الثلاثاء، 31 يوليو 2018

أنطوان القوّال يبحث ويرى أنّ القديس شربل مؤلّف قصيدة تدور على "الطوفة"

أنطوان القوّال


أنطوان القوّال يبحث ويرى أنّها من تأليفه
القدّيس شربل زجليّ في ريعانه: مؤلّف قصيدة تدور على "الطوفة"

زغرتا – صحيفة النهار
طوني جبرايل فرنجيه – الجمعة 7 آذار 1997

الشاعر أنطوان القوّال الباحث المنقّب بين كتبه والدواوين معيدًا إلى الأذهان ما نسي من تراث شعريّ وأدبيّ أفاد من كونه منسّق برنامج "ذاكرة البيوت المتوسّطيّة" في بقاعكفرا لينصرف عدا الاهتمام بالوفود الأجنبيّة والدراسات لإعادة الترميم إلى البحث والتنقيب فالتجميع، ساعيًا إلى كتاب ينفض الغبار عن المنسيّ من تاريخ وتراث ومآثر وهجرات لدى أبناء بقاعكفرا، وأهمّ الأحداث التي شهدتها أعلى قرية متوسّطية مأهولة في في حوض شرق البحر الأبيض المتوسّط، كما سيضمّ الكتاب دراسات الأوروبيّين والتصاميم للترميم وإحياء التراث.
ولأنّ الكمال سعي كلّ مؤلّف وكاتب وشاعر، أمضى القوّال بعضًا من الربيع والصيف الماضيين بحثًا عن زجليّة سمع بعض المعمّرين يردّدون أبياتًا منها، هي لابن بقاعكفرا القدّيس شربل مخلوف، وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة. وحاول القوّال جمع شتات الزجليّة، ولم يوفّق لأنّ المحفوظ عن الآباء والأجداد غالبًا هو نفسه. ثمّ انصرف محاولًا العثور عليها مكتوبة بعدما قيل له إنّها في حوزة أحد أبناء البلدة. وسعى القوّال وراءها، وكان هذه المرّة موفّقًا "لأنّنا في بقاعكفرا نقدّر كثيرًا الجهود التي تقومون بها لإعادة إحياء بلدتنا مسقط شرب الذي نأمل أن يكافئكم ويساعدكم".
ومنذ علمنا بحصول القوّال على الزجليّة جهدنا لنسخة إلى أن تمكّنا من إقناعه بالإفراج عن سجينته لتتربّع على صفحات "النهار" قبل نشرها في كتابه العتيد. أمّا الإثباتات أنّ شربل مخلوف القدّيس اللبنانيّ هو من نظم هذه الزجليّة فيقول القوّال:
أوّلًا: إنّ المعمّرين في بقاعكفرا يؤكّدون أنّ القدّيس شربل وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة هو الذي نظمها ونحن نردّد هذا الكلام عن الآباء والأجداد.
ثانيًا: مقدّمة الزجليّة المطبوعة التي وصلتني تؤكّد ذلك بلا أيّ شكّ.
ثالثًا: يقول الشاعر القوّال إذا تتبّعنا تطوّر الزجل في لبنن نجد أنّ هذه الزجليّة تعود إلى التاريخ المحكي عنه نظرًا إلى الأسباب الآتية:
أ‌-     الوزن وهو القرّادي غير محبوك وغير مستقيم.
ب‌-القوافي غير كاملة وغير مضبوطة وهي تراعي اللفظ لا الكتابة مثلًا حدشيت – تهبط (الياء مكسورة).
ج- ركاكة اللغة التي كانت سائدة في تلك الحقبة (التحوّل في المنطقة من السريانيّة إلى العربيّة).
د- مقارنة هذه الزجليّة بما بعدها تدلّ على أنّها نظمت في طور لم تكن ضبطت فيه أصول الزجل بعد.
ه- بداية انتشار الزجل في تلك الحقبة بين رجال الدين الموارنة، وكانوا ينظمون أساسًا بحسب الأوزان السريانيّة.
و- تعلّق الشاعر الزجليّ – شربل، بإيمانه جعله يردّ أسباب "الطوفة" إلى القدرة الإلهيّة، داعيًا إلى الاتّعاظ والرجوع إلى الإيمان الحقيقيّ.
ز- شربل تتلمذ على الخوري مبارك مخلوف، وكانت الدروس في دير مار حوشب في بقاعكفرا.
ح- كان شربل في بدايات عمره يرتاد الحقول زارعًا، وخلف القطعان. وذكر الأمكنة التي وردت في الزجليّة دلالة منه على ارتياده لها.

ويورد القوّال في موضوع بدايات الزجل الآتي:
يعود الزجل اللبنانيّ في أصوله إلى مصادر سريانيّة وعربيّة مشرقيّة وعربيّة أندلسيّة. وأوّل الزجليّات المعروفة زجليّة الخوري سليمان الأشلوحي (1270 – 1335) من أشلوح عكّار، نظمها في خراب طرابلس وسقوطها بيد المماليك سنة 1289. يقول في مطلعها:
يا حزن قلبي وما يخلّي من أحزان
والقلب من الحزن شاعل بنيران
في طرابلس كان بدء القول يا حزين
والقول من قبل هذا الشرح قد خان
كان النصارى في كلّ الأرض خيرهم
وما بقي لهم ذكر ولا شان...

والبعض، ومنهم مارون عبّود، يقول إنّ الزجل ولد في لبنان مع المطران جبرائيل القلاعي (1440 – 1516) الذي نظم زجليّات تاريخيّة عديدة، أهمّها التي ذكر فيها حروب المقدّمين الموارنة.
الزجليّة
أمّا زجليّة القدّيس شربل مخلوف كما وردت على لسان القوّال فهي كالآتي:
كان حنّا زعرور ابن عمّ القدّيس يفلح حقلًا اسمه البحيص، وإلى الآن فيه الصخرة وكأنّها مغارة صغيرة. وكان شربل ينام فيها ويصلّي منذ صغره ويشعل السراج.
مرّة طلع ابن عمّه حنّا زعرور لكي يفلح الرض ويزرعها حمصًا والقدّيس شربل (أي يوسف) يلتقط الحمص وراءه، وإذا بغيمة سوداء كبيرة فوق تمّ الميزاب فوق أرز الربّ وعملت طوفة قوية من الشتاء.
ونزلت على وادي قنّوبين وصارت تجرف البيوت والبساتين.
ثاني يوم كان عمّه يفلح أيضًا وهو يلقط وراءة الحمّص وله من العمر 12 سنة، وصار يمشي وراء عمّه وهو يقول:
حوميلة تم المزراب   هالنزله عا شاغوره
لمّن وصلت لبشرّي   العالم صارت مخبري
هات مجارف ت نسري       ونسدّ بنا تاغوره
طوفه جرفت الوادي     وما خلّت حيط هادي
العالم تصرخ وتنادي         يا الله شو هالصورة
لمن وصلت لحدشيت    أخدت عزّ وأكبر صيت
حيطانا رح تهبط    هدمت أكبر معموره
وصلت لوادي الفراديس      صار عندا قوة وتحمي
حملو صورة القدّيس       وقاالوا نجّينا يا هالقوة
وصلت لوادي قنّوبين     تقدف ع شمال ويمين
وصاروا العالم بهتانين      وتخبّوا بالوكوره  
لمن وصلت للجورة     يا لطيف شو هالصورة
أكبر شجره بهاك الأرض     حملتها لأرض الكورا
وصلت بطوورزا بقوّه     أشجارا صارت تتلوى
يا عالم شو منسوّي       ما شفنا متل هالصورة
لمن وصلت لقنات     واحد من الشركة مات
صوتوه من التوتات       عند طواحن حنتوره
لمن وصلت لكسبا      اشتدت وقوي عصبا
أبّعتلا كلّ نصبا     يا لطيف أيش هالصوره
لمن وصلت لرسكيفا      الناس حياتا تعيفا
الأرض قامت بتحريفا     فتحتلا ميتين جوره
لمن وصلت لبصرما   منهوكه ونفسا عرما
ما خلّت جره قرمه     ولا مصفايه ولا دوره
لمن وصلت لكفرقاهل   ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أكبر حيط صار زاحل       ما بقلو قشاير صوره
لمن وصلت لضهر العين      صارت تجرف ع الميلين
قالوا جانا غراب البين      الدعوة صارت محصورة
لمن وصلت بنو علي         كلمانو الموج علي
في ناس سكنو بالبلي        وبيوتن صارت مهجوره
لمن وصلت للمينا      اشتدّت وقوي عنينا
تقدف ع شمالا ويمينا     وضربة الله مظهوره
البحر صفّا معكور     وموجو يعلا ع الفصول
لو تبقى مدّي وتطول      ما بقي ولا شختوره

السبت، 28 يوليو 2018

من محاضرات المنسنيور ميشال الحايك عام 1969



1-  لست صحافيًّا لأنقل إليكم الأخبار وأعلّق عليها الخواطر. ولا نظرة السياسيّ نظرتي...أمّا موقفي فهو من واجهة الإيمان بطوبايات الإنجيل وعظة الجبل... والقضيّة الكبرى اليوم هي عندنا الفتنة القائمة حول فلسطين، وقد شُرّد أهلها باسم وعد إلهيّ جاء في التوراة...ليتني \اوفّق أن أنطق بالحقّ بينكم وأشهد له دون محاباة. وحديث الحقّ شاقّ عسير تُصاب سمعة صاحبه إن أخلص فيه، أو يعذّبه ضميره إن وار فيه ومارى. لقد اخترت أشدّ الأمرين، فما همّّ السمعة إذا ارتاح الضمير. (مقدّمة كتاب أرض الميعاد الذي جمعت فيه العظات التي ألقيت عام 1968)
2-  تلك الأرض التي جاءها ابراهيم كانت أرض الكنعانيّين أجدادنا القدامى الذين سبقوا فبنوا لهم أروع حضارة قديمة. وكانت القدس من مدائنهم، رفعوا فو أكمتها هيكلًا لهم، وملكيصادق في الهيكل يقرّب "للإله العليّ" لا ذبائح عجول وثيران، بل خبزًا وخمرًا هما رمزان كنعانيّان عن السرّ القربانيّ الذي ما برحت الكنيسة تجمّع حوله كلّ يوم بنيها. وملكيصادق الكنعانيّ نفسه كان رمزًا عن المسيح، فهو، على ما قال بولس الرسول "ملك ساليم أي ملك السلام"، ولم يعرف له أب في القبائل كالمسيح الذي انبثق في الدهر من غير تناسل فلا أب يعرف له بين البشر. (من المحاضرة الأولى في زمن الصوم الكبير- أرض الميعاد– 1968)
3-  نحن (معشر المسيحيّين المشرقيّين) الذين عشنا في هذا الشرق نحمل فيه وحدنا أجيالًا صليب المسيح، ليستمرّ فعل فدائه قائمًا في أرضه ما قام الدهر، فعشنا مع هوانه في غربة، ها هي النكبة تكثّر لنا الإخوان، وتجمعنا في مطهر واحد. (من المحاضرة الثانية في زمن الصوم الكبير- هاجر أو الضرخة الأولى – 1968)
4-  فلسطين رمز عن الملكوت، والوصول إليها والاستشهاد حتّى الموت في سبيلها، هو شوق مبطّن إلى ذلك الملكوت الذي قال الإنجيل "إنّه يؤخذذ عنوة على يد الغاصبين". ولكنّ الاغتصاب الإنجيليّ هو جهاد النفوس في المحبّة، التي هي "ملكوت الله في داخلكم" كما قال المسيح. هذا ما يجب أن يعلنه المسيحيّون في حومة العراك لبنقلوا الكفاح من ظاهره إلى باطنه فيبيّنوا أبعاده ومراميه الروحيّة. (المحاضرة الثالثة في زمن الصوم الكبير – صوت صارخ في البريّة – 1968)
5-  لقد كرهوا (ابناء جيل اليوم) السلام الذي نبشّر به ولا نمارسه، فأرادوا الثورة عسى الضدّ يظهر ضدّه، وتكون الثورة أضمن سلامًا من السلام الكاذب الذي نعيش فيه. ولقد كرهوا الدين لأنّنا معه، فألحدوا لأنّنا آمنا ولم نغيّر وجه العالم إذ لم ينقل فعل إيماننا "الجبل إلى البحر". لإنّ إيماننا طقوس ونصوص، إيمانهم إيمان معكوس، رأسه إلى أسفل، وقد يكون أقرب إلى الإيمان الحقّ ممّا نظنّ، أو قد يكون تطهيرًا وتصفية للإيمان. (المحاضرة الرابعة - جيل الشهود وجيل الجحود – 1968)
6-  من جبل أمانوس إلى الجنوب العربيّ، من قبرس إلى ما وراء الفرات حتّى الهند، المسيح مصلوب على كرسيّ أنطاكية، وصوته المنازع يطوّف في الطوائف صارخًا: "كونوا واحدًا كما أنّني والله واحد". والكنيسة التي صوّرها الآباء كأنّها قميصه المنسوج من خيط واحد، ممزّقة. وكلّما تهشّمت تلك القميص كان ذلك مقدّمة لصلبه وموته. ألا قتل الله الطوائف ليحيا المسيح! (المحاضرة الخامسة – انطاكية القميص المهشّم – 1968)
7-  ما نفع التغنّي بأمجاد بينزنطية والترنيم بألحان طقوسها والاتّشاح ببرفير ملابسها والطواف بالبخور والشموع حول أيقوناتها، إذا كان ورّاثها من الأروام قد ضيّعوا مجد قداسة عبّادها ورهبانها وانزلقت عندهم النفوس إلى عبادة الطقوس.
وإذا كان للمورانة شرف الأمانة المستمرّة دون شذوذ ولا انقطاع كما يقولون، أيغنيهم الشرف القديم عن الحاضر المتقاعس، أتعوّض عليهم شهادة أولئك الذين حوّل التركمان عليهم النهر في قاديشا فجرفهم النهر... أتعوّض عليهم هذه الشهادة وغيرها من الشهادات، إذا كان الطمع والعهر جرفا معظم رجالها وكاد مقعد معروف يلهيهم...؟
وهل قيمة السريان تحسب لهم اليوم لأنّهم جاءوا بالأمس بيعقوب الرهاوي وملأوا الشرق الأمويّ فكرًا وترجمة ونشاطًا... أيعوّض عن ذاتهم القديمة ظلّها الهزيل الشاحب؟
وهل ينفع النساطرة والكلدان أن يقولوا: كانت لنا في حقل الرسالة بطولات مذهلة؟... ليسوا اليوم سوى رماد ما بين النهرين...
قد نكون اليوم (1968) في أواخر سني عمرنا في الشرق. أترى المفاخرة بأمجاد الأمس، لو كانت كلّها حقيقة لا موضوعة، تكفي لتؤمّن لنا استمرارًا عتيدًا؟ (المحاضرة السادسة – أنطاكية وسائر المشرق – 1968)

السبت، 21 يوليو 2018

ما استشرى بغاء الطائفيّين لولا غباء العلمانيّين (2018- من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)

بيكاسو
لوحة غرنيكا

      كتير بيهمّني بالبداية وضّح إنّو سبب الكتابة باللبنانيّ هي إنّو الوضع يللي عم بحكي عنّو لبنانيّ، يمكن يكون هوّي نفسو بأيّا بلد عربيّ تاني، بس أنا عم بحكي انطلاقًا من مشاهداتي وتجربتي، فضلًا عن إنّو القرّاء اللبنانيّين يللي ما بيحبّوا كتير يقروا، عم يزيد عددن بس إكتب باللهجة اللبنانيّة، فكيف إذا كان الحكي عن الدين؟؟؟؟ 
     كتبت من كم يوم نصّ عن زوّار القدّيس شربل بمناسبة عيدو (نصّ شربل مش موضة وعنّايا مش مول)، ونال هالنصّ عدد مشاركات وقرّاء أكتر من أيّا نصّ كتبتو، وزادت طلبات الراغبين بصداقتي ع الفيسبوك/ طبعًا من المسيحيّين، وبالمقابل انسحب عدد من غير المتديّنين. شكرت طبعًا كلّ يللي شاركوا النصّ وحبّوه لإنّن لاقوا وقت يقروا نصّ طويل، ولكن هالشي ما خلّاني فكّر إنّي حققت نجاح بل العكس...(570 مشاركة ع الفيسبوك/ أكتر من ميّة ألف قارئ ع المدوّنة، ما إلي ولا نصّ أدبيّ أخد هالشهرة).
      بالوقت نفسو كانت القدّيسة مارينا واصلة ع بيروت، وشبّ إسمو شربل خوري عم يكتب بوست عن مار شربل وعجايبو، بطريقة فيا مزح، خلّا الناس تنقسم بين مؤيّد إلو ومهاجم.
    شو بيعني كلّ هالشي؟ بيعني إنّو الحالة الدينيّة بحالتا الغريزيّة الأدنى هيي يللي مسيطرة علينا، وبس قول علينا، ما بستثني حالي أكيد.
    ليش كتبت عن زوّار مار شربل (وبينقال نفس الشي عن زوّار مارينا وحريصا ورفقا والحرديني وغيرن، هيدا حتّى ما إدخل بغير طوايف)؟ كتبت مش لأنّي ضدّ الفرح يللي من صلب المسيحيّة، ولا ضدّ الناس تحتفل أو تزور الأماكن الدينيّة، ولكن لأنّي شخصيًّا ما بحبّ الحركات يللي مبالغ فيا وبتدلّ ع قلّة تهذيب ونقص باللياقة عدا عن الجهل بأصول الواجبات الدينيّة بأبسط مظاهرها وأنقاها (ما بحبّ العري بالأماكن يللي بيعتبروها أصحابا مقدّسة وما بحبّ الحجاب ع البحر)، ولأني ما بحبّ التناقضات بالتصرّف بين عنّايا وقنّوبين ومغدوشة وحريصا من جهة، ومديغوريه ولورد وفاطيما والفاتيكان والقدس من جهة تانيه، وما بحبّ الإيمان الغبيّ يعني لمّا حدا يخبّرني إنّو إحدى المؤمنات يللي ما قدرت تلمس ذحائر مارينا، طلبت من صاحبتا تاخد مفاتيح سيارتا الجديدة وتمرّقن ع الزجاج ت مارينا تبارك السيّارة، شو بدّكن فكّر أو قول غير متل ما قال زياد الرحباني: الله يساعد، الله يعين...
    بالمقابل، أنا ضدّ البوستات يللي بتمزح وبتتمسخر ع الرموز الدينيّة متل ما أنا ضدّ السخريّة ع ذوي الحاجات الخاصّة أو المصابين بتشوّهات باللفظ والشكل، أو أيّ أنواع التمييز العنصريّ والجنسيّ وغيرن... لأنّو بعتبر التمسخر أدنى أنواع الانحطاط البشريّ ويللي ساهمت مع الأسف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ (اللإنسانيّ) بنشرو وتسهيلو. انتبهوا المزح والنكتة مش تمسخر. وما بوافق على إنّو البوست ع الفيسبوك أو التغريدة ع تويتر مش جريمة (المتعصّبين والمتحرشين بالأطفال كمان عندن وسائل تواصل)، بالعكس بيقدر يكون محرّض ع جريمة أو نزاع. مثلًا إذا حدا كتب بوست بيدعي فيه لقتل حدا، أو اغتصاب حدا، أو تفجير بيت حدا، بيكون هيدا الحكي جريمة ونصّ... فإذن ما منقدر نتعبر بوست شربل خوري وردود الفعل الموافقة معو مش جريمة، بينما يللي شتموهن وهدّدوهن مجرمين. فإمّا البوست مش جريمة وهوّي من ضمن حريّة الرأي، أو جريمة وما بيقدر أيّا حدا منّا يتمسخر ويهدّد ويتوعّد ويدعي للقتل والاغتصاب...
    ولكن هالشي ما بيمنع إنّي إعتبر يللي قالوا شربل مزحة، ويللي بيقرا حياة القدّيس شربل بيعرف إنّو كان يمزح، وكانت أجوبتو بس يقرّر يحكي مش هيّنة، بل لاذعة، ولكن بس ينتشر هالنوع من الحكي بين عموم الناس (مش بجلسة خاصّة بين ناس من مستوى فكريّ وحضاريّ واحد) بيصير فيه نوع من الاستفزاز والتحدّي وهيدا الشي لا بيعلّم ولا بيربّي، فلكلّ مقام مقال يا جماعة التواصل!!!
    فكركن عاصي ومنصور الرحباني وأنسي الحاج ويوسف حبشي الأشقر وإميلي نصرالله وإيلي صليبي وكميل سلامة ويحيى جابر وإيلي الحاج وعماد موسى وزياد الرحباني ونضال الأشقر ورضا خوري وريمون جبارة وميشال أبو جودة ومهدي عامل وأنطون سعادة والمطران غريغوار حدّاد والمونسنيور ميشال الحايك وكتار غيرن ما كان عندن مواقف مشكّكة وآراء تعيد النظر بالشأن الدينيّ كلّو ع بعضو؟ ولكن السؤال هوّي كيف عرضوها ووين وقدّام مين.
     أنا وزغيرة حضرت حلقة ع تلفزيون لبنان بين المطران جورج خضر وغسّان تويني وأنسي الحاج عن الإيمان وعن الله وكانت الأحاديث فيا كتير حكي فلسفيّ ولاهوتيّ وشعريّ، بين الإيمان والشكّ، ولكن كلّو كان بإطار راقي وجادّ وما بيجرح حدا. يعني التساؤلات والشكوك والرفض والقبول أمور مشروعة بل مطلوبة ولكن الاستفزاز المجّاني بيزيد الاحتقان وبيصير يللي بحياتو ما فتح الإنجيل (أو أيّا كتاب مقدّس) يعتبر حالو مرجع دينيّ وبدّو يقود حملة صليبيّة أو حرب جهاد.
    والأهضم من هيك (أو الأضرب ما بعرف) لمّا بعض المسلمين يتضامنوا مع شربل خوري وجوي سليم وهنّي ما بيتجرأوا يجيبوا سيرة النبي محمد أو الإمام عليّ أو السيّد نصرالله، فصار فين متل النكتة يللي بتقول إنّو رئيس أميركا قال لرئيس روسيا: نحنا عنّا حريّة بتخلّي المواطن الأميركيّ يوقف قدّام القصر الرئاسيّ ويسبّ أميركا، فجاوب الرئيس الروسي: ونحنا كمان عنّا هيدي الحريّة، بيقدر المواطن الروسي يوقف قدّام القصر الرئاسيّ ويسبّ أميركا. فضلًا عن إنو شربل وجوي اعتذروا من عيلن وأهلن... يعني هنّي ما رفضوا المنظومة العائليّة وبقيوا محترمينا حتى ولو طلعوا منها!!!
      والأهضم بعد أكتر هنّي العلمانيّين وصولًا إلى الملحدين يللي هالقد عم يراقبوا الحالة الدينيّة وينتقدوها ويسخروا منها. فيا جماعة فصل الدين عن الدولة ورفض الله، صرتوا كاتبين عن الدين والله أكتر ما كتبوا الملتزمين والمتطرّفين والمتدينين. يعني صرتو طايفة جديدة متعصّبة بانية مواقفا ع تصرّفات أشخاص وما عندا إنتاج فكريّ أو أدبيّ أو ثقافيّ مقنع.
       اعطوني ملحد متل يوسف حبشي الأشقر وخذوا ما يدهش العالم.
     من وقت ما كتبت النصّ عن زوّار شربل وأنا عم راقب هالحالة الدينيّة يللي انفجرت، دفاعًا وهجومًا، وبخاف، فعلًا بخاف. لأنّو نشر النص وتوزيعو ما بيعني إنّو المسيحيّين عمومًا بخير، وخصوصًا كتار من الموارنة وإنّو إيمانن قوي وقويم، ولأنّو إذا الناس يللي وافقوا ع النصّ هالقدّ كتار، فمين هنّي يللي كانوا بعنّايا؟ 
    وبخاف أكتر لمّا إقرا الهجوم ع شربل وجوي متل ما بخاف علين من يللي كتبوه، لأنّو إذا هيك رح يكون التنبيه من المبالغة بعجائب شربل (ويجب التنبّه والحذر كي لا يصير الأمر مدعاة شكوك وتساؤلات)، وإذا هيك رح يكون الدفاع عن المسيحيّة ورموزا ومقدّساتا، فهالشي بيعني لا المسيحيّة بخير ولا العلمنة بخير... فالمسيحيّة مش حركة صليبيّة متطرّفة ولا شتائم وتهديد، والعلمنة مش تمسخر ع حالات دينيّة معيّنة، ولا انتقائيّة بهجوما ومزحا وسخريتا.
    وفي انتظار صحوة دينيّة حقيقيّة جوهريّة خاصّة بالإنسان وكيانو الداخليّ مش بالمظاهر والعروض، وفي انتظار تصويب الاتّجاه عند علمانيّين ت يطلع منن كتب ومسرحيّات ومحاضرات وأغنيات وأفلام ومسلسلات ومجلّات وصحف (مش مجرّد بوستات مثيرة وعابرة) تخلّي حتّى الملتزم بإيمانو يحسّ إنّو واحد منن (نصّ عن موت رضوان حمزة الذي يميتني خوفًا)، بانتظار كلّ هالأعجايب... الله يساعد، الله يعين... والله يستر!

الخميس، 12 يوليو 2018

المشكلة فينا مش بزياد الرحباني

زياد الرحباني في خلال التمارين لحفلة بيت الدين 12 تمّوز 2018

جمهور زياد الرحباني ليس شابًا بالمطلق كما يُظنّ

بيت الدين ليلة زياد الرحبانيّ

جمهور زياد الرحبانيّ - الخميس 12 تمّوز 2018

جمهور زياد الرحبانيّ - الخميس 12 تمّوز 2018

زياد الرحباني في بيت الدين - الخميس 12 تمّوز 2018


المشكلة مش بزياد، ولكن بيللي ألّهو زياد أو شيطنوه، كرمال هيك منصير نحنا يللي منحبّ نكتب ونعبّر عن رأينا، نخاف نجيب سيرة زياد متل ما نخاف نحكي عن الله ويمكن أكتر. لأنّو زياد لا رح يقرا ولا رح يردّ، ولكن الزياديين رح ينطّوا يهاجموا كلّ حدا بينتقد كلام لزياد وما بيقبلوا زياد يكون غلطان، لا بل رح يزايدوا ع أقرب المقرّبين من زياد، وغير الزياديين رح يعتبروا أي دفاع عن زياد هوّي من باب الدفاع عن كلّ يللي بيدافع عنن زياد.
كرمال هيك، كأنّو الحكي لازم يكون مع أو ضد، وممنوع نكون مع زياد بشي ومش معو بشي تاني، وما فينا نحبّ رأي أعلن عنّو، وما نحب رأي تاني من آراءو، يعني مجبورين ناخد زياد متل ما هوّي، أو ما ناخدو...
خلّينا نبلّش بالأوّل نقول إنّو مش هيّنة يكون الواحد زياد الرحباني، يا جماعة بيكون الواحد بيّو مختار بضيعة براس الجرد وما فينا نحكي معو لأنّو إبن المختار، فكيف يعني بيكون الواحد إبن عاصي، وإبن فيروز مرّة وحدة، هيك فجأة، بيخلق الواحد بين اتنين هالقدّ مهمّين، وهالقدّ غير شكل، وهالقد هنّي بالنسبة إلو بيّ وإمّ بكل عيوبن وأخطاؤن، وبالوقت نفسو هنّي عاصي وفيروز... يعني أقلّ شي الواحد راسو ما يحملو أو ما يحمل راسو...
ومش بس هيك، بيطلع عمّو منصور وعمّو الياس، وولاد عمّ كلّن موسيقيي وشعرا، وعمّات وولاد عمّات كمان موسيقيي وشعرا، وخالتو بتغنّي وولادا بيعرفوا موسيقى،  وفوق هيدا كلّو خيّو هلّي مريض، وإختو يللي كانت صديقتو بتموت صبيّة، وإخت تاني مصيبتا متل مصيبتو، وفوق هيدا كلّو زلمة مجبول بالموسيقى وكأنّو عايش كرمالا وبسببا.
يعني كيف بدّو يكون شخص متل هيدا؟؟؟ طبيعيّ؟ أكيد لأ! شغلة وحدة من هودي بتخلّي الواحد منّا يصير مجنون رسميّ
وما حدا يقلّي إنّو ولاد عمّو عاشوا الظروف نفسا، لأنّو مش صحيح، فزوجة منصور وزوجة اليس مش متل زوجة عاصي، وبالتالي الأكيد ما عندن نفس الوضع ولا رح يطلع منن نفس النتيجة.
كرمال هيك، لازم نحنا وعم نحكي عن زياد ننتبه لكلّ هالإشيا، ومش مهم إن كان زياد كبر وشاب شعرو وانحنى ضهرو، فكتار من المبدعين حملوا همومن وأفكارن ومشاكلن ع القبر، الله يطوّل بعمر زياد ونشوفوا عريس.
من جهة تانيي، مصيبة زياد مش بس جايي من هيدا الوضع العائليّ، ولكن كمان من جمهور تلات ارباعو ما بيشوف فيه غير النكتجي الساخر، وكلّ يللي قلّدوه وعملوا متلو زادوا من انتشار هالحالة يللي حبست زياد بحبس الكلمة وما خلّتو يطير مع اللحن. ويمكن اللعنة يللي صابت زياد سببا مسرحياتو وبرامجو الإذاعيّة ومقابلاتو يعني مش الموسيقى ع الأكيد، يللي على العكس كانت ورح تضلّ هيي خلاصو. فكيف بيقدر واحد متلو يحمل سآلة الناس وأسئلتن الغبيّة المجترّة وتعليقاتن يللي حافظينا من مسرحيّاتو؟ فأقلّ شي يكون مش طبيعيّ...
تالتًا، وضع زياد ببلد متل لبنان وبهيدي الظروف المرتّه أكيد رح يضاعف من معاناتو وعذابو النفسي، إيه يعني مش هيّنه يحسّ الواحد إنّو بدو يكافح لوحدو ت يدافع عن حقوقو ويحمي إنتاجو. فهيدي وحدا بتخلّي الطبيعيّ يبطّل طبيعيّ...
ولكن كلّ هالشي ما بيعني إنّو زياد ما بيغلط، أو إنّو أسمى من النقد أو أعلى من التنبيه، يعني لا هوّي قدّيس حتّى ما نجيب سيرتو، ولا هوّي شيطان حتّى نضلّ نرجمو... أنا ما بعرف زياد شخصيًّا، وما شفتو بغير مسرحيّة شي فاشل لكن صديقي المرحوم غازي قهوجي (شو سئيلة كلمة مرحوم حدّ إسمك يا غازي) كان يخبّرني عنّو أخبار كتيره وكنت إعتبر إنّو إذا غازي بيحبّ زياد يعني زياد بينحبّ... وهيدا سبب كافي (عدا عن موسيقتو طبعًا) ت شوف زياد بنظرة تانيه، برغم مآخذ كتيري يمكن تكون موجوده ع حكيو ومزاجو وحياتو وصحّتو...
يعني بيكفي إنّي ما إفهم كيف بيطلع ع تلفزيون من صلب تركيبتو رفض الموسيقى وعدم بثّ أيّ أغنية، هيدي وحدا بتكفّي ت ما بقا إفهم ع زياد. فبعيدًا عن آراء زياد الشيوعيّة واليساريّة يللي تلفزيون المنار أكيد ضدّا، وبمعزل عن لسانو الفالت يللي أكيد المنار ما بتوافق ع شو بيطلع منّو، كيف بيقبل يحكي مع حدا بيرفضو كموسيقيّ وهوّي يللي بيتنفّس موسيقى؟ وبيرفض بيّو وإمّو وكلّ عيلتو وكلّ تاريخو لأسباب دينيّة، وإذا بعد عمر طويل رحلت فيروز ما رح يحطلّا أغنية حتّى ولو كانت عن القدس؟؟؟
ما رح إدخل بكل يللي قالو زياد بهالمقابلة يللي انقال عنها كتير وانكتب كتير، لكن يللي رح قولو إنّو شغل زياد هوّي يللي لازم يندرس وينكتب عنّو، مش زياد وحكياتو الشفويّة الآنيّة المرتبطة بوضع سياسيّ، ولا حياتو الخاصّة، وشغل زياد هوّي الموسيقى، والكلمات يللي انضافت ع الموسيقى هيي ت توصّل الموسيقى مش أكتر، يعني حيلة ع الناس يللي أكترن ما بيسمع موسيقى. وغير هيك تضييع وقت وطاقة، لأنو لا زياد رح يبطّل يحكي يللي بدو يحكيه، ولا يللي مغرومين فيه رح يبطّلوا ولا كارهينو رح يحبّوه. الأكيد زياد بيكتب حلو وقت يللي بدّو، والأكيد ممثّل غير شكل، والأكيد مسرحيّ مميّز، لكنّو بهودي كلّن كان عم يألّف موسيقى ويعزفا، مرّات ع الكلمة، ومرّات بجسمو، ومرّات بصوتو (الصوت أصلا كتير بيعنيلو)، ومرّات بفكرو المتوثّب، فاشتغلوا ع موسيقى زياد يا جماعة النقد، الموسيقى وحدا هيي يللي بتستحق تنسمع وتندرس وينحكم عليا، لأنّو إذا كتار قلّدو زياد بحكيو ونكتو وسخريتو، فما حدا رح يقدر يقلّد موسيقتو... وهيدي قوّتو الوحيدة، وجمالو يللي بيجوهر كلّ ما يكبر بالعمر...
بالنهاية الأكيد إنّو مشاكل زياد مع حالو ومع يللي حولو كتيرة، ولكن الأكيد إنّو أكبر مشاكلو هيي نحنا، نحنا الجمهور العنيد لدرجة التيسنة، نحنا يللي بدنا نفصّل الزلمة ع قياس كل حزب وتيار وطائفة، متل ما حاولنا نعمل بوالدتو...

