ليس لأولادنا مكان في زحمة الحياة، إلاّ في أسواق الأعياد وبين رفوف المتاجر الكبرى. هناك فقط يجدون تجّارًا يلبّون رغباتهم ويحاولون أن يؤمنّوا لهم حاجاتهم التي ليست حاجات بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بل كماليّات تضمّ في لائحتها الطويلة الملابس الحديثة والأحذية الرياضيّة والألعاب الإلكترونيّة والحلويات الأجنبيّة.
بعيدًا عن ذلك، ليس لأولادنا أيّ نشاطات ترفيهيّة عامّة، وليس لهم بالتأكيد من يروي لهم حكايات أو من يكتب لهم كلمات أغنيات أو من يؤلّف لهم برامج تلفزيونيّة أو ينتج لهم أفلامًا سينمائيّة أو مسرحيّات تخاطب ذكاءهم ولا تعاملهم كأنّهم سذج لا يعرفون اللون الأحمر إلا من خلال ذات القبّعة الحمراء.
فعلى صعيد الحكايات الشعبيّة بات شبه محسوم أنّها إرث على طريق الزوال والاختفاء. وقد صار غريبًا ومثيرًا للسخرية أن يروي أحد كبار العائلة حكاية لأطفالها. فهذا فنّ منقرض، والجدّات اللواتي كنّ يحكين الحكايات ويحكن الكنزات صرن يتابعن مع الأحفاد المسلسلات العاطفيّة، فتساوت الأعمار وأصبح الصغار يعرفون كلّ ما يعرفه الكبار لا بل أكثر.
أمّا قصص الأولاد المكتوبة فعالم شاسع تتداخل فيه لسوء الحظ مجموعة أمور نكتفي في هذه العجالة بالإشارة إلى عنوانها: تجارة الكتب سوق للربح للمدارس ودور النشر والمطابع والمؤلّفين.
أمّا عن الأغنيات والتهويدات فما زلنا نلجأ إلى أغنيات فيروز وشوشو وماجدة الرومي وسامي كلارك حين نريد أن نرسل هديّة إلى ولد لبنانيّ في بلاد الاغتراب، وهي على جمالها الكلاسيكيّ تحتاج إلى ما يرفد معانيها بأغنيات جديدة تواكب أجيالاً من الأطفال تقبع أمام شاشات التلفزيون والإنترنت. كأنّ "ريما" التي غنّت لها فيروز كي تنام في فيلم "بنت الحارس" تلك التهويدة التراثيّة ما عادت تحبّ النوم إلاّ على صوت زعيق الرسوم المتحرّكة في سرعة وصخب.
الخلل النفسيّ واضح عند الأولاد والمراهقين: ميل مخيف إلى العنف، انزواء وابتعاد عن حياة الجماعة والاكتفاء بحلقة الأصدقاء الضيّقة، إدمان الهرب عبر: التلفزيون والإنترنت والمخدّرات والأدوية، كسل واستسلام كليّ إلى حال التلقّي السلبيّ من دون أي رغبة في القيام بأي مجهود. وهم بذلك يشيخون في مقتبل العمر، فتبدو المطالبة لهم بأغنيات وحكايات نوعًا من الغباء. ولكن أليست كلّ عمليّات الإنقاذ محاولات غالبيتها لا أمل لها ولا احتمال نجاح؟ ألا يجب أن تكون مسيرة الإنسان سعيًا دائمًا نحو مستقبل أفضل؟ أليس المفروض أن نزرع الحقول والعقول كي تأكل الأجيال الآتية ثمرًا وتحصد نجاحًا؟ثقافة الأولاد اليوم إنتاج لغات غريبة يلتقطون فتاتها من خليط ما يسمعون من أهاليهم وموظّفي الخدمة في بيوتهم وشخصيّات التلفزيون وألعاب الإنترنت والفيديو، وهي لا تؤسّس لحضارة ولا تعد بإنتاج.
ومع غياب إبداع خاص بهم يخاطبهم مباشرة ويغذّي مخيلتهم ويلوّن رتابة أيّامهم ويربطهم بتراث قابل للحياة والاستمرار لن نستغرب إن اكتشفنا في يوم قريب أنّ أطفال لبنان ليسوا أولاداً، إنّما هم مسوخ مخيفة تتزيّا بمظهر البراءة لتخفي ما تضمر من غضب وحقد على كلّ ما ومن حولها.
لقد شاخت شانتال غويا المغنية الفرنسيّة التي نذرت عمرها وفنّها للأولاد وما زال الساعون للترفيه عن الطفل يلجأون إلى خدماتها ويستحضرونها على مسارحنا في محاولة يائسة لإبقاء ما يسمّى بنشاطات للأولاد. ولكن ماذا بعد؟ وما هي البدائل الفنيّة يوم تعجز غويا عن القفز على المسرح مع شخصيّاتها المرحة، ولماذا لم نستطع أن نؤسّس لحالة فنيّة هادفة، عوض هذا الهذر والنطّ والأزياء التي تهين النظر؟
فيا جماعة الشعر والموسيقى والمسرح، بحسنة هالطفالا (الله يوجّهلك الخير يا كميل سلامة) اكتبوا للأولاد أغنيات توقظهم - بعدما شبعوا نومًا - على قيم الحقّ والخير والجمال قبل أن تصير أغنية "شخبط شخابيط" نشيد الطفل اللبنانيّ وأغنية "بوس الواوا" تهويدة ما قبل نومه؟
*صحيفة النهار - الثلاثاء 6 تشرين الأوّل 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق