم أيّها الكتاب، صرخاتك المتتالية ثقبت جدار الصمت لتخرق جدار الصوت والوجدان، إحداها على لسان عامل في الحقل (الأرض تشرب دمًا أكثر مما تشرب مياهًا).
كتاب اختلط فيه الحبّ مع الدماء، القذائف، الهجرة، المرض والقلق لتتكوّن صفحات لا تستطيع أن تفكّر بغير نهاية فحواها، وتعيد قراءة كلّ صفحة مرّات عديدة لأنّ السرد المحبوك يجعلك تفكّر بما حصل في قريتك أثناء الحرب، ويلهو فكرك عن معاني الصفحات بمآسي مثيلاتها. التراث المتغيّر الذي تدلّ عليه أسماء أشخاص عبر المراحل، في ألم معجون مع النحيب وتاريخ مجنون مذلّ لم ولا ولن يرحم حاضرًا أو مستقبلًا، شبحه جاثم كخيال الكروم الذي أفرغ حياته خوفًا في ثعالب العنب.
صورة المحدلة الأولى لخبطت التاريخ وجعلته يؤنّب نفسه متمنّيًا أن يدخل ثقبًا أسود ليخرج منه إلى نفسه بهدف إصلاح ذاته وتغيير مجرياته.
من يستطيع أن (يمسك الحرب بالجرم المشهود) الصور أم الذكريات أم النسيان اليقظ؟ نعم انتهى الميثاق الوطنيّ الذي كان يجمعنا (وحده الصابون البلديّ) بقي مشتركًا بين الجميع وأصبح الجميع يستعمل صابونًا أجنبيا."
رسخت الحقيقة (أنّ الخبز والملح لن يقدرا على مقاومة نداء الدم). في خضم المطالعة تطالعك الأمكنة التي (فيها تفجّر سير الرحيل) جارفًا أرواحًا وكيانًا ووطنًا بحدود متحرّكة.
من أين ينبع هذا الحبر الأسطوريّ، حبر كاتبة تحمل في قلبها همّ وطنها...! حبر يحمل في سائله كلّ هذه الانفعالات العميقة الحزينة، حبر لوّن الحدث بالدم النقي دون أن يكترث له من هم عالقون في ازدحام سير أو منتشين في مقهى ليليّ على ساحل الوطن.
في جبل الكتاب تأريخ روائيّ، ورغم الكمّ الهائل من المآسي التي تشبه حرائق الغابات وموت الشجر، تسطع حقيقة بحروف ماري القصّيفي (كلّ ما كتب عن الحرب يبقى ضحلًا أمام الحقائق التي لم تكتشف بعد) وواقع أليم عن تعادل الغباء والألم في كفّتي ميزان.
هناك أكثر من صخبٍ صارخ من صفحات الكتاب، صخب لا يشبه صوت المعاول الذي كان يتردّد في وديان جبل، تحوّلت جلوله صرخات خلال لحظات حرجة، صخب يضاهي صوت القذائف وعويل الثكالى، صخب ممزوج بعشرات الروايات في رواية واحدة، ولكلّ رواية أبطالها الذين هربوا يوم مواجهة الحرب ولن يهربوا من الديّان، ما عدا الأبطال الذين نذروا أنفسهم للإنسانية. والذي يؤلم أكثر من هذا الصخب كيفية تحوّل الشباب إلى الأثم بعد التهجير وانفجار هذه الآفات عند العودة في منازل تسكنها الخيالات والمثليين شتاء".
(إغراء الأوراق كبير) نعم أيتها الكاتبة فالأوراق تغريك لتنثري عليها دررًا، ولو عن المآسي، وتغرينا نحن كي ينهل عقلنا وفهمنا وإدراكنا آخر نقطة حبر من حبرك على آخر صفحة.
نجت أجساد، أو شبه أجساد إذا كانت الإعاقة جسيمة لكن الأهوال تركت أثرًا دائمًا (cicatrice definitive) في العقل والمخيّلة ولا دواء للنسيان.
الكتاب فصل واحد في خمسة فصول فهل يعود فصل الدم لا سمح الله؟ كلّ هذا وأكثر وبكمٍّ هائل، في كتابٍ حروفه من دماء ودموع ومعانيه وهج ساطع. لن أحدثكم عن المفاجأة في آخر الرواية علّكم تستكشفونها بأنفسكم.
إنّ القدر يمرّ، ويعاود المرور عبر ذواتنا، مثل مسلّة الإسكافي في الجلد الذي يصنعه.-" أمين معلوف).-"
هل إنّ هذه الرواية (للجبل عندنا خمسة فصول) للأديبة ماري القصّيفي الصادرة لدى دار سائر المشرق هي مسلّة الإسكافيّ التي استعملها أمين معلوف في رائعته (صخرة طانيوس) والتي تحذّر ساكني هذا الجبل الذي حُرم على كليم الله، تحذّرهم من أفعال جرميّة تهجيريّة حاقدة ذات طابع مجهول، منذ عهد إرتحششتا، مرورًا بذي القرنين واجتماع الممالك الفينيقيّة في حرب على أختها سيّدة البحار صور إلى أحداث 1860 إلى اليوم.
رواية ماري القصّيقي مزجت كلّ الواقع في خيال خصب تمخّض عن فصلٍ مؤلم من جلجلة وطن لم يجد من يمسح وجهه بمنديل.
يوسف طراد/الأحد 31 آذار 2019

الخميس، 28 مارس 2019

المرأة/ الإلهة

إزيس نصّار 

المرأة التي تتألّم من دورتها الشهريّة (وتذهب إلى العمل) وتحمل (وتذهب إلى العمل) وتلد (وتذهب إلى العمل) وتُرضع (وتذهب إلى العمل) وتحلم بالحبّ (وتذهب إلى العمل) وتختنق عند انقطاع الطمث (وتذهب إلى العمل) وتروي الحكايات (وتذهب إلى العمل) وتروي الزهور(وتذهب إلى العمل) وتغزل الصوف (وتذهب إلى العمل) وتغازل زوجها (وتذهب إلى العمل) وتعمل في الحديقة (وتذهب إلى العمل) وتنظّف البيت (وتذهب إلى العمل) وتطعم الهرّة (وتذهب إلى العمل) وتغسل السيّارة (وتذهب إلى العمل) وتدرّس الأولاد (وتذهب إلى العمل) وتعدّ الطعام (وتذهب إلى العمل) وتهتمّ بشكلها (وتذهب إلى العمل) وتغسل الملابس (وتذهب إلى العمل) وتقود السيّارة (وتذهب إلى العمل) وتمارس الحبّ (وتذهب إلى العمل) وتسهر إلى جانب المريض (وتذهب إلى العمل) وتساعد الجارة العاجزة (وتذهب إلى العمل) وتصلّي (وتذهب إلى العمل) وترتّب الخزائن (وتذهب إلى العمل) وتعزّي الحزانى (وتذهب إلى العمل) وتهتمّ بوالديها (وتذهب إلى العمل) وترعى والدي زوجها (وتذهب إلى العمل) وتصبر على بنات حميها (وتذهب إلى العمل) وتلبّي طلبات زوجها (وتذهب إلى العمل) وتقدّم النصائح لزملائها (وتذهب إلى العمل) وتصطحب الأولاد إلى الطبيب (وتذهب إلى العمل) وترافقهم إلى حفلات ميلاد أصحابهم (وتذهب إلى العمل) وتتحمّل مسؤوليّة فشلهم (وتذهب إلى العمل) ولا تقطف ثمار نجاحهم (وتذهب إلى العمل) وتسعى للمحافظة على أناقتها كي يتباهى بها أبناؤها (وتذهب إلى العمل) وتجهد في أن تبقى معاصرة كي تتشبّه بها بناتها (وتذهب إلى العمل) وتكون حيث يُحتاج إليها (وتذهب إلى العمل) وتستقبل ضيوف زوجها (وتذهب إلى العمل) وتنظّم مصاريف العائلة (وتذهب إلى العمل) وتحمل الأغراض من السيّارة (وتذهب إلى العمل) وتأتي بعاملة المنزل من المطار (وتذهب إلى العمل) وتعيد عاملة المنزل إلى المطار (وتذهب إلى العمل) وتنتظر أمام غرفة العمليّات (وتذهب إلى العمل) وتنتظر عودة المسافرين (وتذهب إلى العمل) وتحتمل تذمّر من حولها (وتذهب إلى العمل) وتقف خلف نجاح زوجها (وتذهب إلى العمل) وتشتري الهدايا في المناسبات (وتذهب إلى العمل) وتستبدل قارورة الغاز بأخرى (وتذهب إلى العمل) وتستدعي السمكريّ (وتذهب إلى العمل) وتستنجد بالكهربائيّ (وتذهب إلى العمل) وتنظّف السجّاد (وتذهب إلى العمل) وتعدّ القهوة والشاي والمتّي والزهورات وكاس العرق (وتذهب إلى العمل) وتحضّر الحلويات (وتذهب إلى العمل) وتصبغ شعرها (وتذهب إلى العمل) وتصبغ أحذية الزوج والأولاد (وتذهب إلى العمل) وترمي النفايات (وتذهب إلى العمل) وتنجز المعاملات الإداريّة لأفراد العائلة (وتذهب إلى العمل) وتجمع الغسيل (وتذهب إلى العمل) وتكوي الثياب (وتذهب إلى العمل) وترتاد النادي الرياضيّ (وتذهب إلى العمل) وتتسوّق (وتذهب إلى العمل) وتنزّه الكلب (وتذهب إلى العمل) وتقرأ آخر إصدارات الكتب (وتذهب إلى العمل) وتحفظ مواعيد لقاحات الأولاد (وتذهب إلى العمل) وتنتظر كي يكبر أولادها (وتذهب إلى العمل) وتصبر كي يغادر زوجها مراهقته (وتذهب إلى العمل) وتزور طبيبها النسائيّ بلا مرافق (وتذهب إلى العمل) وتنتظر نتائج فحوصها (وتذهب إلى العمل) ويضربها زوجها (وتذهب إلى العمل) ويخونها زوجها (وتذهب إلى العمل) ويطلّقها زوجها (وتذهب إلى العمل) وتحلم بحبّ جديد (وتذهب إلى العمل) وتذهب إلى العمل (وتذهب إلى العمل) وتحلم بترقية أو مكافأة على عملها (وتذهب إلى البيت)...

هذه المرأة بالتحديد من طلب منها أن تكون إلهة؟

الاثنين، 25 مارس 2019

المعلّم الشهاديّ والمعلّم الأديب - أنطون قازان

منحوتة تمثّل أنطون قازان


أنطون قازان
(بالضغط على الرابط كلمة قازان في تسجيل نادر في مهرجان ذكرى شبلي ملّاط)

واصف البارودي

كان المحامي الراحل انطون قازان من أولئك الذين يمارسون المحاماة، وفي الوقت نفسه، يمارس الأدب بحب وشغف وعمق، تماماً كما فعل غيره من المحامين في لبنان، من أمثال: بشارة الخوري وشارل حلو ويوسف السودا وعبدالله لحود وجوزف مغيزل وعبدالله الأخطل وجوزف باسيلا وفؤاد المشعلاني واميل بجاني وغالب غانم وادمون رزق وعصام كرم وسليم باسيلا والسلسلة طويلة... فالعلاقة بين الأدب والمحاماة في لبنان علاقة قديمة ووثيقة.
بعد رحيله، نحت له الفنان حليم الحاج تمثالاً، وأزيح الستار عن التمثال، الذي أقيم في ساحة عامة، في زوق مكايل في سنة 1995، ورفعت صورته في «المكتبة الوطنية» في بيروت سنة 1974، وأطلق اسمه على شارع في منطقة الجمّيزة.
***
المعلّم الشهاديّ والمعلّم الأديب
من كلمة المحامي الأديب أنطون قازان في ذكرى وفاة المربّي الأديب واصف البارودي (1964)

... تمكّن (واصف البارودي) أن يكون مربيًّا دون أن تتحكّم بأدبه مظاهر التعليم. فيوم راح يعلّم بثَّ نفحات الموهبة، وسعى في التلقين إلى طريق الذوق، فهو الشجرةُ المفيَّحة يتحلّق حولها الظامئون.
إنّ المربّي الأديب نعمة من الله يسبغها على مختاريه لتستمرّ بركة الأدب وتخصب جنّاته.
ما أحوجنا في هذا الوقت عينه، وطلّاب العلم يكادون يغتصبون الشهادات اغتصابًا، فلا يتزوّدون من كنوز المعرفة إلّا بالمقدار الذي يمكّنهم من قريب الغاية، ما أحوجنا إلى ذلك الذي بعدت في نفسه الغايات، حتّى كادت تضمحّل، لتنهضَ على أنقاضها الشخصيّة ويستقيم التكثيف الحاضريّ.
ولقد يعبّر المعلّمون الشهاديّون ولا يبقى من تجارتهم سوى إطارات شاحبة متروكة على الحيطان، أو لفافات مطويّة في الزوايا المنسيّة.
أمّا المعلّمون الأدباء فلهم على الدنيا بسطة سلطان، قوامُه المعرفة الصحيحة والإبداع الخيّر.
إنّ ساعة مشحونة بالتلميحات الثقافيّة البعيدة، وزاخرة بالتفجير الجماليّ، من معلّم أديب ترك الكتاب ليفتح صفحات الحياة، وأوصد كوى المناهج الضيّقة ليُشرع أبواب التراث الإنسانيّ، كساعة عدل توازي ألف ساعة عبادة.
ويطلّ الباروديّ من مجتمعه المدرسيّ إلى فُسح المجتمع الأكبر، ثائرًا على المدرسة الجزيرة، رابطًا بينها وبين الشطآن، فيتابع تلك الرسالة البنّاءة بادئًا من حيث يجب أن يبدأ ومنتهيًا إلى حيث يقيّض له الله.
والشجرة الإنسانيّة تُتعهّد من أغصانها، فتنمو بمقدار ما تُرعى. ويعرف الباروديّ أن يستخلص من مهمّته التعليميّة ما يكفي لازدياد عناصر الرسالة في الأديب الموجِّه، ومن هنا أثر ذلك الكاتب الذي التزم إصلاحًا بطريقته الموزونة وأسلوبه السمح النافذ.
إنّ البساطة الحلوة التي تميّز بها في كتاباته، والتي بلغت حدّ الصفاء، هي من مقوّمات الأدب التوجيهي الذي يُضحّي في سبيل الغاية بكثير من مغريات السبل.
وتتجلّى قدرة البارودي الأديب المعلّم في حديثه الذي يراوح بين طبعيّة الصديق الألوف ورصانة المحاضر الذي لا ينسى دعوته إلى التقويم والإصلاح. إنّه المحدّث الذي يُقصد، فالحكمة جارية على لسانه، والطُرَف محمولة على راحة الحافظة، وهو الذي أُشبع من مقول العرب وانفتح على تراثهم العظيم، فراح يتصرّف بيسر وقدرة ليُبدعَ أدبًا مُسْنَدًا.
أنطون قازان
(ذوق مكايل 1927-1973)




الخميس، 21 مارس 2019

صورة الأمّ كما تجلت أدبياً - صحيفة الحياة 21 مارس 2012




تكاد صورة الأم في الشعر والرواية وما يحيط بهما من فنون وآداب، تأخذ أحد وجهين: الملاك السعيد أو الضحية التعيسة. ولعل محفوظات تلامذة المدارس خير دليل على هذين الاتجاهين في القصائد والمسرحيات التي يتم تلقينها للأولاد ليؤدوها بدورهم أمام أمهاتهم على مسارح المدارس، التي صار الاحتفال بعيد الأم موعداً ثابتاً في جدول مواعيدها. تحتل قصيدة سعيد عقل «أمي يا ملاكي» رأس قائمة النصوص التي تبدو فيها الأم كائناً من غير هذا العالم، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، طيفاً أثيريّاً، يُؤْثِر راحة كل من حوله على حساب أبسط مستلزمات وجوده، ولكن من دون حزن أو تمنين، كأن ذلك من طبيعة الأمور، حيث تبقى الأم أمّاً مهما كبر ولدها، ويبقى ابنها طفلاً مهما تقدمت به السنون: «أمي يا ملاكي/ يا حبي الباقي إلى الأبد/ ولا تزل يداك/ أرجوحتي ولم أزل ولد». ويقابل هذه القصيدة أخرى لـ «ابراهيم منذر» بعنوان «قلب الأم»، تصف تضحية الأمهات بأقسى ما يمكن لأولاد في الصفوف التكميلية أن يحتملوه من دون أن يرافقهم شعور بالذنب، كيف لا والأم تقدم نفسها فدية عن ولدها الذي طمع بالمال ورضي بأن يقتل أمه ويبيع قلبها، ولكنه حين كان ذاهباً ليأخذ المال مقابل القلب، تعثر ووقع فـ «ناداه قلب الأم وهو معفر/ ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟». وحين خضعت المناهج التربوية للتجديد، استعيض عن قصيدة ابراهيم بقصيدة محمود درويش: «أحن إلى خبز أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي»، وفيها تبدو الأم امرأة من لحم ودم، تنشر الغسيل، وتعد القهوة والطعام، وتعاني من ابتعاد ولدها عنها. وهي بذلك بقيت على عكس «أم» سعيد عقل، التي أحاطها الشاعر بهالة قدسية ورفعها على منصة الإجلال منزهة عن أي عمل مادي. وهذا طبعاً يتأتى من رؤية سعيد عقل للمرأة عموماً.
الأم مدرسة ...
لا تختلف صورة الأم هنا عما يتعلمه التلاميذ في حصص تعليم الدين المسيحي عن مريم العذراء، التي تعتبرها الكنيسة شريكة ابنها في الفداء، أو في حصص الدين الإسلامي حين يتم التذكير بأن الجنة تحت أقدام الأمهات، وفي الحالين ارتبطت بالأخلاق والقيم، كما في بيتٍ لـ «حافظ ابراهيم» الذي يطلب من التلاميذ التوسع في معالجته: «الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعباً طيب الأعراق». وبذلك تكتمل صورة لا تقبل النقاش أو النقد، تقضي بأن الأم مثالية التكوين والتصرف ولا يجوز أن يكتب عنها إلا للاعتراف بهذه المثالية التي لا تنسجم مع أن الأم امرأة لها حقوق ورغبات، وكائن هش يمكن أن يقع فريسة المرض أو يرتكب الأخطاء.
من هنا، كان لا بد أن تأتي القصيدة والرواية العربيتان امتداداً لهذا التصور وتأكيداً له، فالأم هي الوطن الذي يؤمن الحماية، والأرض التي تعطي بلا حساب، ويضيف المسيحيون على ذلك قائلين: وأمنا هي الكنيسة! ومع ما عرفه العرب في تاريخهم الحديث من حروب، بدأت أم الشهيد تفرض وجودها على الوجدان العام، على اعتبار أنها سمحت لابنها بأن يضحي بنفسه في سبيل قضية مصيرية تعني الجماعة، وعلى هذه الجماعة أن تعلن عن امتنانها بتكريم الشهيد عبر الاهتمام بأمه.
غير أن الروائية حنان الشيخ كان لها رأي آخر حين «عرت» سيرة أمها، بعد وفاة هذه الأخيرة، في روايتها اللافتة «حكايتي شرح يطول»، ما يطرح أكثر من علامة استفهام عن ابتعاد آدابنا العربية وفنوننا عن التطرق إلى مقدسٍ اسمه «الأم»، في حين استسهل كثر تشريح علاقتهم مع آبائهم: سلباً عبر «قتله»، أو إيجاباً عبر التمثل به.
أين نحن الآن من كل ذلك؟ وهل تحتفظ الأم بالسمات نفسها كما وردت في قصائد يحفظها الأولاد اليوم ولا يرون ما يشبهها في أمهاتهم؟ فعمل المرأة خارج البيت، وتحول الخادمة الآسيوية عنصراً بديلاً في كثير من العائلات، والحياة المعاصرة التي تستدعي من المرأة الأم الاهتمام بمظهرها الخارجي والمشاركة في الحياة الاجتماعية، واضمحلال صورة الوطن كحضن آمن، كل هذه العناصر، نقول، جعلت الأم العصرية بعيدة إلى حد كبير عن الصورة الشعرية المكتملة معنًى وشكلاً كتلك التي نجدها مثلاً عند بدر شاكر السياب: «آه يا ولدي البعيد عن الديار!/ ويلاه كيف تعود وحدك، ولا دليل ولا رفيق/ أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار/ لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار» (من قصيدة: الباب تقرعه الرياح)؛ وأنسي الحاج: «لا أدافع عن الماضي بل عن أمي» (من مجموعة: خواتم)؛ ونزار قباني: «صباح الخير يا قديستي الحلوة» (من قصيدة: خمس رسائل إلى أمي)؛ وأدونيس: «لا أعرف زهرة يمكن أن تشبه بالأم/ لا أعرف شجرة ولا ينبوعاً ولا جبلاً ولا وادياً/ وما أكبر الفرق بينها وبين النجوم/ وليس في كتفيها غير الأجنحة/ وبين قدميها يتدفق نهر المعنى» (مدارات – صحيفة الحياة)؛ وبول شاوول: «الأم هي الينبوع الأول والأخير» (من حديث صحافي)، ومحمد علي شمس الدين في رثائها: «وقد أبصرت رؤيا/ في الليل/ في الحلك العظيم/ وعند تشابك الأحياء بالموتى/ وولولة السماء/ رأيت أمي» (من قصيدة: الفراشة)، ويحيى جابر: «ابتسمت أمي في تابوتها/ تشققت الشمس كالخشب العتيق/ ضحكنا/ عانقنا بعضنا/ صباح الخير يا أجمل قبر/ صباح الخير أيتها القرى» (من بحيرة المصل)، وكذا في شعر شوقي أبي شقرا وجوزف حرب وشوقي بزيع وزاهي وهبي وغيرهم.
ومع ذلك، فيلفتنا أمران في هذا الموضوع: الأول ندرة الأبيات التي تتطرق في الشعر العربي القديم إلى هذا الموضوع، أكان من باب العرفان بالجميل أم الرثاء، والقليل الذي ورد منها جاء متفرقًا ولا دلالة مهمة له أو قيمة جمالية، فلم يضئ عليه الدارسون، والثاني عدم وجود رواية عربية تكون الأم محورها الأساس، كرواية «الأم» لمكسيم غوركي.
شرف القبيلة
قد يكون من أسباب الأمر الأول: ارتباط ذكر الأم بشرف القبيلة، أو لأن أمهات كثيرات كن إماء، وابتعاد الشعراء أو الرواة عن الموضوعات التي تشي بعاطفة لا تتلاءم مع رجولة يتغنون بها، فضلاً عن عدم التطرق إلى الروابط العائلية عموماً: لصالح القبيلة أولاً ثم لصالح الدين الإسلامي، وبعد ذلك لصالح نهضةٍ تأتت من تفاعل الحضارات. أما غياب رواية كاملة عن الأم فيمكن ربطه بنشأة الفن الروائي الذي تزامن مع الاحتكاك بالغرب وانطلاق مفاهيم الحرية والاستقلال، ومع تكون مفهوم الدولة الحديثة، ثم جاءت القضية الفلسطينية لتتحول الرواية بذلك من معالجة شأن خاص يتعلق بالأم إلى تسليط الأضواء على شأن عام تمثله الأمة.
والمفارقة أن السينما المصرية، على عكس الشعر والرواية، تركت في الوجدان العربي أدواراً كثيرة لافتة تعبر، بمبالغة تهدف إلى استدرار الدمع، عن تضحيات الأم في مجتمع ذكوري، ومن أبرز الممثلات اللواتي أدين هذه الأدوار: فردوس محمد وأمينة رزق ثم شادية وفاتن حمامة وهند رستم.
هذه الملامح السريعة من صورة الأم تدفعنا للتساؤل عن صورتها المعاصرة (طبيبة، صحافية، محامية، قاضية، معلمة، مديرة مصرف، مضيفة طيران...)، بل عن صورتها كامرأة صارت تعطي ما لنفسها لنفسها وما لزوجها لزوجها وما لابنها أو ابنتها لهما، فهل واكبت القصيدة أو الرواية ذلك؟ على الأرجح لا، فنحن ما زلنا في مرحلة إثبات وجود المرأة المعاصرة كسيدة تفرض حريتها، أو كحبيبة أو زوجة، أما الأم التي يصفها سعيد عقل أو محمود درويش فهي، ككل شيء جميل في مجتمعنا، تصارع لتحافظ على دورها وصورتها. ولعل هذين الدور والصورة أعجزا الأخوين رحباني عن ذكرها في مجمل أعمالهما، فهناك الجدة والجد والأب والخال، أما الأم، فغير موجودة إلا في لمحات عابرة، وحين يعطى لها دور أساس، كما في مسرحية «بترا»، تضحي بابنتها من أجل بلادها. وهذا في حد ذاته موضوع يستحق الدراسة، فما لم يتجرأ الواحد منا على النظر إلى أمه كما هي، والاعتراف بها كما هي، فلن يستطيع أن يتصالح مع تاريخه الجماعي العام، ولن يعرف الحرية الحقة!

الأحد، 17 مارس 2019

أزمة نقد أم نهاية مرحلة؟ - 2011



هل كانت الثقافة العربيّة تنتظر سقوط الأنظمة الديكتاتوريّة كي تصفّي حسابات قديمة مع أسماء صارت، والبعض يتّهم التبعيّة الفكريّة والنقد الاستنسابيّ بأنّهما هما اللذان صيّراها، رموزًا لا يُسمح إلّا للأتباع والمريدين بالاقتراب من حرمها المقدّس؟ سؤال يفرض نفسه على متابعي الصفحات الثقافيّة الحافلة هذه الأيّام بمقالات "نقديّة" – متناقضة – لا توفّر أحدًا من سلاطة قول وقسوة موقف، وغالبًا من دون تبرير منطقيّ يقنع القارئ بصوابيّة هذا الرأي أو خطأ ذاك. ولعلّ النموذج اللبنانيّ يعطي فكرة عن هذا الواقع في كونه يختصر الحالة العربيّة ويعبّر عن متغيّراتها.

البداية مع الأخوين رحباني. فبعد وفاة منصور الرحباني، بدا كأنّ مجد عاصي ومنصور فقد هالته وسمح بأن تتناول الأقلام إنتاجهم نقدًا لا يتّكئ أغلبه على خلفيّة موسيقيّة أو فكريّة أو شعريّة. صحيح أنّ العائلة الرحبانيّة حرّكت منذ البداية أقلامًا تطنب في الإعجاب الساذج لمجرّد ركوب الموجة أو تجنح نحو الإساءة المجّانيّة خوفًا من تيّار شعريّ وموسيقيّ جديد، لكنّ انفصال زياد عن العائلة ثمّ انفصال فيروز عن عاصي ووفاة هذا الأخير، جعلت العالم الرحباني مادة مغرية للتداول، عدا تسريبات من هنا وهناك أطلقها صحافيّون وشعراء أصدقاء للعائلة تؤكّد مساهماتهم في كتابة نصوص أو الإيحاء بأفكار. غير أنّ وجود منصور منع استفحال هذا المنحى في مقاربة إنتاج الأخوين، وخصوصًا حين راح كثيرون يسعون إلى تمييز ما لعاصي وما لمنصور . وأتت مرحلة ما بعد الأخوين لتفتح سجلّات اختلط فيها الخاصّ بالعامّ (نسب ابن دلال طليقة زياد، توزيع الميراث الرحباني، حصّة فيروز، قيمة أعمال أولاد منصور، انتماءاتهم السياسيّة)، من دون اعتبار للإرث الفنّي الكبير وإيصاله إلى الأجيال الجديدة للتعلّم منه لا لعرضه في متحف أو رفعه على منصات التبخير.
صحيح أنّ من طبيعة النقد أن يتمتّع بمساحة واسعة من الحريّة تسمح له بعرض الإنتاج الإبداعيّ على العقل لكن العرض لا يعنّي التعرّض الانفعاليّ لأمور لا تمتّ للعمل بصلة أو تحويل العمل مناسبة لتصفية حسابات. ولنأخذ مثلاً رأيين نقديّين يختصران المسألة. ففي مقالة عبده وازن عن مسرحية "دون كيشوت" للأخوة رحباني (الحياة، 3/7/2011) نقد عارضه تمامًا رأي صفوان حيدر (السفير، 9/7/ 2011)، فكيف يعرف قارئ النصّ إن كانت المسرحيّة فاشلة (بحسب وازن) أو ناجحة (بتأكيد حيدر)؟ فعن هبة طوجي بطلة العمل رأى وازن أنّها عجزت "عن إعطاء شخصية دولسينايا ملامحها الحقيقية، المأسوية والكوميدية، وبدت تمثل بصوتها الصارخ، إضافة الى غنائها الصارخ الذي جعلها تبدو عاجزة أيضاً عن استخدام طاقة هذا الصوت، الذي قال عنه مرّة أسامة أنّه سيبدأ مرحلة جديدة من الغناء". ثمّ تابع "ولعلّ من الواجب على هبة أن تلتحق بمعهد للغناء تتعلم فيه أصول الغناء والأداء الغنائي، فقوة الصوت (السوبرانو) لا تكفي لتصنع منها مغنية ناجحة". أمّا حيدر فكتب في ما يشبه الردّ: "جاء صوتها البديع وأداؤها المسرحي الرشيق ترسيخاً وتأكيداً لهذا التألّق"، فبدت "كتلة مشتعلة بالحيوية الكلامية والجسدية والغنائية. وقد أدّت هبة دورها بنجاح كبير وجاء صوتها باهراً ومدهشاً بتعدد طبقاته وارتفاعاته وانخفاضاته". وعن أداء رفيق علي أحمد كتب وازن: "وكانت هذه اللعبة «التضخيــــمية» تليـــــق بدون كيشوت نفسه الذي أدّاه – ويا للأسف – الممثل الكبير رفيق علي أحمد، في أسلوب خطابي حتى كاد صراخه يذكر بصراخ أنطوان كرباج في المسرح الرحباني. ورفيق علي أحمد يعلم جيداً أنّ هذا ليس أسلوبه وهذه الإطلالة ليست إطلالته، هو الممثل الذي طوّع الأساليب ونجح في توظيفها لا سيما في أعماله المونودرامية و "الحكواتية"، فجاء ردّ حيدر: "أما أداء رفيق علي أحمد ففيه قد اكتملت معالم الشخصية الأحمدية التمثيلية منذ ثلاثة عقود وتوضحت مظاهرها المميزة الساخرة والمتهكمة التي كانت مستترة في بعض جوانبها في مسرحياته السابقة". والأمر نفسه يصحّ على الكوريغرافيا التي كانت بحسب عبده وازن "شبه مدرسية، عادية جداً ولا جديد فيها، لا تخييلاً ولا حركة ولا رقصاً ولا دلالات. وبدا الراقصون على عادتهم في رؤية مروان، يقفزون و «ينطنطون» أكثر مما يرقصون"، أمّا بحسب صفوان حيدر فالكوريغرافيا والرقص يأخذان "بألباب عيوننا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وإيقاعات تصفيقنا". وفي الختام هل أخفق أبناء منصور كما رأى وازن مؤكّدًا على "الركاكة والهشاشة اللتين وقعوا فيهما" أم نجحوا كما يصرّ حيدر "في تجديد مسرحة هذا العمل على صعيد الشكل والمضمون. إنها الرؤية الاخراجية الجديدة قلباً وقالباً والانتاج المثقف والمسرحة والتأليف الدرامي والغنائي والموسيقي التجديدي والمتألق والباهر، تأليفاً وتلحيناً وتوزيعاً وغناء"؟
بعد الرحابنة، أتى دور سعيد عقل المحتفل بأعوامه المئة على وقع كلمات ترفعه إلى مستوى مجد لبنان أو تنزل به إلى دركات الجحيم المتهاوي إليه الوطن المشرذم. فعبّاس بيضون سخر من تاريخ سعيد عقل (السياسيّ والنفسيّ) ومن طريقة الاحتفاء به (السفير الثقافيّ 8 تمّوز 2011) وجاء في ختام مقالته: "سعيد عقل وصل إلى المئة. صعد الدرجات كلها ووصل منهوكا. لقد وصل ونال جائزته قداساً. ما أشق الطريق ما أخفّ الجائزة". أمّا محمّد علي فرحات فله رأي أقلّ حدّة (الحياة، 9 تمّوز 2011): "القداس يتعدّى البعد الديني، على أهميته، الى إعلان علاقة بين الكنيسة المارونية وشعر سعيد عقل المنذور لمجد لبنان". وفي الحالين، ما علاقة القدّاس التكريميّ وهو شأن دينيّ بحت وخاصّ في الحكم على تجربة سعيد عقل الشعريّة؟ وهل القدّاس إن كان موضوعًا يستحقّ الكتابة عنه (أشار إليه أنسي الحاج وعبد وازن كذلك) هو جائزة خفيفة بحسب تعبير بيضون ما استدعى اعتراض المركز الكاثوليكيّ للإعلام أم مهمّة بحسب فرحات؟ وهل شعر سعيد عقل جميل كما وصفه فرحات في قوله" كلمة سعيد عقل الشعرية معلنة الجمال، المتهادية، المفاخرة بنفسها، المعلّمة من حيث هي نموذج، المكتفية بذاتها، لا تحتاج منافسة مثيلاتها في العالم"؟ أم لن يبقى من آثاره إلّا عبارة واحدة استشهد بها بيضون في كلامه على عقل (القاتل لشدّة هيامه بنفسه كما ورد في النصّ) وهي أنّ على كلّ لبنانيّ أن يقتل فلسطينيًّا؟ في رأي يشبه الردّ على أنسي الحاج (جريدة الأخبار) في قوله: "سعيد عقل عنصري؟ نعم، إذا كان العنصري هو الفاقد أمانه في محيطٍ ساحق لا يشبهه. إذا كان في نظر المختلف هو عنهم يشكّل "خطراً...عنصريّة المغبون، عنصريّة فرديّة دفاعيّة ولّدتها عنصريّة الأكثريّة". أمّا عبده وازن فيرى أنّ شعر سعيد عقل "العربي الفصيح هو الذي صنع مجده، لا شعره العامي ولا أفكاره التوهيمية ولا ادعاءاته التي لا حد لها" وأنّه "كان ولا يزال الشاعر الاقل مبيعاً في لبنان والعالم العربي"، ولكن أليس التساؤل مشروعًا عن فائدة هذا المجد العربيّ إن كانت النهاية في أحضان الطائفة، وهو أمر يذكّر بنهاية أحمد فارس الشدياق المختلف في شأنها، وهل تمنّع العرب عن شراء مؤلّفاته سببه لبنانيّة عقل المتطرّفة أم مستوى لغته الأنيقة ومعانيه الصعبة، علمًا أنّ الجمهور نفسه يستمع إلى قصائده الفصيحة المغنّاة وكلماته اللبنانيّة الشعبيّة ولا يعرف على الأرجح أنّ سعيد عقل هو صاحب قصيدة "شام يا ذا السيف"، وأغنية "مشوار جينا عالدني مشوار".
أنسي الحاج، اسم آخر مهدّد بنزع نصبه من الساحات الثقافيّة، وبعيدًا عمّا إذا كان رأيه صائبًا أم متجنيًّا في كتاب عقل العويط "وثيقة ولادة"، لا يمكن تجاهل أنّ المقالات النقديّة التي دافعت عن "شعر" العويط كانت تردّ على ما كتبه الحاج ولو لم تشر إليه بالاسم أكثر ممّا كانت تعرض ما جاء في الكتاب ومنها: مقالات لعبده وازن (الحياة) ومحمدّ علي شمس الدين (السفير) وإيلي عبدو (الأخبار)، وذلك طبعًا بعد مقالة عقل العويط في ردّ مباشر وواضح (النهار). ولذلك كان التركيز في " المقالات/الردود" على شعريّة النصّ الذي كتبه العويط، في رفض أكيد لما وصف به الحاج الكتاب: الإكثار من صيغة قول الشيء وعكسه وما بينهما، عدم المعادلة بين التكثيف والإلهام، الثرثرة التي تسيء إلى البلاغة. ففي مقالة عبده وزان إصرار على أنّ عقل العويط "يشعرن" سيرته، فوردت كلمات: شعر وشاعر وقصيدة 37 مرّة في نصّه، وفي مقالة محمد علي شمس الدين: 16 مرّة، وفي مقالة إيلي عبدو: 18مرّة بينها استعادة لعبارة "يشعرن سيرته" الواردة قبل ذلك في نصّ عبده وازن، كما يؤكّد إيلي عبدو على "التكثيف" في نصّ عقل العويط، ليردّ تهمة عدم التكثيف التي وصف بها أنسي الحاج لغة صاحب "وثيقة ولادة".
لم ينج أدونيس كذلك من وضع حدّ لسلطته الثقافيّة بعدما "تأخّر" بحسب البعض في مواكبة الثورة السورية، أو "أخطأ" في رأي آخرين في المراهنة على شخصيّة الرئيس السوريّ. وتوزّعت الردود على رسالته التي نشرتها "السفير" بين رافض لمبدأ الخوف على الثورة من الإسلام (اسكندر حبش/السفير، خالد صاغية/ الأخبار، رضوان السيّد/ الحياة) ومعترض على الإساءة إلى الديمقراطيّة (نصري الصايغ/ السفير) أو اختزال المثقّفين السوريّين بأدونيس (حسام عيتاني/ الحياة)، ومتحفّظ على مكتوم أو "لامقال" في الرسالة (جان عزيز/ الأخبار)، ومقتنع بأنّ الرسالة "لم تكن أفضل إبداعات أدونيس ولن تُضاف إلى أعماله الكاملة" (ساطع نور الدين/ السفير).
ما الخلاصة من كلّ ذلك؟ النقد ضروريّ ولا جدال في الأمر خصوصًا في هذه المرحلة الانتقاليّة للشعوب العربيّة. غير أنّ المخاوف على النقد (وهو علم قبل كلّ شيء، ووسيلة لا غاية) يجب أن تسبق القلق على الإنتاج الفكريّ والأدبيّ والفنّي، بسبب تعامل أكثر النقّاد في الصحف من خلال معطيين: الأوّل أنّ المتلقّي العادي لا يقرأ إلّا صحيفة واحدة وبالتالي لن يقارن بين نصّ نقديّ وآخر، والثاني أنّ المقالة النقديّة تتوجّه إلى اثنين لا ثالث لهما: صاحب العمل الإبداعيّ والناقد في الصحيفة المنافسة.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.