النصّ للصحافيّة سيلفانا الخوري
صحيفة "النهار"- الخميس 13 كانون الثاني 2005
إن كنت تبحث عن الراحة فلا تقرأها، لأنّك لن تجد في كلماتها سوى القلق. وإن كنت متلهّفًا إلى الأجوبة فابحث في مكان آخر لأنّها لن تقدّم إليك سوى المزيد من الشكّ.
تعيد ماري القصيفي في كتابها "لأنّك أحيانًا لا تكون" صوغ كلّ شيء أسئلة فيها من طراوة الطفولة ونضج التجاعيد. إنّها تلك المرأة الطفلة التي لا تزال تعرف كيف تنظر إلى ما حولها في دهشة متسائلة، متلمّسة العالم بأنامل طريّة، تستكشفه، تنزع عنه القشور لتأخذه بين يديها عاريًا إلاّ من حقيقته الأولى، وكطفل هي لا يتوانى عن لمس النار ليتأكّد من أنّها حارقة. كلّ شيء لديها صالح لأن يكون علامة استفهام كبيرة من تفاصيل الحياة اليوميّة البسيطة إلى التساؤلات الوجوديّة الكبرى.
ذكيّة ومرهفة تأخذ من أشياء العالم وناسه تلك التفاصيل التي وحدهم الشعراء قادرون على التقاطها في واقعيّة حالمة: "لولا إحساسي بأنّي أزعج/ العصفور الواقف على الشجرة/ لراقبته إلى ما لا نهاية" تقول. لا شيء عندها عاديّ أو مألوف. تبني لنفسها عالمًا موازيًا للعالم الذي تحيا فيه. تراقب وتسجّل لتعود مساء تكتب عالمها حروفًا رافضة متمرّدة منتفضة.
مرهفة صحيح، لكنّها لاذعة أيضًا، متهكّمة، ناقمة، ثائرة، من دون أن يبلغ بها الأمر حدّ الحقد، فهي قبل كلّ شيء عاشقة للعشق بذاته قبل أن يلبس ثوب رجال يعبرون حياتها عبور الراحلين: "غيّر الرجل أغطية السرير/ ليمحو وجود المرأة/ ولكنّ عطر جسدها بقي في أنفه/ فتمنّى لو يستطيع الامتناع عن التنفّس". ولأنّها عاشقة هي خطيرة، وهل أقوى وأخطر من امرأة عاشقة؟ نسمعها تحذّر: "احذر تلك المرأة/ هي صوت صارخ/ في صحراء الحرمان/ تتلوّى تحت شمس الرغبة/ وتحترق فوق رمال اللذّة/ أهذا تحذير أم إغراء؟". قلمها حادّ مروّس يقرص ولا يجرح، يؤلم ولا يدمي. نبرتها حادّة تنضح صدقًا أبيض حارقًا وغضبًا يتفجّر سطورًا كاوية.
الأنا لدى ماري القصيفي حاضرة في قوّة، والآخر هو ذلك "الجحيم الضيّق" لكنّها تتركنا نشعر بأنّه جحيم لذيذ. منذ العنوان تبدأ ملامح هذا الآخر في الارتسام بين وجود ورحيل. الوجود خيانة والرحيل خيانة، لكن يبقى الفراغ لديها "وعد الممكن"، لذلك ربّما تكتب لتملأ مكانًا يفرغ بين رحيل ورحيل. الناس في حياتها عابرون، الأصدقاء تحديدًا، مثل البدو لا يتركون وراءهم سوى أطلال ذكريات لو استطاعوا لما توانوا عن حملها معهم في ساديّة غريبة طُبعوا عليها. تقول لهذا الرجل الدائم الترحال: "قدماك تحملان الطريق/ يداك تلدان السفر". لكن أتراها هي العابرة من دون أن تدري؟ الرحّالة التي تبحث دومًا عن مادّة لقلمها ووجودها وعن لذّة مستحيلة ومتعة تبقى بعيدة المنال؟ أتراه القلق لا ينفكّ يدفعها إلى البحث والاستكشاف والترحال وهي القائلة: "أجلس على حافّة المقعد/ مستعدّة دائمًا للرحيل"؟ أم ترانا جميعًا عابرون كلّ إلى وجهة مختلفة، ووحدها الكلمات التي أودعناها الأثير يومًا تبقى وتتحوّل ذرّات غبار تختلط بكلّ الكلمات التي قيلت منذ الأزل؟
نظرة هذه المرأة إلى ما حولها فريدة. تحبّ وتكره، تعشق وتقتل، معها تنتفي الحدود بين القسوة والهشاشة، بين التمرّد والخضوع. فيها صلابة مخيفة ونداوة رقيقة. فيها من المرأة كلّ تناقضاتها. عندها يتقاطع الغياب والحضور، الحبّ والنفور، اللذّة والألم. حتّى الكتابة تحار هل هذه نعمة أم نقمة، وتتساءل هل تكتب هذه المرأة لتتحرّر أم لتسجن نفسها أكثر في قصصها وتفاصيل حياتها؟ في مكان ما نشعر بأنّها تكتب لتتألّم أكثر، وأكاد أقول لتتلذّذ بالألم، كأنّها تغمس قلمها في جروحها قبل أن تدعه يلامس الورق. تقول: "ليس بالقلم وحده يكتب الإنسان"! فعلاً، يكتب بذاته كلّها، بماضيه، وحاضره والمستقبل، بالزمن والمدى، بالذاكرة والخيال...والألم. ذلك الألم القادر وحده على أن يجترح فينا معجزات الكتابة. لكن في النهاية ما الكتابة سوى فعل وجود يعتمل في دواخلنا، وما الكلمات التي نلدها بعد مخاض طويل ومؤلم غير نور متسلّل من فتحة جدار صمتنا، ذكرى من طفولة منسيّة، حبّ قديم لا ينفكّ يستعاد ولا ينضب؟ "تبكيني الكلمات التي كتبتها/ فأنا لم أكن أعرف أني/ حزينة إلى حدّ الكتابة/ ووحيدة إلى درجة أن أعيد/ قراءة ما كتبت".
لا تكتب ماري القصيفي كالمتفرّج الذي يكتفي بتسجيل ما يراه من حوله، إنّما كالمحارب الذي يجلس كلّ مساء ليكتب نهارًا آخر لامس فيه الموت عن قرب. الكتابة لديها فعل وردّ فعل في حركة تتجه من من الخارج إلى الداخل ثمّ تعود إلى الخارج نقيّة نقاء التفجّر الأوّل: "كهذه الحيطان المنخورة/ الجميع مرّوا من هنا/ وتركوا آثار حروبهم". كصوت صارخ في بريّة الوحشة والسكون التي تكاد تختنق بأجساد بلا وجوه، ظلال لا تجيد سوى الرحيل، تكتب حياتها لحظات وجود ثقيل ترغب في صراخه من أعلى قمم الرغبة فتخرج الكلمات من عمق الوجع مدويّة، لتصل إلى القارئ أصداء محمّلة نزفًا لن يشعر به إلاّ من أصابته لسعة العشق يومًا وتركت على جسده خطوطًا لا يزال كلّما وقع نظره عليها يرتجف وينتفض رغبة مؤلمة، كاوية، قويّة قوةَ الشعور الأوّل: "ليلة عيد ميلادها أطفأت شمعة واحدة/ كانت أضاءتها أمام صورة العذراء عندما صلّت كي يتذكّر". بكاء ينضح من هذه الكلمات! بعد ذلك كلّه اشعر بها تضع قلمها جانبًا، تقفل على نفسها وتعود إلى صمتها تلتحف به، تضمّه بين ذراعيها وتنام، علّه يدفئ فراشًا برد من كثرة العابرين!
في الصفحة 103 تكتب ماري: "الذين يعجبون بكتاباتنا والذين يكرهونها يتناسون أنّ ثمّة إنسانًا يكتب وهو يفكّر في أنّ حياته بآلامها العنيفة وأفراحها القليلة ليست بالنسبة إليهم سوى كلمات". قد لا تكون حقًا سوى كلمات، لكنّها كلمات حارقة لشدّة صدقها. الصدق فقط يدخل القلوب بلا استئذان. في مكان آخر تقول: "أيّها الأدباء!/ أشكركم لأنّكم تكتبون ما أعجز عن كتابته". ونحن نشكرك ماري القصيفي لأنّك تكتبين ما لا نجرؤ على قوله!
هناك تعليقان (2):
شكراً ماري.. وألف ومليون شكراً
لأنك استطعت أن تعبري عما يجول في خاطري.. ولكن لا أجد الجرأة على البوح به
في إصدارها الأول "لأنك أحيانا لا تكون": ماري القصيفي.."شهرزاد في ليلتها الأولى" أو راهبة تمنح الصبر للمتعبين
لا أدري متى بدأت ماري القصيفي الكتابة حتى أقول تأخرت كثيرا في إصدار مجموعتها الأولى، لكن كتابها "لأنك أحيانا لا تكون" الصادر منذ أسابيع عن دار "مختارات" لا يدل على ربكة الخطوة الأولى ولا على تردد أو تفاوت في النصوص·
تقول القصيفي على الغلاف الأخير للإصدار:
أنا مرآتك لا امرأتك
ولذلك تحب أن تكسرني لكي ترى نفسك
في كل جزء مني·
وتقول في نص آخر:
أصلي كي لا تصدق عندما أقول لك:
لا بأس· تستطيع أن تذهب
وتقول:
لحظة ينتهي الحديث ويقرر كل منا أن يذهب في طريقه..ننتبه الى أن ثمة موضوعا لا يحتمل التأجيل
إذن، هذا البوح الأنثوي الذي لا يطيق المكيجة والعطر والثياب الملونة هو الخيط الناظم للنصوص المنثورة على صفحات المجموعة· إذ تمتلك الكاتبة/ الشاعرة جرأة مختلفة، وبعيدة عما اعتدناه في أغلب الكتابات النسائية (إن أجزنا التسمية) تلك التي لا ترى الجرأة إلا من زاويتين: الندّية بإعلاء الصوت الأنثوي و"خوشنته" أو افتعال العري للفت النظر والانتباه·
في إطلالة ماري القصيفي من شرفتها العالية والمغايرة اتساع للرؤية، في الوقت الذي لا يعني التقاط العمومي وغياب التفاصيل، لكنه الاتساع الذي يمنح الإدراك ويكتفي، ويلم بأطراف المعنى المتروكة ولا يحشو، ويرى مشهد النهر من منبعه الى مصبه فيغترف من أعذب أماكنه المغمورة بين صخرتين·
هي لا تخجل من إعلان انكساراتها كعاشقة، ولا عن ضعفها، ولا عن "دمعتي العصب والغضب"، جميعها حالات شعورية لا تحمل من المعاني سوى قوة الشعور والعاطفة دون أن ترتبط كصفة لأي من الطرفين:
خلعت نظارتيك
فصرت أرى جيدا
الحزن المرسوم دوائر
حول عينيك
تقترب القصيفي أحيانا في نصها الى النثر واللافتة والبوح العاطفي، فتغيب في التجريد والعبارة والمباشرة، لكنها في ذلك كله تصفّ منمنمات صغيرة ملونة تكوّن في مجموعها لوحة شعرية زاهية، تكتشف معها أن كل رمياتها تلك لم تكن عبثية وفوضوية وإنما كان مقطعا شعوريا يتمم ما قبله وما بعد·
ومن "مفاجآت" البوح عند القصيفي أن تصل الى مناطق شعورية غائرة تلتقطها ببساطة ويسر:
أطلقت اسمك على ابني
لعله يكون جميلا وذكيا
ولكنه، رغم كل تمنياتي،
بدا يشبه والده·
أو تتشبه بـ "قميص منسي على حبل غسيل تحت زخات المطر"، أو تألّف حلما مختلفا "رأيتك في الحلم/ لم تكن أنت/ ولم أكن أنا/ كنا نحلم بألا أستيقظ"·
وتعتمد الشاعرة في نصوصها بعض المفارقات الشعرية، بلا استعراض مجاني للغة أو للمعنى "كنت أصغي جيدا، فسمعت ما لم تقله" أو "أفرح عندما نلتقي، لأنني أطمئن الى أنك لست وحدك"·
وفي أكثر نصوصها نجحت القصيفي في رسم نهايات خاطفة ومفاجئة دون أن تفلت منها كثافة اللحظة الشعرية·
في "لأنك أحيانا لا تكون" تتسرب هموم القصيفي الى حارات أخرى، فهي لا تقتصر على الذاتي، ولا تتقرفص في غرفتها المعتمة أو في قلب حبيبها فقط، لكنها - دون أن تتعمد - تشعل مصابيحها في عتمات جيرانها، في القرية الكونية، في فصل مدرسي يرتجف بين حيطانه قلب طفل، في انتظارات أسير، تسير في تلك الحارات الليلية كراهبة حنون تمسح رحمتها البيضاء على قلب متسول، وتهدىء من ذعر عصفور، توقف مجزرة خضراء في غابة، وتعيد ثقة مقطوعة بين "شجرة وغيمة":
في بلادنا تعتذر الضحية وتخفي دموعها...ويفتخر المجرم بجريمته مطلقا ضحكة عالية·
ضمنت القصيفي مجموعتها مقالات شعرية مثل "أخبار متفرقة" و"الحديقة الليلية المسكونة" و"يكنس الأرض برماد شعره" و"مشاهد"، تدير فيها حوارات بين أبطالها، وتنقّل بين ضمائر المخاطبة، وتأتي بعبارات يومية صادمة، ومصطلحات صحافية وسياسية، وبعض الكلمات باللهجة المحكية، توظف جميعها بنفس شعري متصل، لا تكسر فيه دائرة الشعر ولا تخرج عن فضاءاته، كأنما - رغم تعدد أصواتها واختلافها - ترتل في جوقة إيمانية لا تنشز فيها، بل تزيد قارئها إيمانا أن ذلك كله شعر، بل هو الشعر لكنه في أكثر من أيقونة·
ن. م
إرسال تعليق