الاثنين، 30 أبريل 2018

من للغلط ومن للجمال؟- علي سرور - جريدة "النّهار" الأربعاء 31 آب 1994



من للغلط ومن للجمال؟
دخلت حيّة إلى يومنا الثّقافيّ، كتبها شوقي أبي شقرا، جورج كعدي، زاهي وهبي، اسماعيل فقيه وآخرون. ولماذا حيّة؟ كنت أسائل نفسي وأجاوبها، حيّة من ناحيتين في مرورها تولد نقزة استنفارًا تهيّبًا، تفرض حالة طوارئ. حالة طوارئ. دون قمع بالطّبع. فالثّقافة بعيدة كلّ البعد عنه. تجافيه، تخاصمه، تقاتله، الثّقافة تضع منافسة بين زملاء، بين أصدقاء، بين أصحاب الكار. وهي تضعها لتبتكر جديدًا، حديثًا، اكتشافًا، لتقيم عالمًا للحوار الحرّ المتحرّر من التّزمّت والعصبويّة العمياء. ومن التّكتّلات الخرقاء، لتشيد ثقافة منثورة، منفتحة، غايتها الإنسان، سعادته. فماذا تضع ثقافتنا اليوميّة في العاصمة وبعض الأطراف؟ هل هي كما يقول عنها وفيها الشّاعر شوقي أبي شقرا: إنّ الثّقافة واجبها أن تحارب الغلط، أن تبرز الجمال، أن تناصر العصافير، أن تمنع التهام الشّعراء لها أوّلاً، والنّاس ثانيًا؟ أم هي كما يقول جورج كعدي عنها وفيها: إنّ الثّقافة اليوم ثقافة البغض والكره والتّحزّب الشّوفيني والحشريّة المرذولة، ونقل المتاريس من الأسواق التّجارّية إلى الأسواق الثّقافيّة، وبين شوقي وجورج ملعب فسيح وكلّ منهما يرمي الطّابة إلى هدف واحد. وكلاهما معه حقّ باستثناء إنّ الثّقافة حقّها ضائع ما بين زاهي وهبي واسماعيل فقيه في موقفهما حول السّائد في الشّعر والثّقافة وتوابعهما فزاهي واسماعيل يلتقيان وإن كانا شبيهين بالخطّين المتوازيين. يلتقيان في القصيدة، في شغبهما، في مشاكستهما للسّائد، في تعلّقهما بالمرأة، في استيلاد جديد ما. وكلّها أمور من صلب الثّقافة، الّتي تلتقي معهما م. م. الرّيحاني في متابعتها للحركة الثّقافيّة اليوميّة ورصدها وكتابة الجميل والممتع فيها بشرط أن تخفّف من مقالاتها لبعض المسائل المتناولة في مقالاتها، كأنّها تخفّف عنّا ما يكتبه علي حرب في أمور شتّى، كأنّه عالم بكلّ شيء وما أجمل أن يكون المرء عالمًا بكلّ شيء. حتّى يتحقّق الكمال. وهذا حلم. ولأنّه حلم، دخلت الحيّة إلى حياتنا اليوميّة لتحقّق الجانب الثّاني، أن نتابع حركة الحيّة، أين ستصل وقبل أن تصل، أين تذهب، ما غايتها؟ ولم النّقزة وقعت وأيضًا الاستنفار. يبقى أن نستكمل الحيّات السّود والحمر والمرقّطة حتّى تلتقي في فسحة ما، تتحاور وجهًا لوجه، تتعارك ولا بأس في التّعارك، يا حبّذا لو تخرج الحيّات من أعمدتها السّود إلى ضفّة نهر. وبضعة أحجار أو صخور نركبها بدلاً من كراسي برت سراويلنا حتى بانت عوراتنا وكلّ يتباهى بأنّ عورته أجمل، أروع، وأبهى والصّحيح إنّ كلّ عوراتنا متساوية في البري وهي في حاجة إلى حيّة حمراء تعقصها، لنروح معًا إلى فسحة نُقوّم أغلاطنا، وننقد عوراتنا، ونعترف بالآخر زميلاً لا عدوًّا، ربّما بذلك نخفّف من عصبويتنا ونخلق ثقافة من أمّهات الثّقافات المجيدة.
علي سرور
  جريدة "النّهار" الأربعاء 31 آب 1994     

متى أيّها الشّاعر تنتهي إجازتك الأريستوقراطيّة؟- جريدة "النّهار" الخميس 14 تمّوز 1994


متى أيّها الشّاعر تنتهي إجازتك الأريستوقراطيّة؟
بكلّ بساطة، يعلن الشّعر إنّه في إجازة.
بكلّ بساطة، يقول الشّعراء إنّ القصائد المؤجّلة إلى ما بعد دوام العمل تذبل وهي في غرف الانتظار.
بكلّ بساطة، تترك الكلمات على رصيف الحياة اليوميّة، إذ إنّ الشّعراء المستعجلين لم يتوقّفوا ليأخذوا بيدها ويعبروا بها إلى حيث الحياة والصّراع، إلى حيث يكون البقاء للأقوى أو... للأصلح.
بكلّ بساطة، وبكلّ هدوء، يعترف الشّعراء أن لا وقت لديهم للكتابة.
لن أقول جديدًا إذا قلت إنّ الشّعر في أزمة، لكن الوقت ضيّق وسرعة الحياة في اتّجاهها المادّيّ ليسا السّببين الوحيدين. ولكن يبدو إنّ الشّعراء تآلفوا مع الحرب إلى درجة إن باتوا عاجزين، مع توقّفها، عن إيجاد حروبهم الدّاخليّة البديلة، وإذا بهم فجأة أمام الفراغ.
أراهم، الآن، يشتاقون إلى القصف والملاجئ، حيث يتآلفون مع أعضائهم ويخافون عليها من رصاصة طائشة، وحيث يتصالحون مع ذواتهم، وينظرون إلى الموت نظرة النّدّ للنّدّ، ولا يخافون منه قدر ما يهربون اليوم من حرارة شمس لاذعة أو يخافون من تأخّر راتب آخر الشّهر.
أراهم في الملاجئ حيث يتصالحون مع المحيطين بهم، فتصير الأمّ رمزًا وأيقونة، ويصير الوالد حبيبًا بضعفه وانهزامه، ويستحقّ كلّ منهما ديوان شعر، بعد إن كانا كلاهما رمزًا للتّسلّط والرّجعيّة.
أراهم يشتاقون إلى ضوء الشّمعة، يكتبون في دفئه ويستعجلون، خشية أن يصل " المستعجل" دائمًا ويأخذهم قبل أن يقولوا كلمتهم. وها هم اليوم يقولون: بكرا، بس نرتاح شوي، سنكتب.
أراهم يحلمون بالحياة الّتي كانت فيهم في زمن الموت، وها هم يسيرون في شوارع المدينة الصّاخبة وقد فارقتهم الحياة، الحياة المختلفة، الحياة الغير شكل.
عمّ يتكلم الشّعراء اليوم؟
الحديث بات غير مقنع، زمن فقد المرء الثّقة بالنّفس وبالآخرين، ولم تعد الكتابة تحرّك شعورًا أو تثير دمعة بعد إن أظهرت الأيّام أنّ الشّعراء الثّوريّين هم أوّل الإنهزاميّين والمستسلمين، وهم أوّل السّعاة إلى الإشتراك في مهرجانات الشّعر الّتي تقيمها دول تتعارض أنظمتها مع إيديولوجيّاتهم وعقائدهم، ويقيمون الأرض ولا يقعدونها إذا امتنعت هذه الدّول عن دعوتهم.
وصارت الكتابة عن المعتقلين مغامرة يخشى الشّاعر مقاربتها لئلاّ يسيء إلى مفاوضات السّلام.
وهكذا انكفأ الشّاعر على نفسه، وبدأ يبحث عن عالم آخر لشعره، فلم يجد أمامه إلاّ المرأة، يستعيض بجسدها عن وطنه المفقود. والطّريف في الأمر إنّ بعض الأديبات فعلن الأمر نفسه وكتبن عن الجسد أيضًا، عن جسد المرأة تحديدًا. ومرّة أخرى وجدت الكتابة نفسها أمام الحائط المسدود حين اصطدمت بالممنوعات والمحاذير.
ثمّ نحا بعض الشّعراء منحى مختلفًا حين لم يجد بعضهم مانعًا في الكتابة عن مظاهر اجتماعيّة واقتصاديّة وحياتيّة كنّا نظنّها إلى حين غير صالحة كمادّة شعريّة. ولكن هذه الكتابة تطرح رهانًا حول قدرتها "على فتح ثغرة حقيقيّة في جدار الحداثة شبه المسدود" كما يقول شوقي بزيع. وهي تجربة قد لا يستطيع الكثيرون مجاراتها بحكم شخصيّاتهم وخطّهم الشّعريّ.
ومن جديد، بحث الشّعراء عن وسيلة تعبير مختلفة، وهم، إذ تركوا الرّسم والنّحت للشّاعرات، توجّهوا إلى النّقد، والشّاعر بطبيعته ناقد. ولكن هؤلاء الشّعراء ـ النّقّاد واجهوا مشكلة، فلا إبداع حقيقيًّا وصادقًا يستحقّ كلّ هذا العدد من النّقاد، ولا كثافة الأعمال الإبداعيّة تسمح بتقاسمها، ولهذا كنّا نلاحظ إنّ الأقلام في الصّفحات الثّقافيّة لمختلف الصّحف والمجلاّت تكتب عن مسرحيّة واحدة طيلة أسبوع، بتشابه غريب في الأفكار والصّياغة.
وهكذا تحوّل هؤلاء المبدعون من موقع الفعل إلى موقع ردّة الفعل. وإذا مرّت فترة ركود في المسرح أو في المعارض والنّدوات، وجد هؤلاء الشّعراء ـ النّقّاد أنفسهم مرّة أخرى أمام الفراغ. فيتكاسلون ويقولون: ليس هناك شيء يستحقّ الكتابة عنه.
ولعلّنا نجد التّأكيد على هذا الكلام في الصّفحات الثّقافيّة نفسها، إذ كان يكفي أن يظهر شاعر كبير كشوقي أبي شقرا على المنبر ليطرح سؤالاً عن الشّعر، حتّى تتحرّك الحياة الرّاكدة، ويجد النّقّاد في السّؤال مناسبة لكتابات وردود وتعقيبات.
ولعلّ الأستاذ أبي شقرا، بظهوره في هذا الوقت بالذّات إلى العلن، يريد أن يثبت إنّ السّلام لا يعطّل الكلام، لأنّ الشّاعر في حرب داخليّة مستمرّة ولا سلام في عالمه.
الشّعراء في حالة كسل، وإذا هبّ فيهم نشاط فلاقتناص اللّحظة الهاربة، ولكتابة تعليق عابر وآنيّ، وكأنّ في الأمر محاولة للبقاء على السّاحة الثّقافيّة.
وغدًا، حين تذبل أوراق الصّحف، ويغيّر الغبار رائحتها، سنبحث عن كتاب شعر يطرد غربة اللّحظة، ونسأل أين دواوين الشّعراء، وسنعتب عليهم على قدر محبّتنا لما كان يمكن أن يكتبوه ولم يفعلوا.
أيّها الشّاعر، متى تنتهي إجازتك الأريستوقراطيّة، وتكتب؟
شرطيّو المدينة صاروا أكثر من شعرائها، وأنت لا تكتب.
الشرفات تقفل، والبحر يردم، وأنت لا تكتب.
في الصّباح حفلة إعدام، وفي اللّيل صالون أدبيّ، وأنت لا تكتب.
الذّاكرة تمحوها أصابع الدّيناميت، وأنت لا تكتب.
أصوات الأسرى والمعتقلين والمهزومين والمتسوّلين تضجّ في رأسك، فتسكتها بضجيج مباراة رياضيّة... ولا تكتب.
أيّها الشّاعر، أكتب الآن.
الأطفال يتعلّمون القراءة، ويريدون حكاية.
أكتب، ولا تقل إنّك عاجز عن صنع الثّورة.
أكتب عن التّناقضات والأحلام، عن اليأس والخوف والبطولات المنكسرة.
أكتب عن النّاس الّذين تقول إنّك تحبّهم، عن قصصهم الخجولة وحكاياتهم الدّافئة.
أكتب لئلاّ ننسى.
أكتب قبل أن تنسى.
ميّ م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة "النّهار" الخميس 14 تمّوز 1994  

اللّحاق بالألوان أو التّعاسة لدى أدباء في سيرتهم - جريدة "النّهار" الجمعة 29 تمّوز 1994



اللّحاق بالألوان أو التّعاسة لدى أدباء في سيرتهم
لا أدّعي إنّي قرأت كلّ ما كتب عند العرب في أدب السّيرة، ولكن ما قرأته ـ وهو ليس بقليل ـ وضعني أمام ملاحظة بدت لي تعسّفيّة وظالمة أوّل الأمر، ثمّ رحت أدرسها علّني أجد لها مخرجًا، أو علّني أجد ما يبرّرها أو يخفّف من قساوتها، ففشلت.
والملاحظة أنّ الأديبات، في شكل عام، عشن طفولة مرهفة، وما ثورتهنّ وميلهنّ إلى الأدب إلاّ وسيلة للتّحرّر من سلطة العائلة الّتي يمثّلها الرّجل إجمالاً (الوالد أو العمّ أو الأخ...) وهنّ لم يعرفن المعاناة المادّيّة أو الفقر، كما لم يسعين إلى العمل بدافع الحاجة أو لقمة العيش، وكأنّهنّ يعرفن، في قرارة نفوسهنّ، إنّ السّلطة الّتي يهربن منها ستقوم بتأمين هذه الحاجة ما دمن في عائلاتهنّ، وإذا انتقلن إلى البيت الزّوجيّ، قام الزّوج بتحمّل هذه المسؤوليّة.
لن يتّسع المجال هنا، طبعًا، للمقارنة بين الأوضاع الاجتماعيّة للأدباء والأديبات، ولكن نظرة سريعة تظهر لنا إنّ الرّجال هم من عائلات فقيرة أو متوسّطة الحال في أفضل الظّروف، فمن منّا لا يعرف كيف كانت طفولة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وخليل حاوي وبدر شاكر السّياب وطه حسين. ومن منّا لا يعرف، في المقابل، حياة اللاّحرمان المادّيّ الّتي عاشتها ميّ زيادة، وإميلي نصرالله وكوليت خوري وسعاد الصّبّاح وإلهام منصور.
سيقول البعض إنّ هذا الكلام يحمل الكثير من التّجنّي والعدائيّة. وقد يكون الأمر كذلك لو كنت رجلاً، أو لو كان كلامي غير مثبت بالبراهين المكتوبة لأديبات وأدباء في سير حياتهم. وأشير هنا إلى إنّي اكتفيت بشواهد في سيرتهم الذّاتيّة. وعندما يكتب الإنسان قصّة حياته، فهذا يعني أنّه ضمّنها من الحقائق والعبر ما كان جديرًا بالتّسجيل والتّأريخ. ولهذا يمكننا الاطمئنان إلى ذكر هذه الشّواهد دون خوف من معارضة أو تصحيح.
وكم يسرّني أن أعرف ـ إذا أمكن ـ إنّي أخطأت في قراءتي أو في فهمي لهذه السّير، أو أن يخبرني أحد عمّا لم أقرأه منها، وفيها إنّ الكتابة عند المرأة ليست ترفًا اجتماعيًا أو نوعًا متطوّرًا من الأشغال اليدويّة تختلف عن تلك الّتي كانت تفرضها العائلات الأريستوقراطيّة على بناتها.
تقول فدوى طوقان في كتابها "رحلة جبليّة، رحلة صعبة" إنّ الظّروف الحياتيّة لطفولتها لم تكن لتلبّي حاجاتها النّفسيّة، وتقول: "كما إنّ حاجاتي المادّيّة لم تعرف في تلك المرحلة الرّضى والارتياح". ولكن هذه الحاجات المادّيّة تظهر كماليّة أكثر ممّا هي حيويّة كالحصول على ثياب جديدة غير مخيطة بيد الأمّ "الّتي لم تكن تتقن هذه الصّنعة"، أو كالحصول على قرطين ذهبيّين كاللّذين تعلّقهما ابنة عمّها "شهيرة"، و"كم تمنّيت لنفسي مثل هذين القرطين البرّاقين الرّاقصين. ولكن، هيهات، فما كان أحد ليعنى بتلبية حاجاتي المادّيّة".
أمّا الطّعام فلا يبدو إنّ فدوى طوقان حرمت أنواعه المختلفة في طفولتها، حين فاجأها أخوها تراقب النّحل يحوم حول "سدر الكنافة"، أنّبها وقال لها: "أخبري أمّك وهي تحقّق لك رغبتك. هل ترغبين في تناولها؟" وهنا توضح فدوى طوقان إنّها لم تكن شرهة لأنّ "الطّعام على مختلف أصنافه هو آخر ما كنت أفكّر فيه، وذلك لوفرته في البيت الّذي كان يعجّ دائمًا بالولائم". وتتابع: "كنت أتلهّف للحصول على شيء غير الطّعام. حلق ذهبيّ، سوار أو فستان جميل ثمين أو دمية من دمى المصانع".
وهكذا نلاحظ إنّ هذا "الحرمان" المادّيّ الّذي ذكرته الأديبة لم يكن إلاّ نقصًا في الكماليّات، كان من الطّبيعي أن يحرم منها الكثيرون في زمن الحروب والحصار.
أمّا الدّراسة فلم تحرم منها فدوى طوقان لظروف مادّيّة قاسية بل كان منعها، من خبر وصل إلى أخيها عن ملاحقة أحد الشّبّان لها في طريقها إلى المدرسة. وهذا السّبب ينسجم كلّيًا مع البيئة الإجتماعيّة الّتي عاشت فيها فدوى طوقان. وقد تتوضّح الصّورة إذا عرفنا إنّ شقيقاتها لم يحرمن الدّراسة مثلها.
ولن ننسى الإشارة إلى وجود الخدم عند آل طوقان النّابلسيّين وذكرت الأديبة "صبيّة كانت تعمل في المنزل اسمها "السّمرة"". وفي مكان آخر تقول عن أسرتها: "كانت أسرة كبيرة العدد تزيد على عشرين إنسانًا عدا النّساء المساعدات".
كما لن ننسى تأكيدها إنّ بيتها "من بيوت الإقطاع القديمة" إضافة إلى أخبار رحلتها إلى لندن والإقامة فيها للدّراسة والسّياحة، دون عمل، والإكتفاء بمصروف تؤمّنه العائلة.
وفي الأدب الفلسطيني أيضًا، وفي سيرة حياته كما يرويها في كتابه "البئر الأولى"، تظهر طفولة جبرا ابراهيم جبرا مختلفة تمامًا. حين لم تعرف فدوى طوقان "السّقّاء" إلاّ عند خالتها، لوجود بئر، كان على عائلة جبرا أن تشتري المياه من "السّقّاء" و"كان من شخصيّات بيت لحم التّقليديّة في تلك الآونة".
وحين كانت فدوى طوقان تشعر بالدّفء في فراشها (رحلة جبليّة. صفحة 109) كان جبرا ابراهيم جبرا يمشي حافيًا على البلاط البارد الّذي يلسع الأقدام. والأقدام دائمًا عارية، في المدرسة، وعلى الطّريق، لتعذّر شراء الأحذية. وكان شراء الحليب في هذه العائلة حدثًا مهمًّا لأنّ أمّه "تقول لا قدرة لها على شراء الحليب إلاّ في المناسبات وعند الضّرورات". وحين يصف الطّفل طعامه من قطعة خبز وزرّ بندورة، يسمّيه "غداء بائسًا".
أمّا الحصول على دفتر وقلم، في أوّل سنة دراسيّة، فتطلّب رجاء وتوسّلاً. ولولا الجدّة الحنون لما استطاع الطّفل جبرا الحصول على "نصف قرش مدوّر مثقوب" لشرائهما.
وتتوالى مشاهد الفقر والحاجة أمام عينيّ هذا الطّفل، ولعلّ أشدّها إيلامًا مشهد والده وهو يقتطع قطعتين من إطارة مطّاطيّة ويجعلهما حذاءين يربطهما إلى كاحليه بالحبل، ولمّا لم يفهم الصّبيّ لماذا هذا العناء، ولماذا لا يشتري والده حذاء، أجابه الوالد المزهوّ بما صنع: "عندما تكبر، تفهم".
ومن المشاهد المؤلمة، مشهد أمّه المريضة تساوم الطّبيب الرّوميّ على تعريفة عيادتها، ومشهد جرف الثّلج عن سطح البيت، وصراع الوالد لإزالة خطر الانهيار عن السّقف.
ولعلّ المشهد الّذي لا ينساه قارئ الكتاب ـ فكيف ينساه من عاشه ـ هو مشهد هديّة عيد الميلاد. تلقّى الطّفل جبرا زوجًا من الأحذية من نوع  "البوتين" هديّة من إحدى المؤسّسات الإنسانيّة، وإذا بالوالدين يتّفقان على بيع الحذاء لتأمين حاجات العائلة، وعوّضت الوالدة الصّبيّ المحروم بحذاء مرقّع من حارة اليهود.
ويقول جبرا: "لسنوات بعد ذلك، كلّما جاء عيد الميلاد، كنت أتذكّر ذلك البوتين الّذي لم ألبسه، ثمّ لا ألبث أن أنساه في غمرة أفراح العيد ـ أو في غمرة الأشجان الّتي كان العيد في بعض السّنين يجيء بها قاسيًا، ودون رحمة".
وفي السّيرة الذّاتيّة لميشال عاصي "من أيّام الضّوء والظّلام" نقرأ مجموعة من العناوين، تختصر طفولته المحرومة: "تقشّف وعوز"، "أزمة حذاء"، أزمة ثياب"، "كتب مستعملة وورق كدش".
وتحت عنوان "قصّة التّفّاحة وآلام آدم"، يروي الكاتب كيف إنّه لم يعرف طعم التّفّاح إلاّ "في حوالي العاشرة من العمر أو أكثر"، والأمر أغراه بسرقة تفّاحة من أحد المحلاّت، وسوء حظّه أوقعه بين يدي صاحب المحلّ الّذي أطبق عليه باللّكم والضّرب.
ومن يتابع هذه السّيرة يعرف معاناة ميشال عاصي في الجمع بين الدّراسة والعمل لتأمين حاجيّات العائلة، واضطراره إلى التّوقّف عن الدّراسة سنتين كي يعمل على سيّارة أجرة.
في المقابل، تختصر ليلى عسيران وضعها الإجتماعيّ في "شرائط ملوّنة من حياتي" بهذه العبارة: "عائلتنا الّتي توصف بأنّها "مهمّة" في البلاد". وفي أحضان هذه العائلة المهمّة، كبرت الفتاة، وحيدة والديها، في جوّ من الرّفاهية: خدم ودمى ومدرسة محترمة وسفر ومصيف...، ولأنّها لم تعرف معنى العوز، كان الفقر مغامرة تستحقّ التّوجّه إليها والكتابة عنها، وكأنّها عالم جديد وجذّاب، دون أن ننسى إنّ الفقراء الّذين ذكرتهم في كتابها ثوريّون غالبًا، أبطال، مناضلون، وغلبت هالة البطولة عليهم فصار فقرهم مقبولاً بل منسجمًا مع بطولاتهم.
يقول أحد الشّعراء: إنّ الرّجل يريد الوصول إلى مركز إجتماعيّ من طريق الأدب، والمرأة تريد الوصول إلى الأدب من طريق المركز الإجتماعيّ، أو الأقلّ، بعد استقرار الوضع الإجتماعيّ.
أيمكن أن يفسّر هذا القول السّبب الّذي يجعل إنتاج الأدباء الرّجال عامّة أكثر غزارة وتواصلاً، حين إنّ مزاجيّة المرأة واطمئنانها إلى موقعها الأجتماعيّ الموروث يجعلانها قليلة الإنتاج الأدبيّ ـ في شكل عامّ أيضًا ـ ميّالة إلى إقامة التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة؟
ويهمّني أن أذكر هنا إن لا أحد يقدر على تحديد مسار طفولته، وإنّ هذه المقارنة لا تهدف إلى تحميل "ذنب" الغنى والتّرف لأحد، كما لا تهدف إلى المؤاساة المجّانيّة لطفولة محرومة. ولكن ملاحظة هذا الفارق الإجتماعيّ ما كانت لتمرّ دون تسجيل.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الجمعة 29 تمّوز 1994
   

       

السّيّدة، بلى، ستقف لنا وليلة الخرائب لن تتكرّر - جريدة "النّهار" الخميس 4 آب 1994



السّيّدة، بلى، ستقف لنا وليلة الخرائب لن تتكرّر
لا في بعلبكّ، ولا في الأرز، ولا في جبيل، ولا في كازينو لبنان، حيث كانت الحفلات تقام، ولا حتّى في قلعة بيت مري ـ كما روّج البعض ـ بل في بيروت، وفوق أنقاض الذّاكرة والذّكريات.
على الأرض الّتي حضنت أشلاء الأبنية القديمة، ستقف السّيّدة وتغنّي.
على الأرض الّتي نشهد على خرابها، ولا نثق بأنّنا سنشاهد بناءها. ستقف السّيّدة لتغنّي.
نعم، ستغنّي السّيّدة... وسيدفع النّاس أموالهم لسماعها. وستمتلئ الصّناديق. وستفرغ الصّناديق. وسترتفع المدينة الجديدة لتستقبل ناسًا آخرين، قد لا يحبّون الاستماع إلى صوت السّيّدة. ولكن هذا بحث آخر.
ستغنّي السّيّدة... وقد لا يتسّع المكان للسّيّارات الآتية من كلّ مكان. لا بأس، سيفجّرون بناء مرهقًا، ويحوّلون أرضه إلى موقف للسّيّارات، تعود أمواله إلى مشاريع إعادة الإعمار.
ستغنّي السّيّدة، ويلتقي جناحا البلد المتباعدين، ويفرح أصحاب "الأسهم" النّاريّة، ويستغلّون المناسبة، لأنّ ليلة العيد قد لا تتكرّر.
ستغنّي السّيّدة، وقد يعترض الكثيرون، ويقرّرون الامتناع عن حضور الحفلة. ولكنّهم سيكونون الخاسرين الوحيدين. فالحفلة قائمة، وحركة بيع البطاقات ناشطة، ولن يعكّر المهرجان امتناع مجموعة صغيرة، عن المساهمة في هذا الواجب الوطنيّ.
ستغنّي السّيّدة وهي واقفة على البقيّة المردومة من تاريخ مدينتنا الّتي نعرفها، على الحجارة الّتي لن تنطق تلك اللّيلة لأنّ المدينة ال"راجعون" إليها لن تكون لنا.
ستغنّي السّيّدة في وسط العاصمة؟
آه! ما أصعب أن تقسو على من تحبّ، وما أقسى أن تجد صعوبة في فهم ما يجري.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الخميس 4 آب 1994

أحلم بالمساواة بالزّمن - ميّ م. الرّيحاني - جريدة "النّهار" الجمعة 1 تمّوز 1994



أحلم بالمساواة بالزّمن 

"مهما تشاءم المرء أو تفاءل في شأن ما يكتب، فإنّ الكلمة تأتي انبثاقًا من الأعماق. كانبثاق الماء من الصّخر، لا بدّ أن يشق له مجراه".
(جبرا ابراهيم جبرا ـ معايشة النّمرة)
"هناك أيضًا عبقريّة قراءة. لا تنس".
(أنسي الحاج ـ خواتم).
لم أكن أعلم إنّ إثبات الوجود في الوسط الثّقافيّ يحتاج إلى صورة شمسيّة، وبطاقة هويّة، وشهادة من مختار المحلّة مع توقيع شاهدين، وسجلّ عدلي، وشهادة طبّيّة، ووثيقة معموديّة، ربّما، كرمى لعين الطّائفة.
كنت أعتقد أنّه يكفي أن أفكّر لأكون موجودة.
كنت أعتقد أنّه يكفي أن أقرأ وأكتب ـ في محيط عربيّ تسيطر عليه الأميّة ـ لأكون موجودة.
ولكن، يبدو إنّ الأمر "رسميّ" أكثر من ذلك، ولا أستطيع أن أجبر الآخرين على الإعتراف بوجودي إلاّ إذا قدّمت الوثائق المطلوبة.
كنت، قبل اليوم، أؤمن إنّ "التّربة" الثّقافيّة ترحّب بأي زهرة تنبت فيها، لأنّ ذلك دليل على خصب تلك التّربة وحيويّتها. عزّز إيماني هذا كلام قرأته لعصام محفوظ تحت عنوان "الشّهيد إبن البلد": إنّني أحيّي كلّ من ينتفض أيضًا بالحياة في زمن الموت"(1).
ولكنّي كنت مخطئة ولم يكفّ نبض الحياة فيّ ليؤكّد للنّاس إنّني موجودة، فرسموا علامة استفهام كبيرة أمام إسمي.
كنت أثق قبل اليوم، إنّ ما تعلّمته وقرأته وحفظته خلال سنوات سيكون لي خير زاد في رحلة الثّقافة الممتعة. وستكون ذاكرتي أفضل دليل لي في تعرّجات هذا العالم المجهول ومتاهاته. وزاد من ثقتي هذه كلام لعصام محفوظ أيضًا، تحت عنوان: "ذاكرتك بيضاء، أتريدين إفراغ الحياة": "لا شيء يغيب عن الذّاكرة، فكيف تصدّقين إنّك تستطيعين تفريغها. أتريدين تفريغ الحياة؟"(2).
ولكن ما تحمله ذاكرتي لم يكف أيضًا لإثبات حقيقة وجودي... وازداد شعوري بالغربة.
كنت أعتقد، قبل اليوم، إنّ الأسئلة الّتي أطرحها حول الوطن والحياة والحبّ، والشّعر والموت، ومحاولة الإجابة عنها تكفي لتقول إنّي أفكّر، وتاليًا أنا موجودة. وجاء كلام عصام محفوظ ليؤكّد، مرّة أخرى، اعتقادي:
"- لكن أي دور أستطيعه لك؟
-         أي دور يساهم في إنقاذ وطني؟
-         أن تحمل بندقيّتك وتذهب إلى الجنوب لتحارب العدو الّذي استغلّ الجميع ضدّ الجميع.
-         لا أستطيع حمل السّلاح، قلت. إنّي مثقّف. أريد دورًا يتناسب مع إمكاناتي.
-         لكنّك تقوم بهذا الدّور.
-         كيف؟
-         مجرّد السؤال عمّا جرى ويجري في هذا الوطن"(3).
ولكن الوسط الثّقافي لم يقبل أسئلتي ومحاولات الأجوبة، ولم يرض باحتجاجي بكلمة عصام محفوظ. ورفض الإعتراف بي.
وعندما قرأت لعصام محفوظ تحت عنوان: "يهمّنا أن لا ندفن تحت أنقاض الأمبراطوريّة" هذه العبارة: "لذلك لم أكن أبالغ عندما قلت بأنّنا، ربّما، على عتبة ألف سنة جديدة من الانحطاط"(4)، أردت أن أقول له: لا تيأس، نحن هنا. نقرأ ونفهم ونثق بأنّ فينا كلّ حقّ وخير وجمال، ونقول معك ما قلته لنصري صايغ: "الإنسان عبر فنّانيه الملتزمين قضيّته، كان يعرف دومًا كيف يلتفّ على المستحيل، وغالبًا كان يعرف كيف ينجح"(5).
ولكن الشّكوك الّتي حامت حول هويّتي منعتني عن الكلام... فسكتت.
وحين دعا اتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين إلى ندوة تحت عنوان: "المقاومة الوطنيّة اللّبنانيّة وثقافتنا العربيّة المعاصرة"، سأل عصام محفوظ: "هل يمكن إيجاد تشكيلات ثقافيّة جديدة متنقّلة تقيم ندوات مفتوحة في مختلف السّاحات الشّعبيّة، في كلّ المناطق مع أوسع شرحات قابلة للحوار"(6). وأردت يومذاك أن أجيبه مطمئنة: "نعم، هذه التّشكيلات الجديدة موجودة وحاضرة، وتنتظر السّماح لها بالعمل لأنّها تؤمن معك أنّ "الأمل معقود على الثّقافة بالذّات كنقطة لقاء جامعة" وهي، أي الثّقافة أكثر عوامل التّوحيد قوّة"(7).
ولكنّي، ما إن رفعت صوتي، حوصرت بالأسئلة عن هويّتي وانتمائي، ففوجئت وخجلت كمن ارتكب إثمًا... وسكتت.
أستاذ زاهي (وهبي)
إنّ أيّ شكّ، ولو عابرًا،  في وجود طاقات فكريّة وإبداعيّة عند شعبنا هو شكّ في قدرة هذه الأمّة على تخطّي حالة الجمود الّتي تكبّلها، وإلاّ فما نفع الكتابة، ولماذا الشّعر والمسرح والفنّ والفكر إذا كان من تتوجّهون إليه جثّة هامدة لا حياة فيها؟
إذا قالت إسرائيل عنّا إنّنا شعب لا يقرأ، فلا يعني هذا أن نصدّق، ونتعامل بعضنا مع بعضنا بموجب هذه المقولة.
وإذا قالوا عنّا أنّنا شعب متخلّف فقير، فلا يعني هذا أن نتاجر بتخلّفنا وفقرنا ونمدّ يدنا للتّسوّل.
وإذا شككوا في هويّتنا فلا يعني هذا أنّنا غير موجودين، بل يعني أنّ الآخرين لا يعرفون قدراتنا وما فينا من قوى فاعلة. وما علينا سوى أن نثبت لهم خطأ شكوكهم.
أمّا قضيّة التّأنيث والتّذكير الّتي أشارت إليها ليلى سليمان(8) فخطيرة وجارحة. هل يمكن أن يكون الحقّ معها؟ هل هم يستغربون وجودي لأنّه وجود أنثويّ فقط؟ ولو كان التّوقيع لرجل، ولو مجهولاً، أما كان أثار "الشّكّ والرّيبة"؟ وليلى سليمان نفسها، على ما قيل لي، غير معروفة في الأوساط الثّقافيّة. فهل هذا يعني أنّها "مزيّفة"؟ وهل هذا يعني إنّني وليلى شخصيّتان وهميّتان اخترعهما زاهي وهبي لإثارة "الحياة الرّاكدة" كما يظنّ البعض؟".
قد يكفيك يا أستاذ زاهي أنّك تعرف، وتعرف أنّني صرت أعرف، إنّ الحياة في الأوساط الثّقافيّة "ليست مكسبًا بل مشقّة" و"ليست "وجاهة" بل دعوة إلى العمل". ونعرف كلانا، إنّ الّذين يشككون الآن ووجهوا في بدء حياتهم "الثّقافيّة" بشكوك وأسئلة وتحدّيات.
وإلى هؤلاء المشكّكين أقول: أسماؤكم هي الّتي رافقتني مذ تعلّمت أن أحمل كتابًا أو صحيفة للمطالعة، وفكركم هو الّذي أرشدني مذ حملت القلم وكتبت، وثقافتكم هي الّتي فتحت لي باب الثّقافة اللّبنانيّة والعربيّة والعالميّة. وأنا لا أهدف، عندما الآحظ وأكتب، إلى الإساءة إلى صاحب الإسم، بقدر ما أعتقده إساءة إلى الثّقافة نفسها.
وكم هو مؤلم أن أعرف إنّ الكتابة إلى زاهي وهبي تعني ـ تلقائيًّا ودون معرفة مسبقة ـ إنّ فلانًا أو فلانًا من الشّعراء والنّقّاد سيسجّلني في خانة أعدائة.
ولكن يكفيني أنّني أحلم بزمن المساواة، أم هي أحلام مبالغ فيها أن يتمنّى الواحد من جيلنا أن يقول عن نفسه ما قاله الأستاذ عصام محفوظ في مقدّمة كتابه "الموت الأوّل": "والآن، بعد مرور خمس عشرة سنة، أتطلّع ورائي وحولي بحبّ لأجد كم استطاع صوتنا أن يصل بعيدًا".
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الجمعة 1 تمّوز 1994
1-              "النّهار" – الأحد 31/ 3/ 1985.
2-              "النّهار" – الأحد 23/ 9/ 1984.
3-              "النّهار" – الأحد 20/ 1/ 1985.
4-              "النّهار" – السّبت 18/ 12/ 1993.
5-              "النّهار" – السّبت 26/ 2/ 1994.
6-              "النّهار" – الإثنين 18/ 10/ 1985.
7-              "النّهار" – الأحد 12/ 5/ 1985.
8-              "النّهار" – الجمعة 17/ 6/ 1994.  
      




الأحد، 22 أبريل 2018

"حبيب مشلب" آخر عمالقة الطفولة

الراحلون سليم وإميلي وحبيب
ومعهم جورج أطال الله في عمره


هل كنت أنتظر رحيل هذا الرجل كي أحكي عن ستة رجال عمالقة كأعمدة بعلبك أحاطوا بطفولتي: خالي "سليم" وخالي "ميلاد مشلب" و"فؤاد ميلان" زوج "حنينة" خالة والدتي و"عبده كرم" زوج عمّتي "روزالي" وابنا عمّ والدتي "نجيب" و"حيبب مشلب"؟
والدي ممشوق القامة، لكنّه والدي، أعمامي ليسوا قصارًا، لكنْ في هؤلاء الستّة طول ممزوج عند بعضهم بضخامة جعلتني أنا الطفلة بكر والديها والمصابة بشلل الأطفال - أي المحاطة باهتمام خاصّ -، أشعر حين يحضر أحدهم بأنّني لن أبقى على الأرض، بل سأطير بعد قليل فوق ساعدين مفتولين ولن أقع، ولن تعيقني رِجل أو تؤخّرني دعسة ناقصة.
لم يكن يعنيني عهدذاك ماذا يفعلون في الحياة، أو كيف هي حياتهم مع زوجاتهم وأولادهم، أو كيف هي طباعهم وتصرّفاتهم مع سواي. فهم بالنسبة إليّ رجال كبار: ضخمة أجسادهم لا تنحني إلّا لي، صلبة قلوبهم لا تلين إلّا لتحنو على ضعفي، عنيدة أفكارهم لا تتراجع عن مواقفها إلّا أمام أوجاعي.
في تلك المرحلة التي امتدت من الطفولة إلى الصبا، لم أعِ ما كان يحدث، ولو سئلت يومها عمّا أراه في هؤلاء وغيرهم من أهلي وأقربائي والجيران والأصدقاء فما كنت لأعرف بماذا أجيب، إذ كنت مشغولة إلى آخر نبض في عروقي بهاجس المشي والخوف من إعاقة تحرم خطواتي معانقةَ الدروب والطرقات. ثمّ أتت مرحلة العمل والبحث عن الحبّ، فابتعدت عن غير قصد عمّن أحاطوا بسرير الوجع، كمن يهرب من ذكريات تجرح ولا فائدة من مواجهتها لأنّي لن أعرف كيف أداويها، أو كم يعترف بعجزه عن مشاهدة انطفائهم الذي لا يشبه ما كانوا عليه.
وفي تلك المرحلة أيضًا، كان أترابي يلعبون ويتّسخون بالتراب، في حين كان أهلهم عُوّادي وزائريّ، يتحدّثون في شؤون الكبار وشجون الحياة، ما علّمني الهرب عبر شبابيك الخيال إلى عوالم أخرى فلا أسمع الأحاديث ولا أنخرط في الحوار.
وكبرتُ، وتقدّم هؤلاء الستّة في العمر وتراجعوا في العافية، وحين مرضوا واحدًا بعد آخر، خفت من مواجهة ضعفهم فهربت إلى طفولتي لأستعيدهم عمالقة يحملونني ويطيرون بي فوق سواعد ما عادت تساعدهم على قضاء أبسط حاجتهم.
"نجيب" احدودب ظهره وانحنى كعلامة استفهام تبحث في الأرض عن نقطتها.
"عبده" ضربه المرض في رأسه فتألّم ومات.
"سليم" و"ميلاد" و"فؤاد" و"حبيب" ذابوا، على اختلاف أعمارهم، في حضن أسرّتهم لأشهر وسنوات، فاضمحلّت فيهم العضلات، ونحلت الأجساد، وذابت القوّة، وبهتت العافية، فعادوا أطفالًا مستسلمين لا حياة إلّا في عيونهم المتلهّفة لوجه أليف وابتساماتهم الصادقة لكلّ من حولهم.
الآن وقد رحل "حبيب" آخر عمالقة الطفولة من الأقرباء، وعلى الرغم من معاناة كلّ منهم، أنظر إلى الحبّ الذي وزّعوه، كلّ بحسب معرفته وقدرته، وقد نلت منه طفلة حصّة وفيرة، وإلى الحبّ الذي أحيطوا به من زوجاتهم وأولادهم وكنّاتهم وأصهرتهم وأحفادهم، فتعود إليّ طمأنينة البدايات، ويخفّ الألم، وتبرأ جراح الروح، وتندمل ندوب الجسد، وأعود لأرتفع عاليًا على سواعد استعادت بالموت قدرتها على الرفرفة كأجنحة ملائكة.

 



الاثنين، 16 أبريل 2018

إلهة المدن البحريّة (النصّ الثالث من كتابي رسائل العبور - 2005)

Monet


      أنا إلهة المدن البحريّة، أتنقّل منذ ملايين السنين بين المرافئ الحزينة، ولا منزل لي غير الضباب.
     فساتيني أشرعة بيضاء تسكن فيها الريح، وزينة شعري أصداف يقدّمها لي أولاد مسكونون بهدير الأعماق، وأيقونتي مرساة أهدانيها أوّل بحّار رسا عند مرفأي.
    قدماي الحافيتان تغتسلان بمياه متناثرة عن أجساد البحّارة فوق أرصفة المرافئ، وذراعاي العاريتان تمتدّان وسادة لكلّ الغرباء.
    أزواجي رجال من ملح تنثرهم الرياح فوق البحار السبعة، وأحشائي لم تخل يومًا من أطفال لا أسماء لهم ولا آباء.
    أنا ربّة المنازل المنصوبة عند مرافئ الانتظار، أقف عند شواطئ الرحيل، والهواء يمدّ خصلات شعري الأسود شباكًا نحو أفق فارغ إلاّ من الاحتمال. أقف طويلاً والأفق يمتدّ بعيدًا، فنؤلّف معًا صليبًا تُعلّق فوقه آمال اللقاء المطعونة.
     أمشي على رمال لا تحفظ آثاري، وأقفز فوق صخور لا تشعر بمروري.
    وتحت مطر يحمل رائحة الغائبين، وشمس جامدة كزمن الحزن، وليل منخور مشوّه، أنتظر سفنًا تعود من غياب دام أعوامًا ولم تتعب من السفر، سفنًا ذات أشرعة كفراشات تعشق المغامرة، ورجال رائحتهم بحر عميق وعرقهم ملح عتيق.
    أغتسل بالرمل الذي فتّته العشق،
    بالزبد الذي ولّده الجنون،
    بالرياح الهوجاء،
    بالضوء المجروح،
    بدموع الرجال،
    بالمياه المتناثرة عن أجساد بحّارة عراة لا يملكون إلاّ الرغبة في السفر والحبّ والكلام.
   أنتظر رجالاً لن يبقوا طويلاً، ولن أكون لهم طويلاً، يزرعون حكاياتهم على جسدي، وينثرون أحلامهم على صدري، ويتركون أولادهم في حضني ويرحلون مزوّدين حكاية بلا كلمات. وحين ترتفع يدي ملوّحة لهم تلاحقها نظراتهم كما تلاحق عيون الأطفال الطائرات الورقيّة الملوّنة، ولا ينتبهون إلى السفينة التي ولّدها رحم الأفق من رحم المغامرة، وعليها رجال يبحثون عن امرأة تنتظر حكايات جديدة وأحلامًا مجنونة وأولادًا لا يعرفون عن آبائهم إلاّ أنّهم رجال من ملح ذاب في البحر.
    أنا سيّدة الشواطئ.
    لي أجنحة النوارس، والخطوات البلا اقدام، وهدير اللجّة.
    عمري ملايين السنين ولم أمت لأنّني أعشق الرحيل.
    ولم أتعب لأنّني أنتظر الحكاية.
    ولم أضجر لأنّني ابنة الحلم.
    أنا ابنة المدن الغافية على فراش الهدير، والمبلّلة برذاذ الموج، والمغتسلة برغوة الرغبة.
   لا أجيد الكلام لكنّني أحفظ حكايات غريبة رواها رجال غرباء بلغات غريبة. ولا أحفظ الأسماء لكنّني أذكر وجوه أصحابها في حنين وبكاء. ولا أنظر في العيون لكنّني أعرف ما الذي يختبئ خلفها. ولا أنتظر واحدًا أحدًا لكنّني أفرح عند وصول العابرين. أتبع نداء لا يسمعه سواي، وألحق بأصداء تتردّد خلف ستائر المدى.
    لا أملك شيئًا وكلّ الأشياء ملك لي. حين أغمض عينيّ أحصل على ما أريد. وعندما أفتح يدي وأبسط أصابعي في وجه الريح، يتطاير العالم بكلّ ما فيه كحبيبات رمل في هواء المغيب. ولا يبقى شيء. ولا آسف على شيء. ولا أشعر بالحزن على شيء يرحل بل بالحنين لكلّ ما سوف يأتي.
أنا الغريبة الصامتة المنتظرة العابرة.
    أرقص على إيقاع الريح التي لم تهبّ بعد، وأصغي إلى أصوات رجال لم يصلوا بعد، وأتنشّق روائح العشق من أجساد لم تمارس الحبّ بعد، وأبكي على خيبات لم أسمع حكاياتها بعد.
   أعيش القَبْل والبعد، وأقيم في الدهشة حين أشهد تكوّن الأشياء، وأشكر السماء التي جعلتني أمينة على هبوب الريح، وتساقط المطر، وبكاء الرجال، ورغبة الجسد، ورحيل المراكب، وخروج الأطفال من رحم المياه ليلعبوا إلى جانب مياه أنجبت آباءهم.
    لا أغفو إلى جانب رجل، بل أرحل حين يغرق في بحر النوم بعدما تعب من البحر والحبّ والكلام.
    ولا أعطي ثديي لطفل، بل أرحل حين يطلق صرخته الأولى القويّة الشبيهة بغضب الموج. وأمضي إلى مرفأ جديد. رحمي ينزف دمًا بلون المرجان، وصدري يقطر حليبًا يتحوّل لآلئ.
   لا أنظر إلى الوراء ولا أصير عمود ملح بل أتبع خطوات رجال من ملح خرجوا من البحر وإليه يعودون.
   أنا المرأة التي أغمضت عينيها ورأت...
   لابسة الشراع الأبيض.
   الواقفة عند الشواطئ كالمنارات العتيقة.
   السائرة نحو البحر الرماديّ، نحو الأفق النحيل.
   ومن الهواء الرطب تعود لتحضن جسمي الداكن رائحة أوّل بحّار نزل عند مرفأ انتظاري ثمّ رحل...

الجمعة، 6 أبريل 2018

أنظر حولي ويطير العصفور - 11 حزيران 1994



أنظر حولي ويطير العصفور
إنّه التّناقض ولا يهدأ
أستاذ زاهي (وهبي)
لو تعلم كم أتمنّى أن أكون مخطئة حين أعطي رأيًا أو أحكم على موقف، وكم أودّ لو في إمكاني أن أمنع نفسي عن سماع ما يقال في المسرح أو في المقهى، وكم أتمنّى لو أتقاضى عمّا أسمعه وأقرأه.
في مرّات كثيرة،  أقول لنفسي، لماذا "أحمل هذا السّلّم بالعرض، ولماذا "أحاسب" النّاس على كلّ كلمة يقولونها أو يكتبونها؟
ولكنّي أعود وأقول: يجب أن يعرف هؤلاء أنّنا ، نحن القرّاء، موجودون، ولنا ما نقوله أو لتحقّق فينا ما قاله نبيل خوري في "النّهار" (1):
"كاتب لا يؤثّر، وقارئ لا يتأثّر".
قرأت ما قاله لك أمين الباشا عن النّقد: "لم يوجد في لبنان حتّى الآن كتابة نقديّة".
وسألت.
هل أفضح سرًّا إذا قلت إنّ الّذين كانوا في مسرح بيروت ليلة الثّلثاء لم يحبّوا مسرحيّة سهام ناصر. كان التّصفيق خجولاً، وملأت القاعة همسات الاستغراب والتّساؤل ماذا يجري على المسرح، وساد جوّ من النّكات والأحاديث بين الحضور لتمرير الوقت، مع إنّ ليلة الثّلاثاء كانت للدّعوات، وكان بين الموجودين كثير من "الخاصّة": أدباء ونقّاد وأهل مسرح وثقافة... سمعتهم يعترضون ورأيتهم، بعد ذلك، ينتظرون سهام ناصر لتهنئتها، ثم يكتبون مهلّلين.
 هل يحقّ لي أن أذكر أسماء هؤلاء أو للمجالس حرمتها؟
ثم سألت.
ما بال النّقّاد يدورون في حلقة مفرغة؟ أنا أفهم النّقد تحليلاً، غوصًا في الأعماق، تشريحًا للإداء، للموسيقى، للدّيكور، للملابس، للّعبة المسرحيّة. ولكن الّذين كتبوا عن هذه المسرحيّة لم يتحدّثوا إلاّ عن موضوعها، إيّ عن شخصيّة ميديا، وهذا يعني أوّلاً أنّهم يكتشفون مع سهام ناصر نصّ جان أنوي، ويعني ذلك ثانيًا أنّهم عاجزون عن المقارنة بين النّصّ الأصلي والنّصّ المسرحيّ، فيلجأون إلى الحديث مع المخرجة علّها تزيد الغموض وتسدّ ثغرة عدم المعرفة.
لماذا يجد النّاقد نفسه مضطرًّا إلى محادثة صاحب العمل الإبداعيّ قبل الكتابة عن هذا العمل؟
في رأيي، أنّه يفعل ذلك إمّا لأنّ العمل الإبداعيّ غامض ولم يوصل الرّسالة جيّدًا. وإمّا لأنّ النّاقد لا يجرؤ على التّعبير عن فهمه الخاصّ لهذا العمل خشية أن يتعارض مع السّائد. ولعلّ هذه العادة في أخذ رأي صاحب العمل الإبداعيّ هي السّبب الّذي يجعل النّقد كلّه متشابهًا. وكأنّه صدى لصوت واحد. ليت النّقّاد يعرفون قصّة أبي نوّاس مع شارح قصيدته، وهذا يتعارض مع رأي أمين الباشا القائل: "ليس هناك بديل من الشّاعر ليحكي عن الشّعر".
أنا لست ناقدة، ولهذا قد يحقّ لي أن أقول: أحببت "الجيب السّرّيّ"، وأزعجني حضور مسرحيّة "ميديا ميديا". ولكن لا يحقّ للنّاقد أن يقول: أحببت أو كرهت. عليه أن يضيء لنا جوانب من العمل الإبداعيّ لم نرها وليس فقط لم نفهمها. كما عليه ان يقول لصاحب العمل أين أخطأ وأين أصاب، أو تكرّرت الأعمال وتكرّرت المشاهد، وتكرّرت الأخطاء، ودرنا حول أفكارنا كالدّراويش الّذين أعجبت بهم سهام ناصر فقلّدتهم، كما قلّدت مشهدًا من "مذكّرات أيّوب"، وآخر من أعمال عبد الحليم كركلاّ. ولهذا لم يجد النّقّاد ما يتحدّثون عنه سوى شخصيّة المرأة، ميديا. وكان يمكننا أن نكتفي بالقراءة عن هذا الموضوع.
ما ذنب المسرح إذا كان بعض النّقّاد لا يقرأون ولا يعرفون؟
التّلميذ الكسول هو الّذي يعيد صفّه، والتّاريخ لا يعيد نفسه إلاّ عند الشّعوب الّتي لا تحسن القراءة والفهم والاستنتاج، فلا تتعلّم من أخطائها وتكرّرها بغباء.
لا أعرف هل اتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين كسول، ولكنّه، في أيّ حال، ما زال يرتكب الأخطاء نفسها.
عام 1981، كتب جهاد فاضل في مجلّة "الحوادث"، تحت عنوان "اتّحاد الكتّاب إسم على غير مسمّى": "حان الوقت لأن نعود في لبنان إلى فكرة الحدود والإختصاصات". قد لا أوافق على الكثير من آراء جهاد فاضل في الأدب والشّعر. ولكنّي عندما أسمع الرّأي نفسه على لسان بول شاوول معلّقًا على وجود وليد غلميّة في الاتّحاد، فذلك يعني إنّ المشكلة في الاتّحاد الّذي وقع في التّناقض بين إسمه وعمله. على كلّ حال، لن يكون الدّكتور غلميّة أقلّ قدرة أدبيّة من السّيّدة ماجدة الرّومي الّتي أصبحت عضوًا في مجمع الحكمة العلميّ.
الكلام الآن للمطران جورج خضر: "... عجالتي هي عن الشّرق المسيحيّ الّذي كان بجملته أشدّ لينًا من الغرب تجاه المبتدعين. لن أتعرّض هنا لفلسفة المعرفة بين الكنيستين...
والحرّيّة تسمح بالتّعبير... دربنا إلى الحرّيّة الكبيرة والتّسامح الحقّ لا تزال شاقّة. متى تهدأ العاصفة وتهبّ رياح الرّوح  لنتعايش باختلاف وسلام في آن، لنطوي صفات الماضي المظلم ونبني الإنسان الشّريد".
"في منطقتنا هنا أخطا الأرثوذكسيّون وخطئوا عندما حالفوا السّلطة العثمانيّة لقمع الرّوم الكاثوليك النّاشئين في القرن الثّامن عشر إذ إنّ الثّمن الّذي يدفعه المؤمن الغاضب للسّلطة السّياسيّة باهظ حدًّا".
نشر هذا الكلام في جريدة "النّهار"، السّبت 21 أيّار 1994.
وفي شهر أيّار أيضًا، صدرت مجلّة "رعيّتي" عن أبرشيّة جبيل والبترون، وتحت عنوان: "كلمة الرّاعي"، كتب المطران جورج خضر، نفسه، ما يلي(2):
"الزّواج المختلط أي هذا المنعقد بين أرثوذكسيّ وغير أرثوذكسيّة مكروه. وقد سنّت الكنيسة في القرن الرّابع قوانين تحرمه بسبب الخطر العقائديّ على الطّرف الأرثوذكسيّ، ولكون وحدة العائلة تقوم على شركة الإيمان... وإذا كنّا نقبل مكرهين هذا الإرتباط، فمع احترامنا لعقيدة المرأة نصرّ على أن ينشأ أولادنا على الإيمان الأرثوذكسي".
وعرض المطران خضر تدبير الكنيسة الكاثوليكيّة لحصول الفتاة الكاثوليكيّة على الوثائق من كنيستها بعد أن تصرّح بأنّها باقية على المعتقد الكاثوليكي، يقول:
"من هنا، إنّ كهنة هذه الأبرشيّة غير مضطرّين إلى الاستحصال على وثائق صادرة من السّلطة الكاثوليكيّة. يمكنهم في ما يختصّ بالمعموديّة الإعتماد على شاهدين علمانيّين، وفي ما يختصّ بوثيقة إطلاق الحال الإعتماد على المختار أو الشّاهدين".
سبحان من يغيّر ولا يتغيّر.
خلال شهر واحد، تتغيّر اللّهجة، وتتبدّل الآراء. فالمطران خضر حين يتوجّه إلى أبناء رعيّته يشحنهم بالغضب والعداوة، ويردّ على التّعصّب بالتّعصّب. وحين يتوجّه إلى النّاس عامّة ينادي بالحرّيّة والتّسامح. وحين يتعلّق الأمر بالكاثوليك، يلجأ المطران إلى العلمانيّين، فيجعلهم شهودًا، ويثق بالدّولة وموظّفيها ويسمح بالإعتماد على المختار، مع إنّه يعلم ويقول إنّ "الثّمن الّذي يدفعه المؤمن الغاضب للسّلطة السّياسيّة باهظ جدًّا".
لماذا لا نسمح إذن بالزواج المدنيّ ونوفّر عن الطوائف هذا العبء ونعفي الرّؤساء الرّوحيّين من هذا التّناقض في مخاطبة العامّة والخاصّة؟
أستاذ زاهي
في سياق كلام واحد، تداخلت أمور الدّين والأدب والمسرح، ويصحّ لها كلّها عنوان واحد هو التّناقض. ما بالنا لا نعرف ماذا نريد، وكأنّ لا قدرة لنا على التّمييز بين الخطأ والصّواب. إنّها المتاهة الكبرى.
إنّه التّناقض سيّد المرحلة وشعارها.
عنوان كلّ كتابة وخاتمة لكلّ قول.
التّناقض عمومًا غنى وثروة.
يتعاكس الأسود مع الأبيض فيعطيانك مشهدًا جميلاً.
وفي بديع اللّغة، الطّباق والمقابلة زينة.
وفي الحياة، يتحارب الخير والشّرّ، وفي تواجههما يتركان لك الاختيار والانحياز، حرّيّة أن تكون إنسانًا.
وحين نتحاور ـ أنا وأنت ـ حول فكرة أو كلمة، وتختلف آراؤنا، يكون ذلك الاختلاف دافعًا لكتابة جديدة تحمل نكهة مختلفة.
ولكن، ماذا تقول حين يتناقض المرء مع نفسه، وحين تتعارض مواقفه وآراؤه، في رهان محسومة نتائجه، ومفادها: إطمئنّ، إنّ القارئ لا يقرأ؟
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" السّبت 11 حزيران 1994
1 ـ "النّهار"، السّبت 28 أيّار 1994.
2 ـ رعيّتي، تصدرها أبرشيّة جبيل والبترون، الأحد 8 أيّار 1994.

   







مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.