السبت، 27 أبريل 2019

عن روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا" بقلم الشاعر عبده وازن - 2011


عائلة وهويات منفصمة في «متاهة» ماري القصيفي
الجمعة, 22 أبريل 2011

عبده وازن - صحيفة الحياة
تمضي الكاتبة ماري القصيفي في روايتها «كل الحق عَ فرنسا» (دار سائر المشرق، بيروت، 2011) في لعبة السرد داخل السرد حتى لتستحيل الحكاية التي «تنكّبت» مهمة جمع خيوطها شخصيتان هما راوية وكاتبة، شظايا حكايات لم تلتئم في الخاتمة التي ظلّت مفتوحة على أكثر من توقع أو احتمال. ولعل هذه الحكاية التي يمكنها أن تكون حكاية عائلة أو حكاية امرأة تحمل اسمين هما اسم واحد، بالعربية والفرنسية (وردة = روز)، أو حكاية «مصائر» وأقدار، هي متوالية حكائية سعت الكاتبة (زاد) إلى جمعها على لسان راوية تدعى جولييت وعجزت، جراء التشظي والتبعثر اللذين اكتنفا لعبة السرد. فالسرد هنا هو أصلاً نقل عن لسان الراوية (جولييت) هي شخصية روائية، والكتابة هي مشروع كتابة تقوم به كاتبة هي أيضاً شخصية من شخصيات الراوية.
قد يكمن سرّ رواية ماري القصيفي في هذه العلاقة الملتبسة بين الراوية الأولى (الحقيقية) والراوية الثانية (المفترضة) والكاتبة التي تبدو كأنها تتمرّن على الكتابة. وهذا التعدد في الأصوات أضفى على الرواية مواصفات عدة، فإذا هي في وقت واحد رواية داخل رواية ورواية - تحقيق ورواية تنتسب إلى «تيار الوعي» الذي يتمثل هنا في «المونولوغات» التي تتوزع صفحات الرواية وكأنها شهادات هي في صميم السرد وعلى هامشه. فالشخصيات الرئيسة والشخصيات الثانوية تؤدي جميعاً هذه الشهادات بوصفها «مونولوغات» منفردة وكأن هذه الشخصيات ماثلة أمام محقق غائب أو لا مرئي يمكن وصفه بـ «القدر» أو بـ «الضمير» المستيقظ. ولئن لم تشهد حكايات الرواية المتعددة حادثة قتل تتيح لها اكتساب الصفة البوليسية فإن سر انتحار وردة أو قرينتها روز كان بمثابة حافز على البحث والتحقيق.
تتناثر الحكايات في هذه الرواية و «تتشظى» حتى ليشعر القارئ أنه إزاء «متاهة» تغصّ بالوقائع والأشخاص والمرويات والحقبات التي تكاد تنسحب على قرن بكامله هو القرن العشرون، إذا كانت البداية من العام 1905، العام الذي ولدت فيه «نجلا» التي تكاد تكون «المحور» الرئيس الذي انطلقت منه الحكايات. لكن الرواية لن تتوقف عند موتها عام 1980 بل هي تخترق القرن لتبلغ بضعة أحداث شهدها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومنها حرب تموز 2006 وزيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للبنان وحفلة فيروز في «البيال»... إنها رواية أشبه بـ «المتاهة»، فالواقع هنا يكاد يكون في أحيان لا واقعياً من شدة تشتت الحكايات وتداخلها وتقاطعها وإبهامها. لكن الكاتبة التي تقصدت رسم هذه «المتاهة» نجحت في شبك خيوطها تاركة للقارئ - وربما لنفسها كما للكاتبة المفترضة زاد - منفذاً ليتمكنوا جميعاً من فعل الخروج. وقد لا يكون مستغرباً اعتمادها ما يُسمى في النقد الروائي «تكرار السرد» حتى ليُظن أنها وقعت في شباك الإطالة والإفاضة، بينما هي في الواقع تسعى إلى تجسيد حال «اللايقين» الذي يهيمن على الرواية منذ مطلعها. فالراوية (الحقيقية) تبدو ضحية الالتباس الذي شمل الحكايات والشخصيات منذ أن تستهل السرد بالشك في ما ترويه، ملقية التبعة على «البطلة» زاد التي وضعت لروايتها المفترض أنها كتبتها، مقدمات عدة أو صيغاً عدة لمقدمة كان على الراوية أن تختارها. وهذه المقدمة تضع أحد الأحفاد (كمال) في الواجهة وهو يعاتب جدته نجلا قائلاً لها بعد غيابها: «ماذا فعلت بنا يا ستّي؟». ولعله على يقين بأن نجلا، الجدة غير البريئة أو المتواطئة التي كانت تردد عبارة أضحت أشبه بـ «اللازمة» التي تتكرر طوال الرواية: «كلّ الحق عَ فرنسا»، هي التي كانت سبب المأساة التي حلّت بابنتها وردة واللعنة التي أصابت العائلة كلها، وهي لعنة قدرية تجمّعت فيها لعنة الحرب اللبنانية في كل تجلياتها. وكانت الجدة نجلا قد رحلت وهي تلعن فرنسا والفرنسيين قائلة: «لولا وردة والكولونيل الفرنسي كنا بألف خير». وقد فات هذه الجدة أن تبعة مأساة عائلتها لا تقع على فرنسا بل عليها هي التي سمحت لابنتها وردة في الذهاب مع الكولونيل من غير زواج وفي ظنها أن الكولونيل سيفرج عن ضائقة العائلة ويساعد ابنها حبيب مهرّب المخدرات ويغطي أعماله ويدعمه كلما حلّت به واقعة. وقد تكمن هنا جرأة ماري القصيفي التي عمدت إلى فضح هذه العائلة اللبنانية المسيحية بل المارونية التي تنتمي إلى منطقة «البقاع» الشهيرة. ومن خلالها تمكنت من فضح فكرة «العائلة» عموماً التي كادت الحرب أن تحطمها وتشتتها وتقضي على مثالها.
وعلاوة على»المتاهة» «المركبة» بذكاء، التي وقعت الراوية والكاتبة (المفترضتان) في شباكها وهي تمثل عالماً متاهياً بذاته، فالمسألة التي تتمثلها الرواية هي مسألة «الهوية» أو «الانتماء» الذي يعني في ما يعنيه «الانفصام». والمسألة هذه تنسحب على بعض الشخصيات - الأفراد كما على الجماعة وسائر العناصر التي تؤلّف ما يُسمى وطناً أو طائفة أو جيلاً... وقد تجلّت حال الهوية المنفصمة في شخصية وردة ابنة نجلا (وكأنها ليست ابنة أبيها يوسف) التي لم يكن تأرجح اسمها بين وردة (بالعربية) وروز (بالفرنسية) إلا تأرجحاً في فراغ الاسمين أو تناقضهما. فوردة تختلف عن روز كما سمّاها الكولونيل الفرنسي المقيم في لبنان إبان الانتداب، روز التي خيّبها هذا الكولونيل وافتضّ بكارتها وجعلها بعد رحيله تنزلق إلى عالم الدعارة بعدما استحالت عليها العودة من بيروت إلى بلدتها البقاعية، وقبل أن تقع في حب ناجي الذي أنقذها من هذه الآفة. هذا الانفصام الذي أصاب وردة أصاب أيضاً أحمد، حفيد «ملفينا» (إبنة نجلا وشقيقة وردة)، فأحمد يعدّ نفسه «أحمد الأميركي»، لا وطن له ولا تاريخ، و هو كان التحق بـ «المارينز» وشارك في حرب العراق. أما الزواج المختلط مارونياً وإسلامياً ودرزياً، لبنانياً وفلسطينياً، فزاد من حدة الانفصام المعلن أو المضمر. فالشقيقة ملفينا التي تزوجت من أحمد الفلسطيني السنّي عانت الكثير من هذا الاختلاط ودفع ابناؤها ثمنه باهظاً. فإبنها شادي الضائع بين مسيحيته وإسلامه، وبين لبنانيته وفلسطينيته وقع في شباك الحرب القذرة وخطف. أما شقيقته شادية فاضطرت بعد زواجها في مصر إلى ارتداء الحجاب... أحوال الانفصام هذه، في شتى مظاهرها، هي خير دليل على الأزمة التي تتخبط فيها الشخصيات من أبناء وأحفاد، والعائلة التي تفرّعت عنها عائلات. فالشخصيات لا تبحث عن هوياتها لتؤكد انتماءها وترسخ جذورها، بل هي تعاني الأمرّين من وطأة الهوية المبعثرة والمتشظية.
مداخل ومخارج
لعل صفة «المتاهة» هي الأشد ملاءمة للإحاطة بهذه الرواية، المتعددة المداخل والمخارج، بل المتعددة الخيوط والوقائع والحكايات والكواليس. إنها رواية ثلاثة أجيال أو أربعة بالأحرى، تنحدر من شخصية رئيسة هي الأم والجدة (نجلا) وليس من زوجها يوسف الذي هو الأب والجد أيضاً. لكن سطوة نجلا طغت على يوسف حتى كادت تلغيه. إنه «الرجل» المغتاب والمحذوف أو المهمّش الذي سحقته سلطة الزوجة. «الرجل» الذي يعني غياب الذكورة وليس حضورها في هذه العائلة المارونية «البقاعية» التي هيمنت عليها أطياف النسوة. ولعل بنات نجلا لم يختلفن عن أمّهن فكنّ في مقدم الأحداث والوقائع وكأن الرواية هي روايتهن، بدءاً بوردة (روز) وانتهاء بشقيقاتها، كاميليا وملفينا وسعاد ولبنى وجولييت التي تمثل الطرف الأخير في الحكايات ومعها تبدأ في نسج نفسها...
تحفل الرواية بما لا يُحصى من المرويات والوقائع والأحداث و «الأكاذيب» الجميلة والشخصيات... فالحكاية تخرج من الحكاية، والشخصية تنسلّ من الشخصية. وهكذا يستحيل سرد جولييت (الراوية الثانية) سرداً شبه دائري، يتوالد من نفسه ثم يدور على نفسه، ما جعل الكاتبة المفترضة زاد، عاجزة عن البدء بالكتابة. وهذا ما حصل فعلاً، فالرواية تنتهي في لقطة بديعة تطل فيها زاد وهي تقرأ وكأن القراءة هي الفعل الوحيد الذي يوفر فرصة الخروج من دوامة الحكاية التي لم تكتمل. ولئن كان تهيّأ لزاد أنها أنهت كتابة الرواية وسلّمتها الى جولييت فهي ظلت على يقين أنها لم تنهِ مشروعها. فالنقص كما رددت مراراً ظل يعتري حكايات جولييت التي كانت دوماً مضطربة في سردها الحكايات واستعادتها...
يستحيل الوقوف فعلاً على ما تحفل به الرواية من أحداث ووقائع وتواريخ شهدها قرن مضى ومطلع قرن راهن هو القرن الحادي والعشرون. فالرواية أشبه بسجل حيّ للعناوين التي صنعت القرن اللبناني المنصرم وأبرزها الحرب اللبنانية التي أضحت حروباً، عطفاً على التحوّلات التي شهدها لبنان ومآسي التهجير والنزوح، وقضية الهجرة التي ابتلعت عائلات وأفراداً... لكن الكاتبة تمرّ على هذه العناوين برشاقة فلا تقع في شرك التفاصيل التي باتت معلومة ومستهلكة، بل هي تحبكها داخل النسيج الروائي الذي يظل مفتوحاً انطلاقاً من كون الرواية روايات داخل رواية. أما الخيط الذي جمع بين الحكايات فظل معقوداً وعقدته هي السر الكامن وراء انتحار روز التي كانت وردة.
هل حملت وردة (روز) سر انتحارها معها أم أن الاحتمالات التي جمعتها زاد قد تكون قابلة للتيقن من هذا الفعل القاسي؟ عندما أقدمت روز (وردة) على شرب الديمول كانت في حال من الانهيار جراء علمها بعودة عشيقها ناجي إلى زوجته بعد العلاقة القوية التي جمعت بينهما طوال أعوام. وحال الانهيار هذا قد يفسر إقدامها على الانتحار وقد لا يبرره. فلعل روز شربت الديمول خطأ وبسرعة وفي ظنها أنه ماء عندما كانت تستحم. ولعلها أيضاً شاءت أن تشرب القليل منه بغية تهديد عشيقها ناجي الذي قرر أن يهجرها... لكن والدتها نجلا التي كانت أضحت عجوزاً ظلت تلوم نفسها على وضع قنينة الديمول التي جلبها ناجي لرشّ الوردات المزروعة على الشرفة، داخل الحمام، مهرّبة إياها من الطفلة ياسمين، ابنة جولييت. وجولييت لامت نفسها كثيراً لأنها تركت أختها المنهارة وحيدة في المنزل ولم تعد إليها في الوقت الملائم. وفي يقين جولييت أن وردة (روز) لم تنتحر ولا يمكنها أن تنتحر، لا سيما أنها كانت أعلمتها أنها اتخذت قراراً بالسفر. ولعل الأمر الذي زاد من تعقّد الاحتمالات أن ناجي اكتشف أنه مصاب بالسرطان قبل قراره العودة إلى زوجته والعائلة.
يبقى سر روز (وردة) مبهماً إذاً وقد أفادت القصيفي منه لتجعله منطلقاً للسرد ومرجعاً له في آن، فحول هذا السر اشتبكت الخيوط ومنه انبثقت مغامرة البحث التي أدت إلى المزيد من الإبهام. بدا الانتحار ذريعة سردية بامتياز وشرعت الروائية انطلاقاً منه في فتح صفحات هذه العائلة المارونية البقاعية وهي صفحات ليست بيضاء دوماً بل رمادية وسوداء... فالرواية كما تبدّت ختاماً هي رواية انحدار عائلة، عائلة عرف القارئ أفرادها على اختلاف أجيالهم ومشكلاتهم الشخصية والمشتركة، لكنه لم يعرف لها اسماً. إنها عائلة لا تحمل اسم عائلة، لكنها حقيقية (وإن كانت متخيلة) لا سيما في ارتباطها ببيئتها وتاريخها الذي هو جزء من تاريخ ما قبل حرب 1975 وما بعدها.
ولم تترك القصيفي شاردة تفوتها أياً كان أثرها، فبدت الرواية أشبه بالرواية - النهر على صغر حجمها مقارنة بالروايات الفائضة... أسماء وأشخاص وأماكن وتواريخ وتفاصيل، آباء وأبناء وأحفاد، عادات وطقوس، وأحداث لا تنتهي وإن كانت هامشية أحياناً... ولعل هذا «الانفلاش» أو «التشظي» في السرد الذي قصدته المؤلفة هو الذي منح هذه الرواية فرادتها. وجاءت الشهادات الصغيرة أو «المونولوغات» التي تخللت فصول الرواية لترسّخ تعدد وجهاتها وزواياها. ولم تدع الكاتبة شخصية إلا ساقتها إلى «الشهادة» أو المونولوغ الذي يعاود إنتاج المادة السردية. وكم بدت شهادة انطوان - والد الكاتبة زاد - بديعة عندما تحدث عن جو «العصفورية»، المصح النفساني الأشهر في ذاكرة اللبنانيين. وقد نمّ فعلاً عن روح السخرية التي كثيراً ما تجلّت في فواصل عدة داخل الرواية، وهي سخرية صفراء عبثية وسافرة لا تهاب المحرمات.
قد تحتاج رواية «كل الحق ع فرنسا» مقاربة أشمل وأوسع تبعاً لمادتها الروائية الغنية، فالتفاصيل، حتى التفاصيل الصغيرة التي تعج بها، تستحق أن تقرأ وتستعاد نظراً إلى ما تمثل من أهمية سرداً وتأويلاً. وقد بلغت هذه الرواية الفريدة ذروة طرافتها في ترسيخ فعل الاستحالة، استحالة كتابة مثل هذه الحكايات التي واجهها القارئ، في رواية كانت «زاد» الكاتبة المبتدئة تحلم في كتابتها، بعدما أمضت أعواماً تجمع مادتها مما حكته لها الراوية الثانية (جولييت) وما استطاعت أن تجمعه بنفسها. ولعل هذه الاستحالة هي التي أسبغت على رواية ماري القصيفي هذه الهالة المتراوحة بين الواقعية والتخييل، بين الإحساس المأسوي بالحياة والبحث المضني عن خلاص شبه مستحيل.

الجمعة، 26 أبريل 2019

عن روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا" بقلم الروائيّة السوريّة مها حسن 2012

الروائيّة مها حسن


لقراءة المقال الرجاء الضغط على الرابط



الروائية ماري القصيفي وأجواء ماركيز   17/06/2012
مها حسن-باريس

لا تبدو ماري القصيفي معنية كثيراً ببناء عملها الروائي "كل الحق عَ فرنسا" أكثر مما هي مصابة بهاجس الحكاية، إذ يحتشد في روايتها عدد هائل من الشخصيات يذكّرنا بأجواء غارسيا ماركيز وأبطاله الكُثر، كما في "مائة عام من العزلة".
فنجلاء في "كل الحق عَ فرنسا" لا تقل غرابة وتنوعا عن "خوسيه بونديا" بطل غابرييل غاسيا ماركيز، لكن رواية ماري الصادرة عن دار سائر المشرق (2011) تنتمي إلى التيار الواقعي دون أن تحيد عنه قيد أنملة.
"
ضمن مستويات القص، نلاحظ منذ البداية أن القصيفي تسلّم مفاتيح السرد لزاد، ولكنها تكتبها بلغة الغائب، مما يعني حضور الراوية المتخفّي خلف زاد
"
أجواء ماركيز
بطلة الرواية -التي هربت ابنتها وردة مع الكولونيل الفرنسي- حالمة بمجد مالي للعائلة، وفي نفس الوقت مسهّلة أمور ابنها حبيب الذي يسهّل له الكولونيل الخروج من السجن بفضل علاقاته، هي أصل الحكاية، ومرادف أورسولا الماركيزية تقريبا.
تكرر نجلاء -التي ولدت سنة 1915 وماتت في الثمانينيات من القرن الماضي وقت الاجتياح الإسرائيلي للبنان- لازمتها "كل الحق عَ فرنسا". فرنسا المتمثّلة بالعقيد الذي غرر بابنتها وأخذها إلى بيروت، لكنه كان متزوجا في فرنسا فلم يتزوج من وردة التي أصبحت "روز"، بل تركها وحدها تودّعه على المرفأ.
الزمن الروائي يبدأ من سنة ولادة نجلاء، وينتهي عام 2010، أي 105 سنوات، الأمر الذي يجعلنا نربط بين رواية القصيفي وغارسيا ماركيز، إضافة لكثرة الشخصيات التي تفوّت على القارئ الكثير من التفاصيل حولها ويصعب عليه تذكّر درجات قرابتها مع الشخصيات الرئيسية "نجلاء وبناتها وابنيها، وزاد الراوية".
ضمن مستويات القص نلاحظ  منذ البداية أن القصيفي تسلّم مفاتيح السرد لزاد، ولكنها تكتبها بلغة الغائب، مما يعني حضور الراوية المتخفّي خلف زاد التي تتعرّض لصدمة تكاد تعيد كتابة الرواية بعد ثلاثمائة صفحة من التنقيب والبحث عن حقيقة ما جرى بين "روز" أو وردة و"ناجي"، في الليلة التي شربت فيها روز الديمول، وماتت بعد عشرين يوما من العذاب في المستشفى.
لكن الراوية سرعان ما تنحاز إلى الحكاية وتدخلها كشريك في الأحداث، حيث الحكاية تجري على لسان زاد التي تعرّفت على جولييت وروت لها قصة العائلة، فراحت زاد تدوّنها بحيادية، لكنها تنجرف في الحكاية لاحقا، وتعيش قصة حب مع أحد أبطال الحكاية، وتلوم نفسها لأنها انزلقت لتصير طرفا في الحكاية "مع أنها عاهدت نفسها على عدم التدخل فيها والاكتفاء بسرد القصص كما وقعت، ثم تنتبه إلى أن جولييت جرّتها إلى ذلك بسبب حكاياتها المتناقضة".
"
يمكن التحدث مطولا عن الاستعمار والهويات المأزومة حيث تذكرنا شخصية كمال مثلا -الفلسطيني الأب واللبناني الأم- في مقتطف من مناجاته بالهويات القاتلة لأمين معلوف
"
الهوية والاستعمار
لم تكتف زاد بسرد الحكاية على ألسن جميع أبطال الرواية تقريبا، حيث قسمت فصول الرواية بين ما تقصه -باعتبارها الراوية- وبين جميع أشخاص الرواية الذين أفردت لكل منهم فصلا حمل اسمه، إلا أن زاد وجدت نفسها تلج الحكاية أثناء تنقيبها عن الصيغة الحقيقية لما حدث بعد أن دخلت المطعم الذي كانت روز تلتقي فيه مع ناجي، وسمعت الموسيقى والتقت بسامي -ابن ناجي- واستغرقت في سياق واقعي جديد تداخل مع السياق الروائي. وهو تكنيك يُحسب لماري القصيفي التي اختبأت خلف زاد طوال الرواية، ثم دفعتها لتمارس المزيد من الدهاء الفني لتجعلها تحيا إحدى علاقات الرواية المتشابكة.
يمكن التحدث مطولا عن الاستعمار والهويات المأزومة، حيث تذكرنا شخصية كمال مثلا -الفلسطيني الأب واللبناني الأم- في مقتطف من مناجاته بالهويات القاتلة لأمين معلوف، فيحلينا إلى القول بتقاطع المسؤوليات، وتعدد المسؤولين عما حدث، إذ يقول في الصفحة 123 "تضع جدتي اللبنانية المارونية الحق على فرنسا. وجدتي الفلسطينية تلقي اللوم على بريطانيا وعلى اليهود وعلى العرب. وأنا فلسطيني لبناني ولا أعرف فلسطين ولا أعرف نصف لبنان".
وفي هذا السياق تعجّ الرواية بتفاصيل الأسى والخراب والشقاء، ولا نجد للفرح مكانا لدى العائلة المنكوبة المبتلية بمصائر درامية، حيث المرض النفسي والانتحار والموت في الغربة والقتل، والفشل العاطفي والطلاق.. فهل لهذا الشقاء علاقة بالاستعمار، أو بأجواء الحرب الأهلية، أم إنه قدر العائلة الشخصي.
رواية "كل الحق عَ فرنسا" تطرح التساؤلات عن نبوءة داخلها، إذ إن أجواء الحرب و"الهويات القاتلة" وتداخل العلاقات بين الأديان والطوائف، يعدّ نبوءة روائية للمشهد المتكرر الذي يقع حاليا في المنطقة بوجهه الدموي والعنيف.

المصدر: الجزيرة 

الاثنين، 22 أبريل 2019

مطر حزيران بلا قبعة وعصا - صحيفة النهار - 29 حزيران 2010



ليس في الأمثال الشعبيّة اللبنانيّة ما يشير إلى سقوط المطر في حزيران، ربّما لأنّ الشتاء حين يرحل يلملم عباءات الغيم المغسولة بمياه السماء وينشرها على حبال الغسيل في أرض بعيدة تنتظر قطرات تروي عطش تربتها.
ومع ذلك، فحزيران هذا العام أنزل علينا ماءه المجبول بالغبار وتساقطت الأمطار وحولاً أتلفت الزرع ولوّثت زجاج النوافذ وحوّلت الطرق ساحات تزحلق تصطاد من لا يعرف كيف يثبت قدميه على الأرض. وتبيّن أنّ مطر حزيران لا يؤمَن له، فلا هو شتاء يعدك برجل ثلج يعتمر قبعة ويتّكئ على عصا يخلّفهما وراءه حين يذوب في الأرض مع أوّل خيط من خيوط الشمس، ولا هو صيف وكَيف وبساط واسع يمتدّ خارج الدار حيث كان القمر قنديل السهر. هو نوبات بكاء لا نفهم أسبابها، مزاجيّة سماء لم نعد نعرف ماذا تريد من أبناء الأرض، فورة أعصاب لا مهدّئ لها. وحين يتوقّف المطر فجأة عن الهطول نكتشف أنّ الطقس لم يعد طقسنا وأنّ مزروعاتنا أتلفت وثمار أشجارنا تساقطت ومواسمنا بارت ومنتجعاتنا خلت من روّادها. أمّا ألسنة الناس فلا تردّد إلاّ لازمة واحدة: "لم تعد الأمور كما كانت عليه. حتّى الطبيعة تغيّرت وما عاد فينا نوثق فيها". صحيح، لم تعد الأمور على حالها: موسم الشتاء كان بلا ثلج، وموسم الربيع كان بلا زهر، وموسم الصيف يصل بلا شمس، كأنّنا في خريف دائم لا يريد أن ينتهي، بل يزداد ضبابه كثافة مع احتمال حرب يتمنّى نشوبها كثيرون لتصفية حسابات شخصيّة. ولكنّ الطبيعة لا تقتل نفسها بنفسها والحرب لا تقع من تلقاء نفسها، الإنسان عدوّ ذاته مذ وعى ذاته.
تحكي سيّدة في حيّنا وتقول: حين كانت المرحومة أمّي تجلس على هذا المقعد قبل عشرين سنة كانت تقول إنّ الشمس في أوّل يوم من الصيف تغيب خلف قصر الشرتوني. الآن صارت الشمس تغيب أبعد بمبنيين، تتابع السيّدة وهي تشير إلى الاختلاف في موقع مغيب الشمس، وتسأل نفسها بصوت مرتفع: شو عم يصير بالدني؟ من يخبرها أنّ كلّ واحد منّا صار محور الأرض، تدور الأرض والكواكب والنجوم حوله، وهو مشغول بنفسه عمّا حوله؟
حين كتب جبّور الدويهي روايته عن حمّام الدمّ في ليالي الشمال الحزينة، وضع لها عنواناً معبّراً هو "مطر حزيران". وعلى الغلاف الخارجيّ الأخير لها وبحسب القرار الظنيّ في قضيّة الاعتداء على أمن الدولة الداخليّ الحاصلة في مزيارة، قضاء زغرتا، بتاريخ 16 حزيران 1957، نقرأ: "كانت السماء ترسل رذاذًا من المطر... وبسبب المطر أخذ الناس يدخلون إلى الكنيسة من بابيها الجانبيين الشماليّ والجنوبيّ، وأمّا باقي الموكب فدخل من الباب الغربيّ الملوكيّ المواجه لساحة البلدة، وما إن بدأ الموكب بالدخول إلى الكنيسة حتّى حصلت ضوضاء بين الحضور وأطلق طلق ناريّ في خارج الكنيسة كان الإشارة والشرارة الأولى للكامنين في داخل الكنيسة وفي الساحة وعلى السطوح، فشهروا أسلحتهم وأخذوا يطلقون النار على خصومهم، ودام إطلاق النار زهاء العشرين دقيقة فقتل وجرح مئة وبعض المئة من الناس وهرب القسم الأكبر من المعتدين وألقي القبض على البعض منهم".

كان ذلك في أعالي الشمال، غير أنّ الكبار في بلدتي يقولون إنّهم لا يذكرون أنّ المطر تساقط في مثل هذا الوقت من السنة، ولكنّهم يشيرون إلى مطر نزل في آب مرّة منذ زمن بعيد، إذًا "معقولة تشتّي بآب" كما يغني وائل كفوري. أمّا حزيران فيبدو أنّه احتفظ بمطره لحيث كان عليه أن يغسل الدم بعد صوت الرصاص المنهمر كالشتي كما وصفه المصوّر الأرمني في الرواية المشار إليها.
ماذا يحمل مطر حزيران هذا العام، وهو المتسلّل يومًا والمقتحم يومًا آخر ودائماً بلا برق ورعد، فضلاً عن حوادث التزحلق والاصطدام وخربطة مشاريع الاحتفالات والمهرجانات؟ وكم ضحيّة يجب أن تسقط قبل أن نكتشف أنّ انعدام الرؤية لا يكون دائماً بسبب الضباب؟ وكيف سيكون صيفنا الموعود بالنفط على شواطئنا التي صارت أملاكًا خاصّة، في حين تغرق مدننا في عتمة انقطاع الكهرباء وتزدحم السيارات على طرقنا بسبب ورش الإعمار العشوائيّة أو حوادث السير القاتلة؟ وأيّ مصدر للرزق سيكون لنا بعدما فقدنا اعتدال فصولنا واستقرار مواسمنا السياحيّة اللذين كانا فخرنا ولا فضل لنا إلاّ في تخريبهما وتشويههما؟ أسئلة لا تنتظر أجوبة مقنعة أو منطقيّة، فحين يبدأ الخلاف على نفط لم يظهر بعد، ونهمل ثروة مائيّة تروي عطش الشرق ونتركها تذهب إهداراً إلى بحرنا الملوّث، لا يعود يهمّ إن سقط المطر في حزيران أو نشبت الحرب في تمّوز أو نجح تلامذة لبنان بالجملة، فالمهمّ: وين السهرة الليلة؟

* صحيفة النهار - 29 حزيران 2010

السبت، 20 أبريل 2019

المسيح قام... إلى العمل (من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)




لأنّ العمل كثير والفعلة قليلون
لأنّ الأرض تيبس والناس يجوعون
لأنّ ثروات الأرض عند حفنة من الناس،
لأنّ القبور للموتى لا للأحياء
لأنّ المرضى يئنّون والأطباء مشغولون بالمناصب السياسية
لأنّ الأسرى في المعتقلات ضائعون والمحامين يرافعون عن السجّانين
لأنّ الخراف الضالّة خائفة والرعاة يحلمون بالسمن والعسل
لأنّ الثائر في الشارع والشاعر في المقهى
لأنّ التاجر يأكل مال الفاجر
لأنّ المتسوّلين يذوبون في إسفلت الطريق
قام المسيح ليفتح الباب
قام المسيح نشيطًا وسعيدًا
إلى العمل الذي يحبّه
إلى الحبّ الذي في جوهر كلّ عمل.

الجمعة، 19 أبريل 2019

وأنا كذلك الأمّ الحزينة - آذار 2010





يوم الجمعة الحزينة، ينفجر الحزن في الإذاعات والتلفزيونات والبيوت والكنائس، فيذهب "المؤمنون" إلى رتبة دفن المسيح وهم يرتدون ملابس الحداد، ويتسابق الرجال لحمل نعش المصلوب، وتقرأ الأناجيل الأربعة التي تصف مشهد الصلب والموت (لماذا لا تقرأ أناجيل أربعة يومي الميلاد والقيامة؟)، وتدمع العيون حين تصدح الأصوات المرنّمة "أنا الأمّ الحزينة". 
هذا نحن، شرقيّون نحتفل بالموت، ولا نعرف كيف نحيا، وإلاّ لكنّا تذكّرنا أنّ كلّ أمّ ترغب في أن تصرخ من صميم القلب: وأنا كذلك الأمّ الحزينة وما من يعزّيها:
أنا الأم الحزينة التي لا تملك ثمن الدواء لابنتها المريضة
أنا الأمّ الحزينة التي تعجز عن تسديد قسط المدرسة
أنا الأمّ الحزينة التي لا تعرف إن كانت مستقرّة في عملها أو ستطرد عند نهاية الشهر
أنا الأمّ الحزينة التي هاجر ولدها ليبحث عن أمنه وأمانه وطعامه خارج بلده
أنا الأمّ الحزينة التي تعرّض أولادها للاعتداء على حقوقهم وأجسادهم وعقولهم في المؤسسات الدينيّة ولن يشفي جرحها اعتذار أو أسف
أنا الأمّ الحزينة التي قتل أولادها في حروب الآخرين
أنا الأمّ الحزينة التي خُطف وحيدها ولا تعرف إن كان عليها أن تبكيه ميتًا أو أسيرًا معذّبًا
أنا الأمّ الحزينة التي تنظر إلى إعاقة ولدها وتشعر بالذنب لأنّها عاجزة عن اجتراح معجزة شفائه
أنا الأمّ الحزينة التي تبيع كرامتها كي تشتري قوت عائلتها
أنا الأمّ الحزينة التي تتسوّل على الطرق
أنا الأمّ الحزينة التي لم تنفعها ثروتها في حماية ابنها من الإدمان والانتحار... 
هل أتابع؟ 
كثيرات هنّ الأمّهات الحزينات، ولكن ليس لجميعهنّ إيمان مريم وثقتها بأنّ لها من يواسيها في السماء وكذلك على الأرض، وليس صحيحًا القول عنها: وما من يعزّيها. وهل تعدم معزيًّا من اختارها الآب أمًّا لابنه، والتي لم تتخلّ عنها السماء لا في حياتها ولا عند انتقالها إليها؟ ولكن ماذا عن سائر الأمّهات؟ ومن يعزّيهنّ خصوصًا في هذا الشهر الذي يُحتفل فيه بيوم المرأة العالميّ وعيد الأمّ وعيد الطفل وعيد البشارة؟
يجب ألا يشغلنا حزن مريم عن أحزان مثيلاتها من الأمّهات، بل لعلّه يفتح أعيننا على مآسيهنّ وآذاننا على تنهّداتهنّ، إذ كيف يمكن أن تقتنع السماء بمظهر الأسى على وجوه الناس تضامنًا مع امرأة لم يعاصروها ولم يعرفوها وعاشت منذ أكثر من ألفي سنة وكانت تعرف مصير ابنها، في وقت يتعامى كلّ واحد منهم عن آلام من حوله. يكاد الأمر يبدو تمثيليّة كبرى لولا العَشرة الصالحون. لذلك يبدو الاحتفاء بمريم في عيد البشارة المفترض أن يجمع المسيحيّين والمسلمين (ماذا عن أبناء الطائفة الإنجيليّة؟؟ هل سئلوا عن رأيهم في الموضوع؟؟) غريبًا حين ننتبه إلى أنّ المسلمين لا يرون فيها الأمّ الحزينة لأنّ ابن ستنا مريم لم يصلب بل شبّه لهم أنّهم صلبوه، في حين أنّ ابن السيّدة العذراء صلب ومات وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب. فهل نتّفق على مريم السعيدة بابنها ونختلف على مريم الثكلى؟
لا أستطيع شخصيًّا أن أرى مريم كما صوّرها التقليد أو كما صوّرتها الأفلام. فالفتاة العذراء التي قالت للملاك: فليكن لي بحسب قولك، وآمنت بأنّها ستحبل من الروح القدس، لا يمكن أن تكون أمومتها ليسوع وتتلمذها عليه قد جعلاها أقلّ إيمانًا وبالتالي أكثر تفجّعًا بسبب رفضها المصير الذي كان من المفترض أنّها وابنها ويوسف ينتظرونه. طبعًا ذلك لا يعني أنّها قتلت إحساس الأمومة فيها نحو ابنها، ولكنّها لن تكون مريم/ والدة الإله/ أمّ الله/ إن لم يكن حزنها على البشريّة أكبر وأعمق. ونحن، إن لم نسمع في ترنيمة "أنا الأم الحزينة" صدى لأحزان أمّهات الأرض كلّها فإنّما نحن صنوج ترنّ ونحاس يطنّ، ولن نخدع السماء بأصواتنا مهما بدت جميلة.

صحيفة النهار - الثلاثاء 30 آذار 2010
***
سبق نشره على هذه المدوّنة في تاريخ 30 آذار/ مارس 2010

الأربعاء، 17 أبريل 2019

معاناة المسيح لا ألم المصلوب (2010 - من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)



Macha Chmakoff

     آلام المسيح التي يطيب للمسيحيين أن يمجّدوها استمرّت يومًا أو يومين، وهي تشبه آلام اللصّين المعلّقين معه، لا بل هي أقلّ بما لا يقاس من آلام أطفال مرضى، ومعوّقين عاجزين، وأسرى معذّبين، وعجزة محتضرين. ولكن ما يميّز آلام المسيح هي أنّها كانت تتويجًا لمعاناة داخليّة بدأت مذ تفتّحَ وعيه على الحياة وبدأ يدرك ما تواجهه الإنسانيّة، وكانت رفيقته على الدروب التي كانت تمرّ بين المرضى والأصحّاء، والظالمين والمظلومين، والأثرياء والفقراء. ولأنّه كان ينظر ويرى، يسمع ويصغي، يفكّر ويحبّ، كانت معاناته أكبر من آلامه.

     الرجل المعلّق على خشبةٍ بمساميرَ وحبال لا يملك القدرة، إن كان إنسانًا مثلنا، على التفكير بآلام الناس. مشغول هو بأوجاعه وباكتشاف أعضاء في جسده لم يكن يعرف أنّها تؤلم إلى هذا الحدّ حين تتعرّض للضرب والطعن والشوك والجَلد. والرجل المعلّق على الصليب سيقرّر قبل أن يتخدّر عقله من شدّة الوجع أن يطلب من أبيه ألّا يشعر أحد من بني البشر بمثل الآلام التي شعر بها، وسيهمس مرّة ثانية: أبعد عنّي وعنهم هذه الكأس! قبل ذلك لم يكن يعرف بأنّ الجسد يمكنه أن يتعرّض لكلّ تلك الآلام ويبقى عزيزًا على صاحبه ولا يرغب في التخلّي عنه. قبل ذلك كان ينظر إلى الآلام ويعاني مع حامليها، أمّا على الصليب فتألّم معهم ومثلهم وعنهم، ولو لم تنعجن شخصيّته بالمعاناة لما كان لألمه المعنى الخلاصيّ.

     معاناة المسيح الداخليّة هي ما يعنيني من تجربته مع الآلام التي يطلب بعض المسيحيين ما يشبهها حتّى صارت عبارة: مع آلامك يا يسوع، كافية لتجعل المسيحيّ قابلًا أوجاعه، راضياً بها، مستسلمًا لها، ساعيًا إليها. المعاناة تلك طالت من المسيح العقل والروح والنفس، وجعلته في قلب البشريّة، سابرًا أغوارها، سائلًا ومتسائلًا عن أسباب بؤسها وشقائها ورفضها الخلاص. الألم عابر وقد يدمنه الإنسان أو يعتاده، والإنسان مذ صُفع على قفاه ليبكي ويتنفّس اكتشف أنّه والألم رفيقا درب، والمسيح في ذلك ليس غريبًا عن تغيّرات الجسد البشريّ وما يرافقها من أوجاع ولذّات.

     المعاناة أمر آخر وتصدر من مركز مختلف في الدماغ (المشلول مثلًا لا يتألّم لكنّه يعاني). وفي حين أنّ الألم قد يكون موقّتًا أو عابرًا، تبقى المعاناة لصيقة بالإنسان وقادرة على إيهامه أنّه لا يزال يتألّم أو أنّ الألم سيعود، وهي التي تظهر له مدى هشاشته وسرعة عطبه. ولذلك، أزعجني دائمًا، كما سواي كثر، أن ترتبط المسيحيّة بالألم لا برفض الألم، وبالحرمان لا بمقاومة الحرمان، وبالموت لا بالحياة. وأن يزدحم الناس في الكنائس في أسبوع الآلام ويغيبون عنها في أزمنة الميلاد والقيامة. لا بل أتساءل كيف يمكن أن يكون المسيحيّ طالبًا الألم إن كان يؤمن بأنّ إلهه تألّم عنه، وكيف يكون حزينًا ومسيحه مسحه بزيت الخلاص؟ فهل المسيحيّة تنافسٌ على حمل صليب الألم لأطول زمن وإلى أعلى جبل؟ وكيف تكون المسيحيّة صنو الحرمان من جمال الحياة ومُتَعها والمسيح استمتع – بقدر ما عانى - بكلّ لحظة قضاها لابسًا إنسانيّتنا؟ أو كيف تكون مرادفة للجوع والعطش والمسيح خبز الأرض وخمرة السماء؟
     ولكنّ تخفيف الألم في المسيحيّة ليس في غسل أقدام اثني عشر مختارًا غسلوا أقدامهم قبل احتفال الغسل المرسومة تفاصيل مشهديّته بترف لا يناسب عظة التواضع، أو في عيادة مرضى لا تفوح منهم إلّا رائحة العطور والبخور وأنواع الزهور، أو في مواساة حزين لم يحزنه سوى أنّ صور حزنه لن تنشر في مجلاّت الموضة وصفحات المجتمع. وفي طبيعة الحال، ليس كلّ مسيحيّ خبيرًا في تخفيف الألم وبلسمة الجراح، فهذا علم تجتمع فيه الدراسة والخبرة مع المحبة والالتزام، غير أنّ كلّ مسيحيّ مطالب بمحاربة الألم، ألمه وألم سواه، وذلك برفض كلّ ما من شأنه أن يؤذي الإنسان في جسمه أو روحه.

     بعيدًا عن ذلك، لن تكون المسيحيّة سوى قبر على بابه ندّابات لا ينتظرن قيامة، أو مستشفى يقود إلى المشرحة لا إلى البيت، أو مختبر كبير الناس فيه فئرانُ تجارب يُضحّى بها لا مرضى يُضحّى بكلّ ثمين من أجل علاجهم.

صحيفة النهار - الثلاثاء 23 آذار 2010

الاثنين، 15 أبريل 2019

المرأة الفراشة

anne-bazabidila

تتناقل الأشجار منذ آلاف السنين
حكايةَ المرأة التي صارت فراشةً
حين فرشَ لها حبيبُها الأرضَ وردًا
وخشيَ أن يقبّلها كي لا تحترق!
وفي كلّ مرّة تُروى فيها الحكاية
تتجدّد الرغبة
التي تزيّن الأغصانَ بالبراعم...
#ماري_القصّيفي

Les arbres transmettent
Depuis des milliers d'années
L'histoire de la femme
Qui est devenue papillon
Lorsque son amant
Lui a jonché la terre par des fleurs
Et craignait qu'elle soit brûlée
S'il l'embrassait !
Et à chaque fois
Qu'on racontait l'histoire
L'envie qui embellit
Les branches par les bourgeons
Se renouvelle..

الجمعة، 12 أبريل 2019

ضحايا نيسان 1975 (صحيفة النهار 2010)


بيكاسّو - المرأة المنتحبة


     لم تتوقّف الحرب التي بدأت في 13 نيسان 1975 ولم ينته مسلسل العنف ولم يوضع حدّ لعمليّات التعذيب والتنكيل والتشويه والإذلال؛ والقلوب التي نمت على الحقد لم تعرف السلام الداخليّ بعد.
ما أتحدّث عنه هنا ليس ما يجري في كواليس السياسة وأزّقة الصراع وبؤر المؤامرات، ما أتحدّث عنه هو الكثير من المقاتلين الذين كانوا مراهقين في بداية الحرب وتزوّجوا وأنجبوا ولا يزالون حتّى اليوم يمارسون مختلف فنون الحرب ولكن...في منازلهم ومع نسائهم وأولادهم.
     إنّ نظرة سريعة إلى بيوت عدد كبير من هؤلاء المقاتلين تظهر مشاهد لا تصدّق من الممارسات الشاذّة كأنّ الواحد منهم لم يع بعد أنّ هذه المرأة هي زوجته وليست أسيرة عنده وأنّ هؤلاء الأولاد هم أبناؤه وليسوا معتقلي حرب.
     تقول إحدى الزوجات: كنّا صغارًا حين تزوّجنا، وهو الآن نادم على قراره ويعاملني كأنّني سرقت منه حياته وشبابه فيضربني ويشتمني ويخونني ويهدّد بقتلي إذا ما خالفت أوامره.
     وتقول زوجة ثانية: لا يزال زوجي يحتفظ ببزّته العسكريّة ويرتديها حين يرغب في ممارسة الجنس طالبًا منّي أن أفعل ما تفعله النساء في الأفلام الإباحيّة، وإذا رفضت ضربني بالحزام السميك وركلني بالحذاء الضخم ثمّ اغتصبني.
     وتقول زوجة ثالثة: يجبر زوجي أولادنا على مشاهدة عمليّة الإذلال وإذا بكى أحدهم أو تدخّل مدافعًا عنّي ضربه وهدّد بحرقه بأعقاب السجائر.
     وتقول زوجة رابعة: يشعر زوجي بالإحباط فهو في الحرب كان الآمر الناهي وجاء السلم ليخذله ولا يحقّق له ما كان ينتظره. لقد عاد رجلاً عاديًّا، لا يعيره أحد أيّ اهتمام فيصبّ غضبه علينا.
     وتقول زوجة خامسة: زوجي ترك المدرسة والتحق بالحزب، وصرف ما ربحه في الحرب على المخدّرات والنساء والسلاح، ويعمل الآن في شركة أمن خاصّة ولا يكفينا راتبه ثمن الكحول. وإذا لم أعمل وأجلب له المال ضربني وضرب الأولاد.
     حكايات النساء عن "أبطال" حروبنا الصغيرة لا تنتهي، وآثار العنف والضرب والإهانة تظهر واضحة في عيون أولادهم الذين بدأوا يضربون زملاءهم وإخوتهم لردّ الاعتبار لأنفسهم أوّلاً ولتقليد آبائهم ثانيًا، وثمّة بينهم من يضرب أمّه أو جدّته. وفي حين تغلّف هذه الحكايات بالصمت والكتمان والتعتيم، يزداد عدد ضحايا 13 نيسان ويتواصل مسلسل العنف في بلد لا يجرؤ أحد فيه على فضح الأسرار العائليّة وشعار أهله يقول: "خلّيها بالقلب تجرح ولا تطلع وتفضح".
     لا أعرف إن كان ثمّة إحصاءات حول هذا الموضوع، أو دراسات حول هذه الفئة العمريّة من الرجال (بين 45 و55 سنة) الذين كبروا فجأة حين أطلقوا الرصاصة الأولى على الضحيّة الأولى. ولكن مجرّد التواجد في محيط توجد فيه هذه الشريحة من الرجال غير المتعلّمين وذوي الدخل المحدود جدًّا والمقتنعين بأنّهم لم يوفّقوا كما يجب في حربهم الأولى يكفي كي نخاف على أنفسنا حين نسمعهم يقولون وبريق تقشعرّ له الأبدان يسطع من عيونهم: لو تعود الحرب لأيّام فقط لنعوّض ما حرمنا منه.
     ولكن ما الذي حرم منه هؤلاء؟
     الجواب: الإدمان على القتل والعنف والتذويب في الأسيد والاغتصاب ورمي الجثث في مكبّ النفايات أو تحت الجسور أو في مقابر جماعيّة والشعور بالتفوّق والمتعة في فرض قوانين خاصّة.
وأولادهم المراهقون الضحايا؟
     هم مع الأسف أسرى حرب يتماهون مع معتقليهم ويقلّدونهم على الرغم من الكره الشديد الذي يحملونه لهم، والغضب العنيف الذي يجعلهم يتمنّون الموت لآبائهم وهم لا يعرفون أنّهم باتوا، في غياب المعالجات النفسيّة والمتابعة الاجتماعيّة، نسخة طبق الأصل عنهم، أي قنابل موقوتة لا نعرف متى تفجّر نفسها فتجرف معها احتمالات الخلاص.

الأربعاء، 10 أبريل 2019

لولا نيسان 1975...(النهار - الثلاثاء 13 نيسان 2010)

بوسطة عين الرمّانة
هل أصابا الهدف؟


يبدو أنّهما أصابا الهدف

هل بقيت حياتهما كما هي؟؟؟

     
بعد صبيحة الثالث عشر من نيسان من العام 1975، لم يعد العالم هو نفسه، لم يعد لبنان هو لبنان الذي أُخبرنا عنه، ولم تعد حياة أيّ واحد منّا كما كانت عليه، حتّى الذين كانوا أجنّة في أحشاء أمّهاتهم، والذين ولدوا بعد ذلك التاريخ بكثير، والذين سيولدون بعد أجيال، كلّهم، كلّنا، محكومون بما جرى في ذلك الأحد. وإذا كان ترابط الكائنات ودورة الطبيعة يعنيان أنّ سقوط ورقة عن شجرة في الصين يغيّر كينونة العالم، فكيف إذا انطلقت نيران الرشّاشات وسقطت ضحايا وانفجر ما كان يختبئ في الضمائر والصدور ليجرف كلّ شيء أمامه؟ هكذا تتغيّر مصائر الأمم والأفراد في كلّ مكان وكلّ زمان.

     لولا ما حدث في مثل هذا اليوم عندنا، لكان كثيرون أحياء لا شهداء، وأحرارًا لا أسرى، وأصحّاء لا معوّقين، ومقيمين لا مغتربين، وعاقلين لا مجانين، ولكان كثيرون اختاروا مدارس وجامعات غير تلك التي أجبرتهم الحرب على ارتيادها، ولكان كثيرون أقاموا في بيوت بنوها وأثّثوها لا في بيوت هجّروا إليها، ولكان كثيرون ارتبطوا بغير الذين شاءت الحرب أن يرتموا في أحضانهم ليهربوا من الغربة والوحدة والموت. لولا ذلك النهار لكان كثر من الناس اختاروا البلدان التي هاجروا إليها بدل أن يهربوا على أيّ مركب أو طائرة إلى أيّ بلد يمنحهم حقّ اللجوء إليه ويبيعهم الأمان مقابل مبالغ كبيرة من الضرائب، ولكان كثيرون أنهوا علومهم بدل أن يلتحقوا بالأحزاب، واختاروا أعمالاً لا علاقة لها بالسياسة، ولكانت الأرض ملأى بالأشجار لا بالمقابر، والأثير عابقًا بأغنيات الحبّ والصداقة لا بأناشيد للثورة والوطن والموت.

      13 نيسان 1975 ليس منفصلاً في طبيعة الحال عمّا قبله وجعل تركيبة لبنان ما هي عليه، بلدًا تحكمه الجغرافيا وهو مقتنع بأنّه يصنع التاريخ. ولكنّ التغيّرات الجذريّة واستمرار تداعيات ذلك اليوم هما ما يجعلانه محطّة حاسمة في تغيير مسار الوطن وتقرير مصير المواطنين. من هنا أهميّة ألا ننسى ذلك اليوم وما نتج عنه من هزائم لبعض الأفرقاء وانتصارات لآخرين. والدعوة إلى عدم النسيان هي محاولة لتعليم الأجيال الجديدة أنّ الحرب قد توصل قلّة من الأشخاص إلى مراكز المسؤوليّة والقيادة ولكن على جثث من ارتضوا أن يكونوا وقودًا لها، أو راحوا ضحيّتها من غير ذنب. ولعلّ المؤسّسات التربويّة والجمعيّات الأهليّة في المجتمع المدنيّ مطالبة بتخصيص هذا اليوم لتنظيم زيارات لمعوّقي الحرب، وأمّهات الشهداء، وأهالي المخطوفين، وبيوت المهجّرين، والقرى المزروعة ألغامًا، لعلّ جيل الشباب يتذكّر أنّ "الحرب بالنظّارات هيّنة" كما يقول المثل الشعبيّ، وأنّ من شلّت أطرافه وينتظر من يتعطّف عليه ويمسح له أنفه لم يربح من الحرب سوى المعاناة، وأنّ الأمّهات لم يحصدن من بطولات أولادهنّ سوى كلمات التعزية المجّانيّة، وأنّ أهالي المخطوفين يموتون كلّ يوم مئة مرّة وهم يحاولون أن يتخيّلوا مصائر أولادهم فيعجزون، وأنّ المهجّر لم يترك أرضه وبيته فحسب بل حياة وحضارة وجيرة وتاريخًا وتراثًا، وأنّ الأرض المزروعة ألغامًا لا ينبت فيها إلاّ الأطراف الاصطناعيّة.

     نحن الذين استيقظنا صبيحة ذلك الأحد وعلى أهدابنا بقايا من أحلام المراهقة والعشق والنجاح، تمطّينا في أسرّتنا الدافئة ونحن نستمتع بكسل عطلة الأسبوع، تناولنا فطورنا الشهيّ في طقس ربيعيّ جميل، استمعنا إلى زقزقة العصافير قبل أن تخفت أصواتها مع رنين أجراس الكنائس "تذيب روح الله في المتعبين"، كما يصفها الياس ابو شبكة، جلسنا نخطّط لمشروع يوم الأحد قبل أن نعود غدًا الاثنين إلى المدارس، ولم نكن نعلم طبعًا أنّ هناك من قرّر ألاّ تعود حياتنا إلى ما كانت عليه، وأنّ كلا منّا سيجد نفسه مرغمًا على أن يسير في دروب خطّتها له القذائف العشوائيّة ورسمتها الرصاصات الطائشة، وسيكون له لغة ذات مفردات غريبة ومصطلحات جديدة، وستُفرض عليه حياة لا تشبه قطعًا حياة أهله الذين لم يحدسوا بما سيكون عليه مستقبل أولادهم، ولا تشبه حتمًا حياة أولاده الذين حين يستمعون عرضًا إلى أخبار الحرب والقصف والخوف يتصرّفون كأنّهم أمام فيلم سينمائيّ لا يموت فيه الممثّلون بل يقبضون رواتبهم وينتقلون للعمل في فيلم آخر. وهذه هي معاناتنا اليوميّة مع الحرب وعلينا أن نجعلها كلّ يوم رسالة سلام، على الأقل مع أنفسنا.

الأحد، 7 أبريل 2019

العقل وعلامات الاستفهام والتعجّب (2009)





(2009)

     يخيفني العقل البشريّ بقدر ما يثير فضولي وإعجابي ودهشتي. أخاف منه بقدر ما أخاف عليه.
     حين التقيت الممثّلة المسرحيّة رضا خوري وراقبت ما كانت تفعله طيلة الوقت الذي أمضيته معها كنت أخشى أن تكون في كامل وعيها، ولكنّها أسيرة حاجز ما يمنعها من الوصول إلينا، كانت في مرحلة متقدّمة من مرض الإلزهايمر، وكانت والدتها العجوز هي التي تخدمها وترعى شؤونها وتتذكّر عنها. أمّا هي فكانت في عالم آخر. أحببت في ذلك اليوم أن أفكّر في أنّ رضا تؤدّي أحد أدوارها، وأنّها ستخلع عنها بعد قليل قناع التمثيل لتعود إلينا. في لحظة من اللحظات، شعرت أنّها تعرف ما يجري. فحين كانت والدتها تريني ألبوم الصور لمسرحيات ابنتها وأعمالها، تململت رضا في مكانها وأرادت النهوض، فساعدتها خادمة تساعد الأم المريضة في جسدها والابنة المريضة في عقلها. وبعدما انتصبت واقفة بعد معاناة توجّهت إلى غرفة نومها وهي تجرّ نفسها بصعوبة رافضة أن تبقى في مكانها، ثمّ عادت حاملة إليّ صورة فوتوغرافيّة لها كانت موضوعة قرب سريرها وتظهرها في أحد أدوارها المهمّة. كانت رضا تعرف في ذلك الوقت ماذا أفعل عندهم. وبالفعل نشرتُ الصورة مع التحقيق وقلت إنّها من اختيار رضا نفسها.
     كان يدهشني دومًا في مرضى الألزهايمر ميلهم إلى الشتائم واللعنات على أقرب المقرّبين منهم. وكنت شاهدة على حال سيّدة مريضة لا تتوقّف عن الكلام البذيء والشتائم كأنّ لاوعيها يفرغ كلّ ما كان يحرّم عليه إخراجه. فجاء المرض وأطلق الأمور من عقالها.
     بعيدًا عن هذا المرض، أذكر في كثير من الأسى تلك الشابّة التي وضعوها في غرفتي في المستشفى لأنّها كانت مصابة بنزيف. كنت صغيرة وخاضعة لعمليّة جراحيّة في رجلي تمنعني عن الحركة. وفي أوائل الليل، انفجرت أصوات القصف في مكان ما من بيروت، فتوتّرت أعصاب المريضة وخرجت عن إطار السيطرة. علمت فيما بعد أنّ المرأة كانت في مركز للأمراض العقليّة، وأتوا بها إلى هذه المستشفى لعلاج نزيفها. ولم يكن من المسموح أن يضعوها مع أحد. 
     في ذلك الوقت كانت الحرب تسمح بمخالفات كثيرة فهل سيهتمّ أحد بمجنونة موضوعة في غرفة واحدة مع طفلة. 
     أذكر المشهد كما لو أن الأمر حدث اليوم: كيف كانت تحضن المخدّة على اعتبار أنّها ابن أخيها الذي كانت تحبّه على ما يبدو بشكل مميّز، وتغنّي للمخدّة، وتقفز بها من زاوية إلى زاوية هربًا من قصف موجود في تلك اللحظة في رأسها فقط، إلى أن اختبأت تحت السرير وهي تصرخ.
     ثمّ أخذت تقترب منّي لتخبّئني تحت الغطاء كي لا يطالني القصف. 
     لم تنفع محاولات الأطباء والممرضات في تهدئتها رغم الأدوية التي أعطيت لها والحقن. ولما لم يكن هناك مجال لوضعها في غرفة أخرى بقي طبيب وممرّضة طيلة الليل حاجزين بيني وبينها.
     لا أذكر أنّني كنت خائفة منها، بقدر ما كنت أراقب ما يجري وأحاول أن أفهم. كان الدم النازف منها يملأ المكان ويلوّث ملابسها وفراشها وغطاءها ولم يكن من مجال لترتيب وضعها وتصحيحه قبل أن تهدأ. وكانت عيناي المفتوحتان ترصدان كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ نقطة دم. وساعدني الضوء الذي أبقوه مشتعلاً على تثبيت نظري عليها وملاحقتها في رقصة رعبها الطويلة والمرهقة.
     في ساعات الفجر الأولى، غرقت المرأة النازفة في نوم عميق بعدما أعطى خليط الأدوية مفعوله أو بعدما تعبت. لا أدري. ولكن حين تمّ نقلها على سرير متحرّك إلى سيّارة إسعاف لإعادتها إلى المصحّ العقليّ كانت المرأة لا تزال نائمة. أهلها الذين أتوا لمرافقتها اعتذروا من أهلي عن ليلتي الصعبة كما وصفوها. وقالوا إنّ الحرب هي التي فعلت ذلك بها، وأنّها فعلًا متعلّقة بابن أخيها الطفل وتخاف عليه.
     أعتقد أنّ ارتباط الجنون بالحرب وثيق، فالجنون يولّد الحرب والحرب تنتج الجنون. حلقة مفرغة يدور فيها الإنسان. ولهذا سيبقى العقل البشريّ بالنسبة إليّ أمام علامات استفهام وعلامات تعجّب لا نهاية لها.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.