الجريمة البشعة التي ارتكبها النمسويّ جوزف فريتزل (73 عامًا) في حقّ ابنته وعقوبة السجن المؤبد التي حكمت بها المحكمة تجعلاننا نتوقّف متأمّلين في معاني بعض الكلمات كالقانون والعدالة والرحمة والأبوّة والعمر والطفولة.
فالرجل الذي سجن ابنته في قبو تحت المنزل العائليّ طيلة 24 عامًا، واغتصبها وأنجب منها عددًا من الأولاد تسبّب في موت أحدهم، سيمضي في السجن ما تبقى من حياته البائسة التي مهما امتدّ عدد سنواتها فلن تصل على الأرجح إلى عدد السنوات التي أمضتها ابنته في سجنها، ولن يتعرّض خلالها لمثل ما تعرّضت له. للحظات نشعر أنّ القسوة التي فينا والتي روّضناها بالدين والشعر والفنّ والإنسانيّة تريد أن تتفلّت من عقالها لترفض هذه العدالة التي عاملت الأب برحمة لم تكن موجودة في قلبه تجاه ابنته. غير أنّنا سرعان ما نحاول طرد فكرة الانتقام والتخلّص من مجرّد التفكير في بشاعة هذه الحادثة وفي بشاعات كثيرة رافقت تاريخ البشريّة لم نعرف بأكثرها، غير أنّها اليوم باتت تصل إلى غرفنا وتؤرق نومنا.
ولقد حاولت المجتمعات أن تعالج هذا الجنوح البشريّ نحو الشرّ، فكانت القوانين والفلسفة والعلوم وسائل للردع وللمعالجة، ثمّ جاءت الديانات لتحاول أن تنقذ القوانين من نسبيّتها، وتنقذ الإنسان من غرائزه البهيميّة وميوله الهدّامة، فصارت الجرائم ترتكب باسم الدين عند من أخضع الديانات لقوانينه ومزاجه بدل أن يدخل في روحيّتها وجوهرها. وستبقى قوانين الأرض حائرة بين العفو والعقاب، عاجزة عن فهم عدالة السماء التي لا تريد ذبيحة بل رحمة تنقذ البشريّة من شرور تتوالد من رحم نفسها.
*****
لقد كان لموضوع العدالة مكان رحب في الفكر الرحبانيّ، لا بل كان إلى حدّ ما محورًا تدور حوله أعمالهما المسرحيّة ولو في شكل غير مباشر أحيانًا. فأين تكون العدالة حين ينام الملك في مسرحيّة " صحّ النوم" ويهمل معاملات الناس؟ وما رأيها في أن يُقتل باسمها "ديك الميّ" في مسرحيّة "ناطورة المفاتيح"؟ وهل ترضى العدالة بأن يعاقب الحاكم صاحبَ الدكّان وحفيدته لأنّهما آوياه وهما لا يعلمان أنّه الإمبراطور المخلوع الهارب من وجه الثوّار؟ وهل من العدل أن تقتل "بترا" الصغيرة نتيجة "حروب الكبار"؟ لذلك تهمس فيروز في ختام مسرحيّة "لولو" التي تعالج موضوع القضاء والعدالة: العدالة كرتون، الحريّة كذبة، صار الحبس كبير، وكلّ حكم بالأرض باطل. وللسبب نفسه يقول المتصرّف في مسرحيّة "الشخص": يا شاويش، المتصرّف ما بيحبّ العدل، الرحمة أحلى. فيسأله الشاويش متعجّبًا: الرحمة أحلى؟ ويجيب المتصرّف: طبعًا، لأنّ العدل كان بيسألك: ليش جيابك منفوخين؟
*****
من أسخف ما قرأته عن قضيّة الأب النمسويّ تعليقات القرّاء العرب في بعض المواقع الإلكترونيّة وردود فعلهم على الفعل المشين وكلّها يتهم الغرب بالفساد الأخلاقيّ ويطالبون بإنزال حكم الإعدام بالمجرم. غريب أمر هؤلاء الذين يستخدمون اختراعًا غربيًّا لا غنى لهم عنه ليشتموا الحضارة التي أنجبت هذا الاختراع. والأغرب من ذلك أنّ هؤلاء مقتنعون بأنّ عالمنا العربيّ طاهر وعفيف وبريء من كلّ دنس وعيب، ولا تقع فيه الجرائم، وليس فيه شذوذ أو سفاح قربى أو عهر أو دعارة أو اغتصاب. فكلّنا في هذا المشرق العربيّ أولياء صالحون وقدّيسون أطهار ويحقّ لنا بالتالي أن نرجم الغرب الأجنبيّ بالحجارة. ولكن طبعًا ليس قبل أن نستورد سيّاراته وطائراته وأسلحته وأدويته ومأكولاته وأغنياته وأفلامه وكتبه ونساءه وكلّ ما يصدر عنه فكرًا وقولاً. وبعد ذلك، بعد أن ننتهي من إفراغ الغرب من مصدر قوّته واعتزازه واختراعاته، سندعو إلى قمّة عربيّة تعلن بدء الحملة المقدّسة لرجم شيطان الغرب الرجيم كي لا ينجب بعد اليوم أمثال جوزف هرتزل.
وحتّى ذلك الموعد، علينا أن نبدأ بجمع الحجارة من مقالع جبالنا التي ذلّلنا قممها حين سوّيناها بالأرض.
هناك تعليق واحد:
Very good blog post. I absolutely love this website.
Keep writing!
Have a look at my web site :: men s health advice
إرسال تعليق