في الولائم التي أشارك فيها، أحاول أن أحصي الكلمات التي يوجّهها الرجل للمرأة خلال الوقت المخصّص لتناول الطعام. ولأنّ الكلمات طبقي المفضّل في أيّ مناسبة، أغادر مكان الوليمة محمّلة بقواميس لا تختلف مفرداتها بين منزل وآخر، وكلّها يدور حول أفعال مصرّفة في صيغة الأمر للمؤنّث المفرد، أكان هذا المؤنّث هو الجدّة أو الأمّ أو الزوجة أو الابنة أو الشقيقة أو العمّة العانس المسكينة أو الخادمة الغريبة، المهمّ ألاّ يتحرّك الرجل عن كرسيه الذي يستقرّ عليه ما أن يسمع العبارة السحريّة: المائدة جاهزة.
يخيّل إليّ أنّ المرأة تستلذّ هذا الدور. وفي أكثر البيوت تكاد المرأة لا تستقرّ على مقعدها، إذ تنتقل عدوى الطلبات من الرجل الكبير الذي يرئس المائدة والبيت إلى "الرجال" الصغار وأحيانًا إلى الفتيات الصغيرات اللواتي لا يزال الرجل الكبير يدللهنّ قبل أن يبدأ لاحقًا بإعطائهنّ الأوامر. وغريب أن يحدث ذلك في منازل سيّداتها متعلّمات وذوات وظائف محترمة تتطلّب الكثير من الوقت والتعب والتفكير. ومع ذلك عندما يقطعن عتبة الباب ويصبحن داخل الدار يعدن ربّات منازل مطيعات لا حول لهنّ ولا قوّة على الاعتراض أو الرفض.
في حديثي مع سيّدات فاجأني موقفهنّ المتناقض مع ما أعرفه عن شخصيّاتهنّ خارج المنزل، كان الجواب واحدًا: "تخفيفًا للمشاكل". وفي تحليل هذا الجواب لاحظت أنّ النساء يفضّلن تلبية الأوامر ولو عن غير اقتناع، ورغم التعب والإرهاق، على الدخول في نقاش عقيم لن يوصل إلى أيّ نتيجة. وقالت إحداهنّ: إذا كان الحلّ هو أن يأكل ويصمت وينام، فلماذا لا أقدّم له الطعام إذًا؟
وجود الخادمات خفّف من الأعباء الملقاة على ربّات البيوت وبناتهنّ، غير أنّ استبدال امرأة بامرأة ليس هو الحلّ لمشكلة أساسيّة هي في اعتبار الرجل أنّ العودة إلى البيت تعني العودة إلى مملكة هو ملكها المطاع مهما كانت شخصيّته خارج البيت تنمّ عن تحرّر وانفتاح أو على العكس عن جبن وتخاذل. لذلك يبدو تشبيه البيت بالمملكة مجحفًا في حقّ المرأة لأنّ المملكة يحكمها شخص واحد ولا يتّسع العرش لاثنين. ويجب على الطرف الآخر أن يعيش في ظلّ من يحكم. وهذا لن يكون واقعًا طبيعيًّا في أيّة عائلة.
يهمّني أن أؤكّد دائمًا على أهميّة الأعمال المنزليّة في اعتبارها ناحية جماليّة إبداعيّة لا تتنافى مع أيّ عمل آخر ولا تقلّ أهميّة عن أيّ عمل آخر. والخدمة أمر رائع نقوم به جميعنا، كلّ في مجال معرفته واختصاصه ومواهبه. ولكن أن تكون الأسرة مجتمعة لتناول طعام أعدّته سيّدة المنزل ومن دون انتظار وجودها إلى المائدة دليل على أنّ المرأة تستطيب دور الضحيّة التي تلحس دموعها عن شفتيها لأنّها تعبت من تلبية الطلبات، ودليل على أنّ صورة المرأة لا تزال، على رغم ما ندّعيه من تطوّر، كما اعتدنا عليها في كتب القراءة: أبي يقرأ الجريدة، وأمّي تحضّر الطعام...ليأكله أبي.
***
صحيفة البلاد البحرينيّة - الاثنين 5 كانون الثاني 2009
هناك تعليقان (2):
ضرب في العظم ــ عافاك
جميل أنّنا ما زلنا على تواصل
إرسال تعليق