عذراء الصخور لليوناردو دي فينتشي
الأمومة رائعة حين تهتمّ الأمّ بأولادها منذ صغرهم وحتّى...
حتّى تصغر هي حجمًا وقامة وتعود طفلة تحتاج إلى "أمومة" أولادها.
ومع ذلك تبقى الأمومة رائعة، وتبقى تلك الأمّ أمًّا رائعة ولو لم تعد تعي هي نفسها أنّها أمّ.
أن تكبر أمّهاتنا في العمر من طبيعة الحياة، ولكن أن يتغيّرن شيئًا فشيئًا وأن نراقب نحن أولادهنّ هذه التغيّرات في خوف وجزع ورفض قاطع فذلك كلّه يجب ألاّ يكون من طبيعة الحياة.
ولكنّها الحياة!
تردّد أمّي دائمًا المثل اللبنانيّ الشائع: ياربّ، من وقعتي لتربتي. وهي تقصد بذلك ألاّ تجبرها الحياة على الاتكال على أحد أو طلب المساعدة من أحد وخير لها إن مرضت أن تموت وتدفن من دون أن تزعج ولدًا من أولادها أو تثقل على بنت من بناتها. ليست أمّي وحدها من يردّد هذا القول، فأكثر الأهل يخافون أن يتحوّلوا عبئًا على أولادهم وأحفادهم، ربّما هم يخشون أن يكتشفوا أنّ الحياة قد لا تكون عادلة وقد لا يُعاملوا بمثل ما عاملوا، أو ربّما، وهنا البليّة الكبرى، أن يعاملوا كما عاملوا.
ثمّة من لا يقبل في سهولة أن يكبر أهلهم في العمر وأن يصيروا هم أولياء أمورهم. طبيعيّ أن يرغب هؤلاء في البقاء أبناء لأطول فترة ممكنة: يتدللّون ويطلبون ويتمنّون وكأنّهم أطفال لا يريدون أن يكبروا. وقد يُفسّر الغضب الذي يصبّه هؤلاء على أهلهم متى كبروا وعجزوا وقطعوا كلّ صلة بالواقع على أنّه غضب على ما أصاب أهلهم وليس على أهلهم بالتحديد، إنّهم غاضبون على الحياة التي جعلت الآباء والأمّهات عاجزين عن البقاء آباء وأمّهات ليصيروا نباتات في وعاء العمر تحتاج إلى من يعطيها المياه والغذاء لئلاّ تذبل وتموت.
صحيح أنّنا نرغب في التحرّر من "سلطة" الأهل، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّنا نحتاج إلى الأمان الذي تعطينا إيّاه هذه السلطة المجبولة بالمحبّة والخوف اللذين يخفّفان دائمًا من قسوة الجهل. ولقد اعترفت بالحاجة إلى هذا الحنان مجموعة من الأشخاص في فرنسا، شملهم استطلاع للرأي حول الاضطرار إلى العودة إلى البيت الوالديّ بسبب صعوبات الحياة الاقتصاديّة. ومن المعروف أنّ الأولاد في البلاد الأوروبيّة والأميركيّة يستطيعون الانتقال للعيش بمفردهم ما أن يبلغوا السنّ القانونيّة، ولكن الضائقة الماليّة التي يمرّ بها هؤلاء مع التقدّم في العمر، وانعدام فرص العمل والطلاق وغلاء المعيشة، أجبرت الكثيرين على طلب الإذن من الأهل للعودة إلى غرف نومهم في بيت العائلة. ويعترف البعض منهم بصعوبة هذه "المساكنة" المفروضة، وبأنّهم مجبرون على القبول بهذا التعايش الذي حدّ من حريّتهم وأعادهم أولادًا يحتاجون إلى الإعلان عن موعد خروجهم من المنزل وعودتهم إليه. ولكن في المقابل، هناك من أعرب عن فرحه بالطعام المنزليّ والدفء العائليّ.
ولا شكّ في أنّ علماء الاجتماع سيكتشفون مع الوقت الانعكاسات السلبيّة والإيجابيّة لهذه الهجرة المعكوسة: من حريّة الانطلاق خارج حضن العائلة إلى داخل أسوار التقاليد والمناسبات العائليّة. ولكنّ الأكيد أنّ هذا التعايش لن يكون سهلاً، وخصوصًا مع التقدّم في العمر. فالصراع على السلطة وتقاسم المصاريف والاتفاق على نظام يرضي الجميع أمور تحتاج إلى الصبر والتنازل والمساومات. ونحن، أهل الشرق، الذين نبقى في بيوتنا العائليّة لأطول فترة ممكنة، وننظر بعين الريبة والحذر إلى الذين تركوا منازل أهلهم ولم يتزوّجوا، نعرف جيّدًا ما معنى أن نلتزم بمواعيد وأعياد وواجبات اجتماعيّة لمجرّد أنّنا أعضاء في هذه العائلة، وأن نبقى أطفالاً في نظر أهلنا لا نحسن التصرّف ونخطئ في اختيار العمل والأصدقاء ولا نحتاج إلاّ إلى حبّ الوالدين.
حين صرت أمًّا لأمّي، اكتشفت تقدّمي في العمر. هي في كامل قواها العقليّة والجسديّة وأمراضها هي من نتائج العمر وتربية الأولاد، ولكنّ اكتشافي أنّها صارت تتعب أو تنسى أو تحزن إن اعترضنا على الملح الزائد في الطعام مثلاً أو إن طلبنا منها أن تستريح وكأنّ في ذلك إهانة لها جعلني أعي أنّ أمّي صارت تشبه والدتها حين صارت عجوزًا.
حتّى تصغر هي حجمًا وقامة وتعود طفلة تحتاج إلى "أمومة" أولادها.
ومع ذلك تبقى الأمومة رائعة، وتبقى تلك الأمّ أمًّا رائعة ولو لم تعد تعي هي نفسها أنّها أمّ.
أن تكبر أمّهاتنا في العمر من طبيعة الحياة، ولكن أن يتغيّرن شيئًا فشيئًا وأن نراقب نحن أولادهنّ هذه التغيّرات في خوف وجزع ورفض قاطع فذلك كلّه يجب ألاّ يكون من طبيعة الحياة.
ولكنّها الحياة!
تردّد أمّي دائمًا المثل اللبنانيّ الشائع: ياربّ، من وقعتي لتربتي. وهي تقصد بذلك ألاّ تجبرها الحياة على الاتكال على أحد أو طلب المساعدة من أحد وخير لها إن مرضت أن تموت وتدفن من دون أن تزعج ولدًا من أولادها أو تثقل على بنت من بناتها. ليست أمّي وحدها من يردّد هذا القول، فأكثر الأهل يخافون أن يتحوّلوا عبئًا على أولادهم وأحفادهم، ربّما هم يخشون أن يكتشفوا أنّ الحياة قد لا تكون عادلة وقد لا يُعاملوا بمثل ما عاملوا، أو ربّما، وهنا البليّة الكبرى، أن يعاملوا كما عاملوا.
ثمّة من لا يقبل في سهولة أن يكبر أهلهم في العمر وأن يصيروا هم أولياء أمورهم. طبيعيّ أن يرغب هؤلاء في البقاء أبناء لأطول فترة ممكنة: يتدللّون ويطلبون ويتمنّون وكأنّهم أطفال لا يريدون أن يكبروا. وقد يُفسّر الغضب الذي يصبّه هؤلاء على أهلهم متى كبروا وعجزوا وقطعوا كلّ صلة بالواقع على أنّه غضب على ما أصاب أهلهم وليس على أهلهم بالتحديد، إنّهم غاضبون على الحياة التي جعلت الآباء والأمّهات عاجزين عن البقاء آباء وأمّهات ليصيروا نباتات في وعاء العمر تحتاج إلى من يعطيها المياه والغذاء لئلاّ تذبل وتموت.
صحيح أنّنا نرغب في التحرّر من "سلطة" الأهل، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّنا نحتاج إلى الأمان الذي تعطينا إيّاه هذه السلطة المجبولة بالمحبّة والخوف اللذين يخفّفان دائمًا من قسوة الجهل. ولقد اعترفت بالحاجة إلى هذا الحنان مجموعة من الأشخاص في فرنسا، شملهم استطلاع للرأي حول الاضطرار إلى العودة إلى البيت الوالديّ بسبب صعوبات الحياة الاقتصاديّة. ومن المعروف أنّ الأولاد في البلاد الأوروبيّة والأميركيّة يستطيعون الانتقال للعيش بمفردهم ما أن يبلغوا السنّ القانونيّة، ولكن الضائقة الماليّة التي يمرّ بها هؤلاء مع التقدّم في العمر، وانعدام فرص العمل والطلاق وغلاء المعيشة، أجبرت الكثيرين على طلب الإذن من الأهل للعودة إلى غرف نومهم في بيت العائلة. ويعترف البعض منهم بصعوبة هذه "المساكنة" المفروضة، وبأنّهم مجبرون على القبول بهذا التعايش الذي حدّ من حريّتهم وأعادهم أولادًا يحتاجون إلى الإعلان عن موعد خروجهم من المنزل وعودتهم إليه. ولكن في المقابل، هناك من أعرب عن فرحه بالطعام المنزليّ والدفء العائليّ.
ولا شكّ في أنّ علماء الاجتماع سيكتشفون مع الوقت الانعكاسات السلبيّة والإيجابيّة لهذه الهجرة المعكوسة: من حريّة الانطلاق خارج حضن العائلة إلى داخل أسوار التقاليد والمناسبات العائليّة. ولكنّ الأكيد أنّ هذا التعايش لن يكون سهلاً، وخصوصًا مع التقدّم في العمر. فالصراع على السلطة وتقاسم المصاريف والاتفاق على نظام يرضي الجميع أمور تحتاج إلى الصبر والتنازل والمساومات. ونحن، أهل الشرق، الذين نبقى في بيوتنا العائليّة لأطول فترة ممكنة، وننظر بعين الريبة والحذر إلى الذين تركوا منازل أهلهم ولم يتزوّجوا، نعرف جيّدًا ما معنى أن نلتزم بمواعيد وأعياد وواجبات اجتماعيّة لمجرّد أنّنا أعضاء في هذه العائلة، وأن نبقى أطفالاً في نظر أهلنا لا نحسن التصرّف ونخطئ في اختيار العمل والأصدقاء ولا نحتاج إلاّ إلى حبّ الوالدين.
حين صرت أمًّا لأمّي، اكتشفت تقدّمي في العمر. هي في كامل قواها العقليّة والجسديّة وأمراضها هي من نتائج العمر وتربية الأولاد، ولكنّ اكتشافي أنّها صارت تتعب أو تنسى أو تحزن إن اعترضنا على الملح الزائد في الطعام مثلاً أو إن طلبنا منها أن تستريح وكأنّ في ذلك إهانة لها جعلني أعي أنّ أمّي صارت تشبه والدتها حين صارت عجوزًا.
***
صحيفة البلاد البحرينيّة - 28 تشرين الثاني 2008
هناك تعليق واحد:
موضوع طريف لأم عن أمها وعن كل أم..
الأم ماري.. أم.
إرسال تعليق