الاثنين، 17 أغسطس 2009

لكم أسمهانكم ولنا أسمهاننا



صحيفة البلاد - 30 تشرين الأوّل 2008

مهما تأخّر نشر هذا النص فسيبقى صالحًا للقراءة ولو كان مسلسل أسمهان التلفزيونيّ قد انتهت حلقاته مع نهاية شهر رمضان، إذ أنّ مسلسل نشر الفضائح والدعاوى القضائيّة لا شكّ مستمرّ في عرض متواصل جاذبًا المزيد من المهتمّين والمتابعين والمستفيدين.
فالمسلسل المشار إليه، وبعدما أثار عواصف من التساؤلات والاتهامات وأسقط الأقنعة عن كثير من الوجوه، سيبقى علامة فارقة في تاريخ الدراما التلفزيونيّة، حتّى أنّه قد يقال لاحقًا في معرض الحديث عن تاريخ المسلسلات التلفزيونيّة ما معناه: ما قبل مسلسل أسمهان وما بعده.
1- بين الفن والتأريخ
وقع المعنيّون بالمسلسل من كلا الطرفين في إشكاليّة العلاقة بين الفنّ والتاريخ وقد فشل كلّ فريق في الدفاع عن آرائه ودحض آراء الفريق الآخر وذلك لسبب بسيط هو أنّ الجميع انطلق من بداية ليست هي البداية. ففي حين ينظر القيّمون على المسلسل إلى أسمهان بمنظار فنيّ، ينظر إليها أفراد العائلة وأهل الجبل من المعترضين على المسلسل بمنظار عائليّ بحت، وهذا الصراع وقع فيه قبل ذلك أخوها فؤاد حين كان يهاجم أسمهان الفنّانة ويفتخر بالأميرة آمال بطلة جبل العرب. إذًا الانطلاقة من مفهومين مختلفين لمعالجة قضيّة هذه المرأة لن توصل إلى أيّ مكان كأنّ كلّ فريق يتحدّث عن امرأة مختلفة لا علاقة للواحدة بالأخرى إلاّ من حيث بعض المعلومات وبعض التشابه وبعض التفاصيل.
أسمهان نفسها كانت تعيش هذا الصراع، فهي المرأة الأنثى أسيرة التقاليد، وهي الفنّانة وهي الابنة والشقيقة والأم والزوجة والمطلّقة والبطلة والجاسوسة وسيّدة القصر والخائفة من الموت والمنتظرة الموت، المحاطة بالمغرمين والأزواج والمعجبين والباحثة في الوقت نفسه عن الحبّ والصداقة. وإذا كانت هي نفسها لم تستطع حسم هذه الصراع فكيف ستستطيع المحاكم أن تفصل في هذا الأمر وتحكم إن كانت المرأة التي تحدّث عنها المسلسل هي أسمهان أم أمّ كاميليا، أو هل هي ابنة فهد وشقيقة فؤاد أم ابنة علياء وشقيقة فريد، أو هل هي زوجة الأمير حسن أم زوجة علي بدرخان أم زوجة أحمد سالم، وهل هي صديقة أحمد التابعي أم عميلة الإنكليز أم ابنة الجبل، وهل هي سوريّة أم لبنانيّة أم مصريّة أم فرنسيّة أم بريطانيّة؟
عن أيّ أسمهان سيدور الكلام في المحاكم؟ وهل سيحاكمونها هي أم يحاكمون عائلتها أم يحاكمون قَتَلتها أم يحاكمون من نبش التراب عن قبرها وأعادها إلى الحياة بعدما دفنها النسيان والإهمال؟ ولكن السؤال الأخطر هو هل تحاكم كاميليا والدتها التي تركتها لتنصرف إلى الفنّ، وهل يحاكم آل الأطرش الأميرة التي تركت الأمير لتكون نجمة تشعّ بعيدًا عن عالمهم؟
المسلسل عمل فنيّ كأيّ عمل فنيّ آخر، يعالج قضيّته النقّاد لا القضاة، ويحلّل مضمونه وأسلوبه الصحافيّون ودارسو الفنّ لا المحامون والمدعون العامّون، وهو مادة للدراسة الفنيّة لا للدعاية والاستغلال والربح. وإلاّ لصار من الواجب محاكمة كلّ كاتب وفنّان ورسّام ونحّات وموسيقيّ ومخرج لأنّهم لم ينتجوا أعمالاً وثائقيّة، أو لأنّهم لم يتعلّموا فنّ الترميم ليصلحوا ما يمكن أن تكون الحياة قد أفسدته، علمًا إنّ الفساد من طبيعة الحياة البشريّة.
المخرج والمنتج والممثّلة ليسوا مؤرّخين ليحاكموا على هذا الأساس، وليسوا محققّين في جريمة ليطلب منهم الاستقصاء والتحرّي، وليست وظيفتهم بالتأكيد تبييض سجل أحد أو تشويه سمعة أحد، إنّهم يقرأون قراءة خاصّة بهم حكاية امرأة، وهذا هو الفنّ لمن لا يعلم. وإذا كان التاريخ نفسه قد عجز عن أن يكون موضوعيًّا في أيّ حادث جرى منذ بداية الخليقة، وإذا كان التحقيق قد عجز عن كشف الكثير الكثير من الأسرار والجرائم، فهل يطلب من مخرج ومنتج وممثّلة مهما بلغت براعتهم أن يعرفوا كلّ الحقائق وأن يظهروها كما هي؟ وقد يكون السؤال الأصعب: هل يرغب المطالبون بالحقائق في نشر الحقائق؟
2- فؤاد وفريد وحسن
فؤاد الأطرش شخصيّة تصلح بذاتها لتكون موضوعًا لمسلسل لما فيها من تناقضات تستحقّ الدراسة والتحليل، لأنّه شخصيّة نموذجيّة نجدها أنّى التفتنا وكيفما نظرنا. ففي كلّ بيت هناك فؤاد الأطرش الذي يعاني من أكثر من مأزق: فهو كبير العائلة ومطلوب منه أن يكون وليّ أمورها، وفي الوقت نفسه لا يملك الموهبة التي يملكها شقيقه وشقيقته مع ما يعني ذلك من احتمال الغيرة غير الواعية والشعور بالنقص والدونيّة، ويعاني من انفصال والديه ما أجبره على ترك بلده وعشيرته ودفعه إلى أخذ دور الوالد وهو يحتاج إلى من يرشده ويحضنه. ولقد أبدع الممثّل فراس ابراهيم في تجسيد هذه التناقضات بغض النظر عن الحقيقة التاريخيّة والمعلومات التي تريد العائلة أن تتوارثها. فؤاد الأطرش إنسان بكلّ ما في الطبيعة البشريّة من حبّ وحسد، من رغبة وترفّع، من كبت وبوح، من حنان وغضب. ولذلك استطاعت هذه الشخصيّة أن تطغى على من سواها وتفرض نفسها وتوقع المشاهد في حيرة: هل فؤاد محقّ في قسوته على أسمهان التي تتصرف بهذه الطريقة المتحرّرة، أم ظالم في معاملته شقيقته المضطربة العواطف والمتناقضة الأهواء. فؤاد هو كلّ رجل شرقيّ إن نظر الرجل الشرقيّ إلى حقيقته في مرآة ذاته، هو الذي يريد الشيء وعكسه في الوقت نفسه، وفي أغلب الأحيان لا يعرف ماذا يريد.
ولذلك ربّما بهتت شخصيّة فريد أمام شخصيّة فؤاد، فبدا الفنّان الشابّ مأخوذًا بنفسه وفنّه، لا يتدخّل إلاّ متى احتدمت الأمور. طبعًا لا يستطيع أيّ واحد منّا أن يعرف كيف كان الحال بين الأخوة، أو كيف كانت شخصيّة فؤاد فعلاً، غير أنّ عائلته تستطيع أن تفتخر بالشكل الذي أظهره المسلسل لأنّه بدا إنسانًا مثلنا، مثل أيّ شقيق نعيش معه، مثل أيّ والد نعيش معه، ولعلّه الشخصيّة التي ستنطبع في أذهان أكثر من سواها بعدما كان قابعًا في غياهب النسيان، لا لأنّه "شرير" كما قد يظنّ البعض بل لأنّه إنسان حقيقيّ واقعيّ.
والغريب في الأمر أنّ الرجل الذي لم ينجب، أيّ فريد، لم يجد من يعترض بهذه الحدّة على تصويره وإظهار نقاط ضعفه وهي أمور قد يعتبرها كثر سلبيّة ومعيبة. ولكن ما أنجبه فريد من ألحان لا يستطيع طبعًا رفع دعاوى ولا أن يجري مقابلات أو أحاديث تلفزيونيّة.
أمّا العجيب الغريب في الأمر فهو الاعتراضات على شخصيّة الأمير حسن، فلو كان الرجال المعترضون نساء أو على الأقلّ لو كانوا يفهمون نفسيّة النساء لاستنتجوا أنّ الأمير حسن استطاع أن يأسر قلوب العذارى والأمّهات، لقد أظهره المسلسل شهمًا ووفيًّا وكريمًا ومنفتحًا سابقًا عصره، واستطاع الممثّل فهد عابد بجاذبيّة شكله وحضوره وأدائه أن يجعل الأمير حسن بطلاً من أبطال الحكايات، تحلم به النساء ويرغب الرجال في التشبّه به. أمّا ما طالب به حفيده في حديث تلفزيونيّ من إظهار مرحه وعلاقاته الاجتماعيّة فغير منطقيّ إذ إنّ المسلسل هو عن أسمهان تحديدًا ولن يظهر الأمير حسن إلاّ بالشكل الذي يخدم العمل الفنيّ والبناء الدراميّ وبطريقة توضح التأثير الذي تركته مسيرة أسمهان عليه. ولعلّ مشهد الوداع عقب محاولة انتحار أسمهان واحد من المشاهد الأكثر رومنسيّة في تاريخ المسلسلات التلفزيونيّة. فعلام يعترض المعترضون؟ أمّا الإيحاء بأّنه قد يكون هو من أمر بقتل أمّ ابنته فهو من طبيعة الحدث والجريمة والزمان، ولا ننسى أنّ الملوك والأمراء على مرّ العصور، وصولاً إلى الأميرة ديانا، لن يتردّدوا في حسم أمرهم متى وقع الصراع بين العقل والقلب، بين الواجب والعاطفة، بين مصلحة الجماعة والمصلحة الشخصيّة. وفي الأدب والسينما والتاريخ قصص لا تحصى عن هذا الصراع الذي تفرضه طبيعة العمل على المعنيين بالشأن العام والراغبين في الوقت نفسه في الاستمتاع بحياة شخصيّة خاصّة.
3- من إيميلي إلى آمال إلى أسمهان: ثلاثة أسماء لامرأة مجهولة
إنّنا نحكم على أسمهان ونحاكمها بمقاييس عصرنا الحالي وننسى كم كان عمرها حين تزوّجت وحين أنجبت وحين عملت في الفنّ وحين ماتت. فما أسهل أن يطلق المرء الأحكام وهو ممدّد على كرسيه أمام التلفزيون في كسل وخمول ويقرّر أنّ فلانة عاهرة أو قدّيسة وما أهون على التاريخ أن يكتب الأسماء ويمحوها تبعًا لمقتضيات المرحلة. ماري أنطوانيت كانت طفلة حين أُمرت بأن تحكم فرنسا، والتاريخ يحاكمها كما لو كانت ناضجة حكيمة صاحبة خبرة وتجارب، وأسمهان كانت مراهقة حين أخذت قرارات مصيريّة غيّرت مجرى حياتها، وكثيرات من اللواتي يحكمن عليها اليوم لا يجرأن على اتّخاذ موقف واحد من مواقف تلك السيّدة التي عاشت وماتت في مرحلة منطبعة بصرامة التقاليد الدينيّة والعائليّة والاجتماعيّة. أيّة درزيّة اليوم تستطيع أن تقوم بجزء بسيط ممّا قامت به تلك الدرزيّة النازلة من جبل العرب لتمارس حريّتها، كما فهمتها، أنوثتها، كما اكتشفتها، وطنيّتها، كما زُرعت فيها، فنّها، كما وُهبته، صداقاتها مع الرجال والنساء كأنّها تسبق عصرها بمراحل.
حين بدأت أسمهان عملها الفنيّ خافت من أهلها في الجبل، واليوم بعض أهل الجبل يدافع عن صورتها كفنّانة وأميرة، ويرفضون أن تكون صاحبة حياة صاخبة، مع أنّ أحد معمّري القرية حيث قصر زوجها قال في حديث تلفزيونيّ (ووافقه الجميع): كنّا نراها تجلس مع الضبّاط الإنكليز أمّام القصر. أيّة امرأة درزيّة سواها كانت لتجرؤ على فعل ذلك؟
ويعتب العاتبون لأنّ أسمهان بدت مدمنة على التدخين والكحول، عظيم. إنّها امرأة رغبات، ولكن لماذا لم يعترضوا حين ظهرت وهي تأكل بشهيّة في شقّة التابعي أو في المطعم المصريّ مع أحمد سالم أو حين ارتدت أفخر الملابس، أو حين رغبت في جمع المال والحصول على شقّة خاصّة بها، أمّ أنّ للطعام والأزياء والشقق شأنًا آخر؟ وهل تكون "القداسة" التي يريدون أن توصم بها أسمهان محصورة بموضوعي التدخين والكحول؟ هل شاهد هؤلاء الأفلام المصريّة التي تصوّر تلك المرحلة أو التي صوّرت في تلك المرحلة وكيف كانت السيكارة والكأس موجودتين في أكثر المشاهد؟ ألم يلاحظ المعترضون أنّ أسمهان في بيت الأمير حسن أو في حضوره لم تكن تحمل السيكارة والكأس؟
لو أرادت أسمهان أن تكون كما يريدون لها أن تكون لبقيت في الجبل، وأنجبت المزيد من الأولاد ولماتت في صمت في ليلة باردة إلى جانب الموقد. ولكنّها لم تكن كذلك. ولن تكون مهما حاول أفراد عائلتها أن يفعلوا. هي نفسها لم تعلم من كانت: هل هي إيميلي الفرنسيّة أم آمال السوريّة أم أسمهان المصريّة؟ قد تكون كلّ هذه الشخصيّات وسواها ممّا نجهل حقيقته. هي نفسها لا تعرف. ولذلك بقيت حياتها مجهولة لتلائم موتها الغامض.
لن يستطيع القضاء أن يعيد للأميرة كاميليا الأطرش جنبلاط الأم التي لم ترغب في أن تكون أمًّا، ولن يعيد القضاء للأمير فيصل الوالد الذي فرض عليه أن يكون والدًا لأخويه قبل أن يكون والدًا لأولاده. أمّا نحن فلنا "أسمهاننا" التي اكتشفها كثيرون بيننا لم يسمعوا باسمها قبل المسلسل، فأحبوها خلاله وبعده وهرعوا إلى شراء أغانيها والبحث على المواقع الإلكترونيّة عن المزيد من تاريخها وأسرار حياتها.
وإذا كان ممدوح الأطرش قال مرّة للمصريّين: خذوا أم كلثوم واتركوا لنا أسمهان، فنحن نقول لآل الأطرش: خذوا أسمهانكم واتركوا لنا أسمهاننا التي دفعت شاعرًا كبيرًا كأنسي الحاج كي يكتب عنها وهو الذي ارتبطت بعض نصوصه بصوت فيروز حتّى ظننا نحن المغرمين به أنّه لن يكتب عن سواها من المطربات.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.