1- "لأنّك أحيانًا لا تكون" لماري القصيفي
شاعريّة تفيض ومضًا وحكمة
بقلم الشاعر والناقد لامع الحر
تفاجئك ماري القصيفي في كتابها "لأنّك أحيانًا لا تكون" الصادر عن دار مختارات، بما تملك من حنكة وذكاء، وقدرة على اختراق الحواس، بلغة لا تتجاوز العادي والمألوف.
شاعرة تعرف كيف تصل إلى الومضة، كيف تختصر
الوصول إلى ما كان يسمّى بيت القصيد، إلى حفيف الشعر، وإلى صوته الخافت، زنداءاته
الخفيّة، وإلى جماليّة تنحفر عميقًا في الوجدان، بأقلّ كلفة لغويّة ممكنة.
في شعرها نقد للواقع، نقد بأسلوب بسيط لا فذلكة
ولا امتطاء لصهوة الغامض المنفّر، بل عما جادّ على أن يأتي القول بكلّ ما فيه من
مفردات عاديّة، وصياغة عاديّة، تجاوزًا للعاديّة التي لا تبثّ في القارئ أيّ شعور،
أو أيّ إثارة، أو أيّ اهتمام.
الشعراء ينتظرون عادة الحدث الاستثنائيّ،
المفاجئ، وغير المنتظر ليكتبوا عنه، وليكون مصدر الوحي المسبّب للإبداع. أمّا ماري
القصيفي فتتمكّن من تحويل الأحداث العاديّة جدًّا جدًّا في حياتها إلى نصوص مثيرة
للانتباه، وإلى شعر يجعل القارئ يلتفت بانتباه إليه، وتدفعه إلى إعادة النظر في
كثير من الأحداث التي مرّت في حياته، ولم يتمكّن من الاستفادة منها شعريًّا.
ماري القصيفي شاعرة بامتياز، في كلّ ما كتبت.
وتمثّل موضوعات قصائدها خروجًا على الموضوعات التقليديّة المعروفة. وكأنّها مقرّرة
قبل الشروع في الكتابة أن تخالف نظم السير. أن تنأى عن كلّ ما يمكن أن يدنيها من
التقليد، أن تبتكر مضمون نصوصها من الحياة، ومن التجربة التي تعيشها بكلّ ما فيها
من حرارة أو برودة.
شاعرة مغرمة بالتفاصيل الصغيرة التي تجعل منها
ومضات شعريّة، تضيء كأنّها قناديل الشتاء في ليل خرافيّ عاصف، وتمضي في تجلّياتها
غير مبالية، بما يحيط المكان من رياح عاتية.
شاعرة لا تثرثر. لا تقول الشعر لكي تقول. بل
لأنّ هناك عبقرًا ملحاحًا يدفعها لتدوين صورها الفنيّة، الماضية في نزعة الابتكار
إلى حدّ الدهشة.
شاعرة يبتهج قارئها بما ينبعث من بريق عينيها
اللتين تلتقطان الضوء، من على بعد، وكأنّها المغناطيس الذي يجذب إليه سحابة
الجمال، ليصهرها بصفاء معدنه، وطهارة معبده، وأنوثة بنائه الرهيف.
شاعرة تغرف من بحر، كأنّها امتلكت شرانق
الحياة، وكأنّها تمتلك القدرة اللافتة على تحويل الموضوعات إلى صور فنيّة، تعطيها
ما تعطيها من بهاء، يتألّق، ويتأنّق على كلماتها التي تصيب الهدف بمهارة الصيّاد
المحترف، والمتمرّس، والقادر على الإمساك بطريدته. لكأنّه يمتلك الزمام، ويسيطر
بشكل كامل على تواشيح المكان، ويحلّق في فضائه البعيد ممتطيًا صهوة الإبداع، التي
لا تلين إلاّ لفرسانه الميامين.
شاعرة عميقة الغور، تسمو بكلماتها إلى ما يشبه
الحكمة، وتنساب وتندفع لتصل إلى زبدة القول الذي ينغرز في الأعماق عناوين لتجارب
إنسانيّة تمتلك حدّة المعاناة، وصدقها، وما تبقّى منها من أثر، يتدافع كلمات،
ويمطر صورًا، ويصول، ويجول، كأنّه حلم الشاعر الأخير.
شاعرة تكتب بعقل بارد، ينبثق من تجارب لا تخلو
من حرارة. لكنّها لا تستجيب لها. كأنّ الشعر لا يكمن في حرارة التجربة، بل في ما
تبقّى منها بعد تلاشي الحرارة، وعودة العقل إلى صوابه الجميل. العقل البارد بعد
هبوب عاطفة هوجاء بوصلةٌ تلتقط الجمال وتذهب به إلى نقطة الضوء، لينبلج نهارًا
يشعّ عطرًا ووردًا وشعرًا جميلاً، يتلّوى على إيقاع نبض القلب، ويخفق كمن يعطي
جرعة لمستغيث جريح.
شاعرة تفيض رقّة وعذوبة. وتخترق مسامات جلدنا
ببراعة ساحر حاذق، وتستنبط الشعر من دفء عمرها وغنى حياتها، وعمق صراحتها، ونبض
عبقرها المتأهّب لسبر أغوار الجمال بحثًا عن لآلئه الثمينة.
شاعرة تفتك بك. تحاصرك. تشبع شبقك الإبداعيّ.
تلتهم الكلام وتسكنه، فيسكنها دافئًا، هادئًا، ساخرًا، وماضيًا، توشّحه نزعة تأمّل
تزدهي برحابة أمدائها.
لا تستطيع أن تفلت من نطاق نصوصها، مهما تقمّصت
الزئبق. كأنّها القدر الجميل الذي كتب لك على حين غرّة، وكأنّها الحقل المدرار
الذي فاجأك والأرض يباب، وكأنّك الأرض العطشى التي دهمها المطر، ليسقي غليلها بعد
طول غياب.
ماري القصيفي مسكونة بالشعر. يفيض منها كبحيرة
ماء في ليل عاصف،ويغزو حواسك، ليقول لك إنّ الإبداع هو هذه القطرات من الندى الذي
ينسكب على الأعشاب، ويلامسها كما الحبيب، الذي يداعب امرأته الأولى.
شاعرة تحملك على الانجذاب إليها منذ اللحظة
الأولى، منذ النصّ الأوّل، منذ العطر الأوّل الذي يفيض، لينتشر في ثنايا الكتاب،
كما الجنيّة التي تأسرك بحكاياها الآخذة من الخرافة دهشتها التي لا تعرف الذبول،
وإن تعدّدت القراءة، لا بل تأخذ من القراءات المتكرّرة نسغها الذي يضيء نضارة
وألقًا.
شعرها كما الماء، يلامسك، لا ليخدشك، بل ليعطي
وجهك شيئًا من الفرح الذي لم تعهده في شعرنا العربيّ العظيم.
تكتب بماء السخرية التي لا تعرف العبث والناقدة
التي لا تساوم على ما يساورها من معارف كما لو أنها وجه الصواب الوحيد. والقارئة
لا لكي تُثني على ما قيل، بل لكي تناقض القول في أغلب الأحيان بقولٍ يشفّ، كحبيبات
الضوء.
تأتي بالقول المأثور، لا لتؤكّده، بل لكي تردّ
عليه، لكي تمنحه حياة أخرى، لكي تعيد إليه شيئًا من النضارة المفقودة، ولكي تعطيه
من لحمها ودمها بريقًا آخر، لا عهد له به. فالمثل الفرنسيّ الذي يسخر من غباء
المرأة يصبح بين يديها القدرة على اكتشاف الآخر. تقول: "كوني ذكيّة واصمتي/
ففي صمتك تكتشفين الآخر".
وتكثر الشاعرة من استخدام الأقوال التي تعارضها
أو التي تبني عليها موقفاً آخر، لا لشيء إلاّ لتؤكّد إنّ الحقيقة ليست واحدة عند
جميع بني البشر، بل تختلف من إنسان إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى. ولذلك علينا ألاّ
نصدّق كلّ ما يقال. بل علينا أن نصدّق ما نراه بأمّ العين وعين العقل، وما نعيشه
لحظة بلحظة. وإذا كان المثل الشائع يقول بأنّ الدم لا يصير ماء، فإنّ ماري القصيفي
تقول: "أؤمن بأنّ الماء صار خمرة/ وأؤمن بأنّ الخمرة صارت دمًا/ وأؤمن كذلك
بأنّ الدم يصير ماء".
وإذا كان ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فكذلك
"ليس بالقلم وحده يكتب الإنسان" فهناك من يكتب بإيقاع جسده، ومن يكتب
على وتره، ومن يكتب بالألوان، ومن يكتب بصوته، ومن يكتب بعرقه ولحمه ودمه. وهذا ما
يمثّل غوصًا في الحقيقة الإنسانيّة التي تتعدّد كيفيّة التعبير عنها، بتعدّد
الشخصيّات والمواقف.
وإذا كانت الأغنية الشهيرة لفيروز والتي كتبها
نزار قبّاني تقول: "لا تسألوني ما اسمه حبيبي" كنعبير عن انغماس العاشق
بالمعشوق، وعن تجلّيات الحبّ التي لا تنسى، وعن انجذاب الزهرة لعطرها الجميل، وعن
زهو الحبيبة بأميرها الحالم، فإنّ شاعرتنا على العكس من ذلك تمامًا، فهي تحبّ
وتنسى، لا لشيء إلاّ لأنّها تريد أن تنسى، وكثير من العشّاق أيضًا يتمنّون أن أن
يتمكّنوا من النسيان: "لا تسألوني ما اسمه حبيبي/ لقد نسيت".
وإذا كان أبو الطيّب المتنبّي يقول: "ذو
العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم" فإنّ الشاعرة لم
تصدّق هذه الحكمة إلاّ بعد أن صادقت الرجل السعيد بجهله وغبائه: "لم أصدّق
أنّ الجهلاء سعداء حتّى التقيت بك". والجاهل لا يمكنه أن يستحوذ على إعجاب
امرأة بهذا القدر من الفطنة والخبرة والصراحة التي لا تزيد عن حدّ ما، وإن كانت
جارحة.
" لأنّك أحيانًا لا تكون" كتاب غنيّ بالصور
الحيّة، النابضة، المتحرّكة، الصادمة، المؤثّرة، الصادقة، والنابعة من عبقر يكتنز
جمالاً وافرًا، وفتنة محيّرة، وعالمًا يشعّ. وكأنّه الكوكب الدريّ الذي يستقيم
إيقاعه مع ما ينبعث منه من نضارة تزداد لمعانًا كلّما ازددت فيها إمعانًا، ومن
صورها اللافتة نختار:
حتّى ظلّي لا
يرضى بمرافقتي في العتمة.
فيّ قوّة
قادرة على تغيير وجه التاريخ/ غير أنّها عاجزة عن إحداث تغيير بسيط في الرجل الذي
أحبّ.
يزعجني في
موتي أنّني لن أستطيع الكتابة عنه.
أحسد دخان
السيكارة/ المتصاعد دائمًا إلى فوق.
أشفق عليك
لأنّك لا تملك نعمة البكاء.
أنا مرآتك لا
امرأتك/ ولذلك تحبّ أن تكسرني لكي ترى نفسك في كلّ جزء منّي.
كلّ ذي عاهة
جبّار/ والذين ليسوا جبابرة/ لم يكتشفوا عاهاتهم بعد.
أعرته المرآة
التي تقول لي: أنت أجمل نساء الأرض/ ولكنّي نسيت أن أعلّمه كيف يحوّلها من المؤنّث
إلى المذكّر.
في سوق
الأغراض العتيقة/ سأفتح دكّانًا/ لبيع وعود الأصدقاء.
الصداقة
المجروحة إناء مثقوب/ لا يصلح للاستعمال بل للعرض/ هل كان يتنبّأ؟
قبل كلّ لقاء/
اشعر كأنّني شهرزاد في الليلة الأولى.
عندما تغفو
يدي في يدك/ يستيقظ الضباب/ ويختفي العالم.
أرغب في مائة
عام من النوم/ لكنّي أخشى ألاّ أجدك عندما أستيقظ.
أجمع علب
الكبريت من المطاعم التي نزورها/ قد تكون عيدانها وسيلتي الأخيرة/ لأبقي ما بيننا
مشتعلاً.
ماري القصيفي شاعرة تتقن فنّ السرد، تعرض
الحكاية بأقلّ ما يمكن من سطور، وتنهيها، لا بما يتلاءم مع النصّ السرديّ، بل بما
يتلاءم مع ما يتطلّبه الشعر من ومضات تستلهم العبرة أو الحكمة أو الموقف
الاستثنائيّ الذي لا يدور في خلد القارئ.
والجميل في "لأنّك أحيانًا لا تكون"
أنّ القارئ يغيب عن ذهنه ما إذا كانت النصوص نثريّة أم موزونة، فعندما تحضر
الجماليّة بهذه القوّة، يغدو الاستغراق في هذه النقطة مسألة ثانويّة، لا تقلّل من
القيمة الفنيّة، ولا تزيدها ثراء.
واللافت ايضًا أنّها لو شاءت أن تكتب الموزون
ضمن نمط شعر التفعيلة لاستطاعت، ولكن حسب ما يبدو أنّ هذا الأمر لا تفكّر فيه ولا
يستوقفها، لكنّه يأتي لديها عند الخاطر، دون أن تتقصّد ذلك وتسعى إليه. ففي نصّ
"عري وقشور" مقطع لو حذفنا منه كلمة واحدة، لأصبح موزونًا، تقول: إحذر
تلك المرأة/ هي صوت صارخ/ في صحراء الحرمان/ تتلوّى تحت الرغبة/ تحترق فوق رمال
اللذة/ هذا تحذير أم إغراء؟" والأصل: تحترق تحت شمس اللذة، حذفنا
"شمس" لكي يستقيم الوزن.
لكنّ إعجابي الشديد بنصّها لا يمنعني من القول
إنّ هناك تأثيرات واضحة لبعض الشعراء، وهذا ليس عيبًا بالطبع، فهي تقول:
"أيّها الرجل الجميل/ جميل أن أحبّ الحياة من أجلك فقط"، أمّا محمود
درويش فيقول: "سيّدتي/ لأنّك سيّدتي أحبّ الحياة"، وتقول الشاعرة في
مكان آخر: " أنت لا تحبّني/ أنت مغرم بحبّي لك" أمّا سعيد عقل فيقول:
"أجمل من عينيك/ حبّي لعينيك".
يهمّني جدًّا موضوع إتقان اللغة عند قراءتي
لأيّ كتاب، ولذا أدقّق إذا كانت الشاعرة، أو الشاعرة، يمتلك لغته، لأنّها لا تساعد
على التعبير السليم فحسب، بل تؤكّد عمق معرفة المبدع بروحها وأسرارها، وهذا ما
يساعده على المزيد من العطاء الإبداعيّ الراقي. والدافع إلى مزيد من التدقيق يعود
إلى أنّ أكثر الشعراء الشباب يخطئون كثيرًا في الصرف والنحو، وأحيانًا في الإملاء.
أمّا ماري القصيفي فتمتلك لغتها، وتجيد التعبير عمّا تريد بدقّة متناهية. لكن
فاتتها هذه الهفوة اللغويّة التي لا بدّ من الإشارة إليها، تقول: أمّا أن يكون كلّ
منّا لوحده (ص 11) والصواب: إمّا أن يكون الواحد منّا وحده أيّ وحيدًا.
" أيّتها الكتابة! أعطيتك نظري وعمري وكلّ الرجال
الذين أحببتهم/ فماذا أعطيتني؟"
لا بأس أيّتها الصديقة التي لم أعرفها أن تعطي
الكتابة كلّ شيء. ولكن لا تنتظري في هذا الزمن المقلوب أن تعطيك شيئًا. ويكفي أن
تجدي قارئًا أحبّك بكلّ صدق وعفويّة، وأنّ هناك ناقدًا قرأك وغاص في أغوارك، ووجد
أنّ إبداعك استثناء قلّما نجده عند الآخرين والأخريات.
**********************
2- ماري القصيفي من كلّفك؟
بقلم الصحافيّ الأستاذ إيلي الحاج
صحيفة "النهار"- الاثنين 6 كانون الأوّل 2004
لا تعرف ماري القصيفي على الأرجح أنّ أفكارها تثير القلق وتشكّل خطرًا على سلامنا الداخليّ.
كتابها "لأنّك أحيانًا لا تكون" يضع النقاط على الجروح. صدقها نادر، ساطع قويّ.
إذا كانت تريد ماري القصيفي أن تهزّنا من غفوتنا فقد هزّتنا.
إذا كانت تريد أن تنبّهنا إلى خيباتنا وتذكّرنا بقهرنا ويأسنا والعبث الذي يغمر حياتنا في هذه البلاد، مع هؤلاء الناس، مع حالنا، فقد نبّهتنا وذكّرتنا.
كلنا نرى كذب العلاقات، زيف المظاهر، ظلم الله والبشر، الموت المتعدّد الوجوه في البيوت...إنّما نتحمّل.
نلتزم كغيرنا نظام الصمت السائد.
إنتِ من كلّفك أن تزيلي الستار عن المغطّى وتخبري القصّة الحقيقيّة بحزنك الصافي، بسخريتك المرّة الجارحة حدّ اللؤم؟
وماذا بعد انتقامك الجميل يا ماري؟
*****************************************
3- ماري القصيفي في "لأنّك أحيانًا لا تكون" جرأة الذات المتألّمة المتمرّدة الحارقة
النصّ للصحافيّة سيلفانا الخوري
صحيفة "النهار"- الخميس 13 كانون الثاني 2005
إن كنت تبحث عن الراحة فلا تقرأها، لأنّك لن تجد في كلماتها سوى القلق. وإن كنت متلهّفًا إلى الأجوبة فابحث في مكان آخر لأنّها لن تقدّم إليك سوى المزيد من الشكّ.
تعيد ماري القصيفي في كتابها "لأنّك أحيانًا لا تكون" صوغ كلّ شيء أسئلة فيها من طراوة الطفولة ونضج التجاعيد. إنّها تلك المرأة الطفلة التي لا تزال تعرف كيف تنظر إلى ما حولها في دهشة متسائلة، متلمّسة العالم بأنامل طريّة، تستكشفه، تنزع عنه القشور لتأخذه بين يديها عاريًا إلاّ من حقيقته الأولى، وكطفل هي لا يتوانى عن لمس النار ليتأكّد من أنّها حارقة. كلّ شيء لديها صالح لأن يكون علامة استفهام كبيرة من تفاصيل الحياة اليوميّة البسيطة إلى التساؤلات الوجوديّة الكبرى.
ذكيّة ومرهفة تأخذ من أشياء العالم وناسه تلك التفاصيل التي وحدهم الشعراء قادرون على التقاطها في واقعيّة حالمة: "لولا إحساسي بأنّي أزعج/ العصفور الواقف على الشجرة/ لراقبته إلى ما لا نهاية" تقول. لا شيء عندها عاديّ أو مألوف. تبني لنفسها عالمًا موازيًا للعالم الذي تحيا فيه. تراقب وتسجّل لتعود مساء تكتب عالمها حروفًا رافضة متمرّدة منتفضة.
مرهفة صحيح، لكنّها لاذعة أيضًا، متهكّمة، ناقمة، ثائرة، من دون أن يبلغ بها الأمر حدّ الحقد، فهي قبل كلّ شيء عاشقة للعشق بذاته قبل أن يلبس ثوب رجال يعبرون حياتها عبور الراحلين: "غيّر الرجل أغطية السرير/ ليمحو وجود المرأة/ ولكنّ عطر جسدها بقي في أنفه/ فتمنّى لو يستطيع الامتناع عن التنفّس". ولأنّها عاشقة هي خطيرة، وهل أقوى وأخطر من امرأة عاشقة؟ نسمعها تحذّر: "احذر تلك المرأة/ هي صوت صارخ/ في صحراء الحرمان/ تتلوّى تحت شمس الرغبة/ وتحترق فوق رمال اللذّة/ أهذا تحذير أم إغراء؟". قلمها حادّ مروّس يقرص ولا يجرح، يؤلم ولا يدمي. نبرتها حادّة تنضح صدقًا أبيض حارقًا وغضبًا يتفجّر سطورًا كاوية.
الأنا لدى ماري القصيفي حاضرة في قوّة، والآخر هو ذلك "الجحيم الضيّق" لكنّها تتركنا نشعر بأنّه جحيم لذيذ. منذ العنوان تبدأ ملامح هذا الآخر في الارتسام بين وجود ورحيل. الوجود خيانة والرحيل خيانة، لكن يبقى الفراغ لديها "وعد الممكن"، لذلك ربّما تكتب لتملأ مكانًا يفرغ بين رحيل ورحيل. الناس في حياتها عابرون، الأصدقاء تحديدًا، مثل البدو لا يتركون وراءهم سوى أطلال ذكريات لو استطاعوا لما توانوا عن حملها معهم في ساديّة غريبة طُبعوا عليها. تقول لهذا الرجل الدائم الترحال:"قدماك تحملان الطريق/ يداك تلدان السفر". لكن أتراها هي العابرة من دون أن تدري؟ الرحّالة التي تبحث دومًا عن مادّة لقلمها ووجودها وعن لذّة مستحيلة ومتعة تبقى بعيدة المنال؟ أتراه القلق لا ينفكّ يدفعها إلى البحث والاستكشاف والترحال وهي القائلة: "أجلس على حافّة المقعد/ مستعدّة دائمًا للرحيل"؟ أم ترانا جميعًا عابرون كلّ إلى وجهة مختلفة، ووحدها الكلمات التي أودعناها الأثير يومًا تبقى وتتحوّل ذرّات غبار تختلط بكلّ الكلمات التي قيلت منذ الأزل؟
نظرة هذه المرأة إلى ما حولها فريدة. تحبّ وتكره، تعشق وتقتل، معها تنتفي الحدود بين القسوة والهشاشة، بين التمرّد والخضوع. فيها صلابة مخيفة ونداوة رقيقة. فيها من المرأة كلّ تناقضاتها. عندها يتقاطع الغياب والحضور، الحبّ والنفور، اللذّة والألم. حتّى الكتابة تحار هل هذه نعمة أم نقمة، وتتساءل هل تكتب هذه المرأة لتتحرّر أم لتسجن نفسها أكثر في قصصها وتفاصيل حياتها؟ في مكان ما نشعر بأنّها تكتب لتتألّم أكثر، وأكاد أقول لتتلذّذ بالألم، كأنّها تغمس قلمها في جروحها قبل أن تدعه يلامس الورق. تقول: "ليس بالقلم وحده يكتب الإنسان"! فعلاً، يكتب بذاته كلّها، بماضيه، وحاضره والمستقبل، بالزمن والمدى، بالذاكرة والخيال...والألم. ذلك الألم القادر وحده على أن يجترح فينا معجزات الكتابة. لكن في النهاية ما الكتابة سوى فعل وجود يعتمل في دواخلنا، وما الكلمات التي نلدها بعد مخاض طويل ومؤلم غير نور متسلّل من فتحة جدار صمتنا، ذكرى من طفولة منسيّة، حبّ قديم لا ينفكّ يستعاد ولا ينضب؟ "تبكيني الكلمات التي كتبتها/ فأنا لم أكن أعرف أني/ حزينة إلى حدّ الكتابة/ ووحيدة إلى درجة أن أعيد/ قراءة ما كتبت".
لا تكتب ماري القصيفي كالمتفرّج الذي يكتفي بتسجيل ما يراه من حوله، إنّما كالمحارب الذي يجلس كلّ مساء ليكتب نهارًا آخر لامس فيه الموت عن قرب. الكتابة لديها فعل وردّ فعل في حركة تتجه من من الخارج إلى الداخل ثمّ تعود إلى الخارج نقيّة نقاء التفجّر الأوّل: "كهذه الحيطان المنخورة/ الجميع مرّوا من هنا/ وتركوا آثار حروبهم". كصوت صارخ في بريّة الوحشة والسكون التي تكاد تختنق بأجساد بلا وجوه، ظلال لا تجيد سوى الرحيل، تكتب حياتها لحظات وجود ثقيل ترغب في صراخه من أعلى قمم الرغبة فتخرج الكلمات من عمق الوجع مدويّة، لتصل إلى القارئ أصداء محمّلة نزفًا لن يشعر به إلاّ من أصابته لسعة العشق يومًا وتركت على جسده خطوطًا لا يزال كلّما وقع نظره عليها يرتجف وينتفض رغبة مؤلمة، كاوية، قويّة قوةَ الشعور الأوّل: "ليلة عيد ميلادها أطفأت شمعة واحدة/ كانت أضاءتها أمام صورة العذراء عندما صلّت كي يتذكّر". بكاء ينضح من هذه الكلمات! بعد ذلك كلّه اشعر بها تضع قلمها جانبًا، تقفل على نفسها وتعود إلى صمتها تلتحف به، تضمّه بين ذراعيها وتنام، علّه يدفئ فراشًا برد من كثرة العابرين!
في الصفحة 103 تكتب ماري: "الذين يعجبون بكتاباتنا والذين يكرهونها يتناسون أنّ ثمّة إنسانًا يكتب وهو يفكّر في أنّ حياته بآلامها العنيفة وأفراحها القليلة ليست بالنسبة إليهم سوى كلمات". قد لا تكون حقًا سوى كلمات، لكنّها كلمات حارقة لشدّة صدقها. الصدق فقط يدخل القلوب بلا استئذان. في مكان آخر تقول: "أيّها الأدباء!/ أشكركم لأنّكم تكتبون ما أعجز عن كتابته". ونحن نشكرك ماري القصيفي لأنّك تكتبين ما لا نجرؤ على قوله!
*****************
"رسائل العبور" لماري القصيفي
الانتقال من الوهم إلى الوهم
بقلم جهاد الترك – جريدة المستقبل
أجمل من العبور أن يعبر الإنسان ولا يصل، أو أن يخيّل إليه أنّه في طور العبور، بينما يتعثّر وهو في طريقه إلى البدايات الأولى. "رسائل العبور" للكاتبة ماري القصيفي، نصوص متعدّدة مختلفة النكهة والمزاج، تنطوي على شيء من هذا القبيل. توحي إلينا، بلغة شفّافة أحيانًا وحازمة أحيانًا أخرى، بأنّ العبور هو المبتغى لأنّه الخلاص. ثمّ نفاجأ بأنّ العبور هو المأزق الذي لا بدّ منه لتتحوّل الحياة ملعبًا شيّقًا ومتحرّكًا لزحمة الأحاسيس.
الأرجح أنّ العنوان الذي اختارته الكاتبة لمجموعتها، ذو إيحاء خاصّ قائم بذاته، وأحيانًا منفصل عن طبيعة النصوص ومضامينها. يكاد هذا العنوان أن يختلق أجواءه الذاتيّة لأنّه مشرع على كلّ السبل التي ينبغي السير فيها وصولاً إلى العبور. ومع ذلك، تحقّق الكاتبة نجاحًا ملفتًا وهي توفّر للنصوص هامشًا واسعًا من هذه الإيحائيّة. المضمون يتلقّف العنوان بأجوائه الإيحائيّة المشحونة قلقًا وخيبة وتوقًا إلى انعتاق مستحيل. والرسائل تبقى كذلك، ومضات سريعة لا تتخطّى مفعول الإشارة المكثّفة بأنّ العبور أصبح قريبًا. ولكنّها رسائل فقط، قد تصل أو تتأخّر وقد تضلّ الطريق. الأهمّ من هذه الرسائل محتواها حول احتماليّة الانتقال من حال إلى أخرى، هي العبور بالنسبة إلى الكاتبة، أو التحرّر بالنسبة إلى القارئ، أو التوهّم بالنجاة.
ولأنّ العبور هو الوعاء الذي يحتوي على هذه الرسائل، فإنّه سرعان ما يتحوّل شعلة تضيء الخفايا البعيدة في الذات. يصبح العبور، في هذا السياق، محفّزًا لإيقاظ كلّ المشاعر الهامدة، كلّ المشاعر، كلّ الترقّب. العبور، في هذه الحال، هو الحياة نفسها، وهي تتوثّب إلى الانطلاق من محطّة إلى أخرى. هو انقلاب تقوم به الحياة ضدّ نفسها لتُدخل إليها ما يحملها على الاعتقاد بأنّ الاستمرار يفترض أشياء أخرى غير الرتابة والاستسلام للأمر الواقع. الأغلب أنّ ما ترمي إليه الكاتبة، هو ذلك العبور من الذات إلى الذات، بعيون تستفيق على الدهشة، على ما يعيد إلى الألوان القاتمة رونقها الأوّل.
هل تحقّق ماري القصيفي عبورها المنشود؟ الأرجح لا. لأن ليس ثمّة ما تعبره إلاّ إلى الفراغ حيث السكينة الميتة. العبور وهم جميل يستفزّ الخلايا المتهاوية بعالم آخر يبعث على الإشراق. الكاتبة تعبر، بهذا المعنى، ولا تعبر. تترقّب هذه النقلة النوعيّة ولا تنتظر حدوثها. غير أنّها تعبر من النفق الصغير إلى نفق أكبر، على إيقاع عبور آخر إلى نفق ثالث تزدحم فيه ظلال أجمل.
من النصوص نقتطف:
"كلّ هذا الموت وأنت لا تريد أن تكون هنا.
مات الألوف وأنت لست هنا.
عاد العشرات إلى قراهم في صناديق من حديد وأمام أعين من زجاج وأنت لم تكن هنا.
ماتت المرأة الشاعرة تاركة خلفها شاعرًا وقصيدتين صغيرتين ومشاريع كلمات وأنت لم تكن هنا.
انشقّت الأرض وابتلعت الناس والحكايات المعلّقة وقصص التاريخ، وأنت ترفض أن تكون هنا.
غير أنّي في مواجهة رحيلك المرسومة خطواته في أحلامك منذ زمن، اكتشفت أنّ الموت يجعل الميت ضحيّة لأنّه يرحل مرغمًا ولذلك نبكيه متحسّرين عليه. أمّا العابر بلا سبب أو هدف فكيف نعذره بعدما جعل الآخرين ضحايا يبكون على أنفسهم غضبًا".