الأربعاء، 19 أغسطس 2009

ليلى كرم والموت قبل الموت

ليلى كرم وفريال كريم


  (19 آب 2009) 
     حين أتلقّى نبأ وفاة فنّان لبنانيّ، أتساءل في سرّي بأسى: هل اختارت رضا خوري أن تنسى الناس قبل أن ينسوها؟
     رضا خوري، أيقونة المسرح اللبنانيّ وقعت ضحيّة مرض الألزهايمر وهي في عزّ عطائها وشبابها، وماتت وهي لا تعرف أحدًا ممّن حولها. وحين أجريتُ تحقيقًا عنها لملحق النهار الثقافيّ شعرت برهبة النسيان وأنا أرى إلى عينيها التائهتين، أما اليوم وأنا أكتب عن ليلى كرم فأصحّح لنفسي شعورها السابق وأقول: بل هي نعمة النسيان.
     قلّة من الفنّانين بقيت إلى جانب ليلى كرم، الممثّلة القديرة، وساعدتها في مرضها الذي أوقعها في العوز والعجز. أمّا الدولة فكانت غائبة كعادتها حين لا يكون ثمّة صوت انتخابيّ سيغيّر المعادلة ويقلب موازين القوى. مشكلة ليلى كرم، بل مشكلة كلّ فنّان أصيل وأصليّ، هي في أنّه يصدّق نفسه حين يقول في المقابلات التي تجرى معه: تكفيني محبّة الجمهور. ولكنّ الجمهور يا ستّ ليلى مش عايز كده. ولولا العائلة البيروتيّة الكريمة التي ساعدتك في محنتك الأخيرة لما كنت وجدت مستشفى يستقبلك. ولكن هل تعلمين أنّ المستشفيات تضع في غرف المرضى تلفزيونات لتخفّف عنهم معاناة المرض وتكونين أنت بأدائك الرائع من بين الذين يبلسمون الجراح؟
     صار الكلام عن حقوق الفنّانين مزحة ثقيلة بعدما رحل أكثر الفنّانين الأصيلين، والآخرون يملكون من المال والعلاقات العامّة والخاصّة ما يجعل الدولة تستعطفهم وتطلب حقوقها منهم. ولذلك كان التمثيل الرسميّ في مأتم ليلى كرم شاهدًا على طبقيّة تتعامل بها الدولة مع الفنّانين، وهي الطبقيّة نفسها التي جعلت وسائل الإعلام تتعامل مع خبر موتها بخفّة وتسرّع وفي كلمات مختصرة لا تفي حقّ تلك التي ملأت أمسياتنا بكاء وضحكًا أيّ: حياة.
عاصي الرحباني عالجته الحكومة السوريّة التي عالجت كذلك وديع الصافي، وليبيا قدّمت منزلاً لصباح التي كانت تشير في أحاديثها الأخيرة إلى مساعدات ماليّة تتلقّاها من أميرة كويتيّة صديقة. ثلاث قمم فنيّة لم تجد في بلادها إلاّ حفّارات التفتيت تريد أن تسوّي بها الأرض وهي خلقت لتسمو وتعلو. وغيرهم عدد لا يحصى من الكبار الذين لاذ كلّ منهم عند الشدّة والشيخوخة في حضن عائلة كان يهملها رغمًا عنه لإرضاء "الجمهور الحبيب" و"لإعلاء شأن الوطن".
     ليلى كرم ماتت مليون مرّة قبل أن تموت، وحين كنت أصادفها عند طبيب الأسنان الرسّام الفنّان الذي كان يعالجها مجّانًا كما كانت تخبرني، كنت أكتشف كيف يموت الإنسان من الغبن والخيبة والخجل لاضطراره إلى قبول مساعدة ولو أتت من صديق.
     ليلى التي انضمّت إلى أديب حدّاد (أبو ملحم) وسلوى حدّاد (إم ملحم) وإيلي صنيفر وهند أبي اللمع وأنطوان ريميوالياس رزق وابراهيم مرعشلي ومحمّد شامل وعلياء نمري وسواهم، بكاها في مأتمها آماليا أبي صالح (بدور) وليلى حكيموجهاد الأطرش وليليان نمري وخالد السيّد وأنطوان كرباج وصلاح تيزاني (أبو سليم) وسواهم، ولكنّ السؤال الحقيقيّ هل كانوا يبكون ليلى كرم أم يبكون أنفسهم؟

* صحيفة البلاد البحرينيّة - 9 كانون الأوّل 2008

ليلى كرم في مشهد دراميّ من أدائها (الرجاء الضغط على الرابط)

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.