أعلن وزير الثقافة البريطانيّ أندي بيرنهام الشاعرة كارول آن دوفي (53 سنة) أميرة على عرش الشعر البريطانيّ للعام 2009. وهي المرّة الأولى التي يتمّ فيها تتويج امرأة على هذا العرش الذي بقي طوال تلك المدّة حكرًا على الرجال، وذلك منذ بدئ العمل بهذا التقليد، أي منذ 341 عامًا.
وللأميرات في بريطانيا حكايات ينتهي العدد القليل منها بخاتمة سعيدة أمّا أكثرها فينتهي بالوحدة أو الموت قتلاً. والأميرة ديانا التي قضت في حادث سير مثالٌ واضح على مصير المتربّعات على عرش الإمارة، والمنتهيات باكرًا في أضرحة تصير مع الأيّام معالم أثريّة. فهل تكون أميرة الشعر الثائرة على تقاليد منصبها تعويضًا عن ثورة الأميرة الجميلة التي راحت ضحيّة خروجها عن الطريق القويم؟ فقد أكّدت كارول آن بوفي أنّها لن تقبل أن تكتب قصائد لأفراد العائلة المالكة كما يفرض المنصب، وقالت إنّ الشاعر الذي يحترم نفسه عليه أن لا يفعل ذلك أبدًا. علمًا أنّ من واجبات الشاعر المتوّج على إمارة الشعر في بريطانيا أن يكتب القصائد للمناسبات الملكيّة، وهذا ما فعله الشاعر أندرو موفون، سلف دوفي، حين نظم قصيدة في مناسبة زواج الأمير إدوارد وعروسه صوفي.
يعيد هذا الخبر إلى الأذهان إشكاليّة العلاقة بين السلطة والمثقّف، وخطورة هذه العلاقة على كلا الفريقين، وفي التاريخ العربيّ نماذج واضحة وفاضحة عن المصير الذي آل إليه بعض من تقرّب من السلطة وانتهى ضحيتها. فالسلطة تخاف على نفسها من فكر المثقّف وإنتاجه، وهو يخاف على حريّته أوّلاً من قيودها وبروتوكولها ثمّ على حياته منها إن لم يحسن قراءة مزاجها وميولها. وابن المقفّع ماثل في أذهاننا كلّنا مع ما بذله من جهد لتمويه انتقاداته عبر جعلها حكايات على ألسنة الحيوانات اكتفى هو بنقلها من اللغة الفارسيّة إلى العربيّة. مع العلم أنّ ثمّة دراسات تؤكّد أنّ ابن المقفّع هو من وضع كتاب "كليلة ودمنة"، وخوفًا على حياته ادّعى أنّه مترجمه. غير أنّ الترجمة لم تنقذ حياته على اعتبار أنّ ناقل الكفر كافر في رأي السلطة التي لا تحبّ أن تسمع رأيًا غير رأيها.
ولعبة الترهيب والترغيب التي تمارسها السلطة تؤمّن لها على الدوام أبواقًا لا تكفّ عن مديحها والتغنّي بها، وبعضها سريع في تغيير معزوفته ما أن يشعر برياح التغيير آتية، فينقل بندقيّته من كتف إلى كتف، وقلمه من محبرة إلى أخرى، ويبدأ في وضع الكلمات والموسيقى لنشيد العهد الجديد. ولكن لا يظنّن أحد أنّ المثقّف الملتزم بقناعاته والمتمسّك بمبادئه أفضل من ذاك المتقلّب، فهو أيضًا يمارس سلطة لا تهادن ولا تتساهل ولا تقبل الاستماع إلى رأي الآخر. والصحف اللبنانيّة تزخر يوميًّا بمقالات من هذا النوع يكتبها مثقّفون يخوّنون غيرهم ويلصقون به أبشع التهم وبأقذع الكلمات.
وفي هذه الحال يتساوى فريقا السلطة والمثقّف في حمل مسؤوليّة ما يؤول إليه واقع المجتمع، فهما يتصارعان على حلبة واحدة ويسعيان إلى هدف واحد: الهيمنة. الأولى بفعل القوّة والثاني بفعل الإقناع. ما يذكّرنا بمشهد مهمّ ومعبّر للأخوين رحباني في مسرحيّة "المحطّة"، عندما يتحاور اللصّ والمتسوّل (الحرامي والشحّاد)، فيتباهى الأوّل بأنّه بطل يأخذ بالقوّة ما يملكه الآخرون، ويفتخر الثاني بأنّه سياسيّ بارع يقنع الناس بإعطائه ما في جيوبهم. وإذا سمحنا لأنفسنا بتطبيق هذه الصورة على ما نحن في صدد الكلام عنه، يمكننا أن نستفيد ممّا عبّر عنه في وضوح تام المفكّر علي حرب في كتابه المثير للجدل "أوهام النخبة أو نقد النصّ": كلاهما (أي السلطة والمثقّف) يمارس التسلّط والعنف: التسلّط على الأجساد مقابل التسلّط على العقول، والعنف الماديّ مقابل العنف الرمزيّ الذي يمارسه المثقّفون العقائديّون والملتزمون".
هل هذا ما خطر على بال الشاعرة البريطانيّة المتوّجة على إمارة الشعر، ولذلك اعترفت بأنّها فكّرت مليًّا قبل أن ترضى بحمل هذا اللقب، ولكنّها وافقت لأنّه يعطى لامرأة للمرّة الأولى؟ وهل نكون خبثاء إن قلنا إنّ الشاعر مهما حاول الإنكار يدور حول محور واحد هو "أناه"، ومن طبيعة هذه "الأنا" أن يسيل لعابها أمام ما تقدّمه لها السلطة، وأن تحلم بتاج الإمارة، في الشعر أو في سواه. وإن لم تصدّقوا تذكّروا أبا الطيّب المتنبّي.
وللأميرات في بريطانيا حكايات ينتهي العدد القليل منها بخاتمة سعيدة أمّا أكثرها فينتهي بالوحدة أو الموت قتلاً. والأميرة ديانا التي قضت في حادث سير مثالٌ واضح على مصير المتربّعات على عرش الإمارة، والمنتهيات باكرًا في أضرحة تصير مع الأيّام معالم أثريّة. فهل تكون أميرة الشعر الثائرة على تقاليد منصبها تعويضًا عن ثورة الأميرة الجميلة التي راحت ضحيّة خروجها عن الطريق القويم؟ فقد أكّدت كارول آن بوفي أنّها لن تقبل أن تكتب قصائد لأفراد العائلة المالكة كما يفرض المنصب، وقالت إنّ الشاعر الذي يحترم نفسه عليه أن لا يفعل ذلك أبدًا. علمًا أنّ من واجبات الشاعر المتوّج على إمارة الشعر في بريطانيا أن يكتب القصائد للمناسبات الملكيّة، وهذا ما فعله الشاعر أندرو موفون، سلف دوفي، حين نظم قصيدة في مناسبة زواج الأمير إدوارد وعروسه صوفي.
يعيد هذا الخبر إلى الأذهان إشكاليّة العلاقة بين السلطة والمثقّف، وخطورة هذه العلاقة على كلا الفريقين، وفي التاريخ العربيّ نماذج واضحة وفاضحة عن المصير الذي آل إليه بعض من تقرّب من السلطة وانتهى ضحيتها. فالسلطة تخاف على نفسها من فكر المثقّف وإنتاجه، وهو يخاف على حريّته أوّلاً من قيودها وبروتوكولها ثمّ على حياته منها إن لم يحسن قراءة مزاجها وميولها. وابن المقفّع ماثل في أذهاننا كلّنا مع ما بذله من جهد لتمويه انتقاداته عبر جعلها حكايات على ألسنة الحيوانات اكتفى هو بنقلها من اللغة الفارسيّة إلى العربيّة. مع العلم أنّ ثمّة دراسات تؤكّد أنّ ابن المقفّع هو من وضع كتاب "كليلة ودمنة"، وخوفًا على حياته ادّعى أنّه مترجمه. غير أنّ الترجمة لم تنقذ حياته على اعتبار أنّ ناقل الكفر كافر في رأي السلطة التي لا تحبّ أن تسمع رأيًا غير رأيها.
ولعبة الترهيب والترغيب التي تمارسها السلطة تؤمّن لها على الدوام أبواقًا لا تكفّ عن مديحها والتغنّي بها، وبعضها سريع في تغيير معزوفته ما أن يشعر برياح التغيير آتية، فينقل بندقيّته من كتف إلى كتف، وقلمه من محبرة إلى أخرى، ويبدأ في وضع الكلمات والموسيقى لنشيد العهد الجديد. ولكن لا يظنّن أحد أنّ المثقّف الملتزم بقناعاته والمتمسّك بمبادئه أفضل من ذاك المتقلّب، فهو أيضًا يمارس سلطة لا تهادن ولا تتساهل ولا تقبل الاستماع إلى رأي الآخر. والصحف اللبنانيّة تزخر يوميًّا بمقالات من هذا النوع يكتبها مثقّفون يخوّنون غيرهم ويلصقون به أبشع التهم وبأقذع الكلمات.
وفي هذه الحال يتساوى فريقا السلطة والمثقّف في حمل مسؤوليّة ما يؤول إليه واقع المجتمع، فهما يتصارعان على حلبة واحدة ويسعيان إلى هدف واحد: الهيمنة. الأولى بفعل القوّة والثاني بفعل الإقناع. ما يذكّرنا بمشهد مهمّ ومعبّر للأخوين رحباني في مسرحيّة "المحطّة"، عندما يتحاