الجمعة، 29 يناير 2016

بكاء على رؤوس الأصابع - وثيقة وفاة



بعد اثني عشر يومًا على وفاة خالي "سليم" ونحو شهرين على وفاة زوجته عمّتي "إميلي"، وشهر على وفاة "عبدو" زوج عمّتي "روزالي"، مات منذ أيّام خالي "ميلاد"، وماتت في اليوم التالي ابنة عمّه "زبيدة"، بعدما صارعوا، وبالشكل الأقسى والأصعب، الحياة والمرض. والناس الذين كدنا ننسى وجوههم وأسماءهم، في عجقة اليوميّات وعجيج المجتمع، عدنا والتقينا بهم في مأتم تلو مأتم، وفي عيوننا متّسع لما يشبه الاعتذار لأنّنا أزعجناهم وأخرجناهم في هذا البرد والصقيع من دفء بيوتهم ليكونوا إلى جانبنا، مع أنّ أكثرهم لم يكن ولو لدقيقة واحدة إلى جانب الذين رحلوا.
مأساة الإنسان ليست في الموت الذي لا بدّ منه. فلماذا يرغب العلماء في إطالة أعمار الناس، ولأيّ هدف يريد الناس أن يعيشوا إلى ما لا نهاية، إن كانت الشرور باقية، والأمراض باقية؟ فلعلّ الموت أخفّ مآسي الإنسان وطأة، حين تقارنه بالأمراض التي لا شفاء منها والأوجاع التي لا علاج لها والمعاناة التي تهدر كرامة الإنسانيّة كلّها.
نحن نموت على جرعات...
تقتل الخيبات طفولتنا. يدمّر الطموح سكينتنا. يقضي الغدر على ثقتنا. تغتال الخيانة آمالنا. تخنق الوحدة شغفنا. تفتك الأمراض بصحّتنا. يقطع الركض أنفاسنا... وننتهي! ولولا فسحات حبّ وصداقة وشعر من هنا وهناك، لكان ما نحن عليه هو الجحيم في حدّ ذاته.
أنا لا أكتب اليوم عن خالي "ميلاد" (ولم أناده مرّة خالي) الذي يكبرني بخمسة عشر عامًا كان صديقي ومُشاكسي وأوّل المفتخرين بي، والذي حين ترك لي مكتبته وسافر إلى السعودية وضعني من حيث لا يقصد على درب المطالعة، وحين كتبت له الرسالة الأولى، من سلسلة مراسلات استمرّت أعوامًا، وضعت نفسي من غير أن أعرف على درب الكتابة.
      لا. لا أكتب عن "ميلاد" اليوم ولا أعتقد أنّني سأعرف يومًا كيف أكتب عن هذا الرجلِ الأحجية:
رجلٍ من السهل عليه أن يثير أعصابك ولكن من المستحيل عليك أن تكرهه،
رجلٍ قادم من مخيلة طفل، وطفلٍ يرتدي ملابس رجل،
رجلٍ يحمل دماغ عبقريّ ومشاعر مراهق،
رجلٍ يضعك دومًا على حدودٍ مزروعة ألغامًا تفصل بين الواقع والوهم،
رجلٍ لم أجد من يشبهه إلّا حين شاهدت فيلم "Big Fish"، وبقدر ما أحببت الفيلم، خشيت ألّا يعرف ابنه "ماجد" من هو أبوه إلّا في مأتمه.
لا أكتب عن "ميلاد" الذي ولد ليلة عيد الميلاد ورحل بعده، بل عن البكاء الذي تجمع على رؤوس الأصابع بعدما تعبت عيون الدمع.
***
رحيلًا بعد رحيل، كنّت أؤجّل البكاء وأؤخّر مواعيده وأنا ألهيه بالعمل واللعب مع الأولاد في المدرسة والأنشطة الفكريّة والتخطيط لمشاريع تقاوم الموت، لكنّ البكاء ثار في النهاية وانتفض وقرّر أن ينهمر لعلّه يغسل الوجهَ من قبلات دبقة والروحَ من أدران الكلمات الممجوجة. وكان لا بدّ للمأتم هنا، الآن، مع هذه الكلمات أن يحوّل الذين رحلوا صفحات في كتاب العمر، لكي أستطيع أن ألتقط ما تبقى من أنفاس الحياة، رحمة بالباقين.
هو ليس بكاء على الموتى، والموت حقّ، وكلّ من الراحلين عاش وقطف من ثمار الحياة على قدر ما طالت يداه.
لكنّه البكاء الرافض لاعتبار الموت أمرًا عابرًا ولو كثر المائتون حولنا، ولو ملأت نشراتِ أخبارنا جثثُ الضحايا وفاضت صفحاتُ التواصل الاجتماعيّ بأوراق النعي.
هو البكاء على عمر أفناه والداي في حبك علاقات عائليّة وتمتين أواصر صداقة وجيرة، يكونان فيها أوّل الواصلين إلى حيث الحزن، وأوّل المنسحبين حين يعود الفرح، ليكتشفا بالطريقة الأصعب، ما كنّا نحن أولادهما نقوله لهما: لن يعاملكما الناس كما تعاملانهم.
هو البكاء على جدّي الذي مات وحيدًا في حرب الجبل وهو يحاول أن ينقذ مقّدسات الكنيسة.
هو البكاء على جدّتي التي دفنته وحدها تحت ليل القصف.
هو البكاء الصارخ في صحراء الحروب والدمار بأنّ كلّ إنسان قيمة وتاريخ وذكريات.
هو البكاء اللاعن نفاياتٍ تتجمّع أمراضًا في صدورنا وتهدّد بموتنا القريب.
هو البكاء الناقم على تقاليد المآتم التي يحضر فيها كثر ويتحاشى الجميع ذكر الميت.
هو البكاء على عجزنا عن الصراخ في وجه من يصل معزيًّا وهو يضحك، ومن تصل معزيّة وكأنّها ذاهبة إلى عرس،
هو البكاء على أنّنا صرنا نجد الموت بالسرطان أمرًا عاديًّا لا يدفعنا للثورة.
هو البكاء على المرضى والمضطهدين والأيتام والمعنّفين والمشرّدين والنازحين.
هو البكاء على وطنٍ وأوطانٍ محكومة بالجهل والفساد والحقد.
هو البكاء على أحياء موتى... ولا يعرفون.
ولكن، اليوم، وبعد أسبوع على رحيل "ميلاد" عاشق الشعر والهندسة، المجنون، الهادئ، الساخر، الغاضب، المملوء حكايات، وأمام صمود أمّي في وجه الموت الذي أخذ شقيقيها، وهي كبيرتهما، وأمام وقفة أبي الأبيّة في تعازي شقيقته وصهريه وابن عمّه، كما وقف إلى جانبهم طوال حياتهم، وأمام ذكرياتي عن ثلاثيّ راحل أدين له بتعليمي حين كنت طريحة الفراش، وأستعدّ لشهادة "السرتيفيكا": "يوسف"، ابن عمّي "بشارة"، الشاعر الذي كان مدير مدرسة وعلّمني المواد الأدبيّة، و"جريس"، ابن عمّي "عزيز"، أستاذ الفيزياء الذي علّمني المواد العلميّة، وخالي "ميلاد"، مهندس الكهرباء، الذي حملني إلى غرفة الامتحانات الرسميّة، ثمّ اصطحبني لحضور فيلم هنديّ كان عهدذاك ذائع الصيت، فخرجت منه باكية وندم هو على الانصياع لرغبتي... اليوم، وأمام هذه الكلمات التي هي كنزي ورصيدي وقوّتي... وعلى وقع موسيقى الجاز بوجعها وعنفوانها... اليوم، وأنا أنظر إلى لعبة الداما، من صنع "ميلاد"، الناجية الوحيدة من بيت الجبل في "عاليه"، والشاهدة على تحديّات جدّي "أبو سليم" وولديه، أنهي وثيقة الوفاة، وأعلن فكّ الحداد... وأشغل رؤوس أصابعي بقصيدة عن صاحب القميص الأزرق.

الاثنين، 18 يناير 2016

عنّي وعن أمّي... أبكي



حين أنظر إلى صورة خالي "سليم" حاملًا شقيقه "ميلاد" أسأل نفسي: كيف يكون هذان الصغيران خالَين عجوزين لفتاة لم تر فيهما يومًا، على الرغم من تقدّمهما في العمر والخيبات، سوى طفلين يشاكسان الحياة ولا يأخذانها على محمل الجدّ؟
هكذا كانا دائمًا:
خالي "سليم" الذي رحل منذ أسبوع، وخالي "ميلاد" الذي يصارع السرطان.
عاشقا الشعر والمطالعة...
المغرمان بالأرض وبنتاجها...
شقيقا أمّي اللذان يصغرانها ويكبّران حسرتها عليهما...
الوالدان اللذان كان كلّ منهما ولدًا آخر في عائلته، لا يعرف من الأبوّة سوى أنّها رفقة طريق على درب الأولاد، يوجّهان ولا يقودان أو يقيّدان...
الابنان اللذان يشبهان والدهما في ثورتهما بسبب أمر بسيط وتغاضيهما عمّا يراه الآخرون جوهريًّا أساسيًّا...
هكذا كانا، وهكذا بقيا حتّى رحل "سليم" إلى حيث ينتظر "ميلاد" شقيقه الصغير...
***
ماذا أكتب في هذه الليلة عن أمّي التي تكبر شقيقيها وتفقدهما واحدًا بعد الآخر، وهي تشعر بالعجز والذنب والأسى، فتغرق في جمودها وصمتها وصلاتها الصامتة؟
ماذا أكتب بعد عن الراحلين الذين يغيبون تباعًا كأنّهم على موعد؟
لم أقلْ لأمّي في عيد الميلاد: سنة بعد سنة يقلّ عدد الزائرين. "أسعد مكرزل" زوج ابنة عمّي و"جريس" ابن عمّي، و"إلهام خيرالله" صديقة العائلة، "عبدو كرم" زوج عمّتي "روزالي" الذي رحل ليلة رأس السنة، زوج خالة أمّي "فؤاد"، عمّتي "إميلي"، خالي "سليم"، وها هو خالي "ميلاد" يُحتضر، و"حبيب" ابن عمّه يسابقه، و"زبيدة" ابنة عمّه تعاني الأمرّين من أوجاعها... وجوه كثيرة تلحق بوجوه سبقتها، وأمّي وأبي يراقبان بخوف كيف يأكل الزمن ما تبقى من أعمار عمّي "بشارة"، وعمّي "سعد" وزوجته "جورجيت"، وعمّي "إميل"، وعمّتي "روزالي" وكثر غيرهم...
***
هي طفولتي التي تغيب معهم. لذلك فحين أكتب عن هؤلاء كلّهم وأبكي، فعليهم وعلى عمري المطبوعة عليه وجوههم أبكي.
هم آخر القدماء بحسب تعبير يوسف حبشي الأشقر. لكنّهم هم أوّل من كنت أراهم حول سرير مرضي.
الأطفال لا يزورون الأطفال المرضى. الكبار هم من يقومون بواجب العيادة. لذلك كان كلّ هؤلاء حولي حين كنت أخضع لعمليّات جراحيّة تبقيني أسيرة الفراش أشهرًا طويلة. كان الكبار هم الضيوف الزائرين، حاملي الهدايا والحكايات والأخبار عن عالم خارجيّ لا تصل إليّ منه سوى أصداء تثير شهيّتي على اللعب مع الأولاد في دروب البلدة. فكيف لا يعلقون بذاكرتي، يمتصّ الموتى منهم نسغ الحياة من طفولتي المرصودة على اسم الألم، أمّا الأحياء فيرون في كلماتي شدّة خوفي عليهم من رغبتهم في اللحاق بمن سبقهم.
***
للموت عندنا فصول. ونحن اليوم في فصل جديد منه.
ها هي الأبواب تُفتح مشرعة، كأنّ الأرض نقص ترابها وهي في أمس الحاجة لأجسادهم، أو كأنّ الناس تعبوا ويريدون أن يرتاحوا، أو كأنّ الموت قال كلمته وانتهى الأمر... لكنّهم في النهاية يرحلون...
خالي "سليم" قال لزوجته عمّتي "إميلي": فلنسرق المرض من ابنتينا ونتألّم عنهما.
خالي "ميلاد" لا يعرف أنّ شقيقه "سليم" سبقه، وأمّي لا تعرف أنّ ابنتها "سميرة" ساهرة الليلة إلى جانب سرير خالها "ميلاد" كي لا تبقى زوجته "ماري" وابنه "ماجد" وحيدين...

الوقت يعصر القلب، والريح تولول، والأوبئة تتكاثر، والناس يلهون أنفسهم بترشيح جعجع عون لرئاسة الجمهوريّة، الحياة تستمرّ في مكان، تنتهي في آخر، غدًا يوم عمل عادي مهما كان عدد الراحلين في عتمة هذا الليل... لا تعرف أمّي ماذا ينتظرها غدًا، لن يعرف أبي ماذا يقول لها، لن نعرف ماذا سنقول لـ"ماجد" ابن خالي... الليل طويل، الانتظار ثقيل، الطبّ عاجز، خالي "ميلاد" يكتب قصيدته الأخيرة... وأنا أبكي الليلة عنّي وعن أمّي.

الخميس، 14 يناير 2016

دعوة إلى لقاء حول رواية الطيّب صالح: موسم الهجرة إلى الشمال


     بناء على دعوةٍ عزيزة من قسم اللغة الإنكليزيّة في مدرسة الحكمة هاي سكول، أتبادل الأفكار مع تلامذة الصفوف الثانويّة في المنهج الأميركيّ، حول رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صالح.

     يدور الحوار حول مسائل الاستعمار والاستشراق والمرأة والجنس والطبيعة والـاثّر بالراوية والمسرح الإنكليزيّين، وسواها من الموضوعات التي تطرحها هذه الرواية المميّزة.

    وسبق أن كانت لي مداخلة خلال نشاط سابق لقسم اللغة الإنكليزيّة حول رواية زقاق المدقّ لنجيب محفوظ، تجدونها في هذا التسجيل.



مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.