لا أعرف لماذا كلّما أردت أن أخاطب غادة السمّان أتردّد، وحين أحزم أمري وأفعل أبدأ النصّ بعنوان يحمل اسمها ثمّ تليه عبارة في صيغة التعجّب، أو في صيغة الاستفهام. وكلتاهما تليق بغادة. ففي المرّة الأولى خاطبتها قائلة: غادة السمّان! أيّتها المشاغبة! وها أنا اليوم أقول لها: غادة السمّان! كيف تقاومين؟ وفي كلّ مرّة كنت أتوقّف طويلاً قبل أن أجرؤ على الانتقال من العنوان إلى الموضوع.
*******
في مقالتي الأولى عنها لم أكتب عن أدبها أو حياتها أو ما تمثّله في الحياة الثقافيّة، بل عن مقالتها التي تشير فيها إلى أنّها قرأت مقالة لي في صحيفة "النهار"، وأنّها توافقني الرأي على ما كتبته عن الزوجات العالمات أو على الأصحّ الزوجات المدّعيات العلم. ولم تكن تلك الموافقة من تلك السيّدة الذكيّة الجميلة العاشقة إلاّ البرهان على أنّ ذكاءها لم يمنعها من الاعتراف بأنّ للآخرين إبداعاتهم وآراءهم وأدبهم، وعلى أنّ جمالها لم يعم بصيرتها ولم يسمّرها أمام المرآة تسألها عمّن هي أجمل نساء العالم، وعلى أنّ عشقها لرجل حياتها لم يزدها إلاّ عشقًا لكلّ ما ومن حولها.
******
وإذا كنت وجدت في غادة السمّان يومذاك الصوت الصارخ في بريّة الأنانيّة وأحاديّة الوجود التي تهيمن على الساحة الثقافيّة، والمرأة التي لا تشبه في شيء النساء الجاهلات اللواتي كتبت عنهنّ في تلك المقالة، فها أنا اليوم أجد فيها صوتًا صارخًا آخر يعلن عشقه ومقاومته وإباءه من دون أيّ حرج أو تردّد، فتكتب عن نفسها كزوجة وعاشقة وأمّ لتتمّ بهذه العناصر فسيفساء صورتها ولتصير نموذج المرأة التي عاشت حياة طبيعيّة تكاملت فيها شخصيّتها عقلاً وروحًا وجسدًا.
*******
ولذلك أجد نفسي مدفوعة لسؤالها عن مصدر تلك القوّة الداخليّة التي تجعلها قادرة على مقاومة الغياب والرحيل والبعد والوحدة والخوف والفراغ أي كلّ ما يتركه موت الحبيب في حياة الحبيبة. وإنّي إذ أعرف أنّ ذكرياتها معه وأنّ وحيدها "حازم" الذي يملأ حياتها، سلاحان قويّان تواجه بهما كلّ ذلك، فتستمرّ بفعل الحبّ وبفعل الكتابة، لا أستطيع أن أمنع نفسي عن محاولة تخيّل وجهها وهي تنظر إلى الجانب الآخر من السرير، وإلى الوسادة، وإلى خزانة الملابس، وإلى طاولة المكتب، وإلى وجهها في المرآة فتكتشف أنّ ذلك "الجنتلمان" بشير الداعوق لم يعد هنا.
********
ولكن بالرغم من كلّ ذلك، ومع كلّ الألم والشوق المكتوم، لا تزال غادة السمّان تعلّم نساء الشرق كيف يكون الحب، وكيف تكون المرأة شخصيّة متكاملة، لا ينتقص الزواج من شخصيّتها، ولا يقيّد العشق حريّتها، ولا يهين كرامتها أن تكون زوجة، ولا يعيق طموحها العمليّ أن تكون أمًّا. ولعلّها، اليوم، في حزنها الأسود، لا تزال مستمرّة في تعليمنا كيف نقاوم الموت بالحبّ والإبداع، وكيف نواجه الغياب باستحضار الفكر والأدب والشعر، وكيف نصير أشخاصًا حكماء حين نمسك بيد من نحبّ وهو يتفلّت رغمًا عنه من بين أناملنا ليستمرّ ساكنًا في طيّات نفوسنا.
*******
غادة السمّان! أيّتها العاشقة حتّى ما بعد الموت، سنظلّ نتعلّم منك، وفي ميزان أصالتك سنكتشف كم يستحيل تقليدك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق