تدعو منظّمة الأونيسكو العالم للاحتفال بيوم اللغة الأمّ في 21 شباط من كلّ عام. وإذا كانت كلمة "يوم" عنت الحرب عند العرب قديمًا، فقيل: أيّام داحس والغبراء، وأيّام البسوس، فلعلّ الوقت حان كي نعيد التذكير بهذا المعنى لأنّ "يوم اللغة الأمّ" هو حرب مفتوحة لا هدنة فيها ولا صلح يبدو قريبًا من فرض شروطه على المشاركين فيها، لأنّ المعركة الكبرى هي أن يحدّد العرب أوّلاً عن أيّ لغة أمّ يتحدّثون، وبعد ذلك يسهل الاحتفال بيوم النصر.
فهل اللغة الأمّ هي العربيّة المكتوبة، أم اللهجة المحليّة التي يسمعها الطفل من فمّ أمّه منذ لحظة تكوّنه، أم هي في خليط اللغات التي يسمعها الأطفال من أفواه الخادمات الأسيويّات وهنّ من مختلف الجنسيّات، أم هي لغة المدرسة وهي أكثر من لغة وتحمل أكثر من هويّة، أم هي لغة المراهقين الخاصّة التي ابتدعوها وتعايشوا معها وصارت لغة الحبّ والجنس والسهر والتواصل مع العالم الخارجيّ أم هي لغة الأفلام والأغنيات التي اعتادت آذان الناس سماعها منذ اللحظة الأولى لاحتكاكهم بعالم المرئيّ/ المسموع؟ عن أيّ "لغة أمّ" نتحدّث ونحتفل؟
لا شكّ في أنّ اللغة العربيّة الفصحى التي نستعملها في الكتابة تواجه تحديّات كبيرة، وجاء عصر الإنترنت وسهولة التواصل مع هذه الشبكة التي تهيمن عليها اللغة الإنكليزيّة وهي اللغة الأكثر استخدامًا في العالم، ليحصرا اللغة العربيّة الفصحى في خانة الأدب والشعر ويربطاها بطبقة المثقّفين، ومع أنّ ثمّة بلدانًا عربيّة تفرض تعلّم العلوم باللغة العربيّة إلاّ أنّ المتعلّمين يعرفون أنّهم يتعلّمون ترجمة عن أصل أجنبيّ سيعودون إليه إن تابعوا تخصّصهم، والبعثات العربيّة إلى الجامعات في الخارج تؤكّد ذلك. غير أنّ اتّهام الفصحى بالتقصير عن مجاراة العاميّة التي نتكلّم فيها يبدو أحيانًا مبالغًا فيه، فحين نرى أهلنا الأميّين يتابعون نشرات الأخبار والمسلسلات التي تعتمد اللغة الفصحى ويفهمونها ويتفاعلون معها نعرف أنّ هذه اللغة ليست بالصعوبة التي يحاول البعض إلصاقها بها، وحين نجد العرب، مسيحيّين ومسلمين، يستخدمون اللغة الفصحى في صلواتهم وترانيمهم وأناشيدهم الدينيّة، نكتشف أنّ هذه اللغة لا تزال في لاوعي شعوبنا حاضرة وقريبة من متناول فهمهم واستعمالهم.
غير أنّنا لا نستطيع أن نتجاهل الكمّ الهائل من المفردات الذي طعّم هذه اللغة على مرّ العصور: بيزنطيّة وفارسيّة وآراميّة وسريانيّة وعبريّة وإسبانيّة وتركيّة وهندية ويونانيّة وفرنسيّة وإنكليزيّة، بفعل الترجمة والتجاور والتلاقح والاحتكاك والهيمنة، وبقدر ما زادت هذه المفردات الأجنبيّة اللغة العربيّة غنى وقرّبتها من شعوب مختلفة وأدخلت إليها معاني جديدة، بالقدر نفسه غرّبتها عن جذورها وسمحت بالتلاعب بكثير من التراكيب والاشتقاقات والأساليب الكلاميّة. وهذا من طبيعة التفاعل بين اللغات والحضارات، وهذا يدلّ في شكل أو آخر على قدرة اللغة العربيّة على التماسك والصمود في غياب أيّ سلطة لغويّة، ولا شكّ في أن ارتباط هذه اللغة بالديانتين المسيحيّة والإسلاميّة ساعد إلى حدّ كبير على ذلك.
شخصيًّا، أميل إلى اعتبار الاحتفال بيوم اللغة الأمّ هو الاحتفال بلغة أحلامنا وأحاديثنا مع جدّاتنا وأطفالنا وتأوّهاتنا وأوجاعنا وتهويداتنا وأعراسنا ومآتمنا، وهي بالتأكيد ليست اللغة المكتوبة، أي ليست العربيّة الفصحى الجامعة، بل تلك العاميّة التي نتوارثها بلا قواعد أو شروط ما يجوز وما لا يجوز.
ربّما ليس هذا ما كان يجب أن تكون عليه الأمور، ولكن هذا ما آل إليه الوضع وبات من الصعب جدًّا معالجته في ظلّ الانقسامات العربيّة التي شرذمت الشعوب سياسيًّا وطائفيًّا ما انعكس تلقائيًّا على اللغة التي هي نتاج اجتماعيّ نفسيّ معبّر عن واقع الناطقين بها. يضاف إلى ذلك غياب المجامع اللغويّة، وهيمنة اللغات الأجنبيّة واللهجات المحليّة على الإعلام والإعلان، وضعف ملكة اللغة الفصحى، وعجز الأساليب التربويّة عن تعليمها بوسائل إيضاح حديثة أو عبر مناهج أكثر حيويّة ومعاصرة ولو عبر دراسة نصوص تراثيّة أصيلة.
وأسمح لنفسي بالإشارة إلى تجربة خاصة قمت بها حين كنت في مجال التربية، إذ جعلت التلاميذ يقومون بمقارنة نقديّة بين قصيدة غزليّة عذريّة لجميل بن معمر المعروف بجميل بثينة وأغنية لزياد الرحباني بصوت "سلمى مصفي" عنوانها "ما منيحة الرسالة" تتحدّث عن رفض المرأة لنظريّة الغزل العذريّ والمبالغة في البوح العاطفيّ وممّا فيها: "ما منيحة الرسالة/ ولا الحبّ الخيالي/ بصفحة وحدة 12 مرّة حبيبي/ وحاكي عن نهاية وعن عيشة باليي/ ليه دايمًا إيديي/ شعري أو عينييّ/ ليه ما بتحكي عن غير إشيا موجودة فيي/ حبّك مش حقيقيّ/ إنسى يا صديقي/ إذا هيدا إحساسي/ شو تركت للأهالي؟" وكانت المشاركة ممتازة وخصوصًا بعدما استمع التلاميذ للأغنية وقام فريق منهم بإعداد فيديو كليب عنها جمعوا فيه بين العصرين الجاهليّ والحديث.
الاحتفال باللغة الأمّ إذًا يتطلّب ثورة في الأساليب التعليميّة، وجرأة للخروج من المألوف، وقدرة على الاستفادة من فنون العصر وعلومه لجعل اللغة العربيّة لغة حياة لا أسيرة مناهج ومعاجم، وفي صراحة لست متفائلة بتحقيق ذلك.
فهل اللغة الأمّ هي العربيّة المكتوبة، أم اللهجة المحليّة التي يسمعها الطفل من فمّ أمّه منذ لحظة تكوّنه، أم هي في خليط اللغات التي يسمعها الأطفال من أفواه الخادمات الأسيويّات وهنّ من مختلف الجنسيّات، أم هي لغة المدرسة وهي أكثر من لغة وتحمل أكثر من هويّة، أم هي لغة المراهقين الخاصّة التي ابتدعوها وتعايشوا معها وصارت لغة الحبّ والجنس والسهر والتواصل مع العالم الخارجيّ أم هي لغة الأفلام والأغنيات التي اعتادت آذان الناس سماعها منذ اللحظة الأولى لاحتكاكهم بعالم المرئيّ/ المسموع؟ عن أيّ "لغة أمّ" نتحدّث ونحتفل؟
لا شكّ في أنّ اللغة العربيّة الفصحى التي نستعملها في الكتابة تواجه تحديّات كبيرة، وجاء عصر الإنترنت وسهولة التواصل مع هذه الشبكة التي تهيمن عليها اللغة الإنكليزيّة وهي اللغة الأكثر استخدامًا في العالم، ليحصرا اللغة العربيّة الفصحى في خانة الأدب والشعر ويربطاها بطبقة المثقّفين، ومع أنّ ثمّة بلدانًا عربيّة تفرض تعلّم العلوم باللغة العربيّة إلاّ أنّ المتعلّمين يعرفون أنّهم يتعلّمون ترجمة عن أصل أجنبيّ سيعودون إليه إن تابعوا تخصّصهم، والبعثات العربيّة إلى الجامعات في الخارج تؤكّد ذلك. غير أنّ اتّهام الفصحى بالتقصير عن مجاراة العاميّة التي نتكلّم فيها يبدو أحيانًا مبالغًا فيه، فحين نرى أهلنا الأميّين يتابعون نشرات الأخبار والمسلسلات التي تعتمد اللغة الفصحى ويفهمونها ويتفاعلون معها نعرف أنّ هذه اللغة ليست بالصعوبة التي يحاول البعض إلصاقها بها، وحين نجد العرب، مسيحيّين ومسلمين، يستخدمون اللغة الفصحى في صلواتهم وترانيمهم وأناشيدهم الدينيّة، نكتشف أنّ هذه اللغة لا تزال في لاوعي شعوبنا حاضرة وقريبة من متناول فهمهم واستعمالهم.
غير أنّنا لا نستطيع أن نتجاهل الكمّ الهائل من المفردات الذي طعّم هذه اللغة على مرّ العصور: بيزنطيّة وفارسيّة وآراميّة وسريانيّة وعبريّة وإسبانيّة وتركيّة وهندية ويونانيّة وفرنسيّة وإنكليزيّة، بفعل الترجمة والتجاور والتلاقح والاحتكاك والهيمنة، وبقدر ما زادت هذه المفردات الأجنبيّة اللغة العربيّة غنى وقرّبتها من شعوب مختلفة وأدخلت إليها معاني جديدة، بالقدر نفسه غرّبتها عن جذورها وسمحت بالتلاعب بكثير من التراكيب والاشتقاقات والأساليب الكلاميّة. وهذا من طبيعة التفاعل بين اللغات والحضارات، وهذا يدلّ في شكل أو آخر على قدرة اللغة العربيّة على التماسك والصمود في غياب أيّ سلطة لغويّة، ولا شكّ في أن ارتباط هذه اللغة بالديانتين المسيحيّة والإسلاميّة ساعد إلى حدّ كبير على ذلك.
شخصيًّا، أميل إلى اعتبار الاحتفال بيوم اللغة الأمّ هو الاحتفال بلغة أحلامنا وأحاديثنا مع جدّاتنا وأطفالنا وتأوّهاتنا وأوجاعنا وتهويداتنا وأعراسنا ومآتمنا، وهي بالتأكيد ليست اللغة المكتوبة، أي ليست العربيّة الفصحى الجامعة، بل تلك العاميّة التي نتوارثها بلا قواعد أو شروط ما يجوز وما لا يجوز.
ربّما ليس هذا ما كان يجب أن تكون عليه الأمور، ولكن هذا ما آل إليه الوضع وبات من الصعب جدًّا معالجته في ظلّ الانقسامات العربيّة التي شرذمت الشعوب سياسيًّا وطائفيًّا ما انعكس تلقائيًّا على اللغة التي هي نتاج اجتماعيّ نفسيّ معبّر عن واقع الناطقين بها. يضاف إلى ذلك غياب المجامع اللغويّة، وهيمنة اللغات الأجنبيّة واللهجات المحليّة على الإعلام والإعلان، وضعف ملكة اللغة الفصحى، وعجز الأساليب التربويّة عن تعليمها بوسائل إيضاح حديثة أو عبر مناهج أكثر حيويّة ومعاصرة ولو عبر دراسة نصوص تراثيّة أصيلة.
وأسمح لنفسي بالإشارة إلى تجربة خاصة قمت بها حين كنت في مجال التربية، إذ جعلت التلاميذ يقومون بمقارنة نقديّة بين قصيدة غزليّة عذريّة لجميل بن معمر المعروف بجميل بثينة وأغنية لزياد الرحباني بصوت "سلمى مصفي" عنوانها "ما منيحة الرسالة" تتحدّث عن رفض المرأة لنظريّة الغزل العذريّ والمبالغة في البوح العاطفيّ وممّا فيها: "ما منيحة الرسالة/ ولا الحبّ الخيالي/ بصفحة وحدة 12 مرّة حبيبي/ وحاكي عن نهاية وعن عيشة باليي/ ليه دايمًا إيديي/ شعري أو عينييّ/ ليه ما بتحكي عن غير إشيا موجودة فيي/ حبّك مش حقيقيّ/ إنسى يا صديقي/ إذا هيدا إحساسي/ شو تركت للأهالي؟" وكانت المشاركة ممتازة وخصوصًا بعدما استمع التلاميذ للأغنية وقام فريق منهم بإعداد فيديو كليب عنها جمعوا فيه بين العصرين الجاهليّ والحديث.
الاحتفال باللغة الأمّ إذًا يتطلّب ثورة في الأساليب التعليميّة، وجرأة للخروج من المألوف، وقدرة على الاستفادة من فنون العصر وعلومه لجعل اللغة العربيّة لغة حياة لا أسيرة مناهج ومعاجم، وفي صراحة لست متفائلة بتحقيق ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق