الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

قبل أن تنتهي السنة (2009)


قبل أن تضاف إلى سنوات عمري سنة جديدة
قل لي أنّي ما زلت شابّة جميلة.
قبل أن تعلن ساعة منتصف الليل انتهاء عام وبدء عام
قل لي أنّي أصلح لكي أكون امرأة أحلامك.
قبل أن يطلق الناس الأسهم الناريّة في ليلة العيد احتفالاً بالعيد
قل لي أنّي المرأة المناسبة في المكان والزمان المناسبين.
قبل أن تكسر النسوة الصحون والأقداح الزجاجيّة ليتخلّصن من شرّ السنة الراحلة
قل لي أنّي أيقونتك المرفوعة فوق مذبح أحلامك.
قبل أن يتعتع الفرح العقول ويطلق الألسنة بكلام لا تميّز صدقه من كذبه
قل لي أنّي ابتسامتك الدائمة وفرحك النابع من عمق أعماقك.
قبل أن أعتاد الضجر والوحدة واليأس والحزن 

قل لي أنّ السنة القادمة ستكون أجمل من السنة الراحلة.
قبل أن يطلّ صباح اليوم الأوّل من السنة الجديدة
قل لي أنّ كلّ يوم من حياتنا سيكون يومًا أوّل من سنة جديدة، قبلها سهرة عيد وبعدها أمل أكيد.
قبل أن تبحث لي عن هديّة ثمينة
قل لي أنّي هديّة السماء إليك.
قبل أن تقرأ كلماتي
قل لي الكلمات التي أنتظرها لكي لا أقول أنّني أنعشت ذاكرتك وما كلماتك سوى صدى كلماتي.
قبل أن تنتهي السنة
قل لي كوني بخير لأكون بخير.
قبل أن يلتقي عقربا الساعة عند منتصف الليل ويتعانقا في حنان...
دعنا نلتقي أوّلاً 
ثم قل لي ما تريد.

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

أمراض ومستويات (2010)

نانسي عجرم قبل أوجاع العمليّات التجميليّة
كارول سماحة: الغوى بدّو قوى

متألّمة
متالّم
آلام وأسر


لا يكفي أن تكون مريضًا، لا يكفي أن تمزّقك الآلام والأوجاع، بل عليك أن تحدّد نوع المرض ومستواه الاجتماعيّ ومرتبته في الجسد، أو لن تشبع فضول السائلين الذين يعودونك ليعرفوا أكثر، ليعرفوا عنك أكثر.
فالأمراض في مجتمعنا أنواع:
هناك الأمراض الشاعريّة كتلك التي تصيب القلب أو الرئتين أو تلك التي تصيب العينين أو الرجلين، وتذكّرنا بعهد الرومانسيّة حين كنّا نرى العاشقة في الروايات والأفلام تتخلى عن حبيبها قبل أن يعرف بمرضها المميت أو إعاقتها المفاجئة. وكان الكلام المتقطّع والنفس المقطوع علامتين من علامات الألم والمعاناة، فلا نعلم إن كان الحبّ هو الذي يفعل ذلك أو المرض.
وهناك الأمراض ذات المستوى الفكريّ الممتاز، كالصداع والاضطراب العصبيّ وأوجاع المعدة. وهي على الموضة ولا يخجل أحد من الإصابة بها أو كان من خارج هذا الكوكب ولا يعاني ما يعاني منه الناس العاديّون. وهي دليل على أنّ أصحابها من المفكّرين المشغولين بحلّ أزمات الكون.
وهناك الأمراض ذات المستوى المعيشيّ الراقي، كالدهن في الدم والسكريّ والسمنة وهي تشير إلى قدرة شرائيّة عالية،وإلى أنّ اصحابها من روّاد المطاعم ومن الجالسين خلف المكاتب من دون حركة تذيب الشحوم والدهون.
وهناك الأمراض التي تثير الخوف وتجعل أحدنا يقول في سرّه: ما حدا فوق راسو خيمة. وتنحصر حاليًّا في السرطان الذي لا نعلم متى يضرب ضربته التي غالبًا ما تكون ضربة معلّم. هذا المرض الذي كان يشار إليه بالصفة صار على الموضة أيضًا وبات من النادر أن يمرّ يوم من دون أن نسمع بإصابة جديدة له.
وهناك الأمراض المخجلة التي تصيب الجهازين الجنسيّ والمعويّ. وغالبًا ما يشار إلى العمليّات المتعلّقة بها بـ"عمليّة بسيطة"، فيفهم السائل أنّ المصاب عضو لا يجوز ذكره أو النظر إليه أو الحديث عنه علنًا. والطريف أنّ اللبنانيّين يتحدّثون عن هذه الأمراض باللغة الأجنبيّة معظم الأحيان، وكذلك يفعلون حين يشيرون إلى الفحوص المخبريّة المتعلّقة بها، كأنّ الحديث عنها بلغة أجنبيّة راقية ينقلها إلى مستوى "كلاس" وتتغيّر طبيعتها.
الأمراض مستويات. وإذا كان لا بدّ من الإصابة بمرض فصلِّ كي تصاب بواحد تفتخر بالحديث عنه في المجتمعات والصالونات، أو اجتررت ألمك في صمت ووحدة.

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

الفقير في العيد: زوروني كلّ سنة أكثر من مرّة (2010)

طفلة هنديّة تعمل لتأمين قوتها

     ألا يكفي أنّه فقير؟ ألا يكفي أنّه لا يملك شيئًا من حطام هذه الدنيا، فاتركوا له على الأقلّ كرامته، ولا تجعلوه موضوعًا لبرامجكم ومقالاتكم في مناسبة الأعياد ثم تركنونه على الرفّ في خزانة الضمير بعد أن تقولوا له: وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، من العامّ المقبل، وكلّ عيد وأنت فقير يا فقير.
     الفقير في العيد يقول للتلفزيونات والصحف التي تجعله حبش العيد المحشو وعودًا وتمنيّات: زوروني كلّ سنة...أكثر من مرّة.
     على الإعلام أن يسلّط الأضواء على الفقر لا على الفقراء، على الإعاقة لا على المعوّقين، على اليتم لا على الأيتام، وبمعنى آخر يجب أن نعالج المشكلة لا أن نكتفي بفضح نتائجها أمام الكاميرات وفي عناوين الصحف. فمن السهل أن نجد فقراء راغبين في عرض مشاكلهم على شاشات مضاءة في كلّ بيت، ولكن إلى كم من الوقت سينقذه ذلك من عتمة يغرق فيها باقي أيّام السنة؟ ففي ليالي العيد، الأثرياء لن يتسمّروا أمام الشاشات لمشاهدة فقراء يحسدونهم على ثرائهم، والفقراء سيقولون في أنفسهم: نملك ما يكفينا من المشاكل ولسنا في حاجة إلى مزيد منها. أو يقولون: لماذا حلّت نِعَم التلفزيونات على هؤلاء وليس عليّ؟ وبالتالي كيف حلّ الإعلام مشاكل الفقراء؟ "دي ليلة حبّ حلوة" بحسب كوكب الشرق، ولكنّ فقراء هذا الشرق لا تكفيهم ليلة عطف، فيها من النجوميّة أكثر ممّا فيها من الحبّ.
     أنا لا أنفي عن مقدّمي هذه البرامج أو عن الصحافيّين عمومًا مشاعر صادقة تجعلهم يرغبون في تقديم المساعدة، غير أنّ المنافسة المهنيّة والتسابق على من يحقّق سبقًا صحافيًّا مع أكثر الفقراء فقرًا أو مع أكثر المرضى مرضًا يجعلهم يتعامون عن الناحية الإنسانيّة ويتغاضون عن حقّ الفقراء والمرضى في خصوصيّة مشرّفة لا تجعلهم نجومًا تنطفئ مع إطلالة صباح العيد حين ينتهي الإعلام من تسليط أضوائه المخادعة على الفقر والمرض.
     يقول العارفون ببواطن أمور الإنتاج إنّ كلفة الحلقات التي تعالج مشكلة الفقر والتي تعرض خلال الأعياد، مع ما يرافقها من إعلانات، تكفي عائلات كثيرة طيلة سنة كاملة. والملابس التي يرتديها مقدّمو هذه البرامج مع كامل زينتها وأكسسواراتها تخفّف بثمنها المرتفع الديون عن كواهل كثيرين من أرباب العائلات، فما الحكمة التي تقف خلف هذا النوع من البرامج، وما الهدف منها؟ وكيف نفسّر لأنفسنا الإعلانات عن السيّارات والمجوهرات والكحول والعطور في برامج مخصّصة لمعالجة الفقر؟ وهل نريد القول للفقراء لا تقتربوا من هذه السيّارات النظيفة للتسوّل ولا تتركوا بصماتكم القذرة على لونها المشعّ، ولا تتردّدوا في البكاء فدموعكم تشبه حبّات اللؤلؤ حول أعناق نسائنا، ودعونا نمطركم بالكحول لتنسوا فقركم وبالعطر لننسى رائحتكم النتنة؟
     إنّ إراحة الضمير لا تكون بعرض فنيّ باذخ، والإحسان والصدقة لا يكونان في العلن وأمام ملايين المشاهدين، وليلة الحبّ هذه ستكون حتمًا بألف ليلة وليلة من النسيان والإهمال والجوع.
     وإلى اللقاء في العيد المقبل مع فقير آخر.


فلنترك العيد للأطفال إن لم نستطع أن نعود فيه أطفالاً (2010)



بدأ الناس في الأعوام القليلة الماضية تقليدًا جديدًا يقضي بالاحتفال بتوزيع هدايا الملاك الحارس في أماكن العمل، وذلك في مناسبة عيد الميلاد. ويعني ذلك لمن لا يعرف بأمر هذا التقليد الجديد أن يسحب كلّ عامل أو موظّف بالقرعة اسمًا لزميل أو زميلة له، ويحضر له هديّة.
الأمر لطيف وجميل، ولكن ما شهدت عليه في أكثر من مكان هو تشويه لمفهومَي اللطف والجمال، وبالتأكيد لا علاقة له بالمحبّة والعيد. فخلال دورة صندوق الأسماء على المعنيين تنطلق صيحات الاستهجان عندما يعرف من مدّ يده وسحب الورقة لمن سيكون "ملاكًا حارسًا":
- لا أريد أن أكون ملاكًا حارسًا لهذه المرأة فهي لئيمة وبالكاد تردّ التحيّة.
- لا أرجوكم، أيّ شخص آخر إلاّ هذا، فالرجل ثقيل الدم والظلّ ولا أطيق فكرة أن أختار له هديّة.
- إلاّ هذه المرأة التي لا يعجبها العجب، فمهما ابتعت لها ستتذمّر وتعبس.
- ماذا أختار لهذه المرأة من دون أن تظنّ أنّني معجب بها؟
- أنا سخيّ وفي كلّ سنة تكون هديّتي لسواي هي الأغلى ثمنًا في حين لا يقدّمون لي سوى الهدايا السخيفة.
وهكذا تتوالى تعليقات الاستنكار والاستهجان، فضلاً عن صيحات الرفض والاعتراض، يضاف إليها عبارات التأفّف والتذمّر، ما يجعل الاحتفال برمّته جولة من المصارعة المتحرّرة من قيود التهذيب وحسن التصرّف، عدا عن توالي مشاهد الخبث والتمثيل المفضوح. وهو مشهد مستهجن ومرفوض فكيف إن تزامن الأمر كلّه مع عيد يدعو إلى عكس ذلك؟
الأمر حلّه بسيط. لا داعي لكلّ ذلك. فلنترك للملاك الحارس صورته البهيّة الطاهرة، ولنبقَ شياطين كما كنّا خلال 364 يومًا في السنة.

الجمعة، 9 ديسمبر 2016

في ذاكرتي تاريخ من الأحذية


Anne Farmer

حذاء سندريلاّ، القطّ ذو الحذاء، حذاء الطنبوري، حذاء بابا نويل، قبقاب غوّار الطوشي، أحذية الضحايا الألف الذين غرقوا في نهر دجلة وهي مكوّمة على جسر الأئمّة (2005)، النعل الذهبيّ الذي اعتبره المخرج السوريّ عمر أميرالاي رمزًا يعبّر عن نظرة الناس إلى رئيس الحكومة اللبنانيّة رفيق الحريريّ في فيلم بعنوان: الرجل ذو النعل الذهبيّ، الحذاء الذهبيّ للاعبي الكرة، أحذية المصلّين أمام المساجد، الأحذية الفارغة المملوءة بخطط السفر في قصيدة غنّتها جاهدة وهبي للشاعر الألماني غونتر غراس، أحذية المزارعين في قريتنا حين كانوا يخشون أن يوسّخوا الأرض فيتركون النعال والوحل عند عتبات البيوت ويدخلون حفاة، أحذية الأطفال البيضاء الجديدة في أحد الشعانين، أو في احتفالات القربانة الأولى، يخافون عليها من الغبار ويتمنّون لو يطيرون كي تبقى أحذيتهم جديدة ونظيفة، ونبيّ الله موسى يخلع نعليه بأمر من الربّ، والمسيح يطلب من تلاميذه أن يخلعوا نعالهم ليغسل أرجلهم ليلة عشائه السريّ معهم، أحذية الجنود تمرّغ رؤوس المقاومين في كلّ مكان، الأحذية العتيقة التي كانت تجمع ليصلحها الكندرجيّ يعقوب الأرمنيّ في زياراته الأسبوعيّة إلى القرية وهو ينادي: مصلّح لاستيك، الأحذية الطبيّة التي تركها من تمّت فيهم أعاجيب القدّيس شربل فتركوها عنده في ديره في عنّايا من بلاد جبيل ومشوا أصحّاء سالمين، أحذية إيميلدا ماركوس زوجة الرئيس الفليبينيّ السابق تتناقلها وسائل الإعلام بعيد سقوط نظام حكمه: 1200 زوج من الأحذية في القصر الرئاسيّ و1600 زوج في منزل العائلة، الحذاء الذي كان ينتقل في العائلة من ولد إلى آخر بسبب الفقر والعوز ولا يهمّ إن ناسب القدم أم لا، قصيدة محمود درويش التي يغنّيها أحمد قعبور للمقاومين وفيها يقول: وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم، لوحة "الحذاء" للفنّان الهولندي فان غوغ التي أثارت غضب الأثرياء لما فيها من دلالات الفقر، حذاء خروتشوف في الأمم المتحدة يضرب به الطاولة ويحتلّ عناوين الصحف والكتب، الحذاء الصغير المعلّق في مؤخّرة السيّارة لدرء صيبة العين والحسد، الأحذية الصغيرة المصنوعة من البروسلين والمملوءة بالحلويات توزّع في مناسبة الولادة، "الصرامي" الملوّنة التي كانت تباع في أسواق بيروت القديمة وهي كناية عن قطع حلوى صغيرة تعبّأ في أكياس لتحملها الأمّهات لأولادهم المنتظرين هديّة "السفر" من الضاحية إلى بيروت، عبارة "شو هالصبّاط" التي يحفظها الشبّان من مسرحيّة لزياد الرحباني...وحذاء منتظَر الصحافيّ العراقيّ طبعًا.
في لبنان نقول عندما يولد طفل ثان في العائلة وللدلالة على خسارة الطفل الأوّل مرتبته: "نزلت صرمايته عن الرفّ". كم أتمنّى أن يكون الحدث الذي سينزل حذاء "منتظر" عن رفّ الإعلام وواجهات التلفزيون والإنترنت حريّة حقيقيّة نحتفل بها كلّنا في هذا العالم العربيّ المهدّد من أكثر من جهة، والمهيّأ للتفجّر من الداخل.
***
صحيفة البلاد البحرينيّة - الأحد 21 كانون الأوّل 2008

الخميس، 8 ديسمبر 2016

تلات رسايل من السما

خالي سليم حاملًا خالي ميلاد

خالي سليم وزوجته عمّتي إميلي

تقبريني يا عمتي، تقبريني يا ماري، كيفك؟ كيف إخوتك وإمّك وبيّك؟ أنا عمتك إميلي، نحنا هون كتير مناح، ما تشغلو بالن فينا. هون كهربا ومي كلّ الوقت، يعني فيي ساعة يللي بدّي حطّ زوم بالغسّاله، وما حدا بينقّ عليي. وفيي عبّي البرّاد والتلّاجه من دون ما إحمل همّ تروح الكهربا وكبّ الأكلات. بس يا عمتي مشتاقة لريحة كلّ واحد منكن. شو عرّفني ليش السما ما فيا غير ريحة، متل ريحة البخّور، ومنصير كلّنا عنّا نفس الريحة. طالع ع بالي شمّ ريحة ولادي وولاد ولادي وإخوتي وخيّاتي... حتّى الأكل هون ما إلو نفس الريحة متل ما كانت تفوح من عندي بالمطبخ. يمكن لأنّو الأكل كتير صحّي، وما بيموّت 😊... اضحكي يا عمتي، يقطع الزعل، ما في شي بيستاهل الزعل والبكي. إنتي متلي، سلامة قلبك، مهووسه بالنضافه، وهون السما نضيفه، ما في ولا نتفة غبرا، وبيضلّ السجّاد متل التلج، بس عم بزهق، لأنو ما في كتير شغل، خالك بيضلّ ينقّ عليي، لأنّي بضلّ مرّق إيدي ع الغراض، بقول بلكي إجا حدا جديد لهون وجاب معو غبرا!
ياعمتّي، ديري بالك ع إمّك وبيّك، قولي لإمّك تفكّ الحداد عليي وع إخوتا، سليم وميلاد مناح ومش عم يتخانقوا، بالعكس كل الوقت بيقولوا زجل وبيتحدّوا بعضن بالشعر واخْبار سلام الراسي. وستّك وجدّك كمان مناح، ومبسوطين فينا، وجريس إبن خيي بيجيب ستّو وبيّو وإمّو وبناتو وبيجوا يسهروا مرّات معنا، إيه خيي عزيز عم يقدر يتنفّس منيح، راح الربو، وسعاد مرتو بعدا متل ما هيي، قلب ع الحلّ، وكمان سهرنا مع يوسف إبن خيي ومرت خيي بشارة، هون في كتير أصحاب ومعارف وجيران، وإذا كلّ دقيقه بدّك تحكي حدا ما بيكفّي الوقت، بس أنا عم ضلّ مع أهل جوزي، الزلمه مات ورايي يا عمتي، معقول اتركو وروح عند أهلي 😊. ما بعرف يا عمتي كيف هون بيمرق الوقت، ما منعمل شي مهم، بس ما منتعب ولا منضجر، بس منشتاق لريحة يللي منحبّن. منضل نشوفن، بس ما منقدر نشمّ ريحتن، هيدي الشغله ناقصه بالسما، وحكيت العدرا بخصوص هالشغله. كمان هون، بدّك تكوني بتعرفي حدا إلو كلمه.
المشوار لهون ما كان طويل ولا صعب، تأخّرت شوي ت أوصل لأني نطرت خالك، كنت عارفه رح يلحقني، تاري هوّي كمان كان ناطر خيّو. وهيك مشينا سوا، بالمقبره شوي انزركنا، قولي لهالخوارنه يوسّعوا المدافن، يمكن في ناس ما بيحبّوا يضلّوا ع الأرض إذا يللي بيحبّوهن راحوا. وخالك كان يحبّني، بس صراحة ما كنت عارفه إنّو خيّو ميلاد كان يحبّو كمان هالقدّ.
مشغول بالي يا عمتي ع ولادي، بعرف هنّي قد الحمل وما بينخاف علين، بس قلب الإم ما بيتغيّر حتّى لو صار بالسما. ما تنسي تقولي لأمّك تعيّد الميلاد وتفكّ الحداد، بعرف ع الأرض بيكونوا عقلاتنا زغار، ومنخاف من حكي العالم، بس المهمّ يكونوا ولادنا وأحفادنا مبسوطين بالعيد. انبسطوا يا عمتي، وانتبهوا ع عُمر، هيدا زغير العيله، وعملولو عرس كبير، وسلّمي ع إختك هيام يللي كانت جارتي الما في متلا، وع سميره يللي ما تركتنا ولا دقيقه بالمستشفى
خالك عم ينقّ قال طوّلت بالرساله وهوّي ما عاد إلو جلاده يكتب، وعندو هوّي كمان كم شغله بدّو يقلّك ياها. وأصلًا أنا لازم شوف الطبخة، وإجلي ركوة القهوة. بخاطرك يا عمتي!

***
أنا خالك سليم يا ماري، قولي لبيّك إنّو غشّني بس عطاني إختو مقابل إختي، شو كان بدّي بهالشغله؟ دخلك كيف بتقلّك تقبريني يا عمتي هيي وبالسما؟؟😄عمّتك هون كمان بتنقّ ورح يهشل الله من طلباتا، قال شو؟ خلقا ضيّق، وبدا ترجع تطلّ ع الولاد، يعني عمتك مش فهمانه شي من شي، ويا ضيعان ما كانت تضلّ بالكنيسه. بعدو بالا بالأكل والشرب والتنضيف، وعتلانه همّ الولاد يموتوا من الجوع. ومن وقت ما فضي البرّاد من آخر طبخة تركتا، وهيي خايفه علين ما يعودوا يحبّوا الأكل من غير إيديها. عمتك خوتا بس بعدني مغروم فيا، وشوفي كيف رجعت صبيّه حلوه متل يوم عرسنا، ولو ما كان بالي طويل وأعصابي رايقه، كنت تركت السما، ونزلت ع جهنم... عم بمزح يا خالي، وإنتي بتعرفيني، ع كلّ حال، خلّينا نحكي بشي تاني:
أنا وميلاد عم نلعب داما، يا ريتك حطّيتي معو وقت لحقني طاولة الداما يللي عملا بيي، أوّل ما وصلنا سألني عنها. ع كل حال، دبّرنا حالنا، هون ما مننقطع من شي. حتّى المكتبه ما بتسكّر، والكتب ببلاش، يمكن عندكن كمان صار هيك، بس هون الكل صار يحبّ يقرا، مدري شو صرلن هالناس؟ كلّ يللي كانوا يتمسخروا عليي قد ما بقرا، صاروا ما بيتركوا الكتاب من إيدن. قولك هيدا نوع من القصاص. شفنا سلام الراسي ومارون عبّود وقعدنا معن شوي، طلعت أنا وخالك ميلاد حافظين كتبن أكتر منن. ع فكره خالك ميلاد بعدو عنيد وما بيعمل غير يللي براسو، وبيضلّو يتخانق مع المسؤولين هون. بدّو يعيد هندسة السما، وبدّو يفهم كل شارده ووارده، وبدّو يعمل كتب شعر. بس راسو مشغول بماجد كلّ الوقت. فهمان عليه، ما أنا كمان قلبي محروق ع ولادي، بس برجع بقول بدّي شدّ حالي قدّام مرتي وخيي. إمّي وبيي لأنن صرلن زمان هون، تعوّدوا، صاروا مع خوالي وخالاتي، وستّي برباره وجدّي، كأنّن من غير عالم. مبسوطين فينا، بس كأنن صاروا بيعرفوا أكتر ما كانوا يعرفوا، يمكن نحنا مع الوقت نصير متلن. كنت مفتكر الوقت هون مش موجود، بس يمكن لأنّو بَعْدنا مشتاقين عم نحسّ إنّو في شي إسمو وقت جايي معنا من الأرض وما عم يقبل يتركنا. انتبهي ع إمّك يا خالي، هيدي إم مارون، إمّ الكلّ، وانتبهي ع الحج، وقوليلو ما يواخذنا عذّبناه معنا بآخر فتره، بس الله بيكافيه بصحّتو وصحّة ولادو.  
مشغول بالي ع البنات، بس ما بحكي قدّام عمتك، بعدن مقهورين مع إنّو رح يصرلنا سنه تاركينن، الشباب غير شكل، بعرف من جوّا هنّي مقهورين كتير كمان، بس بالآخر الصبيان غير البنات، يا حرام هالبنات شو تعذّبوا معنا، بس والله بيّضوا الوج بحياتنا وموتنا. ومتل ما قالت عمتك، اعملوا عرس كبير لعمر، وما تبكوا، وأنا من هون رح إكتب قصيده، ورح جرّب إبعتا قبل العرس. عمتك مشتاقة لريحتكن وريحة الأكل ونسيت تقلّك إنّو مشتاقه كمان لريحة دوا الغسيل... بس أنا مشتاق للأصوات: صوت حجار طاولة الزهر، صوت الزغلول وموسى زغيب، صوت المزيعة بإزاعة لبنان، وخصوصًا صوات ولاد ميّادة وجورج وهنادي وجوزيف... هون في حكي، بس ما في أصوات... كأنّو الصوت شغله إلا علاقة بالأرض... مشتاق لصواتكن كلّكن يا خالي، ضلّكن حكونا، يمكن شي نهار نسمع الصوت مش الفكره وتصير السما حلوه أكتر...

***

بلّش خالك سليم بالبكي يا ماري، وما عاد قادر يكتب. أنا ميلاد، أكيد عرفتي خطّي وما كان في لزوم عرّف ع حالي... كيفك يا بنت؟ يا عتبي عليكي، ليش زعلانه هالقدّ علينا؟ وحدك بتعرفي قدّيش تعبنا، ومعليش إذا ارتحنا، خصوصًا أنا، ما إنتي بتعرفي شو كنت تعبان بعقلي وأفكاري، حتّى بالليل كان راسي يضلّ يشتغل ويخطّط ويحلم... الدنيي ما كانت سايعتني، كان لازم إجي لهون. بس ماجد يللي عم يخلّيني إندم ليش استعجلت الفلّه. ماجد كتير زكي يا ماري، أكتر ما إنتي بتعرفي، يمكن كرمال هيك كنت خاف منّو وخاف عليه. وحبّيتو كتير، أكتر ما كنت عارف إنّو الواحد بيقدر يحبّ. وحبّيتو أكتر وقت يللي كبر وصار شبّ عندو شخصيّتو وأفكارو، كأنّو وقتا اكتشفت شو يعني يكون الواحد عندو ولاد، وصرت إفهم أكتر ع بيي وإمّي وع خيي سليم.

بس كمان من هون بيقدر الواحد يحبّ، لأنو هون بيصير حدا تاني، حتّى ولو بقي يحبّ يطبخ وينضّف متل عمتك، أو يحبّ يلقوط غراض متل جدّك، أو يحبّ المطالعة متل خيي سليم، أو يحبّ يشارع ويعيّط متل ستّك. الحبّ هون غير شكل، ما بيتعّب ولا بيوجّع. يمكن بيوجّع شوي لأنو بعد ما نسينا كيف بيكون حريق الشوق للناس يللي منحبّن، بس يمكن مع الوقت، ومتل ما إنتو رح تتعوّدوا ع غيابنا، نحنا كمان رح نتعوّد نسهر عليكن من هون.
هون في كلّ شي، متل ما بيقولو المسافرين ت يطمّنوا أهلن، حتّى الدخّان موجود، ورجعنا أنا وسليم ندخّن... بس يمكن اللمسة يللي كانت هونيك ناقصتنا. هون منشوف كتير منيح، بس متل ما عمتك مشتاقة للريحة، وسليم مشتاق للصوت، أنا مشتاق إغمركن، إغمر ماجد وولاد شادي وكابي، وإغمر بنات سميره، وإغمر إختي سعاد، وقلّها كيفك يا ختياره... وإغمرك متل ما كنت أعمل بس إرجع من السفر، وترجعي بنت إختي الزغيره يللي ما بخاف إلّا من لسانها يللي ما بيرحم حدا وخاف عليها من أفكارها يللي خلقت معها وأكبر منها بشي تلاتين سنه.
انتبهي ع إمّك وبيّك وماجد يا ماري وقوليلو ينتبه ع إمّو وما يزعّل إخوتو، وع بنات سميره، الكبار والزغار بالعيله بدّن عنايه خاصّه، الباقيين، ما زال الحمد لله صحّتن منيحة بيدبّروا حالن، ما تعملوا متلنا وتضيّعوا العمر بخناقات زغيره ما إلها معنى... قولي لمارون يتزوّج ويجيب ولاد وما يتأخّر متلي، وقولي لموريس يقطع الغربه، خلّيه يرجع يعيش معكن.

بريد السما استعجل، قال ع العياد بيصير في عجقة رسايل طلوع، وهيدا آخر بريد نازل نزول قبل الموسم، منبقى نحكي ع رواق.. انتبهي ع حالك ولا بقا تبكي...

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

ما حدا يهديني جزمة كاوتشوك (2009)



     كان في قرية من قرى لبنان عائلة تتوق إلى صبيّ بعد سلسلة ولادات كانت نتيجتها مجموعة بنات. وكان في قرية أخرى بعيدة كنيسة تسمّى "مار الياس الراس" أمامها بئر عجائبيّة المياه تهب البنين للمحرومات والمحرومين. ويؤكّد الناس أنّ على كلّ عائلة ترغب في الحصول على وليّ العهد الذي طال انتظاره أن تربط آخر بنت في العائلة بحبل على خصرها وتدلّيها في تلك البئر حتّى تغمرها المياه إلى عنقها. وهناك، في عتمة المكان وبرودته على الفتاة الخائفة أن تصرخ إلى مار الياس مردّدة ما علّموها إيّاه: يا مار الياس الراس ابعتلي ع راسي راس. والرأس المطلوب هو صبيّ في طبيعة الحال. وبالفعل قامت تلك العائلة بما تقضي به التقاليد، وأنزل رجال العائلة الطفلة الهلعة إلى البئر بعدما وعدوها بإعطائها كلّ ما ترغب فيه. وحين خرجت وهي ترتجف من البرد والخوف، سألوها عمّا تريد فكان جوابها: جزمة كاوتشوك. وبقيت على طلبها مع أنّ الحاضرين سخروا من غبائها وقالوا لها: ألم يكن في استطاعتك أن تطلبي أسوارة ذهب أو ملابس جديدة أو لعبة تتكلّم؟



     تعود إليّ الحكاية في كلمات مختلفة، أكتبها كلّ مرّة كأنّها حكاية جديدة، وكأنّ الفتاة الثانية لا تعرف الأولى، والثالثة لا تعرف الثانية، وكأنّ الحكاية جرت في كلّ قرية من قرى لبنان وبقيت جزمة الكاوتشوك كجزمة بابا نويل تسير على الدروب الضيّقة لتصل إلى قدمين صغيرتين حافيتين تريد صاحبتهما أن تقفز في الحقول وتعبر السواقي وهي مطمئنّة إلى أن لا شوك يجرح جلدها الطريّ ولا حشرة تلدغها وتبكيها.

     تعود الحكاية حين أرى إلى الناس وهم يهرعون لشراء الهدايا وتبادلها على العيد من دون أن يكون عندي كبير ثقة في أنّهم يتهادون فعلاً ما يرغب كلّ منهم في تقديمه أو الحصول عليه، أو أنّهم يجدون متّسعًا من الوقت ليصغوا إلى ما يريده الآخرون عوض أن يتمّموا واجبًا فرضته الأسواق التجاريّة والعادات الاجتماعيّة لتبقى عجلة الاقتصاد في حركة كلّها بَرَكة لمن يعرف قوانين البيع والشراء والتوفير؟

     لا أحد يعرف إن كانت الفتاة حصلت على جزمة الكاوتشوك، أو إن كان الصبيّ المنتظر قد ولد مخلّصًا الفتاة من رحلة ثانية إلى بئر الأسرار. فالحكايات تنتهي دائمًا عندما يتوقّف المستمع عن الإصغاء لتبدأ رحلته مع حكاية أخرى. وأنا كنت دائمًا أتوقّف في حكاية أمّي عند جزمة الكاوتشوك. ومنها أعود في مخيّلتي إلى جسد تلك الفتاة المرتجفة بردًا وخوفًا وغضبًا. الغضب لم يحضر حين استمعت إلى الحكاية في المرّات الأولى، لم أكن مستعدّة للاعتراف بأنّ الطفلة تستطيع أن تغضب على والديها اللذين لا يتوقّفان عن إنجاب الأولاد، وعلى أخيها المنتظر الذي سيخلّد اسم أبيه، وعلى رجال العائلة الذين لفّوا الحبل حولها، وعلى النساء اللواتي شجّعنها لتنقذ أمّها من غضب أبيها، وعلى نفسها لأنّها فتاة، ولأنّها طفلة، ولأنّها عاجزة عن الرفض. فكان طلبها جزمة الكاوتشوك، بساطها السحريّ الطائر الذي تستطيع عبره الابتعاد إلى عالمها الخاص بعدما أجبرها الآخرون على الخروج مرّتين من رحم المياه وهي التي لم تختر الدخول إلى أيّ منهما.

     في المشهد الختاميّ لمسرحية المحطّة، تصرخ "وردة" واهبة الأحلام وزارعة الكلمات طالبةً بطاقة سفر تحملها، مع الذين آمنوا ثمّ رأوا، في القطار المنتظر إلى حيث تبدأ الأحلام الجديدة: حدا يعطيني ورقه/ حدا يعطيني ورقه، بقيت تردّد. ولكنّ دورها في السفر لم يحن بعد، وعليها أن تزرع المزيد من المحطّات في سهول الأرض. هذه المرأة ألا تشبه طفلة الجزمة؟ والطفلة نفسها التي نزلت إلى البئر لتصعد بالصبي الضائع بين مائي أبيه وأمّه وتختم به سلالتها، ألا تشبه "زمرّد" التي نزلت إلى البئر لتنقذ ختم المملكة؟ وهل الحكايات كلّها حكاية واحدة لا تضجر الحياة، تلك الجدّة العجوز، من سردها؟

     هذه المرّة عندما استعدت حكاية الطفلة ذات الجزمة الكاوتشوك كانت المسكينة مرهقة تعبة، فكونها الوحيدة بين أخواتها التي تملك جزمة واقية كان عليها أن تذهب إلى الدكّان لجلب الأغراض، وأن تساعد والدها في العمل، وأن تنظّف البيت والطريق. والغريب في الأمر أنّها على رغم مرور السنوات وتقدّمها في العمر ونمو قامتها بقيت قدماها صغيرتين على قياس الجزمة إيّاها.

* صحيفة "النهار" - الثلاثاء 22 كانون الأوّل 2009

معارض كتب أم دويلات طائفيّة؟ (2011)


قبل ثلاثين سنة، لم يكن في الإمكان تمييز الهويّة الدينيّة لزائري معرض الكتاب العربيّ


يقوم السلم بتحقيق ما لم تستطع الحرب أن تحقّقه: يشرذم البلد طائفيًّا ومذهبيًّا ويحوّله تجمّعات محدودة المساحة ضيّقة الأفق. وها هما فسحتا الثقافة الكبريان في لبنان ترتديان عباءة الدين شاء القيّمون عليهما أم أبوا: مهرجان الكتاب في أنطلياس مسيحيّ الطابع، ومعرض الكتاب العربيّ إسلاميّ الهيئة، وكلّ من يرفض هذه الرؤية يتعامى عن الواقع ويرفض الاعتراف بهزيمة العلمانيّة أمام سطوة التيّارات الدينيّة على مختلف وجوه الحياة. أمّا العدد القليل من العلمانيّين الذين يصرّون على التواجد في هذا المكان أو ذاك فتتوزّع أهدافهم بين من يتحدّى المصير الطائفيّ المحتوم أو من يرغب في فرض وجوده بين الطائفيّين مهما كان الثمن. هذا من دون أن ننسى أنّ عراقة معرض الكتاب العربيّ تربطه بذاكرة بيروت حين كانت بيروت ترقص وتسهر وتكتب وتعشق وتفكّر وتحلم مثيرة بحريّتها حسد عواصم الدول العربيّة. ومن دون أن نتناسى طبعًا أنّ مشاركة دور النشر "المسيحيّة" إذا جاز التعبير تطمح إلى انتشار عربيّ يعوّض عليها خسائر السوق اللبنانيّة التي لا تولي القراءة اهتمامًا يذكر، وبالأخصّ بين المسيحيّين الذين يحبّون أن يتباهوا بأنّهم لا يقرأون كتبًا باللغة العربيّة.
قد يثير هذا الكلام حساسيّة من يعتبر أنّ الأمور لا تزال في هذا المجتمع على ما كانت عليه، وقد يرى فيه المسيحيّون تأكيدًا لمخاوفهم من الاضمحلال، والإسلاميّون تعبيرًا عن سطوتهم الثقافيّة بعد تمدّدهم الجغرافيّ وتفوّقهم العدديّ، لكنّ الفريقين يرفضان الاعتراف بأنّهما في عنادهما وجهلهما حركة التاريخ أوصلا البلد إلى انقسام جوهريّ لن يسهل إصلاحه، هذا إن رغب أحد في ذلك.



من يتردّد سنويًّا على المعرض العربيّ للكتاب قد لا يتوقّف طويلاً عند ظاهرة دور النشر الإسلاميّة الكثيرة وزائريها الكثر الملتزمين، أمّا من يقصد المعرض للمرّة الأولى تلبية لدعوة توقيع فلن يتردّد في وصف المعرض بالإسلاميّ لا العربيّ، ولو لم يكن هذا طبعًا هدف النادي الثقافيّ العربيّ أو المعرض الذي احتفل هذا العام بدورته الخامسة والخمسين. في المقابل لا يمكن عدم ملاحظة عدد الكهنة والراهبات في معرض أنطلياس المرتبط حكمًا بكنيسة مار الياس أنطلياس ما يجعله أقرب إلى معرض دينيّ مسيحيّ وإن لم يكن ذلك ما هدفت إليه الحركة الثقافيّة. ومن الواضح أنّه لا يكفي أن تكون الثقافة هي الكلمة المشتركة بين اسمي المشرفَين على المعرضين كي نطمئنّ إلى سيطرة ثقافة العلمنة والحريّة والانفتاح على عالم الكتب.
افتتاح المهرجان اللبنانيّ للكتاب في أنطلياس برعاية مسيحيّة

أمام سيناريوهات التقسيم التي يتبارى الجميع في ادّعاء الاطّلاع عليها ومعرفة تفاصيلها ومواعيد تنفيذها، لن نحلم بأن يحظى العلمانيّون بدويلة، ما داموا لم يستطيعوا الانتصار في ميدان الثقافة إذ خسروا جبهات كثيرة كانت تحت سيطرتهم كالجامعة اللبنانيّة والصحافة ودور النشر والمكتبات، فضلًا عن الأحزاب ووسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة.
ولعلّ الانقسام الطائفيّ الفاضح يتبدّى في أبشع وجوهه حين نعرف الاتجاهات الدينيّة للمدارس التي تنظّم زيارات تلامذتها إلى واحد من المعرضين، فنتأكّد يقينًا من أنّ الخطب الرنّانة التي تلقى في افتتاح معارض الكتب والسنة الدراسيّة مشيدة بثقافة المواطنة لا مكان لها في عالم الواقع اللبنانيّ.

الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

غباء نسائيّ



غباء
أن تكتبي الشعر في زمن الخبث
أن تتكلّمي في زمن النميمة
أن تصلّي في زمن العهر
أن تؤمني بالأصدقاء في زمن المصالح
أن تنجبي أطفالاً في زمن الموت
أن تداوي مريضًا في زمن اليأس
أن تكوني سخيّة في زمن التسوّل
أن تكوني خلاّقة في زمن الدمار
أن تكوني طائرًا في زمن الضفادع
أن تكوني عاشقة في زمن الأنانيّة
أن تكوني وفيًّة في زمن الغدر
أن تحبّي في زمن الرواتب والرتب
أن تكوني على حقّ في زمن الجبناء
أن تحملي قلمًا للكتابة لا "قلم حمرة"
أن تكوني مختلفة في زمن آلات النسخ.
*****
غباء
أن تؤمني بأنّك ذكيّة في حين أنّك أكثر الناس غباء لأنّك لم تخبّئي ذكاءك!
أن تؤمني بأنّك تقومين بما عليك في حين أنّ الناس مقتنعون بأنّك تمثّلين دورك ببراعة!
أن تؤمني بأنّك بالكلمات تستطيعين أن توقظي العالم في حين أنّ الأمر يحتاج إلى مجرّد لكمات!
أن تؤمني بأنّك تشاركين في ثورة في حين أنّك تنتحرين!
أن تؤمني بأنّك جعلت هذا العالم مكانًا أفضل لبعض الناس في حين كان من الأفضل لو بحثت عن مكان تعتزلين فيه العالم والناس!
*****
غباء
أن تتقدّمي في العمر من دون ضمان صحيّ
أن تتقدّمي إلى وظيفة وأنت مرتفعة الرأس
أن تتقدّمي في العمل على حساب حياتك الخاصّة
أن تتقدّمي بالتهنئة من غبيّ صار مديرًا
أن تتقدّمي من المنبر وفي الصفّ الأماميّ نائمون
أن تتقدّمي بالاعتذار ولو لم ترتكبي خطأ.

*****
غباء
أن تضعي لآلئك أمام الخنازير
أن تضعي ثقتك في سلام غير سلامك الداخليّ
أن تقنعي الرجل بأنّ ذكاء المرأة لا يخيف.
أن تكوني صوتًا صارخًا والناس موتى.
أن تطلبي المساعدة من صديق خارج برنامج "من سيربح المليون"!
أن تتابعي العمل بعد الدوام الرسميّ.
*****
غباء
أن تبحثي عن الحبّ وأنتِ عربيّة في الخمسين من عمرها،
أن تنتظري نهاية الخدمة من العمل لتنالي تعويضك، في حين أنت تصرفين راتبك على أدوية مهدّئة تساعدك على تحمّل ربّ العمل والزملاء،
أن تتوقّعي معرفة من قتل جدّك في الحرب،
أن تضيّعي الوقت في قراءة كتاب مملّ وسخيف لمجرّد أنّ كاتبه أهداك إيّاه،
أن تصدّقي أنّ حزبًا يبقى على مبادئ مؤسّسه،
أن تؤمني بأنّ الحرب في لبنان ستنتهي يومًا،
أن تجدي عربيًّا لا تنبع أفكاره من معدته، وعاطفته من بين ساقيه، ووطنيّته من جيبه.
*****
أمّا غباؤك الخطير فهو أن تقولي لأحدهم إنّه غبيّ.
هو غبيّ يا ذكيّة فكيف سيفهم ما تقولينه له.

الأحد، 27 نوفمبر 2016

عمّو جورج صوما يتّكئ على سيكارته ويمضي




فتّشت طويلًا عن صورة التقطناها لعمّو جورج صوما من أمام بيتنا، ولم نجدها. غريب كيف أنّ الصور الورقيّة لا تضيع، بينما تضيع منّا صور محفوظة في ذاكرة الكاميرا أو الكمبيوتر
هو في تلك الصورة يشبه هذا العجوز المتّكئ على عصاه. فالتي التقطت الصورة له، ولم أعد أذكر من مِن بنات شقيقتي سميرة، اتّخذتها له من الخلف، وهو في نزهته اليوميّة قرب مزار مار الياس في وسط ساحة الريحانيّة: يد على العصا، يد خلف ظهره، وسترته العسكريّة تحميه من لفحات برد ما عاد جسمه يحتملها.
اسمه جورج، أهلنا ينادونه "أبو بسّام"، نحن نناديه عمّو صوما، ربّما لأنّ كثرًا في الحيّ كانوا يحملون اسم جورج، فميّزناه باسم عائلته.
كان عمّو صوما عسكريًّا بسيطًا، وكانت أحلامه بسيطة. لم يكن بطلًا في معركة، ولم يكن يريد أن يغيّر العالم. لكنّه لسبب ما، ومن دون أن يدري أو يخطّط أو يقصد، صار رجلًا له شأن، وغيّر حياة عائلته. كيف؟ كان لائقًا لطيفًا مع زوجته، وأحسن تربية أولاده وكان جارًا خدومًا لا يرفض طلبًا، مبتسمًا لا يؤنّب ولدًا ولا يشتم كبيرًا، كريمًا بابه المفتوح، يدعوك للزيارة لتكتشف أنّ البيت الصغير يتّسع لضيوف كثيرين، وركوة القهوة تكفي وتفيض.
وكان يكفي أن يصاب عمّو صوما بالمرض الذي أقعده طويلًا، كي نعرف كيف عامل زوجته وأولاده وأحفاده، فحين لا يتركونه لحظة واحدة بمفرده، نعلم كيف كان إلى جانب كلّ منهم، وحين يخشون عليه من الموت ولو كانوا يعرفون أنّ الموت يريد انتشاله من بينهم، نعرف كيف أنّ المرء لا يصير ثقيل الحِمل على أهل بيته إلّا متى خلا قلبه من المحبّة... وأعرف جيّدًا أنّ عمو صوما ما شعر يومًا بغير المحبّة.
في السنة التي فقدنا فيها عمّتي إميلي، وخاليّ سليم وميلاد، وجار الرضا نعمان حرب، وزوج عمّتي روزالي، رحل أبو بسّام ليكمل دقّ الطاولة أو لعب الورق مع جيران سبقوه. وحين أعود لأكتب عن وجوه ترحل من الريحانيّة فلكي أجدّد عهد البكاء على بلدتي التي تنطوي صفحة بعد صفحة مع رحيل أبنائها وساكنيها. فأن تقيم في ريحانيّة ذلك العهد الذي أتى فيه عمّو صوما ليقيم بيننا، فذلك يعني أنّك صرت من الريحانيّة وأنّ الريحانيّة صارت منك. وأن ترحل عنها فذلك يعني أنّّ ريحانيّة جديدة تتكوّن، لا نعرف، في خضّم السرعة التي تنهشنا فيها الحياة، إن كنّا سنجد الوقت بعد فيها لتذكّر جار أو حتّى لزيارته.
الريحانيّة اليوم تشارك في جنّاز الأربعين لعمّو صوما، لكنّي حين أقف أمام بيتنا، أراه، كما في تلك الصورة الضائعة، لا يزال هنا، يمشي بخطوات بطيئة أمام مزار مار الياس، ومن وقت لآخر تلحق به زوجته إم بسّام لتطمئنّ إلى أنّه لم يبتعد، ولم يقع. لكنّها في قرارة نفسها تعرف أنّ عيون أهل الريحانيّة عليه، ولن يتركوا الرجل الطيّب يتعرّض لمكروه.
في الليلة التي قضى فيها عمّو صوما، كانت زوجته وحدها معه. لم يكن الوقت تجاوز منتصف الليل، لكنّها، بهدوء المرأة الحكيمة الساهرة التي ذاقت مرارة فقد شقيقين شابّين، لم توقظ أهل الحيّ بصراخها وعويلها، اتصلت بأولادها الذين غادروا قبل قليل، طلبت منهم العودة بهدوء كي لا يزعجوا الجيران، أتى الكاهن، أتت سيّارة الإسعاف، أخذوا الرجل الطيّب الميت إلى المستشفى، أعدّوا أوراق النعي، علّقوها حيث يجب، وانتظروا الصباح. كلّ ذلك، بهدوء وسكينة كانتا سمتَي حياة تلك العائلة مذ أتت لتقيم في الريحانيّة منذ أكثر من خمسين عامًا. 
موتى الريحانيّة أقرب إليّ من أحيائها.
ربّما لأنّهم، حيث هم الآن، صاروا يعرفونني جيّدًا، ويفهمونني أكثر.
.ربّما لأنّ الريحانيّة لا مدافن فيها، بل ينقل أهلها إلى بعبدا ويعود ساكنوها إلى قراهم
ربّما لأنّني أراهم، وحدي أراهم، كلّ ليلة يجتمعون في ساحة البلدة، حين تخلو البلدة من السيّارات، وتعود إلى سابق عهدها البريء: السكائر في أيدي من كانوا يدّخنون، ومن كان يرتجل أبيات الزجل لا يزال على عادته في تكرارها، والنساء الخجولات لا يزلن على عهدهنّ، وكلّهم يبتسمون تلك الابتسامة التي تطمئن إلى أنّهم سعداء، وإلى أنّهم لن يغيبوا.

السبت، 26 نوفمبر 2016

«للجبل عندنا خمسة فصول»: سيرة ذاتيّة للوطن بين العقلنة والجنون - بقلم الدكتور جوزيف ياغي الجميّل



  "للجبل عندنا خمسة فصول" رواية للكاتبة ماري القصيفي، صادرة عن دار سائر المشرق، من دون تحديد تاريخ واضح للنشر. ولكنّنا نفهم من خلال الإهداء أنها صدرت سنة 2013، «في الذكرى الثلاثين لحرب الجبل 1983-2013». فما هي الصفة التي يمكن إطلاقها على هذه الرواية؟ أهي سيرة ذاتيّة أم تأريخ اجتماعيّ لحقبة من عمر المجتمع اللبنانيّ، في الشوف وعاليه، بين سنتي 1983 و1990؟

   لن أبدأ بالعنوان، كما درجت عليه الدراسات الأكاديميّة، أو بدلالاته وإيحاءاته، في مختلف المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة. سأخالف منطق البحث وأبدأ من نهاية الكتاب.

نظرة سوداويّة
   تقول الكاتبة في الصفحة الأخيرة من الرواية: «إنتهى الصيف ولم تنتهِ حكايات التهجير يا أبو جورج! فأجابني انّ لكلّ مهجّر حكاية ولكل عائد قصّة ولكلّ مفقود ومَيْت رواية، فكيف لشخص واحد أن يجمع كلّ ذلك في كتاب واحد؟» (ص 213).
   ونتساءل: أيعني هذا الكلام تعبيراً عن الإحباط أم هو نظرة واقعيّة بعين روائيّة أدركت زيف انتهاء الحرب والتهجير؟ وكأنها تقول: أصبح التهجير في لبنان من ثوابته، فصلاً من فصوله.
   هو فصل الشيخوخة والهرم، فصل الموت والغربة داخل الوطن. وهذا ما يؤكّده قولها: «إنتهى الصيف». والصيف رمز الشباب والنشاط والازدهار. الفصل الخامس هو فصل البحث عن الأمان والاستقرار في وطن المتغيّرات، في وطن غَدا المواطن فيه يبحث عن وطن يهاجر إليه ولا يُهَجّر منه. (ص 212)
   هي حقاً نظرة سوداوية أعلنتها الكاتبة القصيفي في روايتها هذه. نظرة إنسان حاصَره الإحباط والموت واللاإستقرار. وتتمثّل هذه الحال في صورة شخصيتين تعتبران أساس الرواية: شخصية سلوى وشقيقها سليم. سلوى العاقلة التي تحاول أن تتجاوز جنون التهجير لتجد متنفّساً لكبتها، وتدّعي لأخيها أنها تعيد بناء بيتها في الجبل.
   هي المجنونة الحقيقية لا شقيقها سليم، لأنها تبحث عن سلواها في الكتابة. واسم سلوى ليس اختياره عبثيّاً في الرواية. أمّا سليم الذي احتضنه الدير، فهو صورة واقعيّة عن النصف الثاني من الشعب اللبناني، الذي أصابته الحرب بجنون مآسيها، ولم تترك له متنفّساً إلّا الحلم.

مجنون المكان
   صحيح أنّ أيام التهجير حوّلت الإنسان اللبناني، أو من لم يستطع السفر من بلاده، إلى مجنون المكان والكيان. وسلوى التي حاولت توثيق التهجير في رواية، لا تقلّ جنوناً عن أخيها سليم، من باب تسمية الشخص بضدّه. وجنونها ليس وليد اللحظة، بل هو مرتبط بتاريخ من المجازر التي ارتكبت بحق طائفة من اللبنانيين، سنة 1860. أمّا أسباب تلك المجازر وذاك التهجير فهي سياسية تعود إلى وعد بلفور خدمة لليهود في فلسطين.
   فتساوى الشعبان اللبناني والفلسطيني في المأساة، ربما بسبب التخاذل، تقول الكاتبة: «هذا ما نبرع فيه نحن: الهجرة ثمّ الهجرة ثمّ الهجرة! وإقامة النصب والمزارات!»(ص 190)، أو بسبب الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الجميع، بلا استثناء، فغدا الجنون ذريعة للتهرّب من المسؤوليّة، إنطلاقاً من مبدأ: ليس على المجنون حرج.

عذراء الجبل
   عودة إلى مجريات فصول الرواية، فإننا نرى فيها عامل الادّعاء هو الكلمة المفتاح الطاغي في النصوص. فعذراء الجبل، أي سلوى، اعتبرت عاهرة الجبل طوال الحرب، بعدما ادّعى أحد المقاتلين زوراً أنه نال وطره منها، في حين أنه كان عاجزاً جنسياً لأسباب نفسيّة. وسلوى ادّعت لأخيها انها ترمّم بيت الجبل في حين انها كانت تكتب روايتها.
   والجميع ادّعوا انّ التهجير انتهى ولكنّ الكاتبة كانت تدرك أنّ الأمر غير صحيح. والمنزل العائليّ الذي ما زال مدمّراً في عين يوسف يثبت هذا الأمر. فالمهجِّرون (بكسر الجيم) والمسؤول المُزوِّر المُدّعي (المختار) هم الذين قبضوا التعويضات، لا الشعب المهجَّر المسكين.
   وكأنّ لعنة أزليّة هي المسؤولة عمّا جرى. لعنة حوّلت صيف الجبل الهانئ إلى فصل جنون. وكانت النتيجة أن تحوّلت بطلة الرواية نفسها، في الفصل الأخير إلى لعنة. فأمضت سلوى ثلاثين عاماً في دير الصليب.
   وكأنّ الكاتبة تعلن بذلك أنّ الوطن نفسه كان ضحيّة الإصابة بالجنون، في مصحّ عقلي. بل أكثر من هذا كان مصاباً بالسرطان القاتل. فخرجت الرواية من نوعها الأدبي المعروف لتصبح سيرة ذاتيّة، لا للكاتبة، بل للوطن.
    قيل الكثير عن حرب الجبل، في كتب التاريخ، وحتى في الرواية، ومن بينها رواية «ضيعة الله» للأديب الدكتور وليم الخازن. ولكنّ اللافت، في رواية ماري القصيفي، أنها أسيرة الواقعيّة المفرطة في الالتزام، فغدت شخصيّاتها رموزاً حيّة لواقع يطغى عليه التشاؤم والقلق.
    صورة عن الإنسان اللبنانيّ الذي تحوّل تهجيره في الحرب اللبنانيّة إلى لعنة أشبه بلعنة سيزيف في الأساطير اليونانية القديمة. وكم كنّا نطمح إلى شعاع شمس يخترق حجب ظلام الواقع، إلى استشراف أمل يدعو إلى إخراج القارئ من عالم الموت/اللعنة، إلى الحياة/ النعمة، بعيداً من الأحلام.

الخميس، 24 نوفمبر 2016

أناشيد الهزيمة

don-quijote-de-la-mancha
jesus-nicolas-castanon

في لحظة الهزيمة، يخلو لك المكان، ويسود الهدوء. 
يلحق المشاهدون بالمنتصر، وتمتلئ ساحته بأهازيج النصر، فتبقى وحدك، تنحني فتلامس جبهتُك جذورَك، تبكي فتروي دموعُك تربتك، وحينها تنجلي الصورة أمامك، فتصفو نفسك، وتعود إليك سكينة تاقت إليها روحك التي طال صراعها مع الحياة...
***
في لحظة الهزيمة، ترى ما لا يرى، وتسمع ما لا يُسمع، فالحجب زالت، والضباب انقشع، وغبار المعارك استراح، وصرتَ تعرف ما لم تكن تعرفه. 
تعود إليك حقيقتك، وتعود إلى حقيقتك. تكتشف كيف صمّت أذنيك أصواتُ الابتهاج تصدح في الحفلات والمهرجانات، وكيف دنّست صفوَك عجقةُ الناس على دروب حياتك، وكيف تهت عن ذاتك، وصرت الكائن الغريب الذي لا يمت إليك بصلة، ولا يشبهك...
***
في لحظة الهزيمة، لا انكسار ولا فشل، بل انطواء على جوهر الأمور، وعودة إلى الينبوع، إلى الرحم، إلى مياهك الجوفيّة، إلى عتمتك الداخليّة حيث لا أضواء باهرة ولا أناشيد نصر، بل هدوء ما قبل الإنسان، وما قبل الكائنات، وما قبل الكلمات.
***
تهزّك هزيمتك، تصفعك، تدعوك كي لا تكون عكّازًا إلّا لذاتك، كي لا تكون خيالًا إلّا لعبورك، كي لا تكون مرآة إلّا لأحلامك. وأحلامك قليلة وجميلة، وعبورك خفيف وبريء، وذاتك مسكونة بهاجس واحد لا غير: أن تحدث الفرق الذي تعرف أنّ سواك عاجز عنه...
***
هزيمتك تهزّك فتقع أوراقك اليابسة الميتة عند قدميك لتغذّيك بما حملته من شمس وهواء وتغاريد عصافير. وتبقى أغصانك عارية إلّا من التوق لشمس جديدة، وريح جديدة، وعصافير لم تعبر قبل الآن. وحين يعود إليك الربيع منتصرًا مزهوًّا، تعرف في قرارة نفسك أنّ الربيع أيضًا عابر وزائل، ولن يخدعك زهوه وانتصاره....
***
في الهزيمة، لا أجراس تُقرع فرحًا، ولا كؤوس تُرفع منتشية، ولا أكاليل غار تتباهى، ولا كلمات تُلقى من فوق المنابر، ولا تطلق النار ابتهاجًا، ولا زغاريد تردّدها الهضاب المحيطة بالقرى... لا شيء من هذا، بل صمت يطبق على صدر الكون، فيبدو كلّ شيء سائرًا نحو نهايته وأفوله....
***
في الهزيمة، أنت وحيد وكثير، أنت وحدك ومعك شعوب مهزومة، وأرواح هائمة، وأحلام خائبة، وأفكار مغدور بها. يدك لا تجد من يمسك بها، عينك لا تجد من يمسح دمعها، رأسك لا يجد من يداعب شعره، ومع ذلك تجد في نفسك صفاء لا تعرف مصدره، فتبارك اليد التي هزمتك، والعين التي عاينت وجعك، والرأس الذي يعانق بانتصاره عليك وجه السماء. ثم تغرق في نوم تؤمن في قرارتك أنّ ما بعده لن يشبه ما قبله...
***
تعيدُك الهزيمة إلى التراب، التراب نفسه الذي سيعود إليه المنتصر المتوَّج بالذهبِ... الذهبِ ابن التراب. 
***
تطمئنك الهزيمة إلى أنّك كنت شجاعًا فواجهت، ومصمّمًا فلم تتراجع، ومقدامًا فلم تجبن، ومحقًّا فلم تهرب، وعارفًا فلم تفشل، وقويًّا فلم يغلبك خوفك...
***
الهزيمة تكسر شوكتك ولا تكسرك، تجرّدك من سلاحك لا من ذاتك، تلغي مشروعك لا كينونتك، تؤجّل انتصارك إلى زمنٍ على قياس طموحك وآمالك...
***
هزيمة الأرض انزياح التربة عن عين من عيونها كي تفيض منها مياه رَواء... كنِ الأرض المهزومة بسكّة الفلّاح، وضربة المعول، ينفجرْ عطاؤك بالشكل الذي لم يكن ليخطر لك وجوده فيك...

***
ليلة آلامه قال المسيح لأبيه: تعبت، فخذني إليك! 
ليلة آلامه، شعر يسوع بالهزيمة، فقرّر أن يسلم نفسه. وفي لحظة الهزيمة انتصر المسيح الذي فيه. لم ينكسر، لم يخضع، بل استسلم فارتاح...

إنسانيّة بلا ناس أو ناس بلا إنسانيّة؟ (2010)

الرجل العجوز
(رامبراندت)

المرأة العجوز
(بول سيزان)

جنون

أسيرة الجنون
هنري مانويل (1930)

أيّة حضارة؟
(ماثيو شيثام)

أطلق الأميركيّ شارلز ليرد (88 عامًا) طلقة ناريّة واحدة على رأس زوجته (86) في مركزّ صحيّ لرعاية المسنّين فأرداها قتيلة. وقالت ابنة الزوجين كايثي بالماتير (68 عامًا) أنّ أمّها أصيبت بالخرف منذ خمسة أعوام، وبقي والدها يهتمّ بها بمفرده إلى أن ازدادت حالها سوءًا منذ ثلاثة أشهر، فنقلها إلى دار المسنّين، وبقي يزورها ثلاث مرّات في النهار ويطعمها إلى أن أرهقه ذلك. كان عمله قتلاً رحيمًا، تقول الابنة.
تعدّدت الحضارات، والموت واحد.
يزداد شعور الإنسان بالوحدة يومًا بعد يوم، ووسائل الاتّصال الكثيرة والمتطوّرة باردة ولا تعطي لمسة دافئة أو ابتسامة حنونًا أو قبلة مشاركة. فكلماتنا عبر الأثير تضيع في الأثير في حين أنّ التواجد مع الآخر هو الفعل الأكثر إنسانيّة. المعوّقون مبعدون إلى مراكز طبيّة، المتقدّمون في السنّ مهملون في دور العجزة، المدمنون على المخدّرات يرسلون إلى أماكن متخصّصة، الأيتام لهم مؤسّسات خاصّة، المرضى قابعون في المستشفيات. كلّ هؤلاء يحتاجون إلى رعاية دائمة من أقرب أفراد عائلاتهم ومع ذلك متروكون هم لخدمات تقنيّة، مطلوبة وضروريّة بلا أدنى شكّ، ولكنّها تبقى ناقصة من دون التزام بمشاعر الآخر الذي يعاني.
الرجل الأميركيّ تعب من الاهتمام بامرأة مريضة من دون أن يكون هنالك من يساعده. نحن في الولايات المتحدّة التي تريد أن تعلّم الناس الحريّة. الرجل اللبنانيّ تعب من تأمين القوت لزوجته وأولاده، نحن في بلاد الأرز التي ساهم أحد أبنائه، شارل مالك، في وضع شرعة حقوق الإنسان. الأوّل مسيحيّ والثاني مسلم، فإلى أين المفرّ؟ وما تعريف هذه الحضارة التي تتباهى بامتلاكها أحدث الاختراعات والاكتشافات وتفتخر بأنّها ملتقى الديانات السماويّة؟
كم يسهل إطلاق الأحكام والنظريّات حين يكون الواحد منّا مرتاحًا في حياته وإلى وضعه الصحيّ والماديّ وإلى وضع من يحبّهم، أو إن كانت قدرته على الاحتمال أقوى ممّا يملكه سواه! ولكن إن اعتبرنا أنّ الرجل الأميركيّ كان يريد قتل المرض فأردى زوجته خطأ، والرجل اللبنانيّ كان يريد قتل الفقر فقضى على زوجته وأولاده بلا قصد، إن اعتبرنا ذلك، أقول، وجب علينا أن نتّهم الإنسانيّة كلّها بإطلاق النار على الضحايا هنا وهناك حين صمّت أذنيها عن سماع أنين المرضى ونواح الجائعين.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.