‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات ملحق النهار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات ملحق النهار. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 28 أغسطس 2022

العالم سيصير أشدّ وحشة (1999)

Georgios Roilos (1867- 1928) - The Poets


العالم سيصير أشدّ وحشة
ملحق النهار – السبت 21 آب 1999
في الشام، يموت عبد الوهّاب البيّاتيّ بعيدًا عن العراق. وفي صنعاء يقتل أحد الشعراء ثلاثة آخرين هجوه، ثم يُقتل هو وولده. وفي الأردن ينهار اثنان من الكتّاب الأردنيّين المشاركين في إضراب عن الطعام، احتجاجًا على تعطّلهم عن العمل. وفي بيروت، عاصمة الثقافة لهذه السنة، شهر حسومات تشجيعًا لحركة التسوّق. أيّ علاقة بين هذه المشاهد اثقافيّة، وأيّ دور لهذه العواصم العربيّة؟
من السذاجة ربّما أن نطرح أيّ سؤال. ولكن ماذا لو تدخّلنا وحاولنا تعديل هذا السيناريو القَدَري؟ ماذا لو وضعنا بندقيّة الشاعر في يد عبد الوهّاب البيّاتيّ، ونقلنا الكتّاب الأردنيّين إلى العراق، حيث يموت الأطفال جوعًا من دون إضراب أو مطالب، وأعلّنا بيروت عاصمة التسوّق، وأقمنا مأتمًا للثقافة مع دفن هذا الشاعر اليمنيّ المنتفض لكرامته، والذي ما وجد ردًّا على الشعر أبلغ من الرصاص، أو قدّمنا حسومات على بطاقات المهرجانات الثقافيّة بدل الحسومات على الأحذية والملابس؟
فلنبدأ من بيروت: يروي أحد تجّار الذهب قصّة عائلة دخلت متجره لتبيع ما تملكه من خوات وأساور وأقراط. عائلة مؤلّفة من الوالدين وبناتهما الصغيرات الثلاث. وحين تعجّب التاجر من رغبة هؤلاء الناس في بيع هذه الكميّة المتاضعة من الذهب في فترةٍ انخفضت أسعاره إلى أدنى المستوياتـ ردّت الوالدة: نحن مضطرّون، لم نستطع أن نسدّد آخر قسط مدرسيّ، والصغيرات يرغبن في الحصول على دفاتر علامات أسوة بزميلاتهنّ، خصوصًا أنّهنّ من المتفوّقات. ويقول التاجر إنّه لم ير حتّى الآن مشهدًا مؤثّرًا كهذا، وفي الأخصّ حين راحت الفتيات ينزعن، راضيات قانعات، من أيديهنّ وأعناقهنّ، هدايا الخالات والعمّات والأقرباء ويضعنها على الطاولة التي تخفي قامة أكبرهنّ. تدمع عينا الوالد الغارق في عجزه، ويترك لزوجته أن تتسلّم المبلغ الزهيد، أمام عيون أطفاله الموعودة بدفاتر علامات تعد بالثقافة والمستقبل المضمون، في بلد ضحّى أبناؤه دائمًا بالأرض، وهي أغلى ما يملكونه، في سبيل العلم.
***
ومن الأردن، نقلت "وكالة الصحافة الفرنسيّة" ووفق بيان صدر عن الكتّاب المشاركين في إضراب عن الطعام، أنّ اثنين من المشاركين أصيبا بانهيار جسديّ. وذكرت "النهار" في عددها الصادر في 6 آب 1999 أنّ ستّة وعشرين من الكتّاب الأردنيّين العاطلين عن العمل شرعوا في تنظيم إضراب مفتوح عن الطعام "احتجاجًا على تجاهل الجهات المعنيّة أوضاعهم السيّئة". وقد اعتبر أحد هؤلاء الكتّاب خليل محادين أنّ التحرّك هو أوّلًا "صرخة احتجاج على سياسة الدولة المهيمنة على الثقافة والإعلام".
وفي العدد نفسه من الصحيفة، ولكن من اليمن هذه المرّة، أنّ الشاعر عوض مشرف عبدالله (55 عامًا) استبدّ به الغضب حين أسمعه خصومه أبياتًا مقذعة من الشعر، فردّ عليهم ببندقيّة آليّة كانت معه، فقتل ثلاثة منهم. وأضاف شهود أنّ أنصار الفريق المنافس قتلوه مع ابنه عبدالله (15 عامًا) بينما كانا يلوذان بالفرار.
ألم يقل عبد الوهّاب البيّاتي يومًا "يموت الشاعر منفيًّا أو مجنونًا أو منتحرًا"؟
يبدو المشهد ككلّ فصلًا عبثيًّا من فصول مسرحيّة مملّة لا يُعرف موعد نهايتها: الثقافة تتزيّا بأخلاق السلطة، ثمّ تنزل إلى الشارع، وبدل أن تعطيع سموّها ونبلها، تلبس فوضاه وغوغائيّته، حتّى صار الشعراء يذهبون إلى الأمسيات الشعريّة مدجّجين بالسلاح، يقتلون ثمّ يهربون.
***
بين السطة والشارع، أين يقف الأدباء والشعراء؟
عام 1994، نشر صقر أبو فخر، في مجلّة "الناقد"، مقالة بعنوان "الطفيليّون" وذلك ضمن ملفّ خاصّ بأحوال الثقافة والمثقّفين. وفيها يعتبر الكاتب "أنّ الكتّاب والشعراء والشيوخ والكهنة هم، في الأساس، كائنات طفيليّة، تعيش على هامش الإنتاج والفئات المنتجة، وتكسب عيشها من اتّصالها بخدمة فئة تملك الحاضر (الدولة) أو من ارتباطها بجماعات تملك المستقبل (المعارضة)".
ويرى أنّ هذه الطبقة – عدا القليل – كانت في خدمة السلطة لا السلطان، لأنّ أفرادها لا يخجلون من التصفيق للحاكم الجديد، بعد لحظات من زوال عهد الحاكم القديم.
فإذا كانت هذه هي حال الطبقة المثقّفة، والمفترض أنّها المثال الذي يحتذى، فكيف تكون حال المجتمع وهو ينظر إلى هذه القدوة، ويحاول أن يمشي على خطاها؟
إنّ المشاهد "الثقافيّة" التي أشرنا إليها تفضح بطريقة مؤلمة الحال التي وصلت إليها طبقة المثقّفين، وشعارها – أي شعار تلك المرحلة – التخبّط والتناقض وانعدام الرؤية والرؤيا. فالمثقّف المتوقّع منه أن يكون خارج إطار أيّ سلطة زمنيّة أو دينيّة، نقابيّة أو وظيفيّة، على ما يقول إدوارد سعيد، نجه صورة طبق الأصل عن هذه السلطة، يحمل سلاحها ويقول كلامها، ويمارس إرهابها ويرفض، على مثالها، أي معارضة، بل ينفّذ في معارضيه ما يرفض أن تفعله السلطة به.
ثمّة مفارقة في ما يفعله هؤلاء المثقّفون. يهرب أحدهم من السلطة في بلاده إلى سلطة أخرى في بلد آخر. وفي المقابل، فإنّ بعض مثقّفي البلد المضيف قد تركوه أيضًا هربًا ولجأوا إلى حماية سلطة أخرى. وهكذا تستمرّ اللعبة بحثًا عن مكان أكثر أمانًا وتتاح فيه حريّة التعبير والإبداع. حتّى إنّ بعض المثقّفين لا يتورّع عن الهرب من سلطة عسكريّة ليحتمي بسلطة دينيّة مثلًا، أو العكس، فيبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
لن يلوم أحد الكتّاب الأردنيّين على احتجاجهم، لكنّ الدولة – أي دولة – لا تعترف بالهيمنة، بل لا تعتبر أنّ ما تقوم به هيمنة، وهي على كلّ حال لا تعرف إلّا أن تكون كذلك. ومحاولة الكتّاب الأردنيّين، كمحاولة أيّ إضراب لفئة "غير منتجة" على حدّ تعبير أصحاب السلطة، ستجد طريقها إلى الحلّ بالوعود والتمييع والتناسي والتأجيل. وإذا وعدت السلطة هؤلاء الكتّاب بفرص عمل فهذا يعني زوال صفة المثقّف، المفترض أنّه معارض، عن هذه الجماعة المتراجعة عن إضرابها. وهكذا تبدو الأزمة كأنّها بلا حلّ. فالدولة لن تتنازل عمّا يسمّيه المعترضون هيمنة، وإن أشركت المعترضين في سياستها فذلك يعني انتهاء دورهم الرياديّ. ولذلك وصل هؤلاء المضربون عن الطعام إلى النقطة التي يبدو فيها التراجع مشكلة والاستمرار مشكلة أخرى.
في المشهد العبثيّ الذي وصفناه، تبدو الأزمة على مفترق طرق. فالمثقّفون ما عادوا قادرين على الاضطلاع بدور الموجِّه والمصحّح. وحين يعجز هؤلاء عن التمييز بين ما يريدونه من السلطة أو ما يرفضونها فيها فذلك يعني أنّ ثمّة خللًا خطيرًا في فهم المثقّف دورَه الصارخ في وجه من هم في مراكز النفوذ والسلطة.
إنّ الصورة ونقيضها هما ما يحكمان عالم الثقافة اليوم. فالكاتب الجائع العاطل عن العمل تقابله مذيعة مغرية الجمال، تسأله بحركة من يدها التي تحمل ساعة خياليّة الثمن، عن سبب إضرابه عن الطعام. وتتابع عينا الكاتب الجائع الساعة الثمينة، قبل أن يجيب – مجّانًا – في حين ترتفع قيمة رصيدها في المصرف ثمنًا لسؤالها الذكيّ وبرنامجها الثقافيّ.
وموت الشعراء يقابله فرح السلطة التي ارتاحت من لسان وقلم ومسدّس كان من الممكن أن توجّه إليها.
بين هذه الثنائيّات، تفقد الثقافة يومًا بعد يوم موقعها، ويصير موت الشعراء خبرًا في صحيفة تُهمل مساء، ويتحوّل العالم مكانًا أكثر وحشة وحزنًا.



الجمعة، 26 مارس 2021

الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (4)


أربع مجانين وبسّ
الأغنية


الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(4)

في "لسان العرب"
     نقرأ في "لسان العرب": جُنّ الرجل جنونًا وأجنّه الله فهو مجنون. وفي الحديث أنّ النبيّ رأى قومًا مجتمعين على إنسان فقال: ما هذا؟ فقالوا: مجنون! قال: هذا مصاب. إنّما المجنون الذي يضرب بمنكبيه وينظر في عطفيه ويتمطّى في مشيته.
     والإنجيل يخبرنا عن المسكونين بالأرواح الشريرة. يأتي بهم الناس إلى يسوع ليشفيهم ويطرد منهم الأرواح النجسة، وفي الوصف يبدو هؤلاء ضحايا نوبات عصبيّة وداء الصرع و"الوقوع في التقطة" كما يسمّيها الناس.    ولكنّ جبران خليل جبران يدعو إلى نوع آخر من الجنون. ففي نصّ "حفّار القبور" من كتاب "العواصف" يصرخ: "أنا الإله المجنون". وفي نصّ بعنوان "كيف صرت مجنونًا؟" من كتاب "المجنون" يشرح مفهومه ويقول إنّ الناس نظروا إليه عاريًا من البراقع السبعة التي حاكها وتقنّع بها ثمّ سرقها اللصوص،وحين صرخ الناس معلنين جنونه لأنّه يسير من دون برقع خاف من هذا العريّ، ولكن حين قبّلت الشمس وجهه العاري للمرّة الأولى، شكر اللصوص وباركهم لأنّه وجد في جنونه الحريّة والنجاة معًا، حريّة الانفراد والنجاة من أن يدرك الناس كيانه. وفي الكتاب نفسه، قصّة "الليل والمجنون" وفيها يقول المجنون لليل إنّه مثله في عريه وعمقه، ويشبهه في جبروته وصرامته، ويماثله في طربه وصبره ومقدرته، وكما أنّ الليل يكشف مكنونات اللانهاية كذلك يكشف المجنون مكنونات نفسه.
أنا الإله المجنون

     ويؤكّد جبران في أكثر من نصّ أنّ تهمة الجنون التي يرمي بها بعض الناس البعض الآخر إنّما هي نتيجة الاختلاف، ففي كتاب "التائه" يتحدّث في قصّة "المجنون" عن الشابّ الذي حجر عليه أهله في "المارستان" وحين سُئل عن السبب أجاب إنّ كلًّا من والده وعمّه وأمّه وأخوته وأساتذته أراد أن يجعل منه انعكاسًا له في مرآة. ولم يجد غير "المارستان" مكانًا يستطيع فيه أن يكون نفسه لا سواه.

جنون بيروت
     وبيروت التي أرادوا لها أن تكون صورة لمدن أخرى ما عادت تشبه نفسها وما استطاعت أن تشبه سواها. بيروت هذه التي عرفت جنون الترف وثملت بجنون الشعر، ورقصت مجنونة بالحريّة، وذاقت جنون الحرب والقتل والمجازر، كانت أرصفتها مسرحًا لشتّى أنواع الهذيان، الصادق منه والمزيّف، ولذلك وجد "أبو الريش" المجنون فراشًا له على أرصفتها. "أبو الريش" هذا التقطت صوره صدفة كاميرا جوسلين صعب ثمّ اختفى الرجل مع الاجتياح الإسرائيليّ. وقال الناس إنّهم شاهدوه في بزّته العسكريّة ذات الرتبة العالية، يدخل إلى بيروت دخول الفاتحين. وعلى عكس ما حصل مع "أبو الريش" ذي القبّعة الغريبة والملابس الهجينة، حصل مع سعاد نعمه الطرابلسيّة التي تعاني انفصامًا. فحين ظهرت في مدينة صور وادّعت أنّها إسرائيليّة صدّقها الجميع وعرضوا صورتها وقالوا إنّها شديدة الذكاء وخافوا منها. وحين اكتشفوا أو بالأحرى حين كُشف لهم أنّها سيّدة لبنانيّة مريضة، زوجة وأمّ لثلاثة أولاد، وقد سبق أن أدخلت إلى مستشفى الأمراض العقليّة والعصبيّة حيث عولجت من مرض نفسيّ. حينذاك، حين كُشف ذلك، تراجع مستوى ذكائها وصارت "مجنونة". "المجنون" ضابط إسرائيليّ من رتبة عالية، والجاسوسة الإسرائيليّة الخطيرة "مجنونة". أيّ مصحّ كبير هذا الذي نتخبّط فيه؟
(يتبع)

الجمعة، 19 مارس 2021

الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (3)


ميّ التي حُجر عليها


الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(3)

مجنون العلم
إنّ مفهوم الجنون عند العامّة لا علاقة له بالناحية العلميّة الطبيّة المعترف بها. ولا يفهم أحد كيف يقرّر الناس من هو المجنون ومن هو العاقل. ولكن "الغريب" – بحسب تحديدهم لمعنى الغرابة – هو المجنون حتّى يعود إلى الصراط المستقيم، وكثيرًا ما ترافقت هذه التهمة في بدايات هذا القرن مع كثرة العلم وتعدّد اللغات المكتسبة والشهادات العالية. وكم قالوا عن أحدهم: يا حرام! فلان جُنّ من كثرة ما تعلّم. ولذلك، ربّما، قلّ عدد النساء "المجنونات"، فهنّ كنّ محرومات زمنذاك من العلم، وإذا جنّت إحداهنّ فلأنّ حبيبها قد غدر بها وتركها تجترّ العار والوحدة، وهاجر إلى ما خلف البحار.
في بلدة من بلدات جبل لبنان، يتناقل الناس أخبار ذلك المغترب العائد من البرازيل بلقب أجنبيّ وثورة ماديّة بسيطة، ولكنّه كان يجيد التكلّم بسبع لغات – كما قالوا – وكان حديثه جديدًا وغريبًا، فنظر إليه أبناء بلدته وتأسّفوا على حاله وعاملوه طوال الوقت على أنّه مجنون يدارونه ويشفقون عليه، فعاش بينهم طائرًا يغرّد خارج سربه.
وفي بلدة أخرى، مجنون من نوع آخر، يضحك باستمرار، يلاحق النساء ويتحرّش بهنّ محاولًا رفع فساتينهنّ، لا يهدأ ولا يصمت. وعبثًا حاولوا ردعه أو إقناع أهله بعزله. وعلى طرق إحدى بلدات المتن، تتجوّل امرأة غير لبنانيّة، لا تصمت ولا تهدأ، لا يراها الناس إلّا مرتدية قميص النوم، وتلبس فوقه "الكومبينيزون"، لأنّه أجمل والدانتيل فيه أعرض وحرام ألّا يراه الناس بحسب قولها. لا يستطيع أحد أن يحزر متى يفلت لسانها بالصراخ والشتائم، ومتى تهدأ وتخبر حكايتها ومشاهداتها، لا تؤذي ولا تتسوّل، تعمل في البيوت، تختفي أيّامًا ثمّ تظهر فجأة. يقول البعض إنّها امرأة شديدة الذكاء و"محتالة"، ويقول آخرون: مجنونة ما بدها إلّا دير الصليب.
مي زيادة
حين بدأت المصحّات تستقبل نزلاءها، دخل إليها كثر من الناس، بعضهم كان خطرًا، قد يؤذي نفسه أو الآخرين، وبعضهم ضحيّة الحرب، وآخرون ما كانوا يعانون سوى أعراض بسيطة وعابرة، ولكنّ إخوتهم كانوا يبعدونهم مدعومين بشهادة أهل القرية عن هؤلاء الغريبي الأطوار، وفي غياب الوالدين، يضع الأخوة أيديهم على حصّة أولئك من الإرث.
لم يكن الجنون في عرف العامّة حالًا مَرضيّة بل كان غاضبًا إلهيًّا وعقابًا سمويًّا، ومن يدخل المصحّ يُنصح بألّا يغادره وإن شفي، فنظرات الناس لن ترحمه ولن تغفر له جنونه.
في كتاب "فرسان الكلام" يصف توفيق يوسف عوّاد مشاعره بعدما استمع إلى ميّ زيادة تلقي خطابها عن "رسالة الأديب في الحياة". وفي فصل بعنوان "ميّ" يقول عوّاد في المقدّمة: "في أواخر آذار سنة 1938 ألقت المرحومة ميّ خطابًا في الجامعة الأميركيّة في بيروت يصحّ عدّه للظروف التي أحاطت به من أعظم الأحداث الأدبيّة في العالم العربيّ. كانت ميّ قد اتّهمت بالجنون، وحُبس عليها ردحًا من الزمن في العصفوريّة، وأثارت قضيّتها ضجّة كبيرة في لبنان وسائر الأقطار". ويبدأ عواد مقالته التي نشرها في "النهار" متسائلًا: إلى من سيمظر الناس في الوست هول، إلى ميّ صاحبة المؤلّفات والمواقف الخطابيّة والمقالات الرائعة أم إلى ميّ التي "حُجر عليها وسيقت من مصر إلى لبنان سَوق السجين وزجّت في مستشفى المجانين وأدخل في روع الناس أنّها أصبحت مخلوقة دون الناس بعد أن كانت فوق الناس" (ص45).
ومنذ زمن ليس ببعيد، اكتشفت هدى سويد أنّ الشاعر صفوان حيدر مرميّ في سجن روميه بتهمة "الجنون"، وحرّك "الملحق" قضيّته المهملة وألّب الصحافة والرأي العامّ حتّى أُطلق سراحه.
إنّ العرب في جاهليّتهم وضعوا الشعراء والمجانين في خانة الذين يتلقّون أفكارهم من أرواح غير منظورة. ويقول فيليب حتّي في "تاريخ العرب" إنّ الشاعر هو في الأصل رجل معرفة وُهب معرفة ما ستر وذلك بواسطة شعور خفيّ يوحيه إليه شيطان خاصّ. والمجنون عندهم هو من سكنه الجنّ. ويقول كارل بروكلمن في "تاريخ الأدب العربيّ" إنّ الهجاء كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحريّ. ومن ثمّ كان الشاعر إذا تهيّأ لإطلاق مثل ذلك اللعن يلبس زيًّا خاصًّا بزيّ الكاهن. وقد زعم بعض العرب: "أنّ كلاب الجنّ هم الشعراء". ومن هذا القبيل قول عمرو بن كلثوم:
وقد هربتْ كلابُ الشعر منّا
وشذّبنا قتادة من يلينا
ونستمع إلى المعنى نفسه تغنّيه صباح بكلمات الأخوين رحباني في مسرحيّة "دواليب الهوا":
بيكفّيني كون مع شاعر مجنون
تمشي ما أعرف لوين
وأنا إمشي معك.
(يتبع)

الأربعاء، 17 مارس 2021

الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (2)


الممثّل الراحل نبيه أبو الحسن (1934 - 1993)
في دور "أخوت شانيه" من تأليف أنطوان غندور

الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(2)

الجنون الحكيم
     الجنون الحكيم أو الحكمة المجنونة، هذا ما قاله الأمير بشير الشهابيّ عن "أخوت شانيه"، المجنون الذي كان يسلّي الأمير بـ"جنونه" وأوصل المياه، بحكمته وبُعد نظره، من نبعَي القاع والصفا إلى القصر الجديد، قصر بيت الدين. ويعرّف فؤاد افرام البستاني عن هذا "الأخوت" في كتابه "على عهد الأمير" قائلًا: "كان رجلًا خفيف الروح، عذب الحديث، حلو النكات، يُصاب من وقت إلى آخر بنوع من السويداء، فيأخذ بالهذيان المضحك. فكان جنونه سارًّا مفكّهًا، والجنون فنون" (ص32). وبعدما عجز المهندسون وبعض "المعلّمين" البارعين في فنّ البناء عن الوصول إلى الحلّ الأقلّ كلفة لجرّ المياه، أعلن "الأخوت" أنّه قادر بسهولة وذلك بأن يأمر الأمير "بصفّ الزلم من نبع القاع إلى بتدّين وليحفر كلّ واحد ذراعًا أمامه، ثمّ توصل الحفائر ويجري الماء في القناة" (ص35). ويؤكّد الأمير عند سماع ذلك أنّ من المجانين من يكون أحكم العقلاء.
     ويروي "سلام الراسي" أخبارًا طريفة عن مجانين عرفتهم قريته "إبل السقي" في جنوب لبنان، وتناقل الناس أخبارهم الطريفة من جيل إلى جيل، ويقول نقلًا عن "سهيل الحمصي" "إنّ شخصيّة القرية لا تكتمل إلّا إذا عاش فيها مجنون عريق يكون له دور طريف في حياة القرية" (ص135)، ثمّ يخبر في مجموعته "الجنون فنون" قصّة عسّاف الجليلاتي الذي ادّعى الجنون تهرّبًا من الخدمة الإلزاميّة زمن الأتراك، حين كان الشبّان يُجمعون ويرمى بهم في ساحات المعارك. وقد "برطل" عسّاف هذا قائمقام "مرجعيون" بواسطة أحد أفنديّة المنطقة ليجد له عذرًا يعفيه من الخدمة، وشهد الأفندي أنّ الرجل أخوت. ولكنّ عسّافًا رفض هذا العذر واعترف بأنّه اتّفق مع الأفندي على القول إنّه قصير النظر لا مجنون. فقال الأفندي: "وهل تريد يا حضرة القائمقام برهانًا أسطع من هذا على جنون هذا الشابّ؟" فوافق القائمقام وأكّد جنون عسّاف لأنّ كلامه فضحه، واضطرّ الرجل إلى تمضية حياته وهو يؤكّد للناس جنونه كي لا يقع في تهمة خداع الدولة للتخلّص من واجب الخدمة العسكريّة. انتهت الحرب ولكنّ عسّافًا وجد صعوبة في الرجوع إلى الصواب.
     وفي حكاية "مجنون يحكي وعاقل يفهم" يصف سلام الراسي مجنونًا عاش في "إبل السقي" أيضًا اسمه عبدالله نصّار. ومن مظاهر جنونه أنّه كان يرسل شعر رأسه ولحيته ويجلس قرب العين، وحيدًا شارد الذهن، يغنّي أبياتًا من العتابا من نظمه، وعلى سجيّته، من دون أن يتقيّد بشروط القافية أو الوزن. وحين استدعي الشابّ للمثول أمام جاويش درك مرجعيون أيّام "سفر برلك" راح يغنّي قائلًا:
                                  نزل دمعي ع خدّي شروش كبّه
                                  على قبور النصارى حيّكوا اليبرق
                                  سبحان من خلق الجرذون يقطر زيت
                                  حبّك بقلبي متل لبيط الكِدش
     وقال الناس يومذاك أنّ عبدالله قد أعفي من الخدمة العسكريّة لأنّه مجنون، وقال آخرون بل لأنّه شاعر، فالشعراء كذلك لا يصلحون للحرب.
(يتبع)

الثلاثاء، 16 مارس 2021

الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (1)


زياد الرحباني - فيلم أميركيّ طويل

الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(1)
يقولون: في كلّ قرية مجنون "أخوت"، وساذج بسيط القلب، يلوّنان أيّامها بالغرابة والبراءة. يقولان ما لا يقوله الآخرون. يسبحان عكس التيّار. يتكاملان ويتناقضان. ليل ونهار في لحظة واحدة ومكان واحد، يتواجهان مع أنّ قد قيل أنّه لا يمكن للمرء أن يرى مؤخّرة رأسه، ويهرب أحدهما من الآخر مثلما يهرب المجرم من ضميره، والمشوّه من المرآة، والأعرج من ظلّه ترمي به الشمس في طريقه.
     مجنون يرى ما لا يُرى. وساذج ينظر ولا يرى. مجنون لا يصدّق ما يقال، وساذج يصدّق كلّ ما يُقال. مجنون لا يفعل شيئًا ولا يقدّم خدمة لأحد، وساذج يكلون إليه كلّ الأعمال ولا يرفض. مجنون غاضب كبحر شتويّ لا يتوقّف عن الحكي، وساذج هادئ صامت كبئر عميقة لا قرار لها. مجنون وقح، وساذج خجول. مجنون يعرّي الناس بنظراته، وساذج تعرّيه نظرات الناس. مجنون يركض وسط الشارع ويخيف الآخرين، وساذج يمشي مع الحائط ويخاف الآخرين. مجنون تخشاه النساء، وساذج لا يشعرن بوجوده.
     ولكنّ للأولاد رأيًا آخر. هم يحبّون كليهما، ويلحقون بكليهما: الأوّل يثير مخيّلتهم وشيطناتهم، والثاني يحرّك عواطفهم وبراءتهم. يلحقون بالأوّل ليستفزّوه، ويلحق بهم الثاني لعلّه يجد رفاقًا يلعب معهم.
     وباهتة القرية التي تخلو دروبها وأزقّتها من وجودهما، وقاحلة المدينة التي أسرتهما في مستشفياتها وأبعدتهما عن صورتها الملمّعة القابلة للتصدير والرافضة لكلّ ما لم يدخل في تصميمها المدروس.
     إنّ الجنون والبساطة مصطلحان يختلف تحديدهما بين إنسان وآخر أو بين منطقة وأخرى. ومن الصعب وضع مفهوم واحد لكلّ من هاتين الكلمتين. ولكنْ ثمّة اتّفاق مضمر بين أهل بلدة ما على النظر بطريقة مختلفة إلى إنسان معيّن ويقرّرون أنّ هذا مجنون وذاك بسيط ساذج. والغريب أنّ هؤلاء الناس أنفسهم يتجنّبون الإشارة، في أحاديثهم المتداولة خلال السهرات والأمسيات الطويلة، إلى النساء اللواتي يوضعن تحت هذا العنوان أو ذاك، وكأنّه من غير اللائق أن تعلن حياة هذه المرأة خارج حيطان منزلها، أو كأنّ وجودها الأنثويّ سريع العطب أصلًا، ومن دون هاتين العاهتين، فكيف تكون الحال معهما؟ وهكذا صارت طرق القرى ملعبًا لا تطأه إلّا أقدام رجال محكومين بتسميات وألقاب ما أن يحملوها ويوسموا بها حتّى تلتصق بجلودهم، فيعاملون كحيوانات شاردة، وتبقى هذه الأسماء إلى ما بعد موتهم، فيذكرون بها ولا يعرفون من دون هذه الصفة أو ذاك النعت. أمّا النساء فينسى الناس وجودهنّ إذ يؤسرن داخل الجدران الصمّاء، خوفًا عليهنّ من استغلال جنسيّ وهنّ اللواتي لا يعرفن ولا يفهمن ولا يقاومن. وخوف العار يتحوّل حبسًا كبيرًا مؤبّدًا، لا تخرج منه "المجنونة" الأسيرة أو "الساذجة" الخادمة إلّا إلى القبر.
     ومع ذلك فإنّ إميلي نصرالله تحكي لنا عن "روزينا" المجنونة في رواية "الإقلاع عكس الزمن". تقول الكاتبة إنّ هذه المرأة جاءت لتودّع "رضوان" المسافر إلى كندا، وفي يدها صرّة. ينظر إليها الرجل مستغربًا مجيئها ويتذكّر كم "تعمّد مداعبتها ليسمع منها الكلام اللامعقول. وأحيانًا الشتائم تنصبّ فوق رأسه ورؤوس الذين يزيدون العيار على المرأة فيخرجونها عن صمتها ليدخلوا معها في حوار طريف" (ص36). ولكنّ "روزينا" المجنونة – هكذا ينادونها – "المقيمة متوحّدة متوحّشة في كوخ يشبه الصومعة، معتزلة العالم وسكّانه" لا تخرج إلى العالم إلّا "لتخضّ هدوءه، وتبذر فيه بذور القلق والغرابة. وهي حين أتت مودّعة الرجل العجوز كانت تحمل حفنة تراب من أرض القرية هديّة لأولاده المغتربين وتقول له: "الشباب بيكونوا اشتاقوا لرائحة تراب "الجورة" (اسم القرية). ويكتشف "رضوان" أنّ التي صنّفوها من زمان في خانة الخارجين على كلّ عقل ومنطق فيها من الحكمة ما يفوق حكمة العقلاء.
(يتبع)

الخميس، 3 مايو 2012

نحن القرّاء كم نحتاج إلى التواضع!


هنري ماتيس

نحن القرّاء كم نحتاج إلى التواضع!
ملحق النهار – السبت 17 تمّوز 1999
    لعلّ من السهل أن نعرف ما الذي يربط الكاتب بمؤلَّفه، إذ غالبًا ما يفضح الكتاب نفسه الخلفيّات المتنوّعة الكامنة وراء وضعه. لكنّ العلاقة المقابلة، تلك التي تربط الكتاب بالقارئ، هي التي يصعب رصد حركتها. وإذا كان من المتوقّع أن يقوم الكاتب، وهو شخص مفرد، بالتعريف عن كتابه عبر مقابلات وإجابات تحليليّة، أو بواسطة نقاد يقومون بالكشف عمّا يمكن أن يكون جوهر الكتاب، فإنّه من الصعب جدًّا أن نعرف ما هو القارئ – القرّاء الذين لا حصر لهم – وما هي ثقافتهم وخلفيّاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وما هي قدرتهم على الاستيعاب والفهم والتحليل.
     إنّ التقاط علاقة الكتاب بالقارئ، أو القارئ بالكتاب، مهمّة عسيرة وشاقّة. ولكنّ ثمّة جانبًا من هذه العلاقة أكثر بروزًا وأشدّ تأثيرًا من سواه. إنّ عددًا كبيرًا من القرّاء يعلن نفسه، ويتباهى هؤلاء بعدد الكتب التي قرأوها، في مختلف الميادين وعن كلّ الموضوعات، حتّى أنّ قسمًا مهمًّا منهم، من شتّى الطبقات الاجتماعيّة، يضع المطالعة في أوّل اهتماماته. ويساوي هؤلاء، في المطالعة، بين المجلّات الفنّيّة في صالونات تزيين الشعر وكتب جبران ودواوين نزار قبّاني، إلى سواها من المؤلّفات.
     وبغضّ النظر عن أنواع الكتب التي يطالعها الناس، يبقى السؤال الأهمّ: هل يبقى الإنسان هو نفسه بعد قراءة كتاب ما، أم من المفترض أن يغيّر اطّلاعه على هذا الكتاب شيئًا ما ويضيف جانبًا إيجابيًّا، خاصًّا ومميّزًا؟
     إذا كان الأمر هكذا، فمن المتوقّع إذًا أن يكون كلّ الذين تعاطوا مع الكتاب، أيّ كتاب ذي مضمون ولغة، قد ارتقوا في سلّم القيم والمناقب. ولكنّ الأمر غير ذلك في غالب الأحيان، فإنّ كثيرًا من الذين يتباهون بانكبابهم على المطالعة ليل نهار إنّما هم أشبه بطاولاتٍ تراكمت فوقها أنواع الكتب من دون أن يدخل ما في هذه الكتب في جوهر الطاولة، ويغيّر شكلها ولونها ووظيفتها. وإذا كانت المكتبة مليئة رفوفها بالكتب والموسوعات فلا يعني أنّ هذه الرفوف كائنات مثقّفة ومطّلعة.
     يفخر رجل في العقد السادس من العمر بأنّه يقرأ أيّ كتاب يقع تحت يده، أو أيّ مجلّة أو جريدة، ويتحدّث بإسهاب عمّا يحفظه، وشعرًا ونثرًا وحكمًا وطرائف. في اختصار هو موسوعة متنقّلة، ولكن هل جعل ذلك منه إنسانًا مختلفًا ومميّزًا؟ وهل يتوافق إطّلاعه هذا مع مواقفه المتشنّجة في الانتخابات البلديّة والاختياريّة، حين عادى من لا يتوافق مع مصالحه الخاصّة؟
     وتلك الجامعيّة الشابّة التي قرأت كمًّا كبيرًا ممّا أصدرته اللغة الفرنسيّة، وما تُرجم إلى هذه اللغة، لماذا لا تستطيع أن تجري حوارًا هادئًا ورصينًا وعقلانيًّا، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والمواقف العصبيّة وردّات الفعل المريضة؟
    وذاك المثقّف الذي يصل إلى المقهى متأبّطًا عشرات المجلّات والصحف والكتب، يوزّعها أمامه مظهرًا سعة علمه وتعدّد ثقافاته وتنوّعها، كيف يمكن أن يكون هو نفسه الموظّف الذي يمارس النميمة ويتحرّش بزميلته ويساير ربّ عمله؟
    الأمثلة أكثر من أن تحصى، وكلّها يقول إنّه لا يكفي أن نقيم إحصاء لعدد الكتب التي بيعت أو أن نشيد بالنجاح الذي حقّقته معارض الكتب، بل الرهان الحقيقيّ هو في ما تفعله هذه الكتب بالقرّاء الذين من المفترض أن يتحوّلوا بعد كلّ كتاب أشخاصًا أكثر حريّة وعدالة وتسامحًا وتجرّدًا، وإلّا كانوا ببغوات تلقي ما لُقّنته.
    قد يكون من الوهم أن نطالب القرّاء، كلّ القرّاء، بهذا التحوّل العجائبيّ، ولو كان الأمر بمثل هذه السهولة لكان رجال الدين بقراءاتهم المتسامية، والفلاسفة بنظريّاتهم النقديّة، والشعراء بعوالمهم الفردوسيّة والأدباء بأحلامهم التغييريّة... قدّيسين وأبطالًا، ولكان العالم مكانًا أفضل للعيش. ولكنّ الأمر أصعب من ذلك بكثير، والمطالعة التي يضعها الناس – أكثر الناس كذبًا وادّعاء – في مقدّم لائحة هواياتهم لم تستطع أن تتحوّل عصًا سحريّة أو دواء عجائبيًّا.

     يعترف القرّاء "الحقيقيّون" بأنّ حياتهم قد تغيّرت نحو الأفضل بعد قراءة رواية أو قصيدة. ويقولون إنّ المطالعة قد عرّفتهم على أنفسهم وعلى العالم المحيط بهم، وساعدتهم في تحمّل الكثير من مشقّات الحياة وتقبّل مصاعبها. فما قرأوه لم يكن مجرّد معلومات متراكمة، بل أضحى جزءًا من كيانهم ونسغًا يغذّي جفافهم ودمًا نابضًا في عروقهم، فصاروا أشخاصًا آخرين، أقوى وأوثق وأبهى.
     وإذا كانت عمليّة الإبداع مخاضًا عسيرًا ومؤلمًا، يأتي بمولود جديد، فإنّ دور المتلقّي لا يمكن أن يكون أقلّ ألمًا وعذابًا. فالمتلقّي الجدّي حين يقرأ إنّما يعي أن طريقًا صعبًا وممتعًا يمتدّ أمامه، وكلّ ما كان يعرفه ويشعر به ويحفظه ويؤمن به قد يتعرّض في أيّ لحظة من مهمّة القراءة إلى ثورة وانقلاب أو على الأقلّ إلى تبدّل ما. وهذا لا يمكن أن يتمّ بسهولة، فالعمليّة الجراحيّة التجميليّة مثلًا تحسّن صورتنا على المدى الطويل ولكن ليس بلا ثمن باهظ.
     أمّا إذا كانت المطالعة لا تهدف إلّا إلى تضييع الوقت، مثلما يفعل بعض الناس في أثناء الرحلات مثلًا، أو على شاطئ البحر، أو عند المزيّن أو لاستجلاب النعاس والنوم، أو لدى سماع الموسيقى، فإنّ هذه المطالعة الحصريّة لا تعيد خلق ذلك المتلقّي من جديد ولا تصنع منه إنسانًا آخر. وكلّ ما يمكن أن تفعله هو "قتل" الوقت أو تكديس معلومة جديدة تكون مدار حديث في الصالونات. لا يمكن أن تتمّ القراءة من دون تعب، ولا يمكن ألّا يشعر القارئ بالإرهاق مع توالي الصفحات مهما كان النوع الذي يكتشف عوالمه.
طبعًا نحن نتحدّث عن الكتب الكتب!
     إنّ عمليّة المطالعة رحلة في رمال متحرّكة، أو تسلّق جبال، أو سباحة في محيط هائج، أو تفتيش عن مخرج في غابة أفريقيّة، لا يمكن أن تتمّ من دون مشقّة ترافقها متعة الاستكشاف والتحدّي والتفاؤل بالوصول. ولهذا فمن غير اللائق أن ينتقل المرء من مطالعة كتاب إلى آخر بسرعة قياسيّة وكأنّه في مباراة رياضيّة، فكيف يبدأ المغامر رحلة جديدة قبل أن ترسخ في رأسه ذكريات الرحلة السابقة، يستعيد محطّاتها ويستخلص دروسها، ويدوّن نتائجها ويحفظ جغرافيّتها وتاريخها ووجوهها. وحين "يهضم" المغامرة التي صارت جزءًا منه ينطلق في رحاب مغامرة جديدة.

يعترف قرّاء حقيقيّون بأنّ حياتهم قد تغيّرت نحو الأفضل بعد قراءة رواية أو قصيدة،
ويقولون إنّ المطالعة جعلتهم أشخاصًا آخرين،
أقوى وأوثق وأبهى


     إنّ الأديب الكثير الإنتاج والقارئ السريع الاستهلاك متشابهان، كلاهما فقد القدرة على الاستمتاع بما يفعله. وإذا كان الأوّل محكومًا بضرورات العرض والطلب وحاجات السوق والتجارة فإنّ الثاني يلجأ إلى الكتب مدمنًا وهاربًا من واقع لا قدرة له على تغييره. قد يقول بعض الدعاة إلى تشجيع المطالعة: لا بأس، أليس ذلك أفضل من الابتعاد عن الكتب والقراءة؟ قد يكون الاعتراض منطقيًّا، ولكنّ الإدمان مهما كان هدفه يحمل في داخله بذور هلاكه. والهاربون من واقعهم لا يجرؤون على حمل الرسالة التي من المفترض أن يُطلب منهم حملها والشهادة لها. وما يقال عن الكتب يصحّ أيضًا على المسرح والسينما، فإنّ الأعداد الهائلة من مشاهدي الأفلام السينمائيّة لا تعني أنّ جمهورًا مثقّفًا وذوّاقة قد نشأ، والاندفاع إلى أحد العروض المسرحيّة لا يعني أنّ هؤلاء المشاهدين قد خرجوا من المسرح وهم يحملون هموم المجتمع والناس، وأنّ كلّ الذين شاهدوا "بافاروتي" وسمعوه متعوّدون سماع الأوبرا. وإذا كان صحيحًا أنّ في لبنان عشرين ألف متذوّق لذها النوع من الموسيقى، فهنيئًا لنا هذا المستوى الثقافيّ الرفيع!
     إنّ كثرًا من الذين حضروا حفلة المدينة الرياضيّة لا يملكون تسجيلًا واحدًا لهذا النوع الموسيقيّ، ومثلهم كمثل الذين يشاهدون مباريات كرة السلّة الذين كانوا إلى المس القريب يجهلون كلّ شيء عن هذه اللعبة، فصاروا اليوم يحفظون أسماء اللاعبين، وهذا في رأيهم كاف لكي يتحدّثوا حديث العارفين عن أداء أولئك اللاعبين.
     إنّ الأعداد المرتفعة لمتتبّعي مباريات كرة السلة لا تعني أنّ جمهورًا رياضيًّا قد نشأ، وإنّ ازدحام السير أمام صالات السينما أو المدينة الرياضيّة لا يعني قطّ أنّ الحركة الثقافيّة في موسم عزّها، فلماذا لا يزدحم السير أمام معرض تشكيليّ مثلًا؟ ولماذا لا نسمع بأخبار الذين يسافرون إلى الخارج لحضور حفلات موسيقيّة مثلما سمعنا بالذين أتوا من الخارج ليشاهدوا "بافاروتي" ويسمعوه؟ وأن يحفظ أحدهم القصائد العربيّة بدءًا بامرئ القيس وصولًا إلى أحدث ما نشرته الصفحات الثقافيّة في الصحف، لا يعني في الضرورة أنّ هذا "الأحدهم" قد صار مثقّفًا، ما دامت أخلاقه ومبادئه تشكّل ما يشبه "علبة مسنّنات محكمة الإغلاق، تسيّر الفكر والعمل في اتّجاه واحد، ويمدّها بالقوّة محرّك ذو مصدر وحيد، لا غير، لتتزوّد بالوقود" على ما يقول إدوار سعيد في كتابه "صور المثقّف"، متابعًا أنّ "الجانب الأصعب لكونك مثقّفًا هو أن تمثّل بعملك وتدخّلاتك ما تجاهر به، من دون أن تتحوّل تصلّبًا إلى مدرسة، أو إلى ما يشبه آلة ذاتيّة الحركة تعمل بأمرة نظام أو منهج ما" (ص 122).
     كم نحتاج، نحن القرّاء، إلى كثير من الخجل، حين نحوّل الكلمات مثّلجات ملوّنة، نوحي لأنفسنا بأنّنا نحارب بها حرّ الصيف ولهيبه. وكم نحتاج، نحن القرّاء، إلى كثير من التواضع قبل أن نعلن أمام الملأ وبالفم الملآن، المستوى الرفيع الذي وصلنا إليه كمثقّفين.

الجمعة، 20 أبريل 2012

الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (6)


طوم هانكس في فيلم "فوريست غامب"

الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(6)


     تخبرنا "نهى" عن شابّ غريب الأطوار في بلدتها، يجلس تحت شجرة أمام منزله، يراقب المارّة على دروب البلدة، ولا يفارق مجلسه ما دام النهار نهارًا والطقس يصلح للجلوس خارجًا. وتقول إنّ ذلك الشابّ حرّم عليها المرور على الطريق حين وقع عليها اختياره لتكون ضحيّة غرابة أطواره. لقد بدات القصّة يوم ناداها فالتفتت إليه لتفاجأ بسيل من الشتائم والسباب ينهال عليها، واتّهامات متلاحقة في حقّ أخلاقها وسلوكها لأنّها تردّ على الصبيان وتنظر إلى كلّ من يناديها. وأحرجت "نهى" حين انفجر مجتمع القرية بالضحك. وفي اليوم التالي اضطرّت الفتاة إلى المرور أمام المنزل إيّاه ولم تلتفت إلى المجنون حين ناداها، ومع ذلك لم تسلم من لسانه إذ بدأ يسخر منها وينادي الناس ليروا تلك الفتاة "المهذّبة الآدميّة". ومنذ ذلك اليوم، صارت قصّة "نهى والمجنون" على كلّ شفة ولسان.
     وفي مجموعة "أحداث وأحاديث من لبنان" لـلحد خاطر، الجزء الثاني، تنقلنا قصّة "مجنون قزحيّا"، إلى قرية لبنانيّة لم تعرف بين سكّانها مجنونًا قبل أسعد يوسف أسعد المعروف بالخال. كان ذا أطوار مستغربة وميول شاذّة، يثور ويغضب لأسباب تافهة، فيمزّق ثيابه ويرمي من حوله بكلّ ما تطاله يداه. ولكي يزداد الطين بلّة، أحبّ أسعد فتاة اسمها "ثليجة" وأراد الزواج منها، فرفض أهلها لعلّة أسعد في أعصابه، فازداد هيجان الشابّ. وشاءت الظروف أن تموت "ثليجة" إثر وباء ضرب القرية فاشتدّ أسعد جنونًا على جنون، وهام على وجهه مشعّث الشعر، حافي القدمين، ممزّق الثياب، فاضطرّ شبّان القرية إلى الإمساك به وجرّه بالقوّة إلى منزله حيث قيّدوه "واهتزّت القرية لجنون "الخال" لأنّها لم ترَ مجنونًا بين أهلها منذ عهد بعيد، وهبّوا جميعًا إلى بيت أبيه يؤاسونه في مصابه" (ص187). وبدأوا يتداولون في أسباب الجنون وطرق علاجه (قبل العصفوريّة ومستشفى الصليب وقتذاك)، فقال شيخ منهم إنّه سمع ممّن سبقه إنّ الجنون سببه إبليس، يدخل في جسم المرء بسماح من الله على إثر تفوهه بلعنة أو سباب في دير أو في كنيسة أو على قبر أو مجرى ماء أو عتبة باب أو حارون موقد وذلك لأنّ الملائكة الصالحين يقومون على حراسة هذه الأمكنة. وقال آخر إنّ من أسباب الجنون المغاربة والبرّاجين وبصّاري البخت الذين يتلاعبون بعقول الناس، ووافقته امرأة قائلة إنّ هؤلاء يكتبون للناس خطوطًا سحريّة يرصدونها باسم ملوك الجانّ السبعة.
     وقرّر والد أسعد البحث عن طريقة لإنقاذ ولده، فلجأ أوّلًا إلى الحاج عبدالله الذي فتح له "مندلًا"، ثمّ طمأنه إلى شفاء ابنه بعدما نقل الشيطان من أسعد إلى دجاجة سوداء كان قد طلبها. ولكنّ أسعد بقي على حاله، فذهب والده إلى خوري الضيعة ليقيم الصلاة على نيّة شفاء الشابّ المريض. وأخيرًا، نقل أسعد إلى دير قزحيّا الذي لبث زمانًا مديدًا المستشفى الأوحد للمصابين بالأمراض العقليّة في لبنان. وتقول الحكاية إنّ أسعد تحسّنت حاله هناك، ولكنّه رفض مغادرة الدير وبقي خادمًا للرهبان حتّى وفاته.
داستن هوفمن في فيلم "رجل المطر"
     ويقول لحد خاطر في فصل بعنوان "الجنون فنون": إنّنا ننظر إلى المجنون ولسان حالنا يقول: يا له من مجنون! وينظر هو إلينا في غمرة جهادنا وأتعابنا وهمومنا فيضحك منّا ويقول عنّا: يا لهم من مجانين!
     أليس هذا قول مجنون ليلى، قيس الملوّح؟
     قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم /
                         ما لذّة العيش إلّا للمجانين
     ووافقه المتنبّي حين قال:
     ذو العقل يشقى في النعيم بعقله /
                      وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
     ولكن من يقنع تلك العروس السيّئة الحظّ بسعادة أولئك المجانين في عالمهم الخاصّ؟ والعروس هذه شابّة صغيرة راحت "خطيفة" مع رجل لم يمضِ على لقائها به سوى أسابيع. قبلت به لتهرب من عائلتها، فوقعت على رجل يريد اهله تزويجه في أسرع ما يمكن، من فتاة غريبة عن البلدة لأنّه خارج للتوّ من دير الصليب، ويريد أقاربه إزالة تهمة الجنون عنه بأيّ وسيلة. وتفجّر جنونه عنيفًا بعد زواجه بفترة، فما كان من العروس الهاربة من بيتها الأبويّ إلّا أن تهرب من جديد من منزلها الزوجيّ حاملة عجزها ووحدتها، وتاركة خلفها العجز والوحدة. (هذه الحكاية أوحت إليّ بقصّة "جولييت" في روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا").


العقل زينة
     يقول زياد الرحباني في برنامجه الإذاعيّ إنّ العقل زينة. ولكنّ البرنامج الذي يحمل هذا العنوان يمتلئ بمختلف أنواع الجنون: من الخاصّ إلى العامّ، ومن المحليّ إلى العالميّ. وكأنّه صورة تجمع كلّ المجانين، وحال تختصر كلّ الحالات. وزوّار الرئيس حبيب باشا السعد كانوا ينقلون عنه وهو على فراش المرض قوله: نشكر الله، منيح اللي مش أعظم! وحين يسألونه وما هو الأعظم من هذه الآلام والمعاناة كان يجيب: بعدو عقلي معي.
بين العقل والجنون لحظة. وبين التزيّن بالعقل والتعرّي منه مسافة يقطعها المرء بسرعة الضوء. وإذا كانوا قديمًا يفاجأون بوجود مجنون واحد، فمن العجب اليوم أن نجد عاقلًا واحدًا. ولعلّ أنواع الحبوب المهدّئة التي تباع في الصيدليّات بوصفة طبيّة ومن دون وصفة، تشير إلى الاستعداد النفسيّ عند الكثيرين للانتقال من مجرّد تعب أعصاب إلى جنون مطبق. وحين صارت حبّة المهدّئ هي جسر العبور والصديق الذي لا يغدر والحبيب الذي لا يخون والعائلة التي لا تتفكّك، حلّ البرد وعمّ الخوف.
     كانت كلّ غرابة عند الناس جنونًا، فما كانوا يعرفون الانهيار العصبيّ ولا التوتّر النفسيّ. الجنون هو العنوان العريض الذي يختصر كلّ المعاناة والأسئلة والقلق، وإذا تساهل المجتمع كان "الهبل" هو البديل، يلحقونه بعبارة: الله يستر، ما حدا بحطّ فوق راسو خيمة.
     إن هذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحالين هو الذي يجعل منهما وجهين لعملة واحدة يشتري بها الناس الأخبار لسهراتهم شتاء حول الموقد، وصيفًا تحت العريشة. ومع التلفزيون، أضافوا إليها حكايات "أخوت شانيه" و"أربع مجانين وبس" وشخصيّة ليلى كرم في مسلسل "السراب". ومع السينما شخصيّة "رجل المطر" التي أدّاها داستن هوفمن، وشخصيّة "فرويست غامب" التي أدّاها طوم هانكس... وعشرات غيرها.

ليلى كرم
     مش طبيعيّ، أهبل، مجدوب، مجنون، هبيله، مسطول، عطيله، متخلّف، أجدب، عالهلّة، سويعاتي، راننها... كلمات مجّانيّة يقرّر بها الناس مستوى القدرات الفكريّة عند آخرين. كلمات تقال أمام أحياء يُعاملون كأنّهم جثث موتى لا حياة فيها ولا كرامة لها. بل إن الموت يفرض هيبته، ويفرض لغته، فلا يقول الناس عن الميت، مهما كان تاريخ حياته حافلًا، إلّا الكلام اللائق لأنْ "صار الحكي على الموتى تقيل".
     ولكن من حسن حظّ هؤلاء المرسومين أسياد الغرابة والغربة أنّ الناس أنفسهم يعطون الشعراء والأطفال الكثير من هذه الصفات. ومن كان الشعر والطفولة معه، فمن عليه؟
(انتهى)

الجنون في بعض ملامحه الأدبيّة والفنيّة (5)


فيلمون وهبي


الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(5)

مخّول الكبير ومخّول الزغير ولولو السويعتيّة
     في مسرحيّة "جبال الصوّان" يلعب فيلمون وهبي دور "نعّوم الهبيلة" الرجل الساذج الذي يصرخ بما لا يجرؤ الآخرون على الهمس به، وحين أجبره المحتلّون مع غيره من الناس على الاحتفاء بفاتك المتسلّط أعلن نعّوم أمام الحاكم المتباهي، أنّه ومن معه أُرغموا على المجيء، فيحاول المرافقون الاعتذار مبرّرين بأنّ نعّوم أهبل، فيقول لهم فاتك: وجايبين هبيله يرحّب فينا؟ فيردّ نعّوم: ليش اللي فيه عقل بيجي؟ وفي مشهد آخر، يعلن نعّوم حبّه لجميلة بالشعر والكلام المنظوم فتدهش جميلة وتتساءل: شاعر كمان؟ فيقول لها: فكرك حدا شاعر قدّ الهبيله؟ ثمّ تقول له إنّ الأعداء كثر وهم يراقبون الجميع، فيجيبها: الهبيله ما بيهمّو، فلتان من المراقبة.
يا إمّي دولبني الهوا

     وفي مسرحيّة "دواليب الهوا" تبدو شخصيّة مخّول بريئة إلى حدّ السذاجة وربّما ساذجة إلى حدّ البراءة، وعندما تعاتبه حلا (صباح) لأنّه قَبل بحرق القصب الذي يريدون تصنيعه في "دواليب الهوا" يعتذر ويلوم نفسه لأنّه اقتنع من "المجرمين" الحقيقيّين. ويقول: "تفو عليك يا مخّول الكبير، وتسلم تسلم يا مخّوا الزغير. وفي اسكتشات الرحابنة تتكرّر شخصيّتا مخّول وسبع كأنّ الرحبانيّين اكتشفا أنّ هذه الصورة (السذاجة) ضروريّة ليكتمل مشهد القرية كما عرفاها: المختار والناطور والسكّير والراعي والبيّاع...والهبيلة!
     يحكون في بعض القرى أنّ ثمّة عائلات مكتوب عليها أن يكون في جيل من أجيالها إمّا مجنون وإمّا ساذج بسيط. ويخبرون عن عشرات الشخصيّات التي ألهمت كبار المسرحيّين والممثّلين أدوارًا تعكس جنون واحد وبساطة تفكير آخر، وتكبّر صور غرابتهم واختلافهم، فيصيرون رموزًا يضعون على ألسنتها كلّ ما يريد المجتمع قوله أو الاعتراض عليه.
     كنّا صغارًا حين قرأنا مجموعة "قصص لبنانيّة" لكرم البستاني، ودمعت عيوننا التي لم تكن رأت شيئًا من هذه الدنيا بعد، تأثّرًا ببراءة نعمان وطفولته وبساطة قلبه. ونعمان، بطل قصّة "البسيط القلب" شابّ يصدّق كلّ ما يقال له ويأخذه حرفيًّا. وهذه السذاجة جعلته يدعو الطفل يسوع في الصورة إلى تناول العشاء معه، فلبّى الطفل الدعوة، ولأنّ السماء لأنقياء القلوب صار نعمان قدّيسًا.
     يردّ الناس أسباب هذه السذاجة (وبعيدًا عن العلم) إلى طبع يرثه الإنسان منذ الولادة، أو إلى إعاقة عقليّة ناتجة من خلل ما، أو إلى تخلّف تتسبّب به حرارة مرتفعة في الجسم في زمنِ كانت طرق العلاج بدائيّة. وغالبًا ما يترافق هذا التخلّف مع إعاقة جسديّة أو توتّر عصبيّ أو تأتاة في الكلام. وعلى عكس الجنون الذي لا يمنع الناس أنفسهم أمامه من التعليق أو الضحك أو الخوف، فإنّ التخلّف العقليّ يحظى بالشفقة، فتمنع الأمّهات أولادهنّ من السخرية من هؤلاء المرضى: لا تضحكوا عليهم وإلّا بتصيروا مثلهم. وإذا كانت أسباب هذه الإصابات العقليّة والنفسيّة مرضية، فإنّ الجنون كما تسمّيه العامّة وتحلّل أسبابه، ناتج عن صدمات عاطفيّة أو خلافات عائليّة. ولكن هذا لا يمنع أن يكون وراءه أيضًا أسباب أخرى كالاضطهادات الدينيّة والانهزام الفكريّ أو السياسيّ أو انهيار القضايا الكبرى وخسارة الأرض والوطن. وفي قصّة "خليل الكافر" لجبران وجه من وجوه الضرر الذي تلحقه بعض السلطات الدينيّة عن جهل وتخلّف، ويقال إنّها مستوحاة من معاناة أسعد الشدياق شقيق أحمد فارس الشدياق العلاّمة الأديب.
     وفي رواية "معبر الندم" لـأحمد علي الزين ضحيّتان، إحداهما الدكتور الياس الرملي الذي "أصيب بخيبة أمل هائلة بعد سقوط العالم الاشتراكيّ، وأحرق مكتبته التي كانت تضمّ حوالى مئة ألف مجلّد في الفلسفة والنظريّات الماركسيّة وكتب مذكّرات لقادة العالم ودواوين الشعر وأكوامًا من الجرائد والمحاضرات التي كان يلقيها زمن الثورة، لقد استقال من الجامعة واشترى بتعويضه قطيعًا من الغنم ولجأ إلى الجرد" (ص110). والضحيّة الأخرى راشد الحيفاوي الذي مذ ترك فلسطين وهو يرفض النوم داخل المنزل الذي هرب إليه أهله "كان يعرف أنّه في بلد تسمّى "خربة النواح" وأنّ حيفا بعيدة، لكنّه ما كان يدرك أنّ هذا البعد مضت عليه سنوات طويلة. كان يظنّ أنّ الحرب وقعت لتوّها ويمسح رأسه براحته معتبرًا أنّه ما يزال ينزف" (ص172). واستقدم أهل الخربة وأهل راشد الدكتور نادر ماضي لعلّه يجد العلاج الذي يعيد راشدًا إلى رشده. ولكنّ الطبيب فوجئ بسؤال راشد له: "لشو يكبر البني آدم؟" ويصمت الدكتور مفكّرًا، فيقول أبو راشد أنّ ابنه كان من المتفوّقين في العلم في حيفا، فيردّ الطبيب: "ما زال متفوّقًا علينا" (ص186). ويصير الطبيب وراشد صديقين، يأتي الواحد منهما إلى الآخر من عالمه الخاصّ لعلّه يجد عنده الجواب.
لولو السويعتيّة
نطّرونا كتير    
     والطبيب النفسيّ (نبيل أبو مراد) يصرخ فرحًا في مسرحيّة "لولو":
     قوليلهن قوليلهن!
     يوجّه كلامه إلى الفتاة التي يريد المجتمع التخلّص من خوفه منها، من الظلم الذي ألحقوه بها، وذلك باتّهامها بالجنون، وتقول له "لولو" البنت السويعاتيّه (فيروز) كما يلقبّونها، وبعد أن يبرّئها من التهمة: "وإنت كمان مش مجنون!"
      وفي هذه المسرحيّة بالذات، مجنون معترف به رسميًّا، اسمه رعد (بيار جماجيان)، تستغلّه السلطة للإيقاع بالعاقلين. يهدّد ويتوعّد، ويخاف الناس لسانه، ومع ذلك فإنّ رعدًا يتّهم لولو بالجنون، ويقول لنايف بو درع (جوزف ناصيف): "رح خبّر مرتك إنّك بتحبّ الخوته (المجنونة)، والبلد ما بتساع اتنين خوت". (يتبع)

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.