رواية للجبل عندنا خمسة فصول (منها وعنها)

فيلم دعائيّ لرواية "للجبل عندنا خمسة فصول"
شكرًا لمعدّه المخرج والروائيّ سمير زكي
*******************

 أطفال محاصرون في دير القمر 1983 (من مجموعة الطبيبة السويسريّة Josiane Andre)
 حرب الجبل اللبنانيّ 1983 - (من مجموعة صور الطبيبة السويسريّة Josiane Andre)
المهجّرون المسيحيّون في الطريق إلى دير القمر (1983)

الصورة من أرشيف الطبيبة السويسريّة  DR Josiane Andre


ماري القصّيفي في رواية الانسحاق والأمل

جان الهاشم - الحياة - 11 تمّوز 2014




          تحكي ماري القصيفي، في روايتها «للجبل عندنا خمسة فصول» (دار سائر المشرق)، الحرب اللبنانية في أحد وجوهها، حرب الجبل في ثمانينات القرن الماضي، بين الموارنة والدروز، وهي انتهت بتهجير المسيحيين من تلك المنطقة التي تعايشوا فيها معاً زمناً طويلاً، قبل أن تبدأ حروبهم وتتواتر منذ ستينات القرن التاسع عشر. وهذا التواتر أعطى الكتاب عنوانه، إذ صار لأبناء الجبل فصل خامس متكرّر يضاف إلى فصول السنة الثابتة المتكرّرة بانتظام، هو فصل الجنون: «ففي الفصل الخامس من فصول تلك السنة في الجبل اللبناني، فصل الجنون الذي لا ينفكّ يعود...» (ص 187). وإن تكن الشخصية الرئيسة في الرواية هي الراوية سلوى بو مرعي، إلا أن بطلة الرواية من دون منازع هي «الحرب اللبنانية» بكل صورها البشعة...
          تتفرَّغ سلوى بو مرعي لكتابة ذكرياتها عن حرب الجبل، وقصة تهجير عائلتها من قريتها، مع سائر المسيحيين في سائر القرى، إلى دير القمر. ليلة التهجير رسمت مستقبلها، وحفرت في نفسها عميقاً حتى باتت وقائعها راسخة في قلبها، وهي تريد أن تبوح بها لكي «تزيل حملاً ثقيلاً كالجبل...» (ص 12).
في تلك الليلة هربت العائلة من بلدتها عين يوسف سيراً على الأقدام، ما عدا الأب الذي رفض المغادرة ولازم منزله حيث قُتِل. لكن أخاها التوأم سليم، المختلّ عقلياً، نسي الراديو وأصر على العودة للإتيان به، فطلبت منها أمها أن تعود معه وأكملت طريقها فارَّة. تخلَّت عنهما الأم، وتخلّفا عن ركب النازحين، لكن سليم، الذي يعرف الدروب جيّداً، يقودها وصولاً إلى دير القمر حيث تجمّع النازحون، وحوصروا إلى أن كان الخلاص بإخراجهم من هناك بعد أشهر إلى بيروت وسائر المناطق. وينتهي بها الأمر عاملة في دير الصليب، مصح المجانين، الذي أُدخل إليه شقيقها سليم، واختارت العمل هناك لأنها أرادت أن تلازمه لقربها منه ولتعلّقه بها.
          وتبدأ أحداث الرواية الفعلية (زمن الرواية) من هناك، من مصح دير الصليب حيث حاولت أن تنسى ما حدث، لكنها لم تستطع. تقرّر أن تكتب عن تلك المرحلة بناء على نصيحة ثلاثة: مي ابنة خالتها، والصديقة الوحيدة التي بقيت لها، ودانيال العشيق المفقود، وفادي الطبيب في المصح. «اكتبي عنها يزُل الألم وتبقَ الذاكرة» (ص 18). وانتقلت إلى بحمدون لتتفرّغ فيها للكتابة. وراحت تلملم عن ألسنة الناس فيها ذكرياتهم عن وقائع مرحلة سقوط البلدة، والنزوح عنها. أخذت عن جورج ابن صاحب البيت الذي استأجرته، وقرأت أوراق طبيبة طوارئ سويسرية، تدعى جوزيان أندريه، عملت في خلال الحرب في بحمدون ودوّنت يومياتها فيها.
          وما كتبته سلوى يذكّر القارئ بتلك المؤلفات عن حرب الجبل، التي روت الأحداث من زاوية واحدة، وهنا من وجهة نظر شابة مسيحية، معجبة ببعض زعماء طائفتها، وغاضبة على أكثرهم لأنهم لم يعرفوا كيف يقودون الحرب. مع أنها في ما كتبت حمّلت الجميع، مسيحيين ودروزاً مسؤولية الحرب وبشاعاتها. المسيحيون حركشوا، والدروز انتقموا والمواطن دفع «ثمن غباء المسيحي وغضب الدرزي، والغباء قاتل كالغضب» (ص 128).
          وتعود سلوى إلى زمن الأحداث الحقيقي. ما جرى في دير القمر. لم تنم مع المهجّرين في مكان تجمّعهم. هي كرهتهم، وأرادت الابتعاد عن أمّها التي تكرهها معتبرة أنها أخذت كل العقل ولم تترك شيئاً لأخيها التوأم سليم. نامت في الكنيسة حيث قيل إن ثلاثة رجال اعتدوا عليها ومارسوا الجنس معها، فحملت بذلك العار.
          وتتحرّك أحداث الرواية بثقل وتباطؤ وتشابه وتكرار، كأن الكاتبة تعمّدت ذلك لكي تبرز تلك الدوامة التي يدور فيها المسيحيون والدروز في فصل الجنون الذي لا يني يتكرّر.
          لم تسلم سلوى من كلّ تلك الأحداث، هي وقعت ضحيتها فتشوّهت نفسيتها بأبشع ما يكون. حمّلها الناس عاراً لم تحمله أساساً، وقد أوضحت ما جرى لها مع الرجال الثلاثة، وما باحوا به لها. الأوّل أراد وهو معها أن يشعر «بأنّ الحرب لم تقتل فيّ كل شيء...»، والثاني أراد أن يتذكّر أمه وهو يغفو على صدرها، والثالث بكى وهدّدها: «إن عرفت أنك أخبرتِ أحداً أنني بكيت قتلتك بلا شفقة ولا رحمة...» (ص 92). حالات ربما تنتاب من انقاد للحرب غصباً عنه، وربما تكون حاجاتها هي نفسها، لأنها حاولت مقاومة الحرب، وافتقدت الأم هي المكروهة من أمها.
          وينتهي القسم الأول من الرواية، مع ما توصلت سلوى إلى تدوينه، لأنها ستصاب بمرض السرطان وتموت قبل أن تكمل ما بدأته. في القسم الثاني تتولّى مي، ابنة خالتها، إكمال ما بدأته، أو بالأحرى إيضاح كل ما ورد في أوراقها من مواقف وأخبار. وتتحول في القسم الثاني إلى راوية بدورها ترى إلى ما أوردته سلوى من منظار آخر. وهنا تتكشّف لنا براعة الكاتبة في لعبة الإيهام، مع ما نكتشفه من وقوع سلوى في حالة الإسقاط (projection) المعروفة في الطب النفسي، بوجهيها: «الإسقاط النفسي»، وفيها تتلبَّس شخصيات الآخرين وتتبنى مواقفهم، و «الإسقاط التحويري» وفيها تعكس حالاتها النفسية على الآخرين. تروي مي، وهي كما رأينا وجه آخر من وجوه سلوى: «وضعتني كتابات سلوى أمام حياتنا كلّنا، ففيها ما حصل معي وتبنّته هي، وفيها حكايات رويتها لها (...) وفيها قصص أقربائنا من المهجّرين (...) وفيها خصوصاً أوراق أنطوني خير الله وجوزيان الطبيبة السويسرية (...) «ظنّاً مني أنني أساعدها (سلوى) في التعلق بالحياة كما فعل انطوني، والإيمان كما تحدّثت عن مفعوله جوزيان» (ص 263).
          ونكتشف أن سلوى هي المجنونة في مصح دير الصليب، وليس شقيقها سليم. ونكتشف أن دانيال، الذي تروي سلوى قصة غرامياتها معه، وحبها له، ليس سوى زوج مي نفسها.
          تعيش سلوى إذاً في أوهامها وكوابيسها، لكن ماري القصّيفي، عرفت كيف تقودنا معها على طريق الإيهام، لتكشف لنا في النهاية حقيقة الأمور. طوال الرواية بدت سلوى امرأة مسيحية، تعيش هواجس مسيحيّي الشوف ومخاوفهم. وإذا سلَّمنا بأن مي شكلت عقلها ووجدانها، نجد أن هذه الأخيرة، أصرت مع زوجها دانيال على بناء العائلة، وعلى العمل على الثبات في الوطن، معبّرة عن حنينها إلى أيام المحبة والاختلاط في الجبل، آملة في إحياء ذلك يوماً ما، على رغم بقائها مهجّرة بعيداً من أرض الشوف. عاشت مي الحرب والهواجس، وحمَّلت الجميع، مسيحيين ودروزاً مسؤولية الحرب، لكنها تحلَّتْ بالأمل، استمدّته من دانيال، الزوج المرمِّم وباني الوطن المأمول معها.
          بذلك تصبح سلوى الإنسان اللبناني المصاب بالانفصام بعدما مزّقته الحرب ما بين اليأس والأمل، ما بين الموت والحياة، ما بين الحلم والواقع. في عمق مأساتها ظلت تأمل بوجود حبل خلاص يعيد الرحمة والمحبة إلى القلوب، كتلك المرأة الدرزية بالوشاح البيض، التي روت عنها أنها أنقذتها مع شقيقها سليم أثناء فرارهما، وكما يقول دانيال لزوجته، فإن سلوى «في نصوصها عاشت وعشقت وانتقمت وتطهَّرت، وتمسّكت، في حديثها عن المرأة الدرزية التي سمّتها عذراء الجبل، بحبل خلاص ينقذها من الحقد بالرغم من الأذى الذي تعرَّضت له!» (ص 312).
          وهذا الأمل يحدو الكثيرين على العودة إلى الجبل. لكن ما هو قائم حتى اليوم في الوقائع والنفوس يبقى معوّقاً أساسياً. وربما بسبب ذلك، وما حدث لها، وما تعيشه من تردّد وتمزّق وخوف، لاذت سلوى بالجنون لأنّ «الجنون الحقيقي أبعد ما يكون عن الغباء، وأكثر براءة من أن تلصق به جرائم الحرب، لأنه أجمل من الحقد، وأطهر من الشرّ، وأعمق من المعرفة...» (ص 315).
          «للجبل عندنا خمسة فصول» سجلّ الماضي وصورة الحاضر وهاجس المستقبل ومخاوفه، باللغة المنسابة ما بين السرد البسيط العادي، والتعبير الوجداني العميق المقارب الشعر، هي رواية الضياع والتمزّق والانسحاق، وفسحة أمل تبقى مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
********************************

ماري القصيفي روائية حرب الجبل بين دروز لبنان ومسيحييه


مايا الحاج - صحيفة الحياة
الجمعة ٧ فبراير ٢٠١٤

     «بوسطة عين الرمانة»، «السبت الأسود»، «حرب الجبل»، «حرب التحرير»، «حرب الإلغاء»... قد يُخيّل إلى القارئ الذي لم يعِش في لبنان أو أنّه لم يقرأ تاريخه، أنّ هذه العناوين تعود إلى أفلام عن الحرب أو روايات بوليسية، لكنّها في الواقع ليست إلّا تسميات أطلقت على المعارك التي خاضها اللبنانيون في أماكن مختلفة، وفي مراحل عدّة خلال الفترة الممتدة من عام 1975 حتى 1990. وعلى رغم أنّ تلك المرحلة المشؤومة في تاريخ لبنان وُضعت تحت مُسمّى الحرب الأهلية، إلا أنها لم تكن حرباً، بل حروباً بين الطوائف والمذاهب والأحزاب التي احتمت كلّ واحدة منها خلف دولة من الدول التي ترعى مصالحها. فمرّة كان الفلسطيني حليفاً، ومرّة كان الإسرائيلي هو الحليف، ومرّات أخرى كان السوري والفرنسي والأميركي...
          شكّلت تلك الحرب منعطفاً في حياة اللبناني الذي تحوّل فجأة من مواطن إلى مهاجر، ومن طالب إلى قاتل، ومن عامل إلى شهيد، وقد أحدثت في الجانب الآخر تحولاً ملحوظاً في مسار الرواية اللبنانية التي اتخذت من الحرب تيمة لها على مدار عقود متتالية.
          «للجبل عندنا خمسة فصول» (دار سائر المشرق) هي رواية جديدة من روايات الحرب الأهلية، لجأت فيها ماري القصّيفي إلى التاريخ لترصد تأثيره الراسخ في صميم المجتمع الراهن. هكذا، اختارت الكاتبة - بعد «كلّ الحق عَ فرنسا» - أن تنبش مرّة أخرى في صناديق مقفلة لم يجرؤ الآخرون على فتحها لشدّة خطورتها، أو لنقل حساسيتها. «حرب الجبل» هي إحدى الحروب المدمرة التي تناحر خلالها دروز الجبل ومسيحيوه عام 1983، فقُتلت عائلات درزية وقتلت وهُجّرت عائلات مسيحية، ليتكرّر بذلك سيناريو حرب أجدادهم المنسية (1840 حتى 1860).

    قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال عن أهمية كتابة رواية عن حرب مضت في وقت يقف لبنان ومعظم دول المنطقة على شفا حروب أهلية مرعبة. لكنّ ماريالقصّيفيلا تكتب التاريخ إلّا تحذيراً من المستقبل الذي لن يحمل معه أيّ أمل إن لم يحدث تغييراً جذرياً في «العقول». حرب الجبل مثلاً تكرّرت أكثر من مرّة خلال قرنين، ولا شيء يمنع من أن تتجدّد أمام أيّ ظرف مستجد في ظلّ غياب الرغبة الحقيقية في النسيان والتخلّص من الشعور بالمظلومية والتسلّح بالعلم والثقافة. من هنا، تبدو الحرب في روايةالقصّيفيكأنها فصل خامس يشذّ عن طبيعة لبنان المعروف بتواتر فصوله الأربعة، كأنّ الحرب هي الفصل الملعون في كتاب التراجيديا اللبنانية الطويلة.
    تكتب القصّيفي روايتها بنَفَس الصحافي الاستقصائي الذي لا يتوانى عن استخدام أيّ توثيق قد يُغني ربورتاجه. لكنها، في الوقت عينه، لا تهمل الجانب الروائي فيها، فتعمد إلى حيلة أدبية تُمسك بالقارئ منذ الصفحة الأولى وتجرّه نحو خاتمة روايتها الضخمة بحماسة واهتمام. فهي تعتمد لعبة الرواية داخل الرواية التي سمحت للراوية بالتنقّل على خطّ الزمن رجوعاً واستباقاً. ومثلما ساهمت هذه التقنية في إثراء الرواية وتدعيم بنيتها الداخلية، عملت على إظهار التماثل بين الكاتبة وبطلتها.
    البطلة هي سلوى بو مرعي، امرأة مسيحية في الخمسين من عمرها، عاشت يوميات حرب الجبل بعد تهجير العائلات المسيحية من قرية «عين يوسف» وقتل من تبقّى فيها. مكثت في «دير الصليب» مع شقيقها المختلّ عقلياً سليم، لكنها قرّرت بعد ثلاثين عاماً على مرور ذكرى حرب الجبل (1983) أن تكتب رواية توثّق فيها ما رأته وما سمعته خلال تلك المرحلة، لاقتناعها بأنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، في حين ابتعد الروائيون عن الغوص في تفاصيل حرب شائكة ما زال لظاها يحرق نفوس من عايشها، سواء كانوا دروزاً أم مسيحيين.
    تتابع سلوى ما يجري اليوم في سورية وتتذكّر ما كان يحدث في وطنها قبل ثلاثين عاماً وهي تقول إنّ زمن الإنترنت و «الفايسبوك» و «الواتس آب» حوّل كلّ الناس إلى أدباء وشعراء. إنها تقنع نفسها بقدرتها على إنجاز رواية عن الحرب، مع العلم أنّها لم تكتب رواية الجبل بخلفية الروائية، وإنما كضحية من ضحايا الحرب اللبنانية.
    مع أنّها كانت تغبط ابنة خالتها مي الريحاني (كاتبة) على موهبتها الإبداعية، ما كان حلم سلوى، الفتاة الجميلة و «ست البيت»، سوى حلم عادي كمعظم صبايا قرية «عين يوسف»: أن تحبّ وتتزوج وتُنجب... لكنّ الحرب حرمتها أبسط أحلامها: «أيّ عذاب هذا أن أحمل في ذاكرة روحي عمراً من التهجير المهين والغربة القسرية، وفي ذاكرة جسدي عمراً آخر من الحرمان الصارخ والرغبة المكبوتة. وبين العمرين، انقصفت أعمار أحلامي...» (ص 209).

بين الحبّ والحرب
    مرّت الأعوام، لكنّ سلوى نسيت أن تكبر وظلت عالقة هناك، على الطريق بين قرية «عين يوسف» و «دير القمر». محطات كثيرة عرفتها حياة واحدة، حياة تغلّبت فيها الحرب على الحبّ. ذاكرتها الملأى بمشاهد الموت والدمار دفعتها إلى تحيقق مشروع الكتابة، بتشجيع من ابنة خالتها مي وطبيبها فادي وحبيبها دانيال الذين كان لكلّ واحد منهم هدفه في رواية «حرب الجبل». فالطبيب النفسي كان يريدها أن تنطلق بحرية في خفايا ذاتها للتعبير عن نفسها ومداواة جروح عميقة لم تندمل بعد. ودانيال المهووس بالقضية المسيحية أرادها أن تكتب بدافع ديني لعلّها تفضح حقيقة الظلم الذي تعرّض له مسـيحيو الجبل. أمّا مي فتريد لسلوى أن تكتب الرواية التي لا تتمكن هي من إنجازها خوفاً على مشاعر قرّائها من غير المسيحيين.
    ومع أنّ الأفكار لا تنقصها لكي تكتب رواية عن الجبل، وهي ابنة الجبل التي قُتل أبوها في قريته وشُرّدت عائلتها ودُمّر منزلها، أخذت سلوى تبحث عن مادة روايتها بين كلام كثير سمعته من «مجانين» دير الصليب الذين لم يتمكنوا من احتمال فظاعة الجرائم التي ارتكبت في حق أهلهم وجيرانهم.
    ومن ثمّ لجأت إلى مواد توثيقية كتبها بعض من شاهد الحرب عن كثب مثل جوزيان وأنطوني، إضافة إلى كتب عن الحرب اللبنانية استخدمتها كمراجع أساسية مثل كتاب «أين كنتم في الحرب؟» للكاتب غسان شربل، و «الجبل حقيقة لا ترحم» لبول عنداري، و «قصة الموارنة في الحرب» لجوزيف أبو خليل وغيرها...
    تنبش رواية ماري القصّيفي في تفاصيل حرب الجبل الملتبسة، فتكشف تفاصيل تدخّل الإسرائيليين فيها بعدما قرروا فجأة أن يقفوا في صف الدروز ضد المسيحيين الذين جاءت مواقفهم مخيّبة للآمال.
    تمنح الكاتبة هامش الكتابة لبطلة تروي يوميات حرب الجبل بلسان مسيحية نُبذت واغتُصبت وهُجرّت، من غير أن تدفعها الحرب إلى تقوقع أكبر على طائفتها. بل تولّد الكره في قلبها تجاه كل من شارك في حرب بشعة دمّرت بيوت الجبل وأفراده، حتى غدا في ما بعد أشبه بمقبرة كبيرة تقصدها العائلات لدفن موتاها، لا أكثر. «هناك، بين قذيفة وأخرى، وتحت دخان الحرائق وتفجيرات الألغام التي زرعها مقاتلو القوّات اللبنانية على التخوم الفاصلة بيننا وبين القرية الدرزية المجاورة، وقفتُ أنا سلوى بو مرعي ألعن الجميع، وأدعو على هذه القرية وعلى هذا الجبل بالخراب».
حاولت ماري القصّيفي أن تتناسى المبرّرات والترسّبات الطائفية لتكتب روايتها بروح المنتقم من كلّ من شارك في الحرب، من الدروز كما من أبناء طائفتها. وفي هذا السياق تقول سلوى: «تمنيت أن أنجو وحدي لأشمت بمسيحيين أغبياء لا يعرفون كيف يوحدون كلمتهم، ومع ذلك تحرّشوا بالدروز الذين توحدوا صفاً واحداً، ولأكره دروزاً خانوا الخبز والملح، وفلسطينيين ظنّوا أنّ الطريق إلى القدس تمرّ بقريتنا، وسوريين وإسرائيليين يتلاعبون بالجميع...» (ص 45).
    تتولّى سلوى السرد في الفصول الأربعة الأولى من الرواية، لتُمسك مي الريحاني طرف السرد في الفصل الأخير، كأنها قرينة سلوى التي رحلت قبيل إتمام روايتها: «أنا مي الريحاني، أكتب الآن لأضع خاتمة لما كتبته ابنة خالتي سلوى بعدما وضع السرطان حدّاً لحياتها».
    في «للجبل عندنا خمسة فصول»، تتقلّص المسافة بين الشاهد والموضوع، بحيث تختار ماري القصّيفي لبطلتها «ابنة الجبل» أن تروي حكاية حقبة عصية على الكتابة في تاريخ لبنان. فتصور الراوية، ومن خلفها الكاتبة، واقع الحياة الجبلية قبل الحرب - خلالها - وبعدها. تصف الطبيعة كما تصف الناس بكثير من الخصوصية والمعرفة. ولا تتوانى الكاتبة - التي ترفع صوتها الشخصي في مقاطع معينة من الرواية - من أن تعرض نقدها اللاذع تجاه الكنيسة التي تعلّق طلاق زوجين لبنانيين بأمر الفاتيكان، وتجاه منطقة جبلية تُقام فيها أهم مهرجانات لبنان وأكثرها كلفة (وهي تقصد هنا بيت الدين) في ظلّ غياب المكتبات فيها، بل وأنابيب الصرف الصحي أيضاً...
    تكتب ماري القصّيفي روايتها من موقع التأصّل لا الانسلاخ، وما إعادة إحياء ذكرى الحرب الأهلية إلّا دلالة على العودة إلى أنفسنا وضمائرنا وضرورة استحضار اللحظة النفسية للحرب التي تلوّح لنا في الأفق غير البعيد.

****************************

"للجبل عندنا خمسة فصول"... استرجاع سرديّ أم تبصّر رؤيويّ؟؟!!

بقلم باتريك رزق الله

مع رئيس تجمّع معلّمي اللغة العربيّة في لبنان
الأستاذ باتريك رزق الله


     هل انتهَتِ الحربُ اللبنانيّةُ بفصولها الدمويّة؟ هل عاد المسيحيّون فعلاً إلى الجبل؟ هل أصبحْنا مواطنين نمارسُ مواطنّيتَنا بحضارةٍ ورقيّ؟ هل انتقلنا من المنطق العشائريّ إلى منطق الدّولة؟ عن هذه الأسئلة حاولَتْ ماري القصّيفي الإجابةَ في روايتِها الجديدة "للجبل عندنا خمسة فصول" التي استرجعَتْ فيها مشاهدَ وأحداثًا من حربِ الجبل.
     الأسبابُ المحليّةُ والإقليميّةُ للحربِ، كما فصولُها السّياسيّةُ، غابَتْ عن الرّواية. لكنّ تبعاتِها الآنيّةَ حضرَتْ بقوّة وعلى نحوٍ ممنهج ومدروسٍ في تعليقات الرّاوية سلوى أبو مرعي عن أحداثِ الزّمنِ الحاضر. إنّه الزّمنُ المتسلسلُ والمتواصل. دائرةٌ من فراغٍ مصيريّ، أو قلْ كابوسًا موحشًا يعيشه اللبنانيّون في يوميّاتِهم.
     إنّ الرّوايةَ بأبعادِها الحضاريّةِ والاجتماعيّةِ والثقافيّة، تطرح إشكاليّاتٍ مصيريّةً عديدةً عن الواقعِ الحالي والمستقبل. وهذا ما يجعلنا نسأل: أهي استرجاعٌ سرديٌّ واستحضارٌ لأحداثٍ حصلَتْ في الماضي، أم تبصّرٌ رؤيويٌّ لأحداثٍ ستحصلُ في المستقبل؟ لا أعتقدُ أنّ ماري القصّيفي توخَّتْ حفظَ الذّاكرةِ الدّمويّة لتلك الحربِ المشؤومةِ في الرّواية. أو أنّ لديها ثأرًا مع طرفٍ شاركَ في الحربِ أو مع آخر، فتجرّأتْ على ذلك في الرّواية. لا أعتقدُ ذلك على الإطلاق. لكنّني على يقينٍ أنّ لديها ثأرًا مع الحاضرِ مستمدًّا من الماضي. هو ثأرٌ مع اللادولة، واللاقيم، واللاحضارة. وأنا على يقينٍ أيضًا أنّ لديها حقدًا عميقًا على الذّاتِ العامّة، واللاإنسانيّةِ في لبنان. فالوحشيّةُ في روايتِها سلوكٌ مجتمعيٌّ عام. كذلك الكراهيّة. والحربُ عندها ليسَتْ نزاعًا واضحَ المعالمِ والأسباب. إنّها ميلٌ فطريٌّ إلى القتل، واعتداءٌ دائمٌ على الكرامةِ البشريّة، بقدريّةٍ أبديّةٍ غارقةٍ في اللونِ الأحمر، لونِ الدم.
     يبدو لي في الرّوايةِ أنّ الموتَ حكمٌ جماعيٌّ سرمديٌّ في لبنان بأوجهٍ مختلفة. هو الموتُ النّفسيّ. والموتُ المعنويّ. والموتُ الجسديّ. موتُ الحجر، وموتُ البشر، وموتُ الأحلام. هو الموتُ يكادُ يتسلّلُ إليك مرّاتٍ كثيرةً من مشاهدِ الرّواية، يستحضرُهُ حشد هائلٌ من المفرداتِ الموحشةِ والقاتلة. فتشعرُ بالاختناق، وطبعًا بالخوفِ والتمرّد. إنّها نتيجةُ البراعةِ في السّرد، والدقّةِ في رسمِ مشهديّةٍ واقعيّةٍ أليمة.
     من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضرِ إلى الماضي، نجحَتْ ماريالقصّيفيفي السّير بالقارئ بين أروقةِ الزّمن في اندماجٍ وصفيٍّ كليّ، بين الدّاخل والخارج، بين الأماكن والشخصيّات. ولبنان الأمس عندها كما لبنان اليوم، بلا أفقٍ، بلا مستقبل. أمّا الفرد، فعلى الدّوام، بلا مشروع، وبلا هُويّة. يخاصمُ، يقاتلُ، يعقدُ الصُّلحَ، ويسامح. كيف؟ ولماذا؟ لا جواب. كيف بدأتِ الحرب؟ وكيف انتهَتْ؟ لا جواب.
     "للجبل عندنا خمسة فصول" قبضٌ على حربِ الجبلِ في ذكراها الثّلاثين. إنّها جدلٌ غيرُ مباشِرٍ مع الذّات. أرادتْهُ الكاتبةُ حوارًا واعيًا وصريحًا، يستلهمُ منه القارئُ أفكارَهُ النّقديّة. فلا تكادُ تنتهي من القراءةِ حتّى تنطلقَ في رحلتِكَ التأمليّة عن ال"أنا" الفرد، والـ"هو" الوطن. تطرحُ الأسئلةَ وتعجزُ عن فكِّ الجواب.

*************************

ماري القصّيفي الروائية تكتب بتقنيّة "المفهوم الرفيع" HD "للجبل عندنا خمسةُ فصول"

ذاكرة مغتصبة بألوانٍ جميلة حزينة
لا أروع من أسلوبٍ ينقلُ الواقع والوقائع في حاضنةِ الشعر

بقلم ميشال مرقص
***
مع الأستاذ الصحافيّ والباحث ميشال مرقص

تُقاربُ الأديبة ماري القصّيفي روايتها الثانية "للجبلِ عندنا خمسة فصول" بتقانة "المفهوم العالي" (HD) متفوّقةً على تقنيّة الأبعاد الثلاثة، فللرواية الثانية مخزونٌ كبيرٌ من المعلومات، تُتعبُ الكاتبَ والقارئَ معًا، لكنّها تحفظُ في مرآةِ التاريخِ كمًّا هائلاً وغنيّا من الزوايا الحادّة لحالاتٍ شائكة وشخصيّاتٍ موتورة وعقائد أو توهّماتٍ تسقطُ تحتَ أول انهيارٍ في تُربةِ الأساسات. وهي أتقنتْ روائيّة "المفهوم العالي" (أش دي) على غرار قفزته التقنية في عالمي التلفزيون والفيديو لناحيةِ نقاء العرض الصوري، واللون المحلّي ووضوحِ الألوان بجُرأةٍ لم تتوقف عندَ محرّم ولا تتراجع أمام ما يُمكن أن يُشكّلَ تهديدًا، لحوادثَ لا تزالُ تجرحُ الذاكرةَ وتنحرُ الوئامَ كلما ابتعدَت في المسافةِ الزمنية. إذ ليسَ ما يُضيمُ جرح الوطنِ، بل جروحًا لدى الناس المُشتتين في وطنٍ يستقيلُ من ذاكرتِه، وفي مجتمعٍ ينوءُ بصدق التاريخ فيبتكر ذاكرةً مشوّهةً ويُصدّق أنّه إذا كذبَ يُمكنُ لعينِ الضميرِ ألا تثقبَ ذاكرةَ قايين...
وأمام الفصولِ الخمسةِ للجبل، تجدرُ المقاربةُ في خمسةِ فصولٍ أيضًا:

1-
عرض الرواية والنفاق السياسي والوطني
2- الأمراض الإجتماعية والأهداف الإصلاحية أو الهادفة
3- مرايا الألم
4- الحب والزواج والطلاق والعلاقات الحميمة
5- براءة اللغة وهدير الكلمة

1
يتناولُ العرضُ التاريخيُّ وقائعَ من الحربِ اللبنانية الداخلية بين أفرقاء الصراع السياسي والطائفي والمذهبي. وتنحصرُ الأحداثُ حول الحرب في جبل لبنان – بل في قسمٍ منه أي جبل لبنان الجنوبي وبخاصّةٍ بين قضائي عاليه والشوف وتهجير المسيحيين من هذا القسم من جبل لبنان. وهي تستعيدُ جذور هذا الخلاف إلى ما قبل مئة وعشرين سنة إلى مجازر 1860 والتي استُكمِلتْ حتى الشام في ما تأخّرتْ – إثرَ الحرب اللبنانية - من القرن العشرين إلى الحادي والعشرين لتعود وتشتعل في الشام وتمتدُ لتحرق سوريا كلّها... فليس ما يروي "تراب البلدين سوى نهرٍ طويل من الدماء" لا تكتبُ الأديبةُ الروائية التاريخ، بحسب مفهومه الحديث، - رُغمَ إتقانها أصوله - بل هي تعرضُ بانوراما تاريخية من شُرفةِ الذات، ومن وثائق حيّة وشهود نبتت جذورهم في بُركِ الدماء وامتدت غصونهم الوارفة لتُغطّي بشاعةَ أسوأ ما يُمكنُ أنْ يحصل في تاريخِ وطنٍ قيلَ إنّْ أنبياء الله أنشدو جماله وبخوره وعطوره وجمال نسائه من ملحمة جوبيتير وأوروب إلى "جميلة" نشيد الأناشيد ... بلوغًا إلى أليسّار وعشتروت ... وتسعى بخفّةِ ظلِّ وغزارة معرفة إلى إبراز إشكالية الإنصهار الاجتماعي في تلك البقعة من الأرض الجميلة، باعتمادها التاريخ المتعاكس والتطور المتناقض في مشهدية سينمائية تُقارب الحركة العبثية في إبراز التناقض بين متعايشين سلبيين لم يتمكن جمالُ الزيفِ من دفنِ حقدٍ "تقمّص" من جيلٍ إلى جيل كأنّه بُركانٌ يستفيقُ فجأةً من ثباتهِ ويصهرُ جماجمَ الألفة والوفاق في ثأرٍ جنبلاطي قديم وصدئ من المير بشير الثاني الكبير، وكراهية لم يستطع الشعر أن يلمّعها كي لا تبدو وقحة، رغم ما أيقظها من بشاعاتٍ ...
تلعبُ الأديبة ماريالقصّيفيلعبتها الأدبية برشاقة في سلسلةٍ جيوميترية حجمية كأنما فصولها أهراماتٌ متواصلة ما بين قممها وقواعدها. المرحلةُ الواحدة هرمٌ والمراحل أهراماتٌ تتداخلُ الرؤوس اللاحقة بالقواعد المتسعة السابقة. ولا تتوقف. الخيطُ الماسكُ يعقدُ طرفه في داخل قمّة الهرم الأول إلى منتصف قاعدة الهرم الأخير... فلا ينتهي القارئ من واقعة توقفت الأديبةُ عندها في بابٍ من أبواب فصلٍ ما، بل يعودُ ويلتقي تتمةً لها في بابٍ لاحق من فصلٍ آخر أو من الفصل ذاته. وقد أوجبَ تطوّرُ المشهد البانورامي عرضَ اللوحاتِ المتناقضة، حيثُ التاريخُ كانَ مشهدًا جميلاً مع نمو الأولاد والصبايا من طوائف مختلفة لا سيّما بين مسيحيين ودروزٍ ... لا تختلف بناتٌ مسيحيّاتٌ مع شباب أو صبيانٍ من طائفة الموحدين ... حيثُ العشقُ والحبُّ والحميميات البريئة أو غير البريئة تحصلُ ... لكنّ الحبّ يسقط عند عتبة الزواج المحظّر... من هذا الواقع الجميل – المؤلم، يتخذ التطوّرُ المُدني في عاليه أم المصايف كما قيلَ فيها، مسلكًا غيرَ سويٍّ بل هو واقعٌ أكثرُ باطنيّة من باطنيّة سكانِ المنطقة... وجهاء سياسيون وأثرياء يتملّكون عقاراتٍ ليبنوا فيها قصورًا وفيلاّتٍ يقطنونها صيفًا ...فيما تبقى فارغةً للنواطير وعائلاتهم من سكّان المنطقة معظم شهور السنة ... الأخيرون، رجالاً ونساءً يتنعمون من خيرات أهلِ الدار... سواء من الثياب والعطور للنساء وهي تكاد تكون جديدة، وأثاث بيوت وثياب وغيرها من عتاد للنواطير ... لكن الشرخ المعيشي – الإجتماعي لا يزالُ قائمًا... لمْ يُسعف النمو العمراني والانخراط السكاني المؤقت، في رتقِ الفجوة المُهلهلة، لا عموديًّا ولا أفقيًّا...كأنما المالُ لا يختلطُ مع الفقر، وكأنَّ الأخيرَ ينتظرُ فرصةً لينقضَّ على الثروة ... حتى بعدما هجر اللبنانيون فيلاتهم وباعوها من أثرياء عربٍ وتوجهوا إلى منطقة الكسليك وبلداتٍ متنية ... لم يتوّرع النواطير وعائلاتهم من السطو على أثاث القصور تلك.
منذُ الصفحة الأولى تُرتبُ الراوية مدخلاً لا تتضحُ معالمهُ إلاّ في أواخر الفصلِ الخامس... الأخير. فتلبُّسُ الأديبة ماري القصّيفي شخصيتين وربما ثالثة في رؤيوية روائية ذاتُ أبعادٍ إشعاعية، يَبدأ بتكوين شخصيّة إبنة خالة مي م. الريحاني، وينتهي بشخصيّة دانيال المثلّث الحالات أيضًا، مرورًا بشخصيّة سلوى. الأخيرة يقولُ لها الطبيبُ النفسي:"يا سلوى أنتِ تلقينَ صعوبةً شديدةً في الحديث، ربما في الكتابة تنطلقين بحرّيةٍ في خفايا ذاتِكِ بعيدًا عن مراقبة أحدٍ". هي سلوى تكرهُها أمّها، تُلقي عليها عبء الاهتمام بشقيقها التوأم الذي سلبتْ ذكاءه وهي في رحم الحياة، وهي تحمّلت مشقات النزوح إلى دير القمر وأنقذتها، في الخفاء، امرأةٌ ذاتُ منديلٍ أبيضَ... وهي نزيلة دير الصليب في خدمةِ النزلاء والاهتمام بأخيها... وهي عاشقة لـ"دانيال" المهووس بالقضيّة المسيحيّة، رغم ارتباطه، وهي المشغولُ بالُها على شقيقها المأخوذ بكاسيتات الزجل يَصْفَنُ إلى المتبارين، بعيدًا عمَّا شوهّه شاعرٌ آخر حمّلَ شاعريتهُ حقدًا لا يليقُ بشاعر ولا بالشعرِ... وهي تريدُ أن تُعيدَ بناء بيتٍ تهدّم، لتفرحَ بالعودة ...وتُريد أن تتذكَرَ فسطانَ عرسٍ لم تلبس مثله في حياتها...وهي أدفأت ثلاثة رجالٍ ليستعيدوا ذواتهم فاتهمتْ بالبغيّ ... وفاجأتْ دانيال المغروم بها بأنّها ليستْ كما أغرضت الشائعات، ولا تزالُ عذراء... لكنّ عقلها الباطني - وهو يعيشُ في حالات الحرب وما قبلها، جمالياتِ السلم والاطمئنان-، توقّفَ عندَ تلك المحطّات... وعندما تأخذُ عنها إبنةُ خالتها مي م. الريحاني عناء إنهاء الرواية، فلأنَّ سلوى ضحيّة اغتصابٍ همجي خلال الحرب أمام شقيقها المتخلّف عقلاً، ونحرِ الأخير أمامها ... ما يوضحُ حديث الطبيب لها... وتُمسكُ الرواية هذا السرّ حتى مقاربتها النهاية لتفتحَ على سرٍّ آخر يتعلّقُ بسبب كره أمّها لها.... ويهتُكَ صنميّة الطقوس...
تأتي الروايّة كما تقولُ الراويةُ:"لتُنظّفَ جروحَ ذاكرتي بهواءٍ لا يُشبهُ غيره في أيِّ مكانٍ آخر، وأنْ أعيدَ إلى عينيَّ ألوانَ الفراشاتِ، وإلى أذنيَّ طنين النحلِ، وإلى قدميّ الحافيتين ملمسَ تُرابٍ لو أُتيحَ لكلِّ حبّةٍ فيه أن تحكي، لأخبرتْ قصصًا عن عشق الإنسان للأرض وكرهه للإنسان الآخر"...(ص 30) فالثقلُ يرجعُ إلى أحداثٍ عايشتها بل عاشتها الراويةُ – الكاتبة، وهي في "التنظيف" كأنّما تبحثُ عمّا يُحدثُ صدمةً في الذاكرة، فلا تُفضي إلاّ على جمالاتٍ تُبهجُ بلا أثمان، فالطبيعةُ تحملُ عشقَ ذاتها في روعةٍ إنسانية، لكنّها تفقدها بسبب كره الناس لبعضهم... هو الزيف السلوكي والمؤانسة الخادعة والسياسة الجوفاء المبنيّة على الأحقاد الدفينة، فيتمُّ قول الشاعر(زفر بن الحارث الكلابي
): وقدْ ينبتُ العشبُ على دمنِ الثرى/ وتبقى حزازاتُ النفوسِ كما هي لا يُمكنُ لروائيّة تتدفّقُ الذكرياتُ العاطفيّة في كيانها ويُطبقُ على صدرها منها، إلاَّ أنْ تتوقف "عن قراءتها" (ص 275)، ومنها تُطبقُ جفنيها لتتراءى أمامها " المساحة الممتدة أمام ذلك البيت، بخليط الكنبات الموزعة على جنباتها والزهور المزروعة في علب الحليب المجفّف..." أمام هذه الجماليات التي يختزلُ غلاف الرواية بساطتها، لا تغفلُ الكاتبةُ عن سبب الحرب في الجبل، وهو سببٌ رئيسٌ تتدرّجُ منه أسبابٌ ثانويّةٌ تافهةٌ ... لأنّه المسؤول عن عدم الانصهار بين سكّان الجبل، وهو "الحقد"... "أتذكّر ما قاله وليد جنبلاط لغسّان شربل في كتاب – أين كنتَ في الحرب؟ - إنّه حين انتصرَ في الجبل أخذ بثأر بشير جنبلاط" (ص 88)، علمًا أنَّ ما يقولهُ جنبلاط ليسَ منزلاً، فالثأرُ تمَّ في عهدِ بشير الثالث، وبمساعدة قناصل، ووعود وتطميناتٍ لم يلتزم بها الدروز، بل كانت وعودًا لتطمين المسيحيين فيذهبُ رجالهم إلى العمل في الحقول والزرع، فيسطو الدروزُ على قراهم وبيوتهم قتلاً وذبحا ونهبًا وحرقًا من الجبل إلى راشيا إلى زحلة ... (د. مارون رعد - لبنان من الإمارة إلى المتصرفية – دار نظير عبّود - 19993) نكوثٌ في العهود والوعود، وربما من أجل هذا السبب قيل "تعشّى عند الدرزي ونام عند الماروني"، والتفسيرُ واضحٌ... 
ولا تُخفي الأديبةُ الأعمال المُخلّة بالأدب التي ألحقها أفراد من القوّاتُ اللبنانية بأهالي القرى الدرزيّة، أو وعد رفعت الأسد إلى إيلي حبيقة بعدم السماح بسقوط دير القمر، واتفاق أمين الجميّل مع السوريين "أعطيكم الجبل فاتركوا لي المتن" (ص 141)، وكشف أحد الأطباء اللبنانيين في باريس عن إستشفاء قاتل نقيب الصحافة رياض طه في أحد مستشفياتها، أو الحديث عن مؤامرة "نحنُ ضحيّة مؤامرة حاكها الجميع ضدّنا"، في الصفحةِ ذاتها... فالجميع كانَ مجبرًا على ما يقومُ به " يا ست سلوى يللي كان عم يقتل كان مجبور يقتل، ويللي كان عم يموت كان مجبور يموت. هيك بلّشت الدني وهيك رح تخلص" (ص 144) وغيرها من حالات الحرب القذرة ... في الجبل ... فحينَ سقطتْ بحمدون " سقط الجميعُ في امتحان العِشرة والقيادة والزعامة" (88) أو "ولم يكن أحدٌ يعرفُ، حتى الست (نبيهة) نفسها، أنّ الخبزَ والملحَ لن يقدرا على مقاومة نداء الدم". (100) و "نحنُ هنا قد نسمع في ايّة لحظة من يُذكّرنا بكلام طليع حمدان: أتركْ جبلنا وفل يا جاني... ناسي دروز الجبل ع الدم سكراني...(134)
لكنَّ الصورة القاتمةَ تلك، لم تنحصر بمنطقة لبنانية واحدة، ولا بين طائفتين متمايزتين، بل إن الحرب الأهلية في لبنان، أظهرت إلى العلن ما كان يُخفيه قعرُ بركِ الماء ذات السطوح النقيّة، حتّى إذا ما حُرّكت مياهها حتى القعر ظهر العِكْرُ والتراكمات.... نبت الحقدُ إلى خارج القلوب بين أهل المذهب الواحد، والقرية الواحدة والبيت الواحد ... وتعمَّمّ الفسادُ والقتلُ والهدمُ والسرقةُ ... لكن يقيني أن الكاتبةَ كانتْ لا تريد أن تستبدل صورةَ الجبل الهانئ بين طائفتين من أركانه، حملتها وهي في مراهقتها... لكنَّ ما حصل ليس سوى نتيجةٍ للنفاق السياسي بين الأفرقاء الأساسيين من جيل الاستقلال وما بعده... وهو نفاقٌ مردّه إلى حالات المجتمع المزيّفة والتي تشير إليها المؤلّفة بجُرأة ويقظة لافتة إلى كونها تنخرُ هيكل المجتمع...
ولا تنحصرُ الرواية لدى ماري القصيّفي، في إطار السرد من أجل السرد... هي واقعُ حياةٍ بمكعباتها وقببها ووهادها ... بجمالاتها وقباحاتها... بإشراقها وعتمتها ... والعملُ الروائي ليس سوى مجالٍ فسيح لنقل الواقع، والسعي إلى تحصين المجتمع من أمراضه غير السويّة... ناقلو الأمراض الاجتماعية هم "كبارُ القوم" المسؤولون عن سلامة المجتمع وحصانته وتحصينه، أذكرُ بعض الوجوه والحالات في سياق الرواية فالمونسونيور "الذي تحدّثَ طبعًا عن حنان الأم وقسوة التهجير"، وهي حالاتٌ تقليدية في تأبين الميت ورثائه..." لم يمد يده ليُعزّي كنّتنا السوداء، إذ اعتقد أنّها الخادمة، بل مدَّ يده ليتناول المغلّف من وكيل الوقف الذي كانَ جميل قد أوكلَ إليه مهمّة إكرام الكهنة" (ص 30). فالسياقُ الروائي يُبطنُ لدىالقصّيفيالازدراء والنقد معًا وإن بأسلوب قصصي هادئ. ولا يقلُّ عن المونسونيور ضِعةً إلا المختار مزوّر التواقيع. تقولُ سلوى (ص28) "ثمّ علمتُ أنّ المختار زوّر توقيعنا وقبض المستحقات، مستغلاً جهلي في هذه الأمور" وتعني مستحقات إعادة إعمار البيت. ولا يقلُّ عنهما فسادًا من يُفترض أن يكونوا ضمير المجتمع "الشاعر والصحافي والمعلّم والسياسي"، كأنّما استقال الجميع من مكاناتهم ورسالاتهم السامية المميّزة، وتعدّوا على إختصاص الآخرين. ومن حيثُ لا تُشير الكاتبة، تعني ما سبق أن ذكرته أمثالٌ خرافيّة عن غرابٍ أرادَ أن يُقلّد مشية الحجل ففشل ونسي مشيته، وضفدعٍ خطر له أن ينتفخ مثل ثورٍ... تُشير في صفحة 13 " حتى أن الممثلات والمذيعات يكتبنَ، والصحافيين والمعلمين يكتبون، والسياسيين يستكتبون الجميع"... فباتَ ما يُكتبُ إمّا هزيلاً وإمّا مأجورًا... وعندما تسقطُ الكلمة يسقطُ الوطن...وتنهارُ الأخلاقُ... تنهار الأخلاق؟ أجل عندما تتحوّل مناسباتٌ دينيّة، مثل عيد مار يوسف، في 19 آذار، إلى مناسبة لتكريس طقوسٍ وثنية، واحتفالاتٍ ليس لها بالدين صلة... يسكرون عند المختار، ولا يعودُ أحدٌ يعرفُ الآخر، وتسقطُ معالم عيد "الطهارة" في اختلال الأخ المخمور، يقيمُ علاقة جنسية مع زوجةِ أخيه، وهذه – في سواد العتمة- تظنّه زوجها – ثمّ تحملُ إثم السِفاح والمحرّم طوال عمرها وتقضي على جمالاتٍ في حياة ابنتها..." يمكنُكِ أنْ تبدأي روايتكِ بالقول، إنّ خالتكِ نامتْ مع رجلين في ليلة عيد القديس الذي لمْ ينمْ مع غمرأة" (ص 312)... وهذا الفساد في الأعياد والتقاليد، والاستضافة في بيوت جبلية قديمة تتساوى فيها مجالاتُ استخدامها، ربما تُخبّئُ وراء جدرانها حالات إجتماعية لا تزال تنعكسُ في سلوكيات اللبنانيين جميعهم ... وبمثل هذا الخداع في المجتمع يثأر شربل وساميا فهما (ص 60) "عاملا الجميع بمثل الخداع الذي يُسيطر على حياتنا كلّنا".
3
يطول الحديث ولا ترتوي الكتابةُ عن رواية ماريالقصّيفي"للجبلِ عندنا خمسة فصول" – فهي مرايا حقيقية للألم، ألم جسدي ينبع من دماءٍ تسيل ولا ترتوي الأرض، ومن مدافنَ لا يعرفُ من في باطنها، وقتلى لا تُعرفُ أينَ قبورهم "هل يعرف أحدٌ أين هي هذه القبور يا خواجه أديب"؟ (ص 56)، وخيبةٍ من مراهقة جميلة، وفساد يعم المجتمع، ووفاقٍ ينهار وصفاءٍ تُعكّره بندقية ومدافع، وامرأة أجنبيّة تُصلّي ليبقى حبيبها، فيُستجابُ لها جزئيًّا إذ يتحوّل زوجها إلى امرأة فلا تنفع الصلاة! إلى عولمة السرقة والجريمة كما حصل في باريس مع "أنطوني الناجي من المذابح اللبنانية". الرواية لا تُهملُ تفاصيل الألم لدى سلوى والعم أديب، والشقيق جوزف...وغيرهم ... ولا تُهمل مأساة السوريين الحديثة.
4
ولعلَّ الحالة الأهمّ، لدى القصيّفي، الحب والزواجُ. فهي كما في المجريات المهمّة للرواية، تتركُ رأيها أو الحالة الأساسية إلى الفصل الأخير. "أفلتتْ منّي قهقةٌ مدويّةٌ، فالتفتُّ إليهِ لأتناولَ شفتيه، كأنّي أستردّه من أوراق سلوى، وأعيدُهُ حبيبي وزوجي ووالد بناتي وشريكي في كلِّ شيء، وقبلَ كلِّ ذلك، الرجلُ الذي لا يُبكيني بل يشربُ دموعي عندما تُبكيني قصصُ عائلتي، والذي يُثيرُ رغبتي فيه كلّما أضحكني. (ص 312). والأروعُ "أينما كنتُ مع دانيال (زوجها) يتأسّسُ وطنٌ (...) تاركًا العتمةَ ومقبِّلاً الضوء" (ص 313)...هذه الحالة الزوجية الناصعة – كما تصف حالتها في الصفحتين المذكورتين- هي بعكس ما تدرّج من حالاتٍ عبر الرواية، فشربل وساميا انتظرا 12 سنة ليتطلّق شربل من زوجته الخائنة، ثم أشهر إسلامه وتزوّجا. "ما عاد أمامهما حلٌّ آخر! العمرُ يمضي ملتهمًا صحّة شربل وأعصاب سامية، وزوجتُه ترفض الموافقة على الطلاق، بل تعمل المستحيل مستعينةً بأصدقائها المطارنة كي تُبطل كل قرار يصدر عن المحكمة هنا، وكي تُجبره على دفع النفقة. أشهر إسلامه وكتبا كتابهما عند الشيعة"!(ص58) و" تصوّري أن أحد الكهنة هو الذي حثَّهما على عدم الانتظار أكثر من ذلك، ونصحهما بالزواج عند المسلمين مؤكّدًا لهما أن عشرات الموارنة يلجأون إلى هذا الحل يأسًا من الانتظار والضياع بين لبنان والفاتيكان". (ص59) وتُبدي الكاتبة آراء لها في حالاتٍ اجتماعية باتت تُشكلُ انحرافًا عُضالاً في المجتمع:" نحنُ وهم لسنا من العائلات الكبيرة الراقية التي لا تلتفت إلى موضوع الاختلاف الطائفي، وقد يُمكن فصل الدين عن الدولة، لكن من المستحيل فصل الدين عن الحب والزواج"... وتتابع متهكّمةً من الأحزاب العلمانية:"إن أصدقاءنا إشتراكيون في الحب... لكنهم متى أرادوا الزواج عاد كلٌّ منهم إلى أحضان طائفته".... و"لم نشعر ولا مرّةً بأن لقبلاتنا طعمًا طائفيًّا مميّزًا"... وترى بطريقةٍ فيها إنتقادٌ موجعٌ:" البنات اللبنانيات الذكيّات لم يعدنَ يحتجنَ إلى الزواج، واللواتي يرغبنَ في الزواج ساذجات لا يحكين سوى عن التسوّق. قد يصلحنَ للحمل والانجاب، لكن قطعًا ليسَ لتحمّل المسؤوليات وتربية الأولاد". (ص 39) وإذ تعتبر من حسن الحظ " أننا من طائفة مسموحٌ فيها لفتاتين أن تختبرا الحياة مثلنا". تنتقد التحوّل المخيف لتلك الحرّية الخلاّقة التي صارت حرّية خلاّقة صار فوضى مدمرّة لا منطق لها ولا حس بالمسؤولية، وتقاليدنا تحوّلت قيودًا بلا رؤية مستقبلية".
ولا يُمكن إلاّ التوقف، لدى القصّيفي، عند إيرادها علاقاتٍ حميمة تنتهي إلى نثرِ بكارة الفتاة، فهي في روايتيها، (الأولى: كل الحق على فرنسا)، أوردتْ أول لقاءٍ بين ضابط فرنسي متزوج مع فتاةٍ لبنانية دون العشرين، في مشهدٍ رومانسي بمستوى الورمانسية العابرة من باريس، وبين لقاء دانيال الصحافي اللبناني المتزوّج من إمرأةٍ ثيّب، وسلوى العذراء وهي في الخمسين من عمرها، وهو لقاءٌ سريعٌ لم يشربا حتى زجاجاتي البيرة خلاله... وكان ما سال من دماء تلك العذريّة هو الدم الجاري من تلك الحرب العبثيّة "أرى إلى الشرشف الأخضر المبقّع بدم بكارتي، فأرى جبلاً أخضرَ ينزف (ص 24)...وللتحليلٌ مشارف لا تتسعُ للتفصيل هنا...
5
مهما كتبتُ عن الرواية الثانية للأديبة ماري القصيفي، أشعرُ وكأنني أكتبُ في عُجالة... فالردهةُ المليئةُ بالمرايا المتعاكسة والسحرية لا تنتهي مساحات ومسافات. يُزيّنها أسلوبٌ رشيقٌ ممتلئ حيوية ونبضًا متناغمًا مع الوقائع. لكن أتوقف عند الديناميّة السردية، وعدم إغفال أدق التفاصيل في البيئة المحلّية واللون المحلّي. فالرواية كما سبق وبدأتُ هي بتقنيّة "أش دي"، الصورة المكثفّة بالألوان، وبالحركة التفصيلية الدقيقة الخالية من فراغاتٍ هوائيّة. ومن دون الحصر أتوقف عند وصفها للنساء الدرزيات (ص-189) "عند الغروب، تخرجُ صاحبات المناديل النظيفة كمياه الخلق، (الله!) ليمضينَ بعض الوقت في شرب المتّه في منزل إحدى الجارات، ولو كانتْ مسيحيّة". أو قولها "وأضع فراشي قرب "اليوك" الذي تُغطيه ستارة رقيقية ناصعة البياض تشي (هذه الـ تشي) بوجدود مزيدٍ من الوسائد والأغطية واللحف ..." (ص 87) – أو وصفها للشاب المحارب وهو يطيّر ماء (يبوّل) بعكس اتجاه الريح، أو كلامها عن الأرض وعن أجواء ليلة عيد مار الياس، أو وصفها لحالاتٍ نفسيّة لا سيما لرغبة سلوى في إقامة علاقة حميمة واكتشافها عمر جسدها في مرآة الفندق، سلوكيّات العاشق بعد الانتهاء من علاقة حميمة في سرعة... أو ...أو.... لا نهاية في روايةالقصّيفيمن اللون المحلي، والحركة، ونقل الواقع ونقل الشغف ورسم الحقد والغضب، وإيراد الأمثلة السائرة، وذكر الفنانين والصحافيين والأدباء والمراجع بطريقة غير تقليدية، هي طريقة ماريالقصّيفيوأسلوب مي م. الريحاني ....والأهم أنّها تفيضُ في حسّها عن الآخرين. هي الماضي والحاضر والمستقبل. هي المتكلّم والمخاطب والغائب، هي اللون والهمسُ والبكاءُ. هي الحنانُ والغضبُ والحسرة. هي الواقع والخيال والسوريالي، هي الارتباط والتجاوز والانتقاد... هي الخرافة والتقليد والأعجوبة، في مقابل التطور والواقع الملموس والثقة ... هي العاشقة والخائنة والزوجة الناصعة في السعادة...
روايتان، محورهما الأديبةُ ذاتها في شخصيّاتٍ مختلفة، قد تتجاوز الثالثة محورية الأنا... الأنا عندما تنوء بأحمال الواقع وأثقاله. الأنا تتنزّه عن تناقضات ما تحمله الروايات من تناقضات ... أكرّر. لا أستطيع أن أذكر الجماليات القصيّفية كلّها. فإلى "للجبل عندنا خمسة فصول"... والتوقف عند جمالياتٍ نخسرها ونفقدها، لعلّها تبقى في شاشة الذاكرة كما تقول ماري القصيفي.
"لكنّ الوجع الحقيقي هو المُقيم في ذاكرتي المُغتصبة" – تقولُ سلوى بو مرعي...

**********************************

"للجبل عندنا خمسة فصول" في قراءة نقديّة للروائيّة هدى عيد



     تصفية حساب مع ماضي حرب الجبل الأليم بكلّ تداعياته الاجتماعيّة / الإنسانيّة، النفسيّة والسياسيّة
 ... هو ما تفعله ماري القصّيفي في روايتها الجميلة "للجبل عندنا خمسة فصول". تقول ماريالقصّيفيالتاريخيّ الذي حفظته الذاكرة الشعبية عن حرب الجبل بين المسيحيّين والدروز، التاريخيّ الذي لم يُقَل بعد، والذي طويَ إمّا خجلاً وإمّا هربًا من المحاسبة، عسى الرَّاويةُ الموظّفة تتخفّف من ثقله ووجعه، لتحسن سيرًا، ومن خلفها الكاتبة، إلى التقدّم، وإلى معانقة المستقبل.
      توظّف الكاتبة راوية هي سلوى أنيطت بها مهمة كتابة رواية الحرب والحصار في دير القمر، والتهجير المخزي الذي كان، فتجعلها تعود إلى الأماكن المذبوحة تستقي من ذاكرة الناس المتلفعين بالصمت، أو بالسخرية المرّة حكاياهم، يتابعون حياتهم وهم ما عادوا ذواتهم، بعد أن دفنوا في صدورهم تاريخًا لا يموت.
     تنضمّ ماري القصّيفي إلى رعيل الروائيين الذين كتبوا عن الحرب اللبنانية خلال أوقات متلاحقة من القرن الماضي وصولًا إلى حاضرنا كالياس خوري في "الوجوه البيضاء"، ونجوى بركات في "باص الأوادم"، وجبور الدويهي في "شريد المنازل"، لكنها تبقى أقرب إلى يوسف حبشي الأشقر في روايته "الظلّ والصدى"، لأنّها تسلّط الضوء مثله على مسألة الطائفيّة الدينيّة، وعلى التعصّب الأعمى الذي اشتعل حينها بين الدروز والمسيحيّين متجاوزين تاريخ الجيرة الطويل بفعل التحريض القوّاتي الدخيل في تلك الحقبة، ولا تنسى الإضاءة على الدور الفلسطينيّ والسوريّ في هذا المجال.
     من هذا الشريط الاجتماعيّ التاريخيّ ينهض المعيار الفنيّ للبنية الأدبيّة لرواية القصّيفي حيث تروح تستجدي مرجعياتها عبر أشكال مختلفة من تقنيات القول، عنينا بها المذكرات للطبيبة السويسريّة عن تلك الحقبة، بعض الرسائل، بعض المدوّنات الفيسبوكيّة ليارا الدرزية، حتّى يستقيم لها المعيار الفنيّ للبنية الأدبيّة للرواية في محاولتها المستديمة للإحالة على المرجعي المسكوت عنه، وإعادة استقراء نطاقاته الجغرافيّة والزمنيّة والبشريّة، وكأنّها بذلك تسعى إلى تحوّيل الأدبيّ الفنيّ مرجعًا معرفيًّا أوّليًّا يقرأ من خلاله الجيل المسيحيّ الجديد خصوصًا، واللبنانيّ عمومًا دلالات الوقائعيّ الذي كان حقًّا، لا ما تمّ تظهيره فقط، لصالح السياسيّ المتواطئ على الشعبي المستكين.
     وإذا كانت شخصيّة البطلة قد تكشّفت عن هوية لا سَويّة، مختلفة عن الآخرين منذ ولادتها، فهي المتهمة من قبل أمها بتعديها على دماغ أخيها، فإنّما تتوسّل القصّيفي عبر هذا التوظيف إلى فضح الواقع المرجعيّ غير المستوي ولا المستقيم لا ماضيًا ولا حاضرًا.

     بلغة جميلة سلسة وانسيابية تقول القصّيفي روايتها هذه لتكون شهادة الضحايا الأحياء الذين لم تمتهم الحرب، لكنّها نقلت الدمار من خارج إلى دواخلهم، عساهم يجدون بذلك ذواتهم المجروحة، فيتمكّنون عندها من متابعة حيواتهم على أرض هذا الوطن الحزين .

*******************************


ماري القصّيفي ومحاولة الاستشفاء من الحرب باستحضارها
الكاتبة اللبنانيّة ماري القصّيفي تضع يدها على جرح لم يندمل حتّى اللحظة، تلملم خيوط القدر والحرب والمعاناة لتنشد السلام
جريدة العرب - منى الرنتيسي - 15 كانون الثاني 2014
*****

ماري القصّيفي تخاطب الحرب علها تجد خلاصًا منها
          في رواية “للجبل عندنا خمسة فصول” للأديبة اللّبنانية “ماري القصيّفي” الصّادرة عن “دار المشرق” 2014، تحاول الكاتبة الاستشفاء من الحرب الطائفيّة التي ما زالت رياحها تعصف بلبنان حتى هذه اللّحظة، هو الجبل اللّبناني الجنوبيّ بين قضائي الشّوف وعالية، هناك حيث تزيد الفصول العادية فصلا دائما للحرب والدماء.
          تعود الكاتبة إلى ما قبل مئة وعشرين سنة إلى مجازر 1860، وتروي استرجاعا تاريخيّا لحرب الجبل بين المسيحيين والدروز، وتسير بنا في سرد مخضّب بالدم والحرب والنزوح والدمار، وتمرّ على عدّة تواريخ ومراحل مفصليّة حتى تصل إلى يومنا هذا.
مقبرة الألم
          بطلة روايتها “سلوى بو مرعي” ابنة الجبل الّلبناني والشّاهدة على مأساة كانت أكثر من دفع ثمنها وعاش تفاصيلها، شقيقها التوأم “سليم” الذي كان يعاني من مرضٍ عقليّ منذ الولادة، ممّا كان السّبب في جعل والدتها تنقم عليها وتعتبرها من سلبت لبّه، هي التي كانت شديدة الفطنة والذَكاء والجامحة دوماً نحو المعرفة.
          لم يبق لكلّ تلك المعرفة وزن، بعدما تركت سلوى وعائلتها الجبل هربا من الحرب، لتتعثر خطاها عند اللّحاق بركب الهاربين، وتتعرّض لحادثة اغتصابٍ تفقدها كل الآتي من مستقبلها، وتتسبّب لها مع الحرب بمرضٍ نفسيٍّ عصبي، علاوةً على مقتل أبيها وجدّها وهجرة أخيها في ظروفٍ غامضةٍ وملتبسة، كل ذاك يبقيها حبيسة دار استشفاء “دار الصليب”.
          يحاول من بقي من عائلة سلوى وخاصّة ابنة خالتها “مي الريحاني” مساعدتها على الاستشفاء من أهوال الحرب والنزوح والاغتصاب، من خلال حثّها على التدوين وسرد التفاصيل التي عايشتها على الورق، علّ ذلك يصير مقبرةً لألمٍ لم تفلح العقاقير ولا المسكّنات ولا دور الاستشفاء في إبراء سلوى منه.
في الجبل تلتقي سلوى “العمّ أديب” الذي يحتفظ بذاكرةٍ خصبةٍ عن كلّ ما جرى أثناء الحرب وما بعدها، فيروي لها الكثير من القصص، لعلَها تجد طرف خيطٍ يساعدها على معرفة من كان وراء مقتل أبيها وجدّها، إضافةً إلى ذلك يساعدها ابن العمّ أديب “جورج” الذي كان مغترباً في الحصول على وثائق دوّنتها طبيبةٌ سويدية “جوزيان أندريه” أثناء وجودها في لبنان وعملها في فرق الإغاثة خلال الحرب.

لم يعد يليق بالحرب إلا أن تكون حبيسة الكتب ووثائق المذكرات
          في الجبل تلتقي سلوى أيضا “أنطوني خيرالله” ذاك الشَاب الذي نشأ يتيماً وعانى أهوال الحرب، لكنّه أفلح في مواجهتها بشجاعةٍ والانتصار على معظم تبعاتها، أرادت مي ابنة خالة سلوى أن تتعلّم من الطبيبة جوزيان الإيمان، حيث تسلحت به طيلة فترة العمل في الفرق الإغاثيّة، حتى تمكّنت من إنجاز مهمّتها بنجاح، وأن تتعلّم كذلك من أنطوني الشجاعة والعزم في التّغلب على المصاعب وأهوال الحروب.
تذهب سلوى إلى الجبل وتبدأ بوضع حجر الأساس لبنائها الروائي الذي لم تتمكن من تعمير آخر طبقاته وكسوه بالشّفاء والنسيان والمصالحة، واكتساب الشجاعة والإيمان، حيث استبقها الموت قبل أن تستبق الحياة بمصالحة أو حتى بمهادنة، لتتوفى بالسرطان وفاةً جسديةً بعدما قضت نفسيّاً وعاطفيّاً منذ زمن طويل، وكأنّ الموت أتى في اللّحظة التي بدأت فيها سلوى تستعيد عافيتها للحياة!
حرب في كتاب
          لكن كيف ذلك وهي التي حكم عليها المجتمع بالإعدام على ذنبٍ لم تقترفه، غير أنّ القدر كتب لها أن تحيا في بلدٍ تعصف به الحروب الأهليّة والدّموية التي لا تبقي ولا تذر، هي ضحيّة جشع الحرب الّتي لا تكتفي بسلب الأرواح والدماء والمستقبل، وإنّما بسلب فتاةٍ جميلةٍ وذكيّة حقّها في الزّواج والإنجاب، لأنّها لم تكن على مقاس مجتمعٍ منافقٍ وقاسٍ ومجحفٍ في أحكامه.
          فبدل أن ينصفها ويعيد إليها حقّها ويعاقب الجناة، ها هو يعاقبها بعقوبةٍ أشدّ قسوة من فعل الجاني نفسه، عندما يحرمها من الزواج، لا بل وينهال عليها بوابلٍ من الشائعات والأقاويل التي لا تنضب بل تبقى مستنقعاً تفوح منه جلّ روائح الاتَهامات والرّذائل النّتنة، لتعود سلوى وتجري تقييماً للمجتمع من نوع آخر فتقول:
          “أنظر إلى الهرّةٌ التي ترتع آمنةً في حديقة العمّ أديب، وأحسدها على هناءة ما هي فيه، تتمدّد على العشب وتدعو جراءها للرّضاعة من أثدائها الصّغيرة، فتسرع الهررة الصغيرة كي تلبّي الدّعوة المنتظرة.
          كيف يكون بوسع الإنسان أن يحسد حيواناً؟ هل تدهورت حياتنا البشريةٌ إلى حدّ صار الناس يأكلون بعضهم والحيوانات ترعى بعضها؟ كيف يمكن أن أكون أنا سلوى بو مرعي امرأةً وحيدةً متروكة، لا رجل يشتهي قربها ولا أطفال يتناولون الحليب من صدرها، أمّا هذه الهرّة فوجدت ذكراً، وأنجبت جراء تلعب وهي مطمئنّة إلى حنانها وعطفها؟”
          إذن هي سلوى التي تبعثرت أنوثتها في أغبرة حربٍ لا تبقي ولا تذر، ابنة الجبل والدم والتشرّد والضّياع، وضحيّة الجهل وقسوة مجتمعٍ لم يهتد إلى الأمان والتعايش الحقيقيّ حتى هذه اللّحظة، ولازال أبناؤه يتجرّعون مرارة حربه موتاً وتشرّداً وظلماً وقسوة.
          تخاطب الكاتبة الحرب علّها تجد خلاصاً منها، تحاكي العنف عله ينقلب رحمة، تضع يدها على جرحٍ لم يندمل حتّى اللّحظة، تستحضر بطلة شكّلت حياتها قصةً متكاملة لمأساةٍ حقيقيّة، تلملم خيوط القدر والحرب والمعاناة لتقول بحنكتها الروائية كم عسانا أن نستحق العيش بسلام!، كم سلوى صنعنا وكم من حق أخريات ألا يتجرّعن مصيراً مماثلاً، حينها سيكون الشّفاء الحقيقيّ من حربٍ لم يعد يليق بها إلا أن تكون حبيسةً لأغلفة الكتب ووثائق المذكّرات والماضي الذي لن يعود من جديد.

 *********************
"للجبل عندنا خمسة فصول" لماري القصّيفي
المعتقدات ألعوبة بشرية تجعل المواجهة بين الجميع ولا خلاص
15 أيلول 2014 - صحيفة النهار - جوزف باسيل


       "للجبل عندنا خمسة فصول" لماري القصّيفي(316 صفحة، دار سائر المشرق) رواية ما لا يُنسى أو ما يجب ألاّ يُنسى، لأن الاعتبار في العِبَر الواقعية، ولأن التسامح كالتغاضي لا يحل المشكلة، بل يعاودها، ولا مستقبل يبنى إلا بالاعتبار بالماضي حتى لو كان اطلال منازل وذكريات بشعة مؤلمة.
          كتبت مذكرات عن حرب الجبل وبقيت الذاكرة والقصة والرواية، قاصرة كلها عن مأساة الناس ورعبهم. والإخبار عن المشاهد المرعبة في حرب الجبل يدفع بالقارئ – المشاهد الى دير الصليب، فكيف بمن عاناها؟ ففي دير الصليب "تجتمع ضحايا الهشاشة البشرية وعبثية الله في مسرحية طويلة".
          حوادث الرواية تثير شجون أهل الجبل وتعود بهم الذكرى الى مآسي التهجير الى دير القمر، بعدما تخلوا عن بيوتهم وأرزاقهم. انها مأساة ثلاثية البعد؛ قتل وتهجير وقطع أرزاق. "البهدلة" و"الشرحطة" كلمتان ملطفتان عن المأساة الكبيرة. ففي حمأة القتل الغرائزي لم تفد الجيرة ولا الصداقة ولا الرفقة في الحزب الواحد الذي يعتدي، ولا شفاعة لكبير أو زعيم او قائد، "وحدها أدوات القتل سائدة لا ترحم ولا تأخذ بالأسباب التخفيفية".
          الرواية عن فتاة، سلوى، امضت ثلاثين سنة في دير الصليب مصابة بالشيزوفرينيا تتلبس شخصيات الآخرين، بعدما أكلت "معركة الجبل اجزاء من عقلها وشوهت روحها"، قضت عليها "السطوة" التي تفاقمت بسبب العجز عن تغيير ما جرى او محو آثاره. ان السطوة في عجزنا أمام لعنة تنزل بنا.
رواية الصوت العالي
          تقولالقصّيفيبصوت عال ما قاله كثيرون همساً: ان الخبز والملح لن يقدرا على مقاومة نداء الدم. نحن دفعنا الثمن بسبب غباوة المسيحي وغضب الدرزي والغباوة قاتلة كالغضب. الغباوة تفرض نفسها من جديد على الجميع، "فالمسيحيون الذين يحيطون بي في بحمدون يبيعون الارض من الشيعي والسني والخليجي نكاية بالدرزي، والمسلم يشتري الآن نكاية بالدرزي الذي فضّل أن يهدم بيوت المسيحيين على أن يلجأ اليها الشيعة. والدرزي ينسى أنه سيكون الضحية التالية في هذا المشرق، بعد المسيحي، إلاّ اذا كان يراهن مرة جديدة على اليهودي!".
          لخّص أبو جورج البحمدوني فلسفة التعايش لدى المسيحيين بأنها مبنية على النسيان بسبب الضعف. النسيان يلئم الجروح على زغل فلا تشفى، وتبقى عرضة للتقيّح، فتنز قيحاً. اثبتت تجارب الشعوب ان المصارحة، فالمصالحة، أثبت من التغاضي والتسامح، و"عفا الله عما مضى"... ثم نكرر المأساة.
          هذا يقود الى سؤال طرحته العامة من مسيحيي الشوف، باستثناء المتحزبين: لماذا نريد كلنا ان يصالحنا الدروز ونحن لم نتصالح مع ماضينا وأخطائنا، ولم نطوِ صفحة الحرب بيننا كمسيحيين؟!".

روايتان في رواية
          لا تكاد تعتبر ان الرواية انتهت بانتهاء ما ترويه سلوى عن مأساتها حتى يفاجئك راوٍ جديد بقصة تعيد ترتيب الحوادث وتصوّب الإبهام في بعض النواحي فتقلب الموازين، فكأنك عدت تقرأ الرواية من بدايتها باتساق ووضوح، ويفك الابهام – أي عقدة الرواية – الذي طغى متمثلاً بكره الأم لابنتها وعطفها على توأمها الساذج.
          الراوية هي بطلة الرواية، لكنها ليست كاتبتها. هي المأساة. بهذه الصفة تروي وقائع، ولا تسرد حكاية. خمسة أسداس الرواية هذيان إمرأة في دير الصليب، والسدس الأخير هو قصة الرواية.
ليست الشيزوفرينيا في الرواية، بل في حياتنا، وليست في سلوى، بل في المجتمع المنقسم على نفسه والمشوّه بأفكاره ومبادئه.
          تستند الرواية الى مشاهدات الطبيبة السويسرية جوزيان ومراسلاتها الى طبيب الاسنان الفرنسي أريك، كما تستند الى روايات الذين عاشوا المآسي وبقوا احياء، والى رواية انطوني خيرالله الذي قضت حرب الجبل عليه بعدما قضت على أهله جميعاً، ثم قضى سلم بيروت على إرث والده، ملاذه في حرب الحياة بعد حرب البقاء، اذ استولت "سوليدير" على متجر والده في باب أدريس مقابل مبلغ من المال "لم يكفه سوى لتسديد قسط سنته الجامعية الأولى". هكذا سقط اللبنانيون الابرياء، ولا سيما المسيحيون منهم ضحايا الحرب والسلم معاً فكانوا الخاسرين في الحالين.
          وإنما للمآسي في الحرب والسلم أشكال وصور مختلفة في القضاء على المرء، وهو ما يفعله الانسان بأخيه، ثم يقول: قضاءً وقدراً.
joseph.bassil@annahar.com.lb
************************

ماري القصيفي تحاور ماري القصيفي حول روايتها الجديدة "للجبل عندنا خمسة فصول"


إذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون، فرواياتي يكتبها المهزومون (ماري القصيفي)

***

1- بلا مقدّمات، لماذا هذا الحوار الآن؟ ولماذا اخترتِ أن يكون معي؟
  يأتي الحوار الآن في مناسبة صدور روايتي "للجبل عندنا خمسة فصول"، لدى دار سائر المشرق. أمّا لماذا أنتِ فلأنّكِ طلبت الحوار معي قبل سواك، ولأنّني قد أقول لك ما لا أقوله لغيرك.

2- لماذا؟
لأنّك تجيدين استفزازي واستخراج الكلمات منّي. وهذا أمر يثير حماستي ويحرّك حسّ المشاكسة عندي.

3- ما هو الفصل الخامس للجبل؟
هو فصل الجنون والحرب. كأنّ الجبل جعل هذا الفصل المخيف ثابتًا في تسلسل أيّامه وأشهره، حتّى صار من المتوقّع أن تعود الصراعات، وتنفجر المشكلات، ويتقاتل الناس لأتفه سبب... طبعًا أتمنّى ألّا يحدث ذلك.

3-  ألا تخشين أن تتّهمي بإثارة النزاعات الطائفيّة؟
وهل انتهت النزاعات الطائفيّة كي أثيرها؟ وهل ما نحن فيه سلام وعدل وأمن وبحبوحة؟ ثمّ إنّ اتّهامي بأنّني بالكتابة أنكأ الجراح يعني أنّ الناس يشترون الروايات ويقرأون ويتفاعلون مع ما يقرأون... وهذا كلّه محض خيال لا يمتّ للواقع بصلة. لا أحد يقرأ وبالتالي لن يسبّب كتابي مشكلة ما لم يتبرّع أحدهم بتنبيه الناس إلى أنّني كتبت رواية عن حرب الجبل... وسأكون والناشر شاكرَين إن تكرّم أحد وفعل ذلك.

5- لماذا الرواية إذًا؟ ولمن تكتبين؟
قلت مرارًا إنّني أكتب لأغيّر ذاتي لا لأغيّر الآخرين، ولأعالج جراحي لا جراح سواي، ولأنقّي ذاكرتي لا لأصلح المجتمع... فلو كانت الكتب تفعل ذلك لكانت الكتب المقدّسة فعلت ذلك مذ وجدت. وهذه الرواية بالذات كتبتها بغضب وحبّ كبيرين: غضب سببه غباء المسيحيّين والدروز وما فعلوه بأنفسهم، وحبّ للجبل الذي ما كنت أراه إلّا صورة لبنان الجميل. وكنت طيلة الأعوام الثلاثين الماضية أقدم على الكتابة ثمّ أتراجع لأنّني خفت من مواجهة هذين الغضب والحبّ. وحين بدأت الكتابة في شتاء 2012، صودف أن اتصل بي صديق عزيز هو جورج غندور، وكان تلميذي قديمًا، وسألني عمّا أكتبه بعد رواية "كلّ الحقّ ع فرنسا"، فأجبته بأنّني بدأت برواية عن حرب الجبل. وهنا كانت المفاجأة إذ تبيّن أنّه يتّصل بي من سويسرا حيث يعمل، ليخبرني بأنّه يعرف طبيبة سويسريّة اسمها جوزيان أندريه، كانت شاهدة على ما جرى في حرب الجبل، ولقد كتبت رسائل ومذكّرات عن تلك المرحلة. وهي بدورها عرّفته على شابّ من بحمدون اسمه أنطوني خيرالله، نجا من المجزرة لأنّه كان في مخيّم للأولاد في منطقة كسروان. لكنّ والديه وأشقّاءه الثلاثة قُتلوا حين سقطت البلدة وتهجّر أهل الجبل. فصارت يوميّات الطبيبة وحكاية أنطوني الحزينة جزءًا أساسيًّا من الرواية، من دون أن تكون هي الرواية. 

6- هل تعتبرين أنّك كتبت رواية تاريخيّة؟
أنا أرى إنّ الرواية هي التاريخ الصحيح، لأنّها تحكي سِيَر الناس والأمكنة في أزمنة مختلفة. وفي غياب كتاب تاريخ موحّد لحروبنا لإنّ الناحية العلميّة الموضوعيّة غائبة، ولأنّ التاريخ يحتاج إلى منتصر يكتبه، وحروبنا الصغيرة، بحسب مارون بغدادي، تنتهي دائمًا بصيغة لا غالب ولا مغلوب، إذًا، في غياب كلّ ذلك كتبت رواية تستمدّ من تاريخ حرب الجبل مادّتها، لكنّها لا تخضع لأحكام كتابة التاريخ، من حيث الحياد والموضوعيّة واللغة العلميّة والحقائق الثابتة. وإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون، فرواياتي يكتبها المهزومون. 

7- هل هي سيرة ذاتيّة؟
في كلّ كتابة بعضٌ من ذات الكاتب. لذلك، هناك جوانب كثيرة من سِيرتي ولكن بقراءة شاملة، وكجزء صغير اسمه "أنا" من كلٍّ كبير اسمه "الوطن". ولكنّ هذه "الأنا" لا تشبهني تمامًا، فكأنّني اخترعت "أنا" أخرى، كما اخترعتُ الآن "ماري القصيفي" أخرى لأجري معها هذا الحوار

 

8-  في الانتقال إلى مسألة شكل الكتاب، هل تولين الغلاف والإخراج اهتمامًا؟
ليت كان في إمكاني أن أحقّق رغبتي في الاهتمام بهاتين الناحيتين الجماليتيّن. فالغلاف هو العتبة والإخراج هو باب الدخول. وغالبًا ما ردّدت إنّ الكتب تبقى على رفوف المكتبات، فلتكن على الأقلّ جميلة الشكل، تسرّ الناظر إليها. لكنّ كلفة ذلك تقف مانعًا دون تحقيق رغبتي المرفّهة كما يحلو لبعض أصدقائي أن يسمّيها، فللناشر حساباته أيضًا، ولولا أنّني كنت مدلّلة عند ناشرَي الصديقين جورج فغالي (دار مختارات) وأنطوان سعد (دار سائر المشرق)، لما أُتيح لي أن أمارس تجاربي الإخراجيّة. من دون أن أنسى أنّ مزاجي الشخصيّ تدخّل مباشرة في الكتب الثلاثة الأخيرة، فطلبت من شقيقي مارون أن يصمّم غلافَي الروايتين: كلّ الحقّ ع فرنسا وللجبل عندنا خمسة فصول، ومن الصديق يوسف شهيد الدويهي أن يصمّم غلاف كتابي الشعريّ: أحببتك فصرت الرسولة، وأن يخرجه.

9-  كيف هي علاقتك مع دور النشر؟
كما سبق وقلت الآن، تعاملت حتّى الآن مع أصدقاء، شعرت معهم بأنّني مع عائلتي، وبالتالي، كلا الناشرين وضع الناحية الماديّة جانبًا وترك لي جنون التجريب والتخريب، إن صحّ التعبير. فلولا ثقة دار مختارات بلغتي وأفكاري لما كنت انطلقت، ولولا ثقتي بدار سائر المشرق لما كنت نشرت روايتي الأولى فيها، وهي دار ناشئة، بدأت بكتب خاصّة بصاحبها الإعلاميّ والكاتب أنطوان سعد. وبصراحة، لم أسعَ ولن أسعى لعرض مخطوطاتي على أيّ دار نشر أخرى قد تضع لي شروطًا تحدّ من جنوني. على كلّ حال لم تحاول أيّ دار نشر أن تتّصل بي، ربّما لأنّهم يعرفون إنّي أبتعد عن الإعلام وأعالج مسائل لبنانيّة حسّاسة "ما بتبيع" في الدول العربيّة... وحين تقفل أبواب الدُور أمامي يبقى عندي مدوّنتي وصفحات التواصل الاجتماعيّ وشبكة الإنترنت في مختلف فروعها، ففي الحالات كلّها، لا أعتقد أنّ جنوننا الأدبيّ وصل إلى حدّ أن ننتظر ربحًا ماديًّا من كتبنا.

10- لماذا ترفضين الإعلام مع أنّ إطلالتك لا بأس بها؟
شكرًا لك على الإطراء، لكنّي لا أرفض الإعلام في المطلق، أنا مع الصحف والمجلّات الورقيّة والإلكترونيّة أوّلًا لأنّها تمثّل الإعلام المكتوب وتحترم الكلمة. تأتي في المرتبة الثانية وسائل الإعلام المسموعة لأنّها أيضًا تولي الكلمة والصوت أهميّة، ولأنّ أكثر من يقدّمون برامج ثقافيّة عبر الراديو يفهمون عمّا يتحدّثون، ويحترمون ضيوفهم. أمّا التلفزيون فكارثة ثقافيّة بكلّ ما للتعبير من معنى، ولن أكون جزءًا من صورته، مهما كلّفني الأمر... وعلى فكرة الكلفة، فالإطلالة التلفزيونيّة عبء ماديّ على النساء تحديدًا، ولا أعتقد أنّ بيع الكتب يؤمّن ثمن الماكياج وتسريحة الشعر والملابس التي لا يمكن الظهور بها أكثر من مرّة... "وما في شي بيستاهل"...

11- هل راودتك فكرة الكتابة للتفلزيون؟
أبدًا! لا جلد لي على شروط الرقابة والممنوعات ومراعاة المخرج والممثّلين وإلى ما ذلك... فأنا إن أحببت الكتابة فلأنّها تعطيني حريّتي وتطلق يديّ، فلماذا أسعى إلى القيود بإرادتي... للتلفزيون كتّابه، فلماذا أتعدّى على مصلحة سواي وأنا لا أفهم فيها. ولكن إن أراد أحد أن ينقل أعمالي إلى الشاشة – وهذا ما لا أتوقّعه - فسيكون لكلّ حادث حديث.

12- من الواضح أنّك لست بارعة في العلاقات العامّة، إن سمحتِ لي بقول ذلك، فأنت في البداية رفضت حفلات التوقيع!
ولست بارعة في العلاقات الخاصّة كذلك! أمّا عن حفلات التوقيع، فمعك حقّ! لقد رفضتها وما زلت أرفضها، لكنّ دور النشر ليست مؤسّسات خيريّة، وتريد أن تبيع الكتاب وهذا حقّها. أمّا من جهتي فلا أوزّع بطاقات دعوة أو رسائل هاتفيّة، ولا أتّصل بأحد، ولا أستغلّ صداقاتي مع الصحف لتغطية هذه الحفلات. أكتفي بوضع خبر على الفيسبوك والمدوّنة، وأصمت. وشكرًا لكلّ من يعرف بالصدفة ويحضر. فلقد اكتشفت من خلال تجربتي الأولى في التوقيع أنّ القارئ الجديّ يتابع أخباري ويبحث عن كتبي، والآخرون نوعان: أقرباء وأصدقاء يحضرون "كرامة عيون" أهلي وإخوتي وإتمامًا لواجب اجتماعيّ، أو زملاء أدباء وشعراء يعاملونني بالمثل، فإن حضرت حفلاتهم ردّوا الزيارة وإلّا عاقبوني بالتجاهل. وهنا أحبّ أن أذكّر بأنّني لأسباب صحيّة لا أستطيع المشاركة في جميع الحفلات، لأنّ الوقوف الطويل يتعبني. وكي لا أميّز بين زميل وآخر، أمرّ على المعارض وأشتري الكتب وأمضي. لكن مع الأسف يبدو أنّ كثيرين لا يقدّرون أنّني أنشر الدعوات إلى تواقيع كتبهم على الفيسبوك، وأكتب عنها حين أجد الوقت قراءة تقديريّة ولو عابرة... على كلّ حال، أحبّ أن أعزّي نفسي بأنّ الكتب أجمل من أصحابها، وأنا منهم.

13- بالعودة إلى روايتك الأخيرة، ألا ترين أنّها تبدو كنتاج عائليّ تجعل القارئ يضعها في خانة السيرة الذاتيّة؟
أنتِ طبعًا تشيرين إلى أنّ مصمّم الغلاف هو شقيقي مارون، وإلى أنّني أهديت الكتاب إلى شقيقي موريس، وأنّ الرجل العجوز المنشورة صورته على الغلاف الأخير هو جدّي. كلّ ذلك صحيح طبعًا، وأضيف أنّ اسم مي الريحاني الذي أعطيته لإحدى بطلَتَي الرواية هو اسمي المستعار الذي وقّعت به نصوصي الأولى. لا شكّ في أنّ الرواية تحمل الكثير من مشاهد حياتي، لكن فيها حيوات كثيرة لأشخاص آخرين. علمًا أنّ الأنا في الرواية لا تعود هي الأنا الواقعيّة. وهذا أمر طالما دفعني للتساؤل عن صحّة ما أقرأه في السيَر الذاتيّة، لا بمعنى أنّ الكاتب يكذب، بل بمعنى أنّه يتخيّل ما حدث أكثر من أنّه يسرد أو يروي ما حدث. ولأجيب على الشقّ العائليّ في السؤال، أقول بأنّ العائلة كلّها فعلًا معنيّة بهذه الرواية بالتحديد، في كوننا شهودًا على ما فعلته حرب الجبل بنا كلّنا، وتحديدًا بوالدتي التي لا تزال حتّى الآن تحرم نفسها من مأكولات كان والدها يحبّ تناولها، كأنّ شيئًا منها قُتل معه، أمام كنيسة سيّدة البشارة.

14- ما هي مشاريعك الكتابيّة الجديدة؟
أدرس جملة مشاريع قبل أن أقرّر أيّ واحد منها يصدر قبل غيره. هناك كتاب عن التربية والتعليم، وثانٍ عن الأغنية الرحبانيّة، وثالث هو كناية عن مجموعة شذرات شعريّة، ورابع رواية.

15- من تحبّين أن تشبهي من الروائيّين والروائيّات؟
لا أحبّ أن أشبه إلّا نفسي، وأجتهد ألّا أكون نسخة عن أحد. لكنّي أتمنّى أن أتفوّق على يوسف حبشي الأشقر أو على الأقلّ أن تكون كتبي إلى جانب كتبه.

16- إلى من تميلين في السياسة؟
عندي جواب واحد على هذا السؤال: أنا مع السياسيّ الذي يوازي راتبه راتبي، ويقيم في بيت كبيتي، ويتناول طعامًا كالذي أتناوله، وترتدي امرأته ثيابًا من حيث أشتري ثيابي. بعيدًا عن ذلك لست مع أحد، بل ضدّ الجميع.

17- هل تخشين أن تعرّضك رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" لمتاعب ومشكلات لأنّها تطرح مسائل حسّاسة؟
الجهل دائمًا مخيف، لكنّ أهل العقل لا يخيفون، لأنّهم يحسنون القراءة.

18- كيف تريدين أن ننهي هذا اللقاء؟

بدعوة القرّاء إلى قراءة روايتي الجديدة بتأنّ، وألّا يحكموا عليها قبل الصفحة الأخيرة، وألّا يحصروا اهتمامهم بموضوعها الحسّاس، على أهميّته طبعًا، بل أن ينتبهوا إلى التقنيّة الروائيّة. فأنا في النهاية لست مؤرّخة ولا صحافيّة تقوم بتحقيق ميدانيّ. 
*****************

العربيّ الجديد

بيروت 2014: صلاة أخرى لنهاية الصقيع

بيروت - بيار شلهوب
31 ديسمبر 2014
واللافت على صعيد الإصدارات الأدبية هو صعود الرواية على حساب الأشكال الأدبية الأخرى. وإلى جانب الأسماء النسوية المكرّسة روائياً، بدت لافتة رواية نرمين الخنسا "شخص آخر"، ورواية ماري القصيفي "للجبل عندنا خمسة فصول"، وحنان باكير في كتابها "قصة ثائر" وهو دراما توثيقية حول الثورة في فلسطين أيام "الانتداب" البريطاني.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.