***************


بعض مشاهدات الحاضرين من ليلة بيت الدين الأولى:
-      الرطوبة عدوّة الموسيقى والحفلات، هالشي خلّا ناس كتير تغادر بكّير
-      عجقة السير عدوّ تاني ما بيخلّي حدا يوصل ع الوقت
-      اللبنانيّين بصورة عامّة أعداء الوقت والتنظيم والإصغاء
-      الحضور ما كان كتير شاب على عكس ما يمكن نتوقّع
-      كتار ما عرفو إنّو سيّدي أعطنا من هذا الخبز هي ترنيمة صلا وفكّروها أغنية (الخبز هو القربان المقدّس)
-       ركّز زياد ع مطلب الدولة والجيش، ولمّا شاف إنّو ما حدا طالب بالنشيد الوطنيّ يللي ما انحطّ بالبداية، طلب من الناس يوقفوا وعزف النشيد
- الأغنيات بتحصد تصفيق أكتر من الموسيقى يللي بلا كلام (متل العادة هيدي مأساة زياد مع الجمهور)
- تكريم عاصي كان واضح وكل الحكي عن قتل الأب مش كتير واقعيّ




الأربعاء، 4 يوليو 2018

"يا سلام" لنجوى بركات/ شخوص ما بعد الحرب في القتل والساديّة (النهار – 21 نيسان 1999)




"يا سلام" لنجوى بركات
شخوص ما بعد الحرب في القتل والساديّة
النهار – 21 نيسان 1999
(أعيد نشرها في أيّار، في صفحة نهار العرب والعالم من ملحق لو موند ديبلوماتيك)
"نوعان من الكائنات الحيّة فقط يصنعان حروبًا ضدّ جنسهما: الجرذ والإنسان. والاثنان لا ينفعان أيًّا من الكائنات الحيّة الأخرى ويدمّران كلّ أشكال الحياة..."
هذان النوعان هما بطلا رواية نجوى بركات الصادرة عن "دار الآداب"، في طبعتها الأولى "يا سلام". وتروح الرواية في محاولة بحث عن هذا السلام الذي أعقب الحرب اللبنانيّة، وعمّا فعله بأبطال الحرب ورموزها وضحاياها، وعن بيروت، المدينة التي تتزاحم السحب الرماديّة والسوداء في سمائها، وتتكاثر الجرذان الرماديّة والسوداء في شوارعها ومنازلها. وإن كان يحقّ لها أن تعود إلى الحياة – وتكون عاصمة الثقافة العربيّة لسنة 1999 – بعدما فشلت في أن تكون صانعة إنسانها ومجتمعها.
ثمّة أمر لافت وساخر في هذه الرواية، يتجلّى في اختيار أسماء الشخصيّات الرئيسيّة – وكلّها كذلك – "سلام"، العانس التي تبحث عن زوج تقتل أخاها المجنون كي لا يقف عائقًا أمام علاقتها بالرجل الوحيد الذي قَبِلَ أن يشبعها جنسًا بعدما أذاقها أنواع التعذيب والقسوة. "سلام" هذه، التي تفعل عكس ما يوحيه اسمها، وتعلن حربها الخاصّةـ بعدما انتهت حروب الآخرين على أرضنا، هل هي رمز السلام المشوَّه العاجز عن فرض نفسه أمام "أبطال" الحرب؟ وهل في عجزها عن إيجاد الزوج وإنجاب الولد والاحتفاظ بالشقيق، رمز آخر لفشل السلام الذي يبغي الاحتفاظ برموز الحرب، وإيحاء بأنّ أيّ زواج بين "سلام" وأيّ من المشاركين في عمليّات قتل الناس وتدمير البلاد لن يوصل سوى إلى الموت والجنون؟
"أبطال"
وسليم، أخوها، لا يحمل من السلامة إلّا اسمه. فقد عقله عندما اكتشف حقيقة الأبطال المزّيفين، وشهد على إجرامهم وأمراضهم النفسيّة، وإذ عجز عن الإعلان عمّ صار يعرفه، فضّل الانسحاب إلى عالمه الداخليّ الطفوليّ، وتخلّى عن عقله السليم، فتخلّت عنه أخته "سلام" ووضعته في المصحّ. أمّا "لقمان" بطل الحرب فلا شيء يربطه بلقمان الحكيم، الشخصيّة الأسطوريّة التي تُنسب إليها الحكم والأمثال، والذي لقّب بالمعمّر لطول عمره، في حين أن لقمان الرواية الذي نجا من الحرب مات خنقًا بالغاز وهو في زهرة شبابه وأحلامه بالسفر. ولم تنفع حكمة لقمان في ردعه عن الطمع الذي أودى به.
ونجيب، الرجل الذي تقتل سلام أخاها من أجله، بعيد عن كلّ نجابة وذكاء وحسن تخلّص، فقد هرب من تهمة التجارة بالمخدّرات ليعلق في فخّ المسؤولة عن المصحّ ورغباتها الجنسيّة، حيث توارى هربًا. وحين رغب في التخلّص من هذا الشرك، وجد في الأمانة التي تركها له مريض "عالِم"، معادلات كيميائيّة تجعله قادرًا على مكافحة الجرذان، فأوصلته الجرذان إلى الطاعون القاتل.
أمّا الياس، الملقّب بالأبرص، فقد سميّ تيمّنًا بالقديس الياس، "قدّيس أشبه بمحارب شرس منه بقدّيس، يشهر السيف باليد ويمسك بفروة رأس رجل مرتم على قدميه باليد الأخرى. قدّيس مقفل الملامح، ينتصب غاضبًا، كإعصار وسط حقل مزروع بجثث القتلى والحرائق والدمار" (ص 11 – 12).
والياس الأبرص اكتشفت أمّه حقيقة بطولاته يوم قلقت عليه، فلحقت به ليطمئنّ قلبها على وحيدها، فرأته في مكان عمله، في مركز بطولاته: "رأيتك... كنت تضحك! لماذا كنت تضحك يا أمّي، والرجل بين يديك عار يبكي ويتوسّل ويتوجّع ويصرخ ويستغيث بك أن ترحم أطفاله، إن لم يكن في قلبك رحمة عليه؟ لماذا كنت تضحك يا أبرص، وأنت تقتلع أظافره لالكمّاشة وتكسر أسنانه بكرة الحديد ثمّ تدلق عليه الماء وتكويه بقضيب ملتهب بالنار" (ص 188).
فهل كان الياس الأبرص – بحسب نجوى بركات – يستعيد مشهد شفيعه ويدافع مثله عن الدين، كما علّموه أن يدافع؟
المدينة
تبدأ رواية "يا سلام" بمشهد السحب التي تنظر إلى المدينة التي ما عادت تشبه نفسها ولا تشبه مدنًا سواها، والتي فقد أهلها عادة البكاء. وتروح الرواية ترسم شخصيّات أبطالها، وكلّ ما في هذه الشخصيّات يدعو إلى القرف والنفور والتقزّز، ومع ذلك فإنّ أحدًا من سكّان المدينة لم ينتبه إلى ما يجري، ورغم المرض والفقر والجنون، فإنّ دمعة واحدة لم تُذرف. أمّا القارئ، فمن المشهد الأوّل، يتوقّع الطوفان الذي سيغسل المدينة من عارها وشرورها وخطاياها، وينتظر من السحب التي تراقب من بعيد، أن تفرغ حمولتها من الدموع، في حين نضبت مآقي سكّان تلك المدينة الملوّثة. وهذا ما يحصل بعد بلوغ كلّ شخصيّة المصير الذي رسمته لنفسها. وتنتهي الرواية باستعداد السحب المتراكمة الحائرة فوق المدينة للهرب، بعدما رأت الأرض تميد تحتها منذرة بزلزال عظيم، فتبكي عليها.
إنّها رواية العلاقات المحرّمة التي ستفضي بالمدينة إلى مصير سدوم وعمورة، الأخت تسكت أخاها المجنون وتمنعه عن الصراخ بإعطائه ثديها، وعندما تجد رجلها تقتل أخاها وتطعم جرذان المدينة جثّته. والإبن يقتل أمّه حين يتبرّأ منها أمام رفاق صفّه، والأمّ تقتل هويّتها وتوافق على كذبته وتقول إنّها المربّية. ثمّ يقتلها ابنها مرّة ثانية يوم تكتشف حقيقة عمله وبطولاته وكيف يتمتّع بتعذيب الأسرى، وتقرّر الأمّ قتل ابنها لتمحو العار الذي شهدت فظائعه فتخنقه بالغاز وهو نائم. لكنّها لا تستريح بل تجنّ ويبقى طيف ابنها يتردّد عليها حتّى يفقدها عقلها، وعندما يلتبس عليها الأمر وتظنّ أنّ لقمان هو ابنها، تستعيد عمليّة قتله وتقتل نفسها معه.
ولقمان الذي كان وجد جرذًا في الفرن عند سلام، وتلذّذ بتعذيبه وخنقه بالغاز، عاد في اللحظة غير الملائمة ليزور أمّ الياس، بل ليسرق مالها قبل أن يترك البلاد نهائيًّا، فيعلق في شرك جنون ام الياس ويُقتل بالغاز.
ونجيب المدّعي المعرفة بأنواع الجرذان ووسائل مكافحتها والقضاء عليها، يموت بالطاعون، المرض الذي تنتقم به الجرذان من الإنسان حين لا يعود إنسانًا، وتجنّ سلام التي ضحّت بأخيها من أجل سياط نجيب وسكائره على جسدها المستمتع بالتعذيب.
السلام المجنون، ذاك ما بقي بعد انتهاء الحرب، والجثث المهترئة والقتلة الذين يُقتلون بما قتلوا به، والعنف الذي يولّد عنفًا. والرواية التي تدور حوادثها بين مصحّ المجانين ومركز الهاتف الذي تدّعي العاصمة أنّها ترتبط بواسطته بالعالم الخارجيّ، وحفريّات الآثار التي تردم مكتشفاتها جرّافات الحكومة، وبيوت الدعارة... تنتهي في انتظار الطوفان لعلّ فيه الخلاص.


الثلاثاء، 3 يوليو 2018

زكريّا تامر القصصيّ وأعماله الكاملة / الهروب من الواقع وغسل الفم (جزء ثانٍ وأخير)



زكريّا تامر القصصيّ وأعماله الكاملة
الهروب من الواقع وغسل الفم
زكريّا تامر الّذي صدرت له أعماله الكاملة عن دار رياض الرّيّس، هنا في قراءة له، جزءًا ثانيًا.
في عالم الخوف هذا، حيث الشّرطة في كلّ مكان، في كلّ صفحة، لا بدّ من أن يسود اللّون الأسود ليصبغ معه كلّ شيء.
في "ربيع الرّماد" تتساقط العتمة ثلجًا أسود (ص 93) وتبدو المدينة الميتة سوداء (ص 87)، واللّيل وردة سوداء (ص 11) ويجيء اللّيل كفنًا أسود (ص47) وتصير المرأة سوداء (ص 97) والرّجل أسود (ص 31).
وفي "الرّعد" نجد: "كان الحزن آنذاك حمامة ترتدي ثياب الحداد" و "زهرة سوداء (ص 11).
وفي "صهيل الجواد الأبيض": وتلاشى الثّلج الأسود" (ص 40) و"ربيع شعرها الأسود" (ص 13).
مقابل هذا السّواد الدّائم، هذا العالم اللّيليّ حيث تتداخل الكوابيس والواقع وحيث الحبّ والجريمة، الصّلاة والفجور، هناك الشّمس، عنصر أساسي في الدّيكور، لكنّها شمس لا توحي بالثّقة والاطمئنان، ولا يركن إليها، وإذا أخذنا الشّواهد من مجموعة "صهيل الجواد الأبيض" إنّما لكثافتها وتتابعها، دون أن يعني هذا إنّ المجموعات الأخرى لا تحتمل الرّؤية نفسها. الشّمس هنا نضرة (ص 11) أو "قرص مستدير أصفر" (ص21)، أو "كجسد أنثى فاتنة" (ص 35) أو "ناعمة الضوء" (ص131)، ثمّ تبدو "باردة حزينة هزيلة" (ص 57) أو قاسية (ص 105). أو هي الشّمس "الميتة" (ص 93) و"مجنونة اللّهب" (ص106)، والمتسمّرة (ص133) و"العتيقة" (ص 137).
أمر آخر يفرض نفسه على قارئ هذه المجموعة، هو العدد الكثير من أسماء الحيوانات الّتي ترمز إلى الشّرّ والبشاعة. وفي المرّات القليلة حين اختار الكاتب حيوانًا أليفًا ولطيفًا، كان هذا الحيوان ـ الرّمز وسيلة للهرب من واقع مرير كما في قصّة الحصان الأبيض. أو صورة مشوّهة ـ ضمن خطّة واعية ترفض المأثور والسّائد ـ فيتحوّل الخروف إلى جزّار، ويموت أبو فهد ويختفي جحا (ربيع في الرّماد ـ نداء نوح). ومن الممكن أن يكون هذا الحيوان مادّة تشبيهيّة منكسرة: "عيناها حمامتان وديعتان تحطّمت أجنحتهما" أو "تشايكوفسكي ضفدع حزين ولوركا بلبل أسود وكافكا صرصار من حجر" (صهيل الجواد الأبيض). أمّا الحيوانات الأخرى فهي من نوع: الذّئب والجرذ والغراب والوطواط الهرم الأعمى والدّودة الضّجرة وكلب الأسواق الأجرب والعناكب وخفّاش المدينة والصّراصير والقرد المحنّط والذّباب والجراد والحمار.
تثير قضيّة الصّدمة أو المفاجأة جدالًا بين متذوّقي القصّة، وهنا فريق يعتبرها عنصرًا سلبيًّا، ودليل ركاكة وضعف، وفريق آخر يرى فيها مادّة التّشويق والإثارة. لكنّنا لن نجد مفاجأة في قصص زكريّا تامر لأنّ  ظروفها متشابهة، حتّى أسماء الشّخصيّات لا تنوّع فيها يلحظ (رندا ـ عائشة ـ يوسف...) ولكن أن تتكرّر القصص وتتشابه إلى حدّ الرّتابة أمر آخر يستحقّ التّوقّف عنده: فقصّة "الخروف والجرار السّبع" تروى مرّتين (نداء نوح ص 376 وربيع في الرّماد ص 45) والحبّ المختبئ تحت قصف الطّائرات وهول الحرب يظهر في قصّتين متشابهتين ("النابالم النابالم" من مجموعة رعد، و"الحبّ" من مجموعة "دمشق الحرائق"). والولد الّذي يهمله أهله فيهرب من المنزل، يظهر في مجموعة "ربيع في الدّماء"(ص 53) و"دمشق الحرائق" (ص 71 وص 185) و"النّمور في اليوم العاشر" (ص 27)، والوصيّة نفسها تتكرّر في مجموعة "النّمور..." (ص 24) و"نداء نوح" (ص 343).
نشير أيضًا إلى إنّ قصص هذه المجموعة مترابطة ومتلاحقة تتمّات مقصودة واعية، أو كأنّها مشاهد تنتقل العين من واحد منها إلى آخر دون قطع أو توقّف، كأنّ الوقت لا يسمح باستراحة ولو قصيرة، حتّى إنّنا لنفاجأ في نهاية بعض القصص بمفاجآت ـ هل هي كذلك؟ ـ طريفة ولافتة. ولنأخذ الأمثلة من مجموعة "دمشق الحرائق" تنتهي قصّة "البستان" بعبارة "اللّيل الأسود آت" (ص 17) وتتبعها مباشرة قصّة "اللّيل" (ص 18). وتنتهي قصّة "أقبل اليوم السّابع" بعبارة "وكأنّ الغراب لا يزال جاثمًا على غصن شجرة النّارنج"، لتأتي بعدها مباشرة قصّة "الشّجرة الخضراء",
وفي نهاية قصّة "موت الياسمين" هذه العبارة: "غير إنّ الياسمين نبت بعدئذ في الرّماد شمسًا بيضاء" (ص 58)، لكن المفاجأة تنتظرنا (في الصّفحة 59) مع عنوان "موت الياسمين" وتنتهي قصّة الخراف بعبارة "ترتدي ثياب الحداد" (ص 115) لتليها قصّة "الرّاية السّوداء". وفي الصّفحة 139 تنتهي قصّة "موت الشّعر الأسود" بعبارة: "تطرق أبوابها مستنجدة فلا يفتح باب من الأبواب وتتلطّخ السّكّين بالدّم"، وتبدأ القصّة الّتي تلي مباشرة وعنوانها "الاستغاثة" بعبارة: "أقبلت الاستغاثة ليلًا إلى دمشق النّائمة طفلة مقطوعة الرّأس واليدين".
من يقرأ عادة ليستمتع بالقراءة لن يجد في قصص زكريّا تامر متعته، ومن يقرأ للتّسلية ستفاجئه رتابة هذا العالم إلى حدّ الجمود والموت، هذا العالم الّذي ينكشف بوقاحة تحت ستار الرّمزيّة والمثل، ومن يقرأ لينسى ستلاحقه أشباح الموتى والمضطهدين.
من يقرأ هذه المجموعة إذن؟ كلّ راغب في ساحة قتال يواجه كلّ ما لا يجرؤ على تسميته أو التّفكير فيه.
عالم ملعون ذاك الّذي سنجده في هذه الصّفحات الممتدّة على أكثر من أربعة عقود حيث الإنسان مهمل ومضطهد، وكلّ ما حوله أكثر أهميّة منه، هو عالم يستحقّ الخراب لعلّ الحياة تنبثق من الموت أو يمنع زكريّا تامر عن نفسه هذا الرّجاء، قد يكون في هذه الفقرة جواب ما.
"فليمت أهل البلدة جميعًا، فلتكن زوجاتهم قطعان ماعز ولتخرج الجرذان من مخابئها تحت الأرض ولتأكل الأطفال في مهودهم. فلتكن البلدة بلا أطفال حتّى الأبد... سيّدها الحيوان، وها هو ذا اللّيل يهبط  فوق الأرض كسقف من الوطاويط وأنا بلا امرأة. لا بيت لي. وطفلي الّذي انتظرته بكثير من الحنين والفرح تركته وانطلقت كريح غاضبة. سيأتي الغد. التّراب جلد الأرض الخشن. سيضمحلّ التّراب. الأرض فولاذ بارد. المحاريث يائسة محطّمة. لا سنابل. لا شجر. الأنهار سود. جراح بلا ماء. المنازل مقابر. الملوك يمشون بكبرياء بلا رؤوس... لقد شنقوا القمر. ونهر من الأغنيات ينأى عن المدن كسحابة لها آلاف الأجنحة. الجراد يمحو اخضرار الأرض. الأمّهات يخنقن أطفالهنّ ويرمين جثثهم إلى كلاب تنتظر بأفواه مفتوحة تتدلّى منها ألسنة طويلة مرتجفة. الشّبّان يذبحون آباءهم ويسكرون وهم قاعدون على أسمنت الأرصفة والذّباب يتسلّل إلى أفواه الشّبّان ثمّ يتسرّب إلى داخل الرّؤوس، وهناك سيطنّ حتّى يقبل الموت. حلّ موعد العشاء. العائلة السّعيدة أكلت طفلًا مسلوقًاـ كان طفلًا من أطفالهاـ ثمّ غسلت أفواهها وأصغت إلى أغنية : آه يا ليلى. سيأتي الغد" (دمشق الحرائق ، ص 289).
هل حلّت اللّعنة؟ ألا  خلاص؟
ميّ م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة "النّهار" السّبت 5 تشرين الثّاني 1994
*زكريّا تامر ـ الأعمال القصصيّة الكاملة ـ عن دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر: صهيل الجواد الأبيض، ربيع في الرّماد، الرّعد، دمشق الحرائق، النّمور في اليوم العاشر، نداء نوح.



زكريّا تامر القصصيّ في اكتمال/ قراءة للرّموز المختبئة والّتي تضيء (جزء أوّّل)



زكريّا تامر القصصيّ في اكتمال
قراءة للرّموز المختبئة والّتي تضيء
في قصص الرّعب الّتي يكتبها زكريّا تامر(1) لا يوجد مغنّون وموسيقيّون. لا يوجد وسائل إعلام ومسارح. في عالمه القصصيّ لا يرتفع إلّا صوتان: صوت السّلطة وهي تأمر، وصوت الضّحيّة الّتي وقع عليها الأمر، تصرخ وتستغيث. في عالمه، الأغنية أنين ونواح، والموسيقى عويل وصراخ، ووسائل الإعلام تعلن انتصارات وهميّة، والأمكنة، كلّ الأمكنة، تصلح ملعبًا للسّلطة الضّجرة، تلعب فيه أدوارًا لا تتغيّر.
النّاس في هذا العالم يرون ويسكتون، أمّا إذا شذّ أحدهم عن القاعدة وانطلق صوته، المخنوق عادة، فلكي يغنّي: مسكين وحالي عدم (ربيع في الرّماد ـ ص 43).
وأبو فهد الّذي يكرّر هذا المطلع ليس الوحيد المتعب، بل إنّ كلّ الّذين يعيشون في عالم زكريّا تامر القصصيّ مساكين وحالهم عدم، تحيط بهم بيئة غنيّة المشاهد: صحراء، بحار، أنهر، حارات، بيوت، معامل، بساتين، مقابر... وكلّها، ولا استثناء، تصلح مسرحًا لجريمة قتل، أو اغتصاب، أو ملاحقة سلطويّة.
المكان في هذا العالم القصصيّ واحد وإن اختلفت تسمياته، يمكننا أن نحصره في حارة السّعديّ الّتي يكثر ذكرها في المجموعة، أو نتوسّع به لنبسطه على العالم العربيّ كلّه، من المحيط إلى الخليج، وعلى أي مكان لا يعطي الإنسان قيمة فيه. ولكن تامر استثنى مدينتين عربيّتين، رأى فيهما عبرة ودرسًا فذكرهما بالاسم، وهما دمشق وبيروت: دمشق مدينته، وبيروت مدينة كلّ المثقّفين والمضطهدين ليحكي قصّة بنائهما وتاريخهما وواقعهما، فدمشق "توافد إليها أناس كثيرون ونصّبوه (من بنوها) ملكًا عليهم، ولمّا مات توارث الملك أبناؤه وأحفاده، فكان بعضهم ربيعًا، وبعضهم نارًا" (نداء نوح ـ دمشق) "أمّا بيروت فلم تنج من الهدم والسّبيّ والقتل على أيدي رجال يقال أنّهم تفوّقوا على هولاكو" (نداء نوح ـ بيروت).
الأمكنة لا تبقى على طهرها وبراءتها مع هذا القاصّ، أساسًا لا شيء يبقى هكذا ما دام الإنسان ملاحقًا ومظلومًا. والأمكنة عنده شريكة في الجريمة، أو شاهدة عليها، أو متلقّية لنتائجها. فالنّهر ليس مجرّد منظر طبيعيّ مؤنس، بل متّهم ملاحق يهدّده الشّرطيّ ويمنعه من التّدخّل في الشؤون السّياسيّة: "اتّكأ الشّرطيّ بمرفقيه على سور النّهر وصاح بصوت خشن صارم: أين النّهر؟" (النّمور، ص 20). وإلى جانب النّهر القبض على الأبرياء، فحين "إتّكأ عمر السّعدي بمرفقيه على سور النّهر وتأمّل منتشياً المياه المنسابة تحت ضياء الشّمس"، "أقبلت بغتة سيّارة الشّرطة" وكان القبض عليه دون ذنب ورمته في السّجن (ربيع في الرماد، ص 71).
وفي قصّة "النّهر ميت" نقرأ: "إستندت بمرفقي الى السّور الحجريّ وثبّت نظراتي على مياه النّهر المتدفّقة تحت ضياء نهار ناعم وقلت لنفسي، ليتني نهر... ليتني بلا أب... بلا مدينة... بلا إسم" (صهيل الجواد الأبيض).
البستان أيضاً لم يوفّره قلم زكريّا تامر، ولم يبقه على خضرته وزهوره بل حوّله إلى مكان للجريمة "ترك الأخ جسم أخته في البستان وأخذ رأسها معه وعلّقه على حائط الغرفة الّتي ينام فيها" (النّمور، ص 70). وفي قصّة "البستان" نرافق الحبيبين في رحلة حبّ وأحلام وأمنيات، وما إن يدخلا حتى تحاصرهما مجموعة من الشّبّان بغتصب أفرادها الفتاة بعدما ضربوا حبيبها" (دمشق الحرائق).
يبدو واضحًا إنّ تامر لا يجد رموز الحياة حيث يجدها باقي النّاس. عنده تمتلئ المدن والحارات بالموت حين إنّ القبور تمتلئ صخبًا وحياة. "سيّارة الشّرطة تشبه تابوتًا عتيق الخشب" (الرّعد، ص 20) ومقهى المدينة "يشبه تابوتًا مهترئ الخشب" (النّمور، ص 47)، ومخفر الشّرطة يبدو كقبر ضخم (الرّعد، ص 127). والرّجال " رؤوسهم منكّسة يتبعون بتثاقل تابوتًا كان في ما مضى شجرة تحبّها العصافير" (صهيل الجواد الأبيض، ص 133)، والياسمين "ينبت خفية في المقابر مرتديًا أكثر الثّياب حلكة" (دمشق الحرائق، ص 53).
ولعلّ مجموعة "الرّعد" تقدّم دليلًا ذا مغزى حول هذا الأمر، ففي الصّفحة الأولى من كلّ قصّة، بل في الأسطر الأولى، يحدّد الكاتب المكان/ المقبرة: "ثمّ دفنه بعد ساعات في مقبرة محاطة بالمنازل" (ص 11)، "أقف بين الأضرحة البيض" (ص15) ، "دخل شرطيّ بدين إلى القبرة" (ص 29)، "لقد ولد عبد الله بن سليمان حافيًا وترترع حافيًا ويسير حثيثًا إلى القبر بقدمين حافيتين" (49).
لا بدّ أن تلفتنا في هذه الإشارات / النّموذج العلاقة بين السّلطة والمقبرة  وكأنّها علاقة السّبب بالنّتيجة. ولا يمكننا إلّا أن نتوقّف عند هذه المرارة في اختيار اسم عبد الله لهذا البطل ـ العبد الّذي ولد حافيًا وسيموت حافيًا، وبين الولادة والموت قدمان حافيتان على طرقات شائكة. هل هذا ما أراد الكاتب قوله حين جعل عنوان القصّة "عباد الله"، الّذين يستسلمون لعبوديتهم في انتظار خلاص موعود؟
وقد تكون قصّة "السّهرة" بين المقابر، يرافقها شرب العرق والغناء من أكثر القصص دلالة على نظرة الكاتب إلى جدليّة العلاقة بين الحياة والموت (النّمور في اليوم العاشر، ص 93). ألم نقل إنّ المقابر قد تبدو أكثر حياة؟ وإلّا فما معنى أن يعود من الموت رجال وقادة يريدون مسار الأمور، حين إن الأحياء يجرّ بعضهم البعض الآخر إلى الموت، بعناد عجيب، بغباء عجيب؟
يقودنا الحديث السّابق إلى شخصيّات هذه المجموعة، فنجدها محدودة الوظيفة، عاجزة ومستسلمة، نهاياتها معروفة ومنتظرة وكأنّها دمى متحرّكة في أيد غير منظورة، وإذا ظهر صاحب الأمر بدا ضجرًا، طفلًا لاهيًا وسخيفًا، يبحث عن دمية (الملك ـ الوزير...) ألا يجعل ذلك الحياة أكثر قسوة والموت أكثر سخفًا؟!
المرأة ضحيّة الرّجل: أخ يقتل أخته، رجال الحارة يلاحقون فتاة خلعت الملاءة السّوداء (دمشق الحرائق، ص111)، فتاة تغتصب في الشّارع (نداء نوح، ص 353).
والرّجل ليس أفضل حالًا، فهو ضحيّة كبته الجنسيّ، يفعل المستحيل ليرى وجه المرأة الّتي فرض هو نفسه الحجاب عليها، يلحق بها في الشّارع ليلمس يدها، وعندما ينفرد بها يعتدي عليها في وليمة بمدعوّين، وكأنّ المرأة لن تعرف الأمان "بعيدًا عن البيت"(نداء نوح، ص 243).
والرّجل ضحيّة الشّرطيّ، والشّرطيّ حارس النّظام، دونه هو إنسان ضعيف، وبه هو إنسان مطمئنّ لأنّه غير مضطر إلى التّفكير والشّعور، فالنّظام ـ ولا أقصد القوانين الموضوعة لخدمة المجتمع ـ هو الّذي يتحمّل مسؤوليّة التّعذيب والقتل يرتكبهما الشّرطيّ / الأداة التّنفيذية.
ذكرنا سابقًا  إنّ الكاتب يستحضر بعض شخصيّاته من عالم الموت، فيأتي بها مرغمة لتخضع للاستجواب والمحاكمة كعمر الخيّام (الرّعد ـ ص 31) أو لتشارك في المقاومة ولتعرف من ثمّ الهزيمة والأسى كيوسف العظمة (دمشق الحرائق، ص 143) ومن الممكن أن يعود أحدهم من الموت ليعمل جاسوسًا فيقبع في حفرته ليصغي إلى ما يقوله النّاس (النّمور، ص 121). واستعان الكاتب كذلك بهولاكو وتيمورلنك وجنكيزخان رموزًا للإجرام والقتل، أو بكامل الكيلاني وأمل دنقل وعمر الخيّام وعنترة رموزًا أدبيّة تشهد على فشل الأدب في مواجهة السّلطة، أو يستعين بعبّاس بن فرناس وسواه من العلماء ليقول إنّ العلم مضطهد والعالِم ملاحق.
لا يبقى زكريّا تامر رمزًا على صورته التّقليديّة، المقدّسة أدبيًّا واجتماعيًّا. في عرفه، ما دام الإنسان غير محترم وغير محميّ فلا شيء جدير إذن بالهالة الّتي وضعت حوله. ولهذا نراه يمعن تحطيمًا للرّموز المتوارثة، يخرج عن تقاليد الفكرة والعبارة ويمسح الصّورة المتعارف عليها ويحطّم الهياكل الّتي لم تحافظ على كرامة الإنسان. وبعد الأمكنة الشّاهدة على العجز، وبعد المقبرة المنتهكة يتعرّض الكاتب للعدد سبعة. ومن المعروف إنّ هذا العدد رمز للكمال والتّمام بعدما قسّم الفراعنة الأسبوع إلى سبعة أيّام إزاء المراحل الّتي يمرّ بها القمر وصولًا إلى الاكتمال. ولهذا هناك يوم سابع للاستراحة من عمليّة الخلق، وسماء سابعة، وبحار سبعة. ودون التّوسّع في تفاسير هذا العدد مع الفيثاغوريّين وإخوان الصّفا، ننتقل إلى هذه المجموعة حيث يرتبط هذا العدد بالشّرّ والأذى. فإلى الغرفة الرّقم سبعة يعود "أكرم"، النّزيل الّذي يشاهد الجرائم بلذّة غريبة وهو يقول إنّه يحلم (النّمور، ص 66). وفي نهر من الأنهار السّبعة، قذف  رجال الشّرطة الرّجل بعدما أوثقوه وربطوا قدميه بحجرين ثقيلين (الرّعد، ص 20).
وصوت الحكاية يكذب على أبي فهد بعدما وعده بالثّروة وقال له "سأعطيك سبع جرار ملأى بالذّهب". ويموت أبو فهد قتلًا لأنّه صدّق الحكاية (ربيع في الرّماد، ص 45). والأبناء السّبعة يدفنون والدهم حيًّا لأنّه لم يعلّمهم إلّا الخنوع والخضوع (النّمور، ص 88). وفي قصّة "أقبل اليوم السّابع"  يحطّ غراب في هذا اليوم، ويسود الضّجر، وتقتل الفتاة الجميلة، ويحزّ الرّجل حنجرته بالمدية بحركة حاقدة، ويستريح.
ومقابل الأقزام السّبعة الطّيّبي القلب وثليجة البيضاء الطّاهرة النّقيّة، نجد في مجموعة "صهيل الجواد الأبيض" الفتاة الّتي ترغب في رجال سبعة يمزّقون ثوبها ويلمسون لحمها الجائع دون أن تشعر هي بأي خجل "إنّما غمرها فيض من العذوبة الممتزجة بحنين إلى قسوة حارّة" (ص 132).
وفي "النّمور في اليوم العاشر" (ص 86)، يصنع الرّجل في نومه سبع ذبابات تنذره بالموت. وفي "نداء نوح" (ص 343) يعلّم جحا تلميذه الوصايا العشر وفيها دروس عن الخنوع والغباوة والكذب، ففي ذلك الخلاص من الحكّام والسّلاطين. وفي الصّفحة 352، يشاهد جحا في اليوم السّابع مدينته على حقيقتها، ملأى بالظّلم والاضطهاد والجهل. وفي الصّفحة 376، أيضًا من "نداء نوح" تتكرّر حكاية جحا وجرار الذّهب السّبع، وفي الصّفحة 312 تحتفل الرّعيّة بنجاة ملكها الظّالم سبعة أيّام.
كيف تبقى الرّموز مقدّسة، في هذا العالم القصصيّ، والأطفال يغتصبون معلّمتهم، ثمّ تمعن أسنانهم قرضًا للحمها، وعمر كلّ واحد منهم لا يتجاوز سبع سنوات؟ (دمشق الحرائق، ص 65). كيف يكون اكتمال وتمام  والأطفال يتركون إبن جيرانهم يغرق في النّهر؟ (النّمور، ص 27) ويقدّمون التّقارير في حقّ أهلهم أو يحلمون بذبحهم (نداء نوح، ص 96).
ميّ م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة "النّهار" الخميس 3 تشرين الثّاني 1994
(1)   صدرت أعماله القصصيّة الكاملة عن دار رياض الرّيّس.
*يتبع جزء ثان.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.