إلى المخرج الياس متّى
في عدد من جريدة الزميلة "الأنوار" كتب الأستاذ روبير فرنجيه مقالة بعنوان: "متى لجنة لتخليد ...المبدعين؟" ذكر فيها عددًا كبيرًا من أسماء المبدعين اللبنانيّين الذين رحلوا عن هذه الدنيا ولا يأتي أحد على ذكرهم إلاّ في المناسبات، أو في بعض البرامج التي لا يشاهدها إلاّ من عاصر هؤلاء المبدعين، وهكذا يبقى الجيل الجديد جاهلاً لا يعرف تاريخ بلاده المشرّف، وفيه أسماء لامعة عملت في سبيل الخير والفنّ والجمال والوحدة الوطنيّة، لكنّه في المقابل يحفظ غيبًا شعارات الزعماء السياسيين وأمراء الحرب الذين فتّتوا البلد وفتكوا بأبنائه وثرواته.
وكنت في مقالة سابقة في هذه الصحيفة دعوت إلى توحيد كتاب التاريخ عبر الاكتفاء بالكتابة عن مبدعينا من فنّانين وعلماء ومفكّرين وفلاسفة وباحثين. فما دامت الحروب والسياسات قد فرّقت فلماذا لا نسعى إلى الوحدة والخلاص عبر الفنون والآداب والعلوم؟
*******
لفتت انتباهي إلى مقالة الأستاذ فرنجيه السيّدة تيريز متّى أبي عبدالله، ابنة المخرج الكبير الراحل الياس متّى، حين سألتني كيف تدافع عن حقّ أبيها الذي لم يرد اسمه بين أسماء المخرجين الذين ذكرهم كاتب المقالة وهم مارون بغدادي وفارس الحاج وأنطوان س ريمي ومحمّد سلمان. وقالت لي: "عزّتني الدني" حين لم أجد اسمه بين الأسماء وبينها من عمل معه وتتلمذ على يده.
من الواضح أنّ الاسم سقط سهوًا. وهذا أمر طبيعيّ في مقالة يريد كاتبها، مشكورًا، أن يدعو إلى تكريم المبدعين الذين يصعب حصرهم أو تذكّرهم في نصّ صحافيّ يبقى مختصرًا مهما طال. ولكن موقف الابنة من اسم أبيها الغائب هو ما يستحقّ التوقّف عنده في زمن يسيطر فيه الإجحاف ونكران الجميل والغدر والاغتياب، وفي مجتمع يهان فيه الإنسان وتشوّه صورته ويساء إلى سمعة أهله ويطلب منه السكوت والخضوع؟
*********
يقطع بعضنا "مشوارًا طويلاً" قبل أن يتصالح مع صورة "الأب" ويراها على حقيقتها من دون زيادة أو نقصان. فثمّة من يؤلّه والده ويرى فيه الإنسان الكامل والمثال الأعلى، وهناك في المقابل من أمضى مرحلة طويلة من عمره وهو يخجل بوالده ويعتبر أنّ السماء قد ظلمت ذكاءه وجماله ونجاحه حين جعلته ابنًا لرجل عاديّ بسيط.
وفي الواقع ليس سهلاً أن يتقدّم المرء في مراتب العمل ويبرع في مجالات الحياة ويتصدّر لوائح النجاح في حين أنّ ثمّة جانبًا معتمًا من حياته يتمنّى في قرارة نفسه لو يبقى مخفيًّا لا يراه أحد من الناس، لا بل يتمنّى هو شخصيًّا لو ينساه. وليس سرًّا أنّ الأب السكّير أو صاحب اللسان البذيء أو الذي يهمل نظافته أو الذي يلاحق النساء أو المدمن على المخدّرات أو لعب الميسر ليس الأب الذي يفتخر به أولاده؛ وأنّ الأب الذي لا يحسن آداب المائدة أو لا يجيد الكلام باللغات الأجنبيّة أو لا يرتدي ما يلائم عمره من اللباس والمجوهرات أو لا يكبح جماح خياله في الكذب والمبالغة وتأليف القصص والبطولات هو الأب الذي يحرج أولاده أمام رفاقهم وزملائهم؛ وأنّ الأب الكسول الخمول الاتكاليّ الذي لا يسعى لتأمين مستقبل أولاده، أو المراهق المتصابي وإن تقدّم به العمر أو صاحب الشاربين المعكوفين الخارجين من عصر آخر أو البدين العاجز عن الحركة أو الذي يحكّ أذنيه بمفاتيح سيّارته ليس الأب الذي يغري أولاده بدعوة أصحابهم إلى المنزل.
كم هو صعب أن تقبل الآخر وخصوصًا إذا كان هذا الآخر هو والدك أو والدتك أو أحد أولادك الذين لم تخترهم بنفسك بل فرضوا عليك فرضًا. وإذا كان سهلاً أن تقدّم استقالتك من عملك لأنّ ربّ العمل كفّرك بربّك، أو من صداقاتك الغادرة أو من جيرانك المزعجين أو من أقربائك الظالمين فكيف تستقيل من أبوّتك أو بنوّتك؟
ولكن، في مرحلة ما، في لحظة ما، في عمر ما، في مناسبة ما، قد يجد الواحد منّا فجأة ذكرى سعيدة تجمعه بوالده وكان البعد والنجاح قد رمياها في غياهب النسيان، أو كلمة حبّ سمعها منه ثم محاها سيل من الشتائم المتبادلة، أو بادرة لطيفة صدرت عنه ثم ندم عليها وأعقبها ربّما بصفعة، أو لمسة حنان في فترة مرض أبادها الشفاء. وفي هذه المرحلة، في هذه اللحظة، في هذا العمر، في هذه المناسبة، على كلّ من يجد هذه الذكرى أو الكلمة أو البادرة أو اللمسة أن يتمسّك بها لأنّها السلاح الذي سيواجه به شرور العالم وآثامه ويتصالح مع الوالد الذي ليس إلهًا أو قدّيسًا أو بطلاً بل إنسان، مجرّد إنسان، كأيّ واحد منّا.
الياس متّى! من الواضح أنّك لم تكن فقط من أهمّ المخرجين في لبنان، بل كنت الأب الذي ملأ حياة أولاده بالكثير الكثير من الذكريات السعيدة وكلمات الحبّ ولمسات الحنان وسجّلتها على شريط طويل لا يمحوه الزمن أو المرض أو التعب. ونظرات ابنتك وهي تتكلّم عنك بفخر وحبّ خير دليل على ذلك.
· "المشوار الطويل": واحد من المسلسلات الرائعة التي أخرجها الياس متّى وكان من بطولة شوشو ومحمود المليجي وليلى كرم ومارسيل مارينا وجورج شلهوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق