الخميس، 27 سبتمبر 2018

الشعراء المسيحيّون والعشق وداعش (2014) (من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)


             الخوف على المسيحيّين المشرقيّين لم يكن مزحة في يوم من الأيّام. وحين نشرت كتابي "الموارنة مرّوا من هنا - بألم ماري القصيفي"(2008)، كنت أعرف أنّ الخطايا التي ترتكب في الطائفة المراهَن عليها ستكون يومًا خطأ قاتلًا في حقّ المذاهب المسيحيّة الأخرى وغير المسيحيّة. ولعلّ خطيئة المارونيّ الأولى والكبرى والخطيرة أنّه لم يجرؤ يومًا على العشق، العشق البشريّ، بلا قيود أو موانع أو شروط أو مخاوف أو محاذير... العشق الطبيعيّ المجنون الذي لا يقتل الجسد ولا يحرم النفس ولا يكبت المشاعر ولا يغسل الدماغ ولا يخجل من النظر في وجه الله.
          أنا لا أعرف شاعرًا واحدًا مسيحيًّا لبنانيًّا يمكن القول أنّه عشق بصدق وجرأة وشجاعة! هل تعرفون؟ اذكروا لي اسم واحد منهم أحبّ فعلًا وترك كلّ شيء ليلبّي نداء القلب! جبران النسونجيّ وحبيب لبنان؟ سعيد عقل أسير أمّه والعذراء مريم؟ الياس أبو شبكة التائه بين غلوائه وحبيبته؟ أنسي الحاج عاشق فيروز ونفسه؟ صلاح لبكي؟ فؤاد سليمان؟ ميشال طراد؟ عاصي الرحباني؟ يوسف الخال؟ أمين نخلة؟ جوزف حرب؟ مَن منهم تحرّر من صلبه على خشبة المسيح ولبنان ليقول نعم لامرأة واحدة وجد فيها المسيح ولبنان؟ أنا لا أعرف اسمًا واحدًا في هذا الوطن، فهل أجزم وأقول ولا في المشرق العربيّ كلّه؟
          بين الخوف على المصير، والتأثّر بالتيّارات الأدبيّة الأجنبيّة، تلقّط الشاعر المسيحيّ بروحانيّة المسيح وجسد الوطن، فضاعت المرأة من يده وتاه هو. لتبقى القصيدة شاهدة على التشظّي والتشرذم والتفتّت بحثًا عن فردوس مفقود كان يمكن أن يكون بسهولة حضن امرأة، امرأة هي مزيج من العذراء والمجدليّة، لا واحدتهما على حساب الأخرى. ومن لا يجرؤ على عيش حبّ كهذا كيف له أن يكون مثقّفًا ثائرًا منتفضًا مقاومًا مغيّرًا؟ بل كيف يمكن أن يكون متصالحًا مع نفسه ومع العالم؟ بل كيف يمكن أن يكون نصّه أكثر من مجرّد استظهار يدرسها التلامذة أو قصيدة يشيد بها الدارسون، أو مدرسة في السبك والبلاغة والبيان يقلّدها الآخرون، أو تيّارًا شعريًّا يؤسّس لمرحلة في الأدب لا في الحياة؟
          قد يقول أحدكم ولكن عند غير المسيحيّين قد يصحّ الأمر نفسه! ربّما، لكن لأسباب أخرى تتعلّق بالحريّة والانفتاح والتفلّت من الرقيب، ولأنّ غير المسيحيّ لم يشبّه نفسه بمسيح مصلوب ولم يطلب من المرأة أن تكون عذراء تشبه أمّه التي تشبه بدورها العذراء.
          واليوم، في مواجهة داعش، التي وللغرابة لا تقتل المسيحيّين بل تبعدهم في عمليّة مكشوفة للفرز الطائفيّ وتقسيم المنطقة، اليوم، لا يجد الشعراء "المسيحيّون"، وإن كانوا ملحدين أو علمانيّين، سوى الدعوة إلى الجنس والعريّ والإلحاد، من دون أن يكتبوا نصًّا واحدًا يحرّك المجتمع ويقوده نحو خلاص ما. الشعر هو القائد، ولا قيادة من دون شغف أو جرأة أو تفلّت من قيود الفكر لا ملابس الجسد، وإن كان الزيّ مؤشّرًا لنوع من التفكير.
          الشاعر المسيحيّ لم يرد أن يعشق سوى مريم العذراء لكنْ عينه كانت دائمًا على المجدليّة فبقي واقفًا عند باب القبر، مشاهدًا لا شاهدًا. ولم يرغب في التشبّه إلّا بالمسيح، لكنّه لم يحمل صليبًا ويتبعه إلى كهوف النسك والتبتّل فبقي قابعًا أمام مغارة الميلاد خروفًا لا راعيًا.  

          اليومَ، في عصر داعش والخليفة وقطع الرؤوس، لا زعيم مسيحيًّا - دينيًّا أو سياسيًّا أو عسكريًّا - يمكنه أن يطمئن المسيحيّين الذين التصقت بهم صفة الأقليّات وما كانوها يومًا. اليومَ لا شاعرَ يعشق امرأةً ويقول لها: إنت لستِ أمّي، ولستِ مريمي، ولستِ بلادي، لكن أنت امرأتي التي من أجلها تصالحت مع أمّي، وبسببها عرفت من هي مريم، وفي جسدها صار لي وطنٌ وبيت. اليومَ، لا أمل أمام الفتيات المسيحيّات سوى أن يزينّ أصابعهنّ، على مثال جدّتهنّ أليسار، بخواتم مرصّعة بحبيبات السمّ، ينتحرن بتناولها للخلاص من حياة لا شعراء فيها ولا رجال.

الأربعاء، 26 سبتمبر 2018

يا مهاجرين ارجعوا ...إلى بلاد الاغتراب - 2011


شقيقي موريس أمام نصب المغترب اللبنانيّ في المكسيك



تمثال المغترب اللبنانيّ في بيروت


     الكلام الوطنيّ جميل، يحرّك المشاعر ويثير النخوة ويبلّل العيون بدموع الفرح والعنفوان، ولكن تبيّن بالبراهين القاطعة أنّه لا يطعم خبزًا، وإذا كان الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، فلن يحيا بيولوجيًّا، ووفق تأكيد خبيرات التغذية الجميلات، بالأناشيد الوطنيّة والخطب الرنّانة والشعارات المتوارثة من مجلس بلديّ إلى آخر.ولذلك كيف نجرؤ، نحن المقيمين في لبنان بحكم الأمر الواقع لا بدافع وطنيّ، على أن نطالب كلّ مغترب ناجح برفع اسم لبنان عاليًا وبأن يقول في كلّ مناسبة إنّه لبنانيّ وتحديدًا من القرية الفلانيّة، وإنّه يحبّ الكبّة النيّة والتبّولة؟
     فهذا الذي نجح في الخارج وتفوّق وتنافست المؤسّسات على التعاقد معه ماذا أفاد من لبنان في مسيرته هذه وكيف كان لهذا البلد الجميل دور في إبداعه وشهرته وتفوّقه؟ فلو كان هذا المتفوّق رسّامًا، استوحى لوحاته من الطبيعة اللبنانيّة لقلنا إنّ جمال المشاهد اللبنانيّة كان السبب في شهرته، ولكن لا طبيعة لبنان بقيت جميلة ولا المتفوّق المطلوب منه رفع اسم لبنان عاليًا من الفنّانين لأنّ لبنان الرسميّ والشعبيّ لا يعنيه أمر الفنّانين والأدباء. أمّا إذا كان هذا المتفوّق من العلماء في الطبّ والهندسة والاقتصاد فلا أعرف كيف كان للبنان الفضل عليه، حتّى يذكّره القيّمون على هذا البلد العظيم بأن لا ينسى رفع اسم وطنه عاليًّا. فلا المال من لبنان، ولا الشهادة العلميّة ولا المختبرات ولا العمل ولا التكريم ولا المكافأة ولا الراتب، فكيف يكون هذا الإبداع لبنانيًّا إذًا؟ إلاّ إذا كان القصد أن نبشّر بعقيدة تعلّمها مدارسنا لتلاميذها كي يستلذّوا بالألم، وهي إنّ الإبداع ابن المعاناة.
     ولنفرض أنّ هذا اللبنانيّ صدّق أنّه مدين للبنان بنجاحه، ربّما مناقيش الزعتر التي تفتح الذهن هي السبب، وقرّر بالتالي أن يعود إلى لبنان، مسقط رأسه ومكسره كما سنرى لاحقًا، ووضع علمه في تصرّف الدولة، فكيف سيكون عليه واقع الحال، وبماذا سيواجه؟
أولاً، ستضع له الدولة الشروط التعجيزيّة والعراقيل، وستطلب مقابل كلّ عالِم مسيحيّ عالمًا مسلمًا أو العكس احترامًا لجناحَي البلد اللذين لا يحلّق لبنان من دونهما، كأنّ طائر الفينيق يعرف أنّ لجناحيه طائفة (أليس الطاووس بألوانه المتعدّدة أكثر تعبيرًا عن تنوّعنا؟).
وثانيًا: سيحوّل على مجالس ولجان تدرس آراءه العلميّة وتفنّدها، علمًا أن لا أحد في اللجنة أو في المجلس يفهم كلمة واحدة ممّا يعرض أمامه.
     وثالثًا: ستعرض عليه صفقات من داخل الدولة، وستفرض عليه شروط ماديّة من رجالات الدولة، وسيكون له شركاء رغم أنفه وعلمه، وأوّلهم زعيم منطقته أو أحد أتباعه أو أفراد عائلته الذين لن يرضوا بأن يكون بينهم من يفهم أكثر منهم إلاّ إذا دفع ثمن ذلك من كرامته وعلمه وماله.
     ورابعًا: سيقع هذا العالِم المهذّب المتعلّم المثقّف الذكيّ الرصين الجادّ النظيف ضحيّة صراعات البلد الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، وسيتدخّل في قضيّته كلّ من يظنّ نفسه صاحب شأن ومركز من أصغر موظّف يحمل ختمًا إلى مختار الضيعة إلى رئيس البلديّة إلى نائب المنطقة، ما يجعله يطاطئ الرأس خجلاً ويحزم حقائب الرحيل ليعود إلى قواعده سالمًا غانمًا خلاصه، وهو يقاوم رغبة طفوليّة تغريه بأن يحمل معه حفنة من تراب الوطن الأغلى من الذهب ويمتنع كي لا يوقفوه على المطار بتهمة التهريب.

     فيا مهاجرين ارجعوا إلى البلدان التي استقبلتكم يوم هربتم من الجوع والفقر والموت والجهل والعصبيّة والفساد والذلّ، وفتحت لكم بيوتًا وقدّمت لكم شهادات علميّة وأعمالاً ووظائف وتبنّت أولادكم وداوتْ أمراضكم بعدما تنكّرت لكم حكومات بلدكم وأقفلت سفاراته في العالم الأبوابَ في وجه انتسابكم إليه. ارجعوا إلى حيث كنتم وليبق لبنان واللبنانيّون في قلوبكم أكثر طهرًا وشجاعة ومعرفة وإيمانًا ممّا هم عليه في الواقع.

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

حزينًا حتّى موتي (من أرشيفي في الصحف)


     عَبَر الرجل الأخير وانتهت رحلة الحبّ كما كان يجب أن تنتهي... كلانا كان يعرف ذلك، ويتوقّعه، وينتظره... ولكان الواحد منّا فوجئ لو حصل عكس ذلك... هم لم يكن ليعبر لو لم أقفل الأبواب والشبابيك في وجهه، ولو لم أتحدّاه وأستفزّه وأعرّضه لاختبار بعد آخر، وأنا أعي جيّدًا كيف لا يطيق أن تسدّ السبل أمامه، وكيف لا يحتمل تحديًّا أو مشاكسة أو استفزازًا أو اختبارًا... كان عليّ أن أفعل ذلك، ليعبر وهو مطمئنّ إلى أنّه لم يرتكب خطأ، وأنّني أنا من خالفت قواعد اللعبة... لعبة؟ نعم، أليس كلّ ما نفعله لعبة لها قواعدها وشروطها ونتائجها؟
     رحل الصديق الأخير، بعدما كان اسمه في حياة سابقة لوصوله العابرَ ثمّ العجوز، ها هو يقطع الطريق إلى الجهة الأخرى من حياة ليس لي مكان فيها، ناقمًا عليّ، غاضبًا على الظروف، حزينًا حتى موتي...
     كانت إشارات الرحيل في وجهه وكلماته وحزنه العتيق... فكيف أقف في وجه الريح التي حملته إليّ وهي تصفر قائلة: سيتابع الرحلة معي فلا تقفي في وجهنا؟ كيف أقاوم رغبته في الانضمام إلى العابرين بين البيوت الخالية إلّا من البرودة والشوارع الغارقة في ليل الخوف، المتلاصقين في مواكب انطلقت مذ كان طفلًا يقف إلى نافذة بيته ويسأل إلى أين يرحل الأصدقاء؟
     جميلٌ صديقي الأخير، كالمسيح في عرس قانا الجليل!
     ذكيّ صديقي الأخير، كالمسيح في مواجهة الفريّسيّين!
     شاعرٌ صديقي الأخير، كالمسيح حين قال: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر
     وكالمسيح المصلوب على خشبة العشق والمطعون بحربة الشكّ، والظمآن إلى نبيذ الأمس وقد صار خلًّا في يد الحقد... سيبحث عني بين الجموع وعيناه تعاتبان: لو لم تغلقي الباب في وجهي لما كنت صُلبت!

     ومن دون أن يسمعني سيعرف أنّ الملاك نفسه الذي بشّر أمّه به، قال لي: تريد منك السماء أن تبتعدي عن طريقه ليبقى هو الطريق...

الجمعة، 21 سبتمبر 2018

خمسون عامًا تفصل بين قبّعتين (2012)



خمسون عامًا تفصل بين صاحبة القبّعة البيضاء وصاحبة القبّعة السوداء!
خمسون عامًا مضت على الطفلة التي كانت تقف خائفة على درج تمثال الشهداء في ساحة البرج!
خمسون عامًا!
نصف قرن من الزمن!
نصف عمر في حسابات الأعمار والأمنيات!
والطفلة التي كانت تريد أن تتمسّك بشيء يقيها السقوط أمام المصوّر الغريب، جلست في ثيابها السوداء تستريح في منتصف الطريق!
***
كانت الطفلة يومذاك برفقة أمّها، في طريقهما إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، في تلك السنة التي انتشر فيها، وقبلها، وبعدها، شلل الأطفال، فباءت رجلها اليمنى بالفشل في مواجهة طغيان الوباء، وفي غياب اللقاح، بينما حقّق سائر جسمها نجاحًا في المقاومة. ومنذ ذلك الحين وهي تشعر بأنّها قادرة على الانتصار!
تنظر الطفلة البيضاء، وهي تجاهد لتبقى واقفة، إلى الكاميرا، فترى امرأة ترتدي ملابس سوداء أنيقة. وبطريقة ما، تعرف أنّ هذه ستكون صورتها بعد خمسين عامًا! وبطريقة ما، تعرف أنّ المشوار سيكون طويلًا ومرهقًا ومؤلمًا!
وتخاف!
خمسون عامًا نصفُها الأوّل في عالم المستشفيات والعمليّات الجراحيّة والأوجاع، ونصفها الثاني في عالم الحرب والخوف والموت، وبين هذين العالمين كان عليها أن تشقّ طريقها لتحقّق شيئًا ما، لتقف من دون أن تقع، لتتعلّم كيف تنهض بعد أن تقع، لتمشي من دون عكّاز، لتمشي نحو هدف، لتعوّض على الوالدين صدمتهما بما أصاب ابنتهما البكر، لتكون الأخت الكبرى لشقيقتين وشقيقين أُهملوا مرّات بسببها وبغير إرادة أحد، لتكون هي، لتتصالح مع طفولتها، لتصالح عقلها مع جسمها، لتطوي الصفحات بعد أن تنتهي من القراءة، لتكتب عن مراهقتها التي تأخّر موعد وصولها، عن الحبّ الذي يصل دائمًا بعد انتهاء الدوام، عن الصداقات التي نحرها الطموح، عن الخيبات التي جعلتها على ما هي عليه، وعن الألم الذي أحاط بها في المستشفيات وأنساها غالبًا ما هي فيه! وعن الكتب! خصوصًا عن الكتب والكلمات والدفاتر البيضاء التي كانت بلون ثيابها، قبل أن يتسلّل الأسود إلى الأوراق والخزانة!
***
الطفلة التي كانت خائفة من الذهاب يومذاك إلى المستشفى، حيث عليها أن تخضع لجلسات طويلة من العلاج الفيزيائيّ، تعرف الآن كم كانت شجاعة! وكم كان حظّها كبيرًا في أن تنجو ممّا كان يمكن أن يقضي عليها كما قضى على ملايين الأطفال في العالم! وكم كان والداها، على تواضع إمكاناتهما، رؤيويّين في تأمين أنواع علاجات خشي سواهما من الأهالي التفكير في احتمال أن تنفع أولادهم، خصوصًا في غياب دولة قادرة على أن تتعامل مع وباء عالميّ كهذا!
***
صاحبة القبّعة السوداء تنظر إلى الكاميرا وترى طفلة خائفة في ثياب بيضاء، تقف بصعوبة على أولى درجات سلّم الحياة. تمدّ لها يدًا تبدّد خوفها من السقوط، غير أنّ الصغيرة ترفض، وتصرّ على أن تكون وحدها في الصورة، وتنجح، وتبقى واقفة، وتمشي بلا عكّاز، وتقطع مسافة خمسين سنة، وحين تجلس لتستريح، تفكّر في موضوع كتابها الجديد!

اشتروا لبنان ولا تشتروا أمراء الحروب فيه - 2000


 إلى الملوك والأمراء والرؤساء والحكّام العرب:
اشتروا لبنان ولا تشتروا أمراء الحروب فيه

    تسري إشاعات في لبنان مفادها أنّكم تدفعون للمسؤولين فيه، في كلّ مرّة تتدهور الأوضاع، ملايين الدولارات كي يتّفقوا وكي يتنازل كلّ منهم عن مطلب من مطالبه. أرجو ألّا يكون الأمر صحيحًا لأنّ الذين يستفيدون من ثرواتكم يملكون من المال ما يجعلنا نحسدهم على ما يرمونه من فضلات على موائدهم، في حين أنّنا، نحن المواطنين العاديّين، لا نملك ثمن حلم جميل.
    ولذلك أقترح عليكم أن تشتروا لبنان، أرضًا وشعبًا، فذلك أوّلاً أرخص ثمنًا لأنّ الشراء بالجملة يختلف طبعًا عن الشراء بالمفرّق، وثانيًا لأنّكم بذلك تضمنون الانتهاء من قضيّة لبنان مرّة واحدة ونهائيّة.
    إنّ شراء لبنان عمليّة رابحة مئة في المئة:
    فطبيعة لبنان، أو ما تبقّى منها، مزراب ذهب: المياه التي تذهب هدرًا تستطيعون استغلالها أحسن استغلال لأنّكم تعرفون قيمة نقطة المياه، والأشجار التي نحرقها تعرفون قيمتها لأنّكم تشترونها من عندنا بأثمان باهظة بسبب السماسرة اللصوص، والجبال التي نحوّلها رمالًا تعرفون قيمتها لأنّكم تعرفون كيف هي الحياة فوق الرمال. ألم يقل الكبير أنطوان كرباج عند عودته إلى لبنان في أجواء حرب تهين كرامة الإنسان والفنّان: أنّكم حوّلتم الصحراء جنّة ونحن نحوّل الجنّة صحراء.
    والأماكن الأثريّة في لبنان مزراب ذهب: قلاع وحصون وقصور لا نعرف كيف نحافظ عليها، بل نحوّل بعضها زريبة للماعز، وبعضها ملتقى ليليًّا للمدمنين والعاهرات، وبعضها نبيعه قطعًا في الأسواق السوداء. أمّا أنتم فعلّمتمونا كيف يبني الإنسان فوق الرمل أبراجًا تتحدّى الطبيعة وتشمخ فوق السحاب.
    والأماكن الدينيّة مزراب ذهب: فعندنا كما تعلمون عددًا من الطوائف والمذاهب ولكلّ منها قدّيسون وأولياء، ولكلّ منهم معبد أو مزار أو ضريح، وإلى جانبها مطاعم ومحلاّت لبيع الشموع والزهور والمناقيش والبخّور والتذكارات، وهكذا تستقطبون المتعطّشين إلى الصلاة والتأمّل من كلّ أنحاء العالم.
    والفنادق مزراب ذهب، وكذلك المستشفيات، والمدارس، والملاهي الليليّة، والمسابح والمصارف وشقق الدعارة ومراكز الدراسات وسواها من الأماكن التي يدفع فيها الناس أموالهم وهم ممنونون شاكرون.
    ونحن فضلًا عن ذلك نجيد لغات الأرض كلّها وعندما يعجز اللسان نستخدم سائر أعضاء الجسد، فالمهم ألّا يزعل منّا أحد، وألّا تتوقّف الاستثمارات، إذ إننا كما تعلمون بعدما انتهينا من تصدير الأدمغة بدأنا بتوزيع البنات والصبيان على المحتاجين في كلّ أنحاء العالم.
    ونجيد كذلك الضيافة والطبخ واستعمال الأعشاب وتحضير الأرواح والتبصير وكتابة الرقي والأحجبة وتقديم المسرحيّات وإنتاج المغنّين والمغنيّات والراقصين والراقصات والأفلام، وعندنا أصوليّون ومتحرّرون، وعندنا محجّبات وعراة، وأغنياء ومتسوّلون، وزعماء ومرافقون، كلّ ذلك في بقعة صغيرة "تجمع بين الساحل والجبل" ولبنان يا أخضر حلو" و"ألله معك يا بيت صامد بالجنوب".
    أيّها الحكّام: أرجوكم اشتروا لبنان! وما دامت احتمالات الحروب والتقسيم واردة فلماذا لا تتقاسموننا بينكم، فلكلّ منكم أصدقاء في لبنان يتمنّون أن يعملوا بإرشاداتكم وتوجيهاتكم، وما دام الجميع عندنا يعمل بناء على توجيهاتكم فلماذا لا تختصرون الطريق ويكون في بلدنا (على سبيل المثال وكما كان الحال أيّام العثمانيّين): سنجق الرياض، وسنجق الدوحة، وسنجق دبي، وسنجق المنامة، وهكذا نعيش في أمن وسلام وبحبوحة و"بيرجع يتعمّر لبنان، أحلى ممّا كان" وذلك نظرًا لما حققتموه في بلادكم ولشعوبكم.
   أرجوكم اشتروا لبنان وسنكون كلّنا من أتباعكم المخلصين، فما دمتم تدفعون لنا أقساط المدارس وفواتير الاستشفاء فسنخدمكم أحسن ممّا يخدمكم زعماؤنا ورؤساؤنا وقادتنا، على الأقل نحن لا نكذب ولا نخون.
    اشتروا لبنان واسمحوا لنا أن نعيش في سلام. ولا تشتروا زعماءه، فالشعب والأرض أرخص بكثير.  

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

سلوى القطريب وموسم المطر الجميل (2009)



سلوى القطريب

على الرابط أدناه أغنيتها "شو في خلف البحر"
http://youtu.be/U-aD4GxKLGU

سلوى القطريب في مسرحيّة "بنت الجبل"

على الرابط أدناه أغنيتها "وعدوني"
http://youtu.be/AKZD0e6nyHk

      (14 أيلول 2009)
     تأخّر المطر الذي نعرفه، تأخّر لكنّه وصل مصطحبًا معه الثلوج والرياح والعواصف والبرد. رذاذًا أو حبالاً، خفيفًا أو عنيفًا، انهمر غير أنّه لم يغسلنا بعد ولم يطهّرنا، ولم نخرج من تحت معموديّته جددًا وأنقياء.
     عاد الشتاء الحقيقيّ، وعادت البروق والرعود توقظ فينا طفولة نائمة غارقة في دفء ذكرياتها، وصار الدفء حبيبًا نريد الالتصاق به والنوم في أحضانه، ولبست حبال الغسيل عقودها اللؤلئيّة، ووضعت أوراق الأشجار أقراطها المائيّة، غير أنّ القلق المقيم في النفوس والسعي الدائم لكسب الرزق يعيقان الناس عن الاستمتاع بالشتاء الذي وصل أخيرًا بكلّ حلّته ومجده وجماله. فقليلون هم الذين يخفّفون سرعة إيقاعهم اليوميّ ليتوقّفوا قليلاً ويتأمّلوا التغيّرات التي تتوالى أمامهم وتولّد آلاف المشاهد الجميلة المعبّرة.
     وفي عزّ هذا الشتاء البارد، دخلت المطربة االبنانيّة سلوى القطريب في غيبوبة، بعدما أصيبت بجلطة دماغيّة خطيرة. وقبعت وحيدتها الفنّانة آلين لحوّد مع والدها ناهي وعمّها روميو لحّود وباقي أفراد عائلتَي القطريب ولحّود في غرفة الانتظار ينتظرون أن تستيقظ سلوى وتغنّي لهم: بدّي غنّي غنّي غنّي/ وخلّي العالم تفرح منّي/ بدّي غنّي/ وان لاموني وزعلوا عنّي/ وصارا كلّن يحكوا عنّي/ بدّي غنّي . والانتظار في المستشفى أصعب أنواع الانتظار وأكثره طولاً وأثقله وطأة. انتظار ولادة أو انتظار موعد معاينة أو انتظار مريض كي يخرج من غرفة العمليّات ويفيق من تأثير المخدّر أو انتظار مريض في غيبوبة كي يقرّر إن كان يريد أن يرحل أو يشدّ بأنامله النحيلة على يدٍ تتمسّك به.
     ماذا يفعل المنتظرون في المستشفى؟ هل يصلّون؟ هل يطرحون أسئلة عن الأسباب والنتائج؟ هل يتبادلون الأحاديث كي ينسوا ما هم فيه؟ هل يشربون القهوة وينفخون السجائر؟ هل يهرعون إلى الطبيب كما لاح طيف ردائه الأبيض في الممّر؟ هل يبكون؟ هل يغضبون؟ هل يصمتون؟ ربّما يفعلون كلّ ذلك وأكثر. فالوقت طويل، والمنتظرون معلّقون من رؤوسهم بعلامات استفهام متلاصقة كعلاّقات الثياب في خزانة فارغة في بيت جبليّ خال من الحياة.     كنّا، صغيراتٍ، نلهو بتمثيليّة ساذجة على مقياس أعمارنا، وكانت اللعبة تقضي بأن تُختار فتاة من المشاركات لتجلس في وسط حلقة من الفتيات وتتظاهر بالبكاء. فتسألها الفتيات المحيطات بها على لحن رتيب: يا سلوى ليش عم تبكي؟ فتجيب الفتاة التي صار اسمها سلوى حين وقعت عليها القرعة لتكون الباكية: عم ببكي بدّي رفيقة. فتجيب الصغيرات مواسيات: قومي نقّي (أي اختاري) شي رفيقة. فتضحك الفتاة التي كانت تبكي وتقف وتتوجّه نحو فتاة ثانية وتختارها لتكون رفيقتها. لم أعد اذكر ماذا يحصل بعد ذلك، وإن كان المشهد نفسه يعاد تقديمه بممثّلات أخريات، حتى تتمّ دورة الصداقة ويتوقّف البكاء، ولا تعود عينا سلوى دامعتين.
     سلوى القطريب لا شكّ كانت تبكي في غيبوبتها خائفة على الذين تحبّهم ولا تريد أن تتركهم، خائفة على "ألين" التي كانت تعد نفسها وجمهورها بأنّها ستغنّي مع أمّها ذات يوم، فهل تسمعنا إن قلنا لها الآن: قومي نقّي شي رفيقة، شي غنيّة، ولكن لا ترحلي في موسم الرحيل هذا.     المطر جميل يا سلوى، وحرام أن يفجع من حولك برحيل آخر بعد رحيل "ألين" الصحافيّة الشابّة، شقيقة روميو وناهي وبابو وناي، ورحيل "ألان مرعب"، راقص الدبكة ومعيد مجد "الهوّارة" وهو زوج ناي وصهر آل لحّود، ورحيل الدكتور بشير سعادة الصهر الآخر زوج مصمّمة الأزياء بابو لحّود. هل ثمّة عائلات ترافقها الفجيعة ولا ترضى أن تحيد بلعناتها عنها؟
     يا سلوى ليش عم تبكي؟
     عم ببكي لأنّي بكّيت كلّ اللي حولي.
***

خبر مأتم سلوى القطريب عبر شاشة المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال

أغنيات أخرى لسلوى القطريب على الروابط التالية:

يمكن هلأ يمكن بكرا
قالولي العيد
حوّل يا خيّال الليل
على نبع المي
خدني معك
طال السهر وليالي العيد (مع طوني حنّا)
قولولي وينن
مسّيناكم يا اهل الدار
لا أكتر من غيري ولا أحلى من الكلّ
بدّي غنّي 
إسمك بقلبي
سافرنا كتير

الأحد، 16 سبتمبر 2018

حقيبة الهزائم (من كتابي أحببتك فصرت الرسولة)



 حقيبة الهزائم
أغادر علاقتنا كما يغادر الجنديّ بيته ويمضي إلى مصيره الغامض
أترك خلفي سنابل قمح تشقّ العتمة وتعانق الضوء
وسريرًا لا يزال يحمل دفء رغبتي في البقاء
لكنّي أعرف أنّ موعد الرحيل اقترب
ولا حصّة لي في الحصاد
وأنّ الطريق تنتظرني لتقودني إلى حيث أنت 
حكاية تنتظر أن تصير قصيدة.
أغادر قبل أن يغدر بي الوقت
وقبل أن أغدو عاجزة عن ترك المكان الأليف
أرحل كما ترحل طيور تقودها غريزة البقاء
ولا تعرف إن كانت أجنحتها لن تخونها
أمضي كما كان مقدّرًا لي أن أفعل
أترك خلفي ضحكاتِ أطفال
وأغنياتِ أعياد
وأعراسًا لن أشهد على زغاريد فرحها
أبتعد كي يخلو المكان من قلق لم يتركني مذ عرفت أنّ قدري هو العبور في حياة الناس
كما تعبر النيازك التي تولّد الأمنيات وتنطفئ
أحمل جسدي التعب وأمشي بلا أثر أو خيال
أتدثّر بصمتي الحبيب فلا يراني القمر
وأغيب في عتمة تعيد تكويني لأولد من جديد
***
في حقيبة الهزائم وضعت خيبتي الجديدة
هناك إلى جانب الحبّ الأخير
والحظّ العاثر
والأمل الواهم
وبعض الانتصارات المخادعة
جعلت لخيبتي الجديدة مكانًا آمنًا
فلا أفقدها في رحلة الأيّام الآتية
ولا أضيّعها حين أبحث عنها لأشكرها على رفقتها الدافئة
ووفائها الدائم
وعلى مساهمتها الكبيرة في جعلي أكثر حكمة وأكثر سكينة
***
أغادر علاقتنا
والمغنيّةُ العجوز تستدعي بصوتها الشجيّ أرواح العشّاق الذين ماتوا من الحبّ
وأغصانُ الأشجار تتعانق كي لا تشعر بالوحدة في ليل الرحيل
تبكي السماء بالنيابة عنّي
ولكنّ بضعَ حبّاتٍ من المطر ارتأت أن تبلّل عينيّ
كي تخفّف عنهما لهبًا يحرق جفونهما
فيرتدّ لهب الحريق إلى الداخل
ولا دهشة
أنأى في المسافة
العينان إلى الأمام والقلب يغور ولا يلتفت
ينمو الشيب على مفارق الدروب
تتجعّد بشرة الأرض
ترتجف زهرة الحقل
والجنديّ يعرف أنّ في انتظاره مهمّة جديدة في أرض غريبة
***
أهمس في أذن الجنديّ الذي يشبهني أنِ استرح
واعتزل القتال في عالم يحتفي بالجبناء
ويهلّل للمجرمين
ولا يبالي بالأبطال
ارمِ قضيّتك في الوحل وامض نظيفًا خفيفًا حرًّا
يحثّ الجنديّ الذي يشبهني خطاه
ويسرع لعلّ ضربات حذائه على الدرب تغلب صوتي
يفكّر أنّ الأبطال الحقيقيّين هم الموتى
فليكن موت
ولتكن قيامة
لعلّ الخلاص يأتي
***
أغادر علاقتنا كما يغادر ثوبي الأبيض علاّقة الثياب في الخزانة
تهتزّ قليلًا قبل أن تستقرَّ عارية بلا ثوب
كما تغادر مفاتيح البيوت القديمة علّاقاتٍ خائنة
بعدما تخلّعت الأبواب
كما تغادر آلاف الحيتان المحيطات الصاخبة
لتموت في سكينة الشطآن
أغادر قبل أن تغدر بي الخيبة
أحمل حقيبة الهزائم
وأمضي كجنديّ لا يعرف إن كان سيعود
حقيبتي الوسادة
حقيبتي المقعد
حقيبتي الملجأ
حقيبتي المتراس
حقيبتي النعش
تحملني وتمضي بي خارج إطار العلاقة
لأصير صورة عارية على سور المدينةِ الملعونة
مضطهدةِ الرسل والأنبياء والشعراء
وهناك
على الحائط المنخور بالملح
في مواجهة الزبد الأبيض
يحوّلني الانتظار أيقونة عجائبيّة
 تقصدها نساء الشرق العاشقات
لترى كلّ واحدة منهنّ وجهها

الخميس، 13 سبتمبر 2018

كلمات ليست لرجل


     حين أفكّر في كلّ تلك الكلمات التي كتبتها، للحبّ، للوطن، للألم، للحزن، للخيبة، للموت، للوحدة، للطفلة التي كنتها، للناس الذين عبروا... هذه الكلمات التي حفرت جلدي بأظافري لأخرجها، التي مزّقت قلبي لأنجبها، التي حطّمت باب عقلي لأجبرها على الخروج... هذه الكلمات ليست لرجل بل لإله لا يعرف أنّه إله ويظنّ أنّه رجل.
     لم يكن الأمر جنونًا أو مرضًا أو خيالًا. لم تكن معرفتي به صدفة أو حلمًا أو كابوسًا. كان لا بدّ أن نلتقي لأقول له من هو، وأمضي... قدري معه أن أمضي، وأن يبقى ليواجه ألوهته وحيدًا إلّا من الشعر والحزن... وأن يولد من جديد... كان لا بدّ أن أجرحه ليعرف قدرة عينيه على البكاء، كان عليّ أن أتحدّاه ليعرف قوّته، كان من واجبي أن أواجهه ليكرهني ويحبّ نفسه... كان يجب أن يتصالح الرجل فيه مع الإله.
     غريب كيف أنّ الرجال يخافون أن يكونوا آلهة، ويريدون أن يبقوا رجالًا، أطفالًا، مراهقين، ذكورًا. لكن ليس آلهة! يخافون أن يروا جمالهم، وقدرتهم على الحريّة، وعلى الحبّ، وعلى الاختيار. يخشون أن يصدّقوا أنّهم ولدوا ليكونوا أبطالًا يداعبون مخيّلات النساء، ويقلّدهم الشبان، ويفتخر بهم الشيوخ، وينام الصغار وهم يحلمون بغد أفضل لأنّ هؤلاء الأبطال موجودون فعلًا.
     أعترف أنّني أخفقت مرارًا. فشلت أكثر من مرّة في معرفة هويّة هذا الرجل الإله. واحد قال لي: أنتِ مجنونة! آخر صرخ بي: دعيني وشأني أنا مجرّد رجل! ثالث اعترف بأنّه يخاف ولا يريد، رابع همس بخجل بأن ليس من حقّي أن أعكّر عليه صفو حياته، خامس غضب، سادس هرب، سابع قال بالحرف الواحد: أنا غير مستحقّ...
     أعترف أنّني أخفقت. مرارًا وكثيرًا، وحزنت وبكيت وندمت وأقسمت أن أستقيل من مهمّة مستحيلة لا أمل لها ولا نتيجة منها. لكن كيف أُسكت الصوت في داخلي وهو يوقظني كلّ ليلة ليقول لي: الرجل الإله موجود، لكنّه لا يعرف من هو... ابحثي عنه واكشفي له حقيقة نفسه... فأهبّ من نومي لأعاتب من يقول لي ذلك، وأصرخ به ليتركني وشأني، وليعفني من هذا العذاب الذي يمزّق روحي... لكنّ الصوت صوت، يحكي ولا يسمع... يوصل الرسالة ويمضي لشؤونه.
     تعبت. كيف أجد من لا يريد أن يجده أحد؟ كيف أنقذ من لا يريد أن ينجو؟ كيف أمسح الغبار عن وجه من يريد أن يعفّر جبينه في التراب؟ كيف أكون مرآة من لا يريد سوى امرأة؟ كيف أكون ضمير من لا يضمر سوى الغضب؟
     تعبت... ألم يحن الوقت كي يبحث هو عنّي؟...



الأربعاء، 12 سبتمبر 2018

هويّات تتبع الأهواء (2010)


Marcia Babler

هل هناك شعب آخر سوانا يغيّر هويّته بالسهولة التي يغيّر فيها ملابسه؟ أكاد أجزم أنْ لا.
ففي زمن ما بعد العولمة، وما بعد الحداثة، وما بعد فورة الاتصالات، وما بعد الخريطة الجينيّة، وفي وقت تطرح الإنسانيّة تساؤلات دقيقة ومخيفة عن صورة الإنسان المستقبليّ وما سيكون عليه وضعه، نبدو نحن مستسلمين لواقع ليست فيه اسئلة وجوديّة فلسفيّة أو علميّة طبيّة، أو روحيّة ماورائيّة. ونكتفي بردود فعل هوجاء على أفعال تتجرّأ حفنة من الناس على القيام بها معاكسة تيّار الاستكانة والخنوع والموت السريريّ. وحين نستجمع قوانا ونتنطّح للمشاركة في الشأن العام، ونسعى إلى تحديد هويّتنا يكون أقصى ما نفعله هو السؤال عن أحدث مطعم في البلد.
الزمن الآن زمن حجاب، حتّى ولو ارتفعت نسبة المثليّة الجنسيّة بين أبناء المجتمع الواحد وبناته، في شكل كبير وغير معترف به/ وزمن تطويب القدّيسين والقدّيسات حتّى ولو كان أتباعهم يفضّلون التقيّة على التقوى، والاستسلام على السلام، والمصانعة (المسايرة) على الصناعة. والزمن زمن رمضان المرتبط بالكسل والتغيّب عن العمل والمسلسلات التي لا تترك وقتًا للصلاة والتعبّد/ والميلاد المزيّن بالمصابيح المضاءة في الشوارع، بينما الناس يلعنون الظلمة في البيوت، والمرتبط بالأحذية الجديدة التي لا تكتمل فرحة الأعياد من دونها.  
والزمن الآن زمن يعلو فيه صراخ التاجر الفاجر على تأمّل الأديب، وقرقعة الحديد في المعامل على همس القلم للورقة، وزعيق آخر صيحات الموسيقى على غناء العصافير. وحين تصير صبحيّة النسوان العاطلات عن العمل أطول وقتًا وأكثر ازدحامًا من أمسية شعريّة نعرف أنّ مقاربة الحديث عن الهويّة اللبنانيّة لن يوصل إلى نتيجة إن بقي يتمّ بالشكل الذي نقوم به، وحين تصل شتائم سائقي الباصات ونكات البرامج الفكاهيّة إلى آذان الناس باسرع ممّا تصل إليه آراء الحكماء نعرف أن لا هويّة لنا إلّا ما تفرضه علينا أهواؤنا، والهوى غلّاب، كما تقول الأغنية.
هل الوجه عنصر من عناصر تحديد الهويّة؟
لنأخذ مثلًا من الحياة اليوميّة: ما هي هويّة شابّة في السنة الجامعيّة الأولى؟ هويّتها محكومة بجملة عوامل لا تزال هذه الفتاة غير قادرة على التحكّم بها: الانتماءان الطائفيّ والمذهبيّ، فأن تكون مسيحيّة أمر مختلف تمامًا عن أن تكون مسلمة أو درزيّة، وأن تكون مارونيّة أمر آخر يغيّر من طبيعة تفكيرها فيجعلها مختلفة عن كونها أرثوذكسيّة أو كاثوليكيّة أو إنجيليّة، ثمّ هناك مكان الإقامة، فأن تكون مسيحيّة مارونيّة من الأشرفيّة يختلف عن أن تكون من دير الأحمر، وأن تكون خرّيجة مدرسة رسميّة لا يشبه في شيء أن تكون تلميذة راهبات فرنسيّات أو تلميذة مدرسة علمانيّة أو أنغلوفونيّة. ثمّ يأتي دور الجامعة والعمل والسفر والهوايات (موسيقى، رياضة، مطالعة، سينما، مطاعم ونواد ليليّة، سفر، فايسبوك...)، وكذلك هناك عامل الصديق الحبيب وإلى أيّ تيّار سياسيّ ينتمي، فكم من فتاة غيّرت ميولها الحزبيّة حين خرجت من تحت تأثير الوالد "العونيّ" مثلًا إلى التأثّر بحماسة الحبيب "القوّاتي"، أو العكس.

إنّ مجمل هذه العوامل وكثير غيرها (كالوضعين الماديّ والاجتماعيّ في الدرجة الأولى) ممّا لا يمكن لمقالة مختصرة أن تفيه حقّه يجعل هويّة هذه الشابّة أمرًا خاصًّا بها دون سواها؛ وأيّ انسجام أو تعايش (بحسب القاموس اللبنانيّ) أو تناغم أو تآلف أو تكامل بين هذه الهويّة وسواها عملٌ دقيق وصعب يحتاج إلى رغبة وإرادة يتبعهما تمرّس ومران، ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلّا في دولة المؤسّسات المدنيّة، ومن غير ذلك يبقى مجتمعنا مجموعة هويّات هائمة تتصادم ولا تتصادق وتتجاور ولا تتحاور. والمفارقة الكبرى أنّنا مقتنعون بأنّنا ما زلنا حرصاء على العادات والتقاليد مقارنة بدول الغرب، وأنّنا نولي العلاقات العائليّة والمناسبات الدينيّة والقيم الأخلاقيّة اهتمامًا خاصًّا، متجاهلين أنّ حرصنا هذا أساء إلى الوطن، ولم يحمِ عائلاتنا من التفكّك، وطوائفنا من التقاتل، وقيمنا من الاضمحلال، فخسرنا كلّ شيء. أو نكاد.

إنّ الهويّات قيد الدرس ليست من نصيب فئة محدّدة من المواطنين. فكلّنا نحمل هويّات قيد الدرس، نكتب عليها بقلم الرصاص، والممحاة في الجيب، أنّنا لبنانيّون حتّى إشعار آخر، عربٌ حتّى تصدر نتائج فحوص الحمض النوويّ، طائفيّون حتّى نجد سببًا آخر للتناحر، علمانيّون حتّى تأتي مواعيد الاستحقاقات من ولادة وزواج وانتخابات وموت وإرث، أغنياء إلى أن يحين موعد توزيع الإعاشات والمساعدات، فقراء إلى أن نربح اللوتو، مغبونون إلى أن يزداد عددنا، محبطون إلى أن نستقلّ في محميّة، وقد يكون الثابت الوحيد بين هذه المتحوّلات أنّنا أغبياء في حقّ أنفسنا حتّى إثبات العكس.
***
صحيفة النهار – 7 أيلول 2010

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

الرجل الممحاة

Karin Jurick

هي: أتعبني غيابُك، كبرت وتغيّرت!
هو: أداوي تعبك بلمسة، وأزيّن إصبعك بقبلة، وأذكّرك بذاتك حين أهمس في أذنك كم أحبّك!
هي: أنت أقوى منّي!
هو: منحتِ الجميع ما تملكين فضعفت، فجئت أعيد إليك قوّتك!
هي: ما الذي يمكنني أن أمنحك إيّاه وأنت تملك كلّ شيء؟
هو: أريد أن تمنحيني فرصة لأمنحك ذاتي وكلّ ما أملك!
هي: لماذا لم تقل شيئًا قبل الآن؟
هو: كنت أجمع الكلمات كما يجمع الصيّاد حبّات اللؤلؤ ليصنع لحبيبته عقدًا تزيّن به جيدها!
هي: وهل أنت صيّاد؟
هو: معك أنا طريدة ترغب في الوقوع في الأسر!
هي: من أنت؟
هو: أنا الرجل الممحاة. لن أدعك تكتبينني بعد اليوم، وتضعين نقطة النهاية. أنا رجلٌ لم تنجبه واحدةٌ من بنات أفكارك. وأعصابي ليست فواصل في جملتك، وقلبي ليس مجرّد عنوان لنصّ يداعب مخيّلتك. معي لستِ كاتبةً ولا قارئة، بل امرأةٌ ظنّت أنّ جسدها جملة اعتراضيّة، وأنّ عمرها نقطة نهائيّة، وأنّ السعادة صورة مجازيّة. أنا لستُ كلمةً فاضت عن حبر قلمك، أو حرفًا ساقطًا فوق صفحة شاشتك البيضاء، أو ضميرًا مستترًا في فعل الحبّ الذي لم تجيدي حتّى اليوم تصريفه إلّا في الزمن الماضي. أنا لستُ الرجل السوبرمان، ولا الرجل الوطواط، ولا الرجل العنكبوت... أنا الرجل الممحاة، أمحو الندوب وأترك التجاعيد، أمحو الحزن وأترك الحنين، أمحو الأرق وأترك الحلم، أمحو الغضب وأترك الثورة، أمحو العناد وأترك الرغبة... وأنتِ قضيّتي الوحيدة. 

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.