نذهب إلى الحجّ والناس راجعون!
ففي وقت بدأت فيه الحركات النسائيّة في أوروبا وأميركا بإعادة النظر في دور المرأة الفاعل في العائلة، وبالتمييز بين مطالبتها بالتحرّر من سلطة الرجل الغاشمة من جهة وتهرّبها من مسؤولياتها من جهة ثانية، بدأت بعض نسائنا بالمجاهرة بأنهنّ متحرّرات من كلّ ما له علاقة بالأعمال المنزليّة، كأنّهن بذلك حقّقن قفزة نوعيّة في مصائرهنّ ووصلن إلى غاية وجودهنّ.
والمفارقة أنّ الحضارات الشرقيّة والغربيّة، في شمال الأرض وجنوبها، تجمع على أنّ التكامل والتوازن هدفان أساسيّان لا تستقرّ حياة الإنسان، أرجلاً كان أم امرأة، من دونهما. ولذلك فالعالم القائم على توازن الثنائيّات هو العالم المثاليّ الذي ينعم فيه المرء بالراحتين النفسيّة والجسديّة. فبين الذكورة والأنوثة مثلاً انسجام لا صراع، وبين الداخل والخارج تكامل لا تنافس، وبين الأعلى والأسفل تواصل لا قطيعة، وهكذا إلى آخر ما يمكن التفكير فيه من ثنائيّات تؤلّف جوهر وجودنا.
فالأعمال المنزليّة إذًا لا يمكن أن تتعارض مع التفكير والكتابة والإبداع والعِلم والشعر. فأنا لا أستطيع أن أتأثّر بشاعرة لا تنظّف نفسها وبيتها وأولادها، ولا أتناول القربان المقدّس من يدي كاهن أظافره وسخة، ولا يمكن أن أجلس على مقعد في بيت مبدع ووبر القطط ولعاب الكلاب وخيوط العنكبوت تحيط بي من كلّ جانب. والحجّة الوحيدة عند هؤلاء جميعهم وعند أمثالهم أنّ الوقت يجب أن يستغلّ في أمور مصيريّة لا في التنظيف والترتيب.
من قال إنّ الأوساخ والإهمال و"الكركبة" والقذارة والطعام السريع أو المعلّب من شروط الشعر والإبداع والفلسفة والفنّ؟ من قال إنّ وليمة الجنس ووليمة الطعام ليستا متشابهتين من حيث الأناقة والترتيب والشهوة واجتماع الحواسّ كلّها في كلتا العمليّتين: فالنظر إلى الآخر يثير الشهوة كما يفعل مشهد الطعام الأنيق والنظيف، وصوت الآخر يثير الرغبة فيه كما يفعل تلامس كأسين شفّافين، وعطر الآخر يثير الشوق إليه كما تفعل رائحة التوابل المختارة في ذكاء، ولمس الآخر يثير الشهيّة كما يفعل الاحتكاك بالخبز الطازج الساخن، وتذوّق الآخر يثير الجنون كما يفعل ذوبان الحلوى بين الشفتين.
فمن غير المعقول أن أصدّق أنّ امرأة لا تجيد فنّ الطبخ تجيد فنّ الحبّ، ومن غير المعقول أن توجد امرأة لا تعتني بأظافرها تصلح للاحتضان، ومن غير المعقول أن أصدّق أنّ امرأة لا تستحمّ أكثر من مرّة في اليوم تستحقّ أن تعشق، ومن غير المعقول أن أصدّق أنّ امرأة لا تحسن ترتيب بيتها وغرفتها وحقيبة يدها تحسن ترتيب أفكارها ومشاعرها وكلماتها.
عندما كتبت عن فيلم "ساعات" (نشر النصّ في صحيفة "النهار" وأعدت نشره في كتابي "رسائل العبور") للممثّلات الرائعات ميريل ستريب وجوليان مور ونيكول كيدمان، أشرت في حرص على اهتمام النساء الثلاث - وهنّ أديبتان وقارئة هي في الوقت نفسه والدة كاتب ناجح، وهنّ من عصور مختلفة – بعالم المطبخ ولم يبد على واحدة منهنّ أنّها وجدت تعارضًا بين عالمَي الفمّ والفنّ.
لقد قال السيّد المسيح لمرتا عندما وجدها منهمكة في تحضير الطعام: مرتا، مرتا، تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد. صحيح كلام السيّد، ولكنّ السيّد نفسه انتقل إلى مائدة الطعام عندما انتهى من التبشير وأكل مع تلاميذه من الطعام الشهيّ الذي أعدّته مرتا.
فلماذا المكابرة إذًا والادّعاء بأنّ الأعمال المنزليّة تسيء إلى صورة المرأة؟ ولماذا في الأساس نربط كلمة الطبخ بالمرأة وكبار الطبّاخين في العالم رجال، وكذلك كبار مصمّمي الأزياء النسائيّة، الخارجيّة منها والداخليّة الحميمة، وكبار الصناعيّين الذين ابتكروا للمرأة كلّ شيء بدءًا من الجوارب الحريريّة والمحارم الصحيّة وآلات نزع الشعر الزائد وصولاً إلى الغسّالات والجلاّيات وغيرها من الآلات التي أراحتها من عبء الأعمال المنزليّة، وكذلك كبار مزيّني الشعر والوجه، وكبار مصمّمي الديكور، وكبار الشعراء حتّى أولئك الذين وصفوا مشاعر المرأة وحاجاتها واهتماماتها، وما إلى ذلك من المجالات التي كان من الطبيعيّ أن تبرع المرأة فيها...؟
فلتتوقّف النساء إذًا عن التباهي بأنّهنّ يرفضن الأعمال المنزليّة، فما المانع من أن تولد الأفكار الجميلة أثناء الحياكة أو الكيّ أو التنظيف كما أثناء الاستحمام وممارسة الحبّ والسفر والمطالعة والعمل في المكتب.
كنت أظنّ أنّ النساء في بلادي مؤهّلات للقيام بأمور كثيرة، ولكن من الواضح أنّ كثيرات منهنّ لا يزلن عاجزات عن إزالة الماكياج عن وجوههن مساء لأنّهن يخفن أن يظهرن على حقيقتهنّ أمام رجالهنّ، وفي الصباح يكتبن عن تحرّر المرأة!
ففي وقت بدأت فيه الحركات النسائيّة في أوروبا وأميركا بإعادة النظر في دور المرأة الفاعل في العائلة، وبالتمييز بين مطالبتها بالتحرّر من سلطة الرجل الغاشمة من جهة وتهرّبها من مسؤولياتها من جهة ثانية، بدأت بعض نسائنا بالمجاهرة بأنهنّ متحرّرات من كلّ ما له علاقة بالأعمال المنزليّة، كأنّهن بذلك حقّقن قفزة نوعيّة في مصائرهنّ ووصلن إلى غاية وجودهنّ.
والمفارقة أنّ الحضارات الشرقيّة والغربيّة، في شمال الأرض وجنوبها، تجمع على أنّ التكامل والتوازن هدفان أساسيّان لا تستقرّ حياة الإنسان، أرجلاً كان أم امرأة، من دونهما. ولذلك فالعالم القائم على توازن الثنائيّات هو العالم المثاليّ الذي ينعم فيه المرء بالراحتين النفسيّة والجسديّة. فبين الذكورة والأنوثة مثلاً انسجام لا صراع، وبين الداخل والخارج تكامل لا تنافس، وبين الأعلى والأسفل تواصل لا قطيعة، وهكذا إلى آخر ما يمكن التفكير فيه من ثنائيّات تؤلّف جوهر وجودنا.
فالأعمال المنزليّة إذًا لا يمكن أن تتعارض مع التفكير والكتابة والإبداع والعِلم والشعر. فأنا لا أستطيع أن أتأثّر بشاعرة لا تنظّف نفسها وبيتها وأولادها، ولا أتناول القربان المقدّس من يدي كاهن أظافره وسخة، ولا يمكن أن أجلس على مقعد في بيت مبدع ووبر القطط ولعاب الكلاب وخيوط العنكبوت تحيط بي من كلّ جانب. والحجّة الوحيدة عند هؤلاء جميعهم وعند أمثالهم أنّ الوقت يجب أن يستغلّ في أمور مصيريّة لا في التنظيف والترتيب.
من قال إنّ الأوساخ والإهمال و"الكركبة" والقذارة والطعام السريع أو المعلّب من شروط الشعر والإبداع والفلسفة والفنّ؟ من قال إنّ وليمة الجنس ووليمة الطعام ليستا متشابهتين من حيث الأناقة والترتيب والشهوة واجتماع الحواسّ كلّها في كلتا العمليّتين: فالنظر إلى الآخر يثير الشهوة كما يفعل مشهد الطعام الأنيق والنظيف، وصوت الآخر يثير الرغبة فيه كما يفعل تلامس كأسين شفّافين، وعطر الآخر يثير الشوق إليه كما تفعل رائحة التوابل المختارة في ذكاء، ولمس الآخر يثير الشهيّة كما يفعل الاحتكاك بالخبز الطازج الساخن، وتذوّق الآخر يثير الجنون كما يفعل ذوبان الحلوى بين الشفتين.
فمن غير المعقول أن أصدّق أنّ امرأة لا تجيد فنّ الطبخ تجيد فنّ الحبّ، ومن غير المعقول أن توجد امرأة لا تعتني بأظافرها تصلح للاحتضان، ومن غير المعقول أن أصدّق أنّ امرأة لا تستحمّ أكثر من مرّة في اليوم تستحقّ أن تعشق، ومن غير المعقول أن أصدّق أنّ امرأة لا تحسن ترتيب بيتها وغرفتها وحقيبة يدها تحسن ترتيب أفكارها ومشاعرها وكلماتها.
عندما كتبت عن فيلم "ساعات" (نشر النصّ في صحيفة "النهار" وأعدت نشره في كتابي "رسائل العبور") للممثّلات الرائعات ميريل ستريب وجوليان مور ونيكول كيدمان، أشرت في حرص على اهتمام النساء الثلاث - وهنّ أديبتان وقارئة هي في الوقت نفسه والدة كاتب ناجح، وهنّ من عصور مختلفة – بعالم المطبخ ولم يبد على واحدة منهنّ أنّها وجدت تعارضًا بين عالمَي الفمّ والفنّ.
لقد قال السيّد المسيح لمرتا عندما وجدها منهمكة في تحضير الطعام: مرتا، مرتا، تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد. صحيح كلام السيّد، ولكنّ السيّد نفسه انتقل إلى مائدة الطعام عندما انتهى من التبشير وأكل مع تلاميذه من الطعام الشهيّ الذي أعدّته مرتا.
فلماذا المكابرة إذًا والادّعاء بأنّ الأعمال المنزليّة تسيء إلى صورة المرأة؟ ولماذا في الأساس نربط كلمة الطبخ بالمرأة وكبار الطبّاخين في العالم رجال، وكذلك كبار مصمّمي الأزياء النسائيّة، الخارجيّة منها والداخليّة الحميمة، وكبار الصناعيّين الذين ابتكروا للمرأة كلّ شيء بدءًا من الجوارب الحريريّة والمحارم الصحيّة وآلات نزع الشعر الزائد وصولاً إلى الغسّالات والجلاّيات وغيرها من الآلات التي أراحتها من عبء الأعمال المنزليّة، وكذلك كبار مزيّني الشعر والوجه، وكبار مصمّمي الديكور، وكبار الشعراء حتّى أولئك الذين وصفوا مشاعر المرأة وحاجاتها واهتماماتها، وما إلى ذلك من المجالات التي كان من الطبيعيّ أن تبرع المرأة فيها...؟
فلتتوقّف النساء إذًا عن التباهي بأنّهنّ يرفضن الأعمال المنزليّة، فما المانع من أن تولد الأفكار الجميلة أثناء الحياكة أو الكيّ أو التنظيف كما أثناء الاستحمام وممارسة الحبّ والسفر والمطالعة والعمل في المكتب.
كنت أظنّ أنّ النساء في بلادي مؤهّلات للقيام بأمور كثيرة، ولكن من الواضح أنّ كثيرات منهنّ لا يزلن عاجزات عن إزالة الماكياج عن وجوههن مساء لأنّهن يخفن أن يظهرن على حقيقتهنّ أمام رجالهنّ، وفي الصباح يكتبن عن تحرّر المرأة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق