المنارة - بيروت
صحيفة "النهار" - الثلاثاء 11 آب 2009
لو كان للصيف في لبنان أمّ لما بكت عليه، أو لربّما بكت في الجبال لا في المدن الساحليّة. في الجرود العالية حيث الهواء النظيف المنعش لا في المدن المكتظّة بالسكّان المقيمين في علب من الباطون والزجاج ويتنشّقون هواء اصطناعيًّا تضخّه مكيّفات توهم بصيف كالذي كان، وفي القرى الهانئة الساكنة الساكتة لا في الأحياء القذرة والأزقّة الضيّقة، وتحت الأشجار الخضر الوارفة الظلال لا بين جدران البيوت الصمّاء.
لو كان لصيف لبنان أمّ لما بكت عليه بل على شبّان يقتلون على الطرق، لأنّ موسم السياحة يفرض التساهل في الأمن، ولأنّ الضيافة تقضي بأن نفتح أبوابنا وبيوتنا وقلوبنا للضيوف، ومقابرنا لأولادنا الذين يموتون كلّ يوم مئة مرة، ولأنّ الأشقّاء الذين ساعدونا على بناء الجسور وإعمار ما هدمته الحروب يريدون أن يستردّوا ثمنها من أرواحنا وأعصابنا وكرامتنا، ولأنّ كثيرين من المصطافين العرب الذين لا يجرؤون على مخالفة أبسط القوانين والأنظمة في بلادهم يحتلّون الأرصفة والدروب بسيّارتهم الضخمة ذات الدفع الرباعي، من دون أن يجرؤ أحد على تذكيرهم بأنّ القيادة فنّ وأخلاق، وبأنّ للسهر في المطاعم العائليّة لياقات وأصولاً، وبأنّ ثمّة في لبنان ما ليس للبيع أو حتّى للإيجار.
لو كان لصيف لبنان أمّ لبكت من دخان الحرائق التي أكلت الأخضر واليابس، ومن تلوّث الجوّ بالروائح المنبعثة من مجاري الصرف الصحيّ، ومن ازدحام السير على الطرق بلا رقيب أو حسيب، ومن ارتفاع ثمن صفيحة البنزين ما يمنع كثيرين من الخروج عن المنزل في نزهة عائليّة، ومن كلفة الدخول إلى المسابح النظيفة حيث صارت السباحة رياضة الأثرياء، ومن رائحة الأراكيل مساء والمناقيش صباحًا في بلد لا يعرف صباحه من ليله، ومن مهرجانات النخب المترفة التي يمرّ فيها أبناء الطبقة الثريّة ليجدوا مادة لأحاديثهم في اليوم التالي.
لو كان لصيف لبنان أمّ لبكت وهي ترنو في عطف إلى تلامذة المدارس المعاقبين بالدروس الإضافيّة وفروض العطلة المكثّفة لعلّ التلامذة يتعلّمون على أنفسهم في شهرين ما لم تعرف مدارسهم كيف تعلّمهم إيّاه في تسعة أشهر، ولذرفت الدمع على الساحات الجميلة في البلدات القديمة، وقد اغتصب براءتها غرباء لا يعنيهم أمرها ولا يحفظون أسماءها أو تاريخها.
لو كان لصيف لبنان أمّ لكانت لعنت الساعة التي حبلت فيها بابنها والساعة التي فيها أنجبته ووضعته في حضنها والساعة التي أرضعته فيها من ثديها شمسًا وألبسته ذهبًا وغسلت قدميه بمياه البحر الأزرق. فما من أمّ ترضى أن يفعل ابنها الذي أنجبته في خريف العمر، وربّته بدموع الشتاء، وألبسته من أزهار الربيع ما يفعله بالناس الذين انتظروا ميلاده كما تنتظر الشعوب الموعودة مخلّصها. وهل تقبل أمّ أن يقتل ابنها الذهبيّ الشعر أبناء سواها بحجّة اللهو؟ وهل توافق على أن يرهق ابنها القمحيّ البشرة كاهل الناس بالحرّ والعرق والغبار الأسود؟
أمّ الصيف اللبنانيّ صارت تكره وحيدها الذي صار متعجرفًا، متكبّرًا، مدمنًا الكحول والسهر وسباق السيّارات، كسولاً ينام إلى ما بعد الظهر ولا يحبّ الدرس أو المطالعة أو التفكير، وتخجل من أمومتها له وتتمنّى لو أنّ رحمها لم تعرف هذا الولد العاقّ، الذي بدل أن يبادلها عطاء بعطاء سرق منها مواسم الخير وباعها في أسواق السياحة والاصطياف، لغرباء وعابري طرق وتجار أسرّة. وهي تخشى على أبناء لبنان من جموح ابنها الذي خطفهم من الحقول والمخيّمات الكشفيّة ورماهم خدمًا في المقاهي والمنتجعات يبتسمون لمن يدفع لهم أكثر ويطلب منهم أكثر، وعرّى نساءهم من بعض حياء ودمغ جلودهنّ بخاتم سيادته وجعلهنّ إماء في حريم سلطانه، وسرق النوم من عيون الأهالي العاجزين عن إقناع أطفالهم بالبقاء أطفالاً فلا يتركون أسرّتهم ليتبعوا نداء الكبر والمغامرة على دروب ستجرح أشواكها أقدامهم الطريّة.لو كان للصيف في لبنان أمّ لبكت منه لا عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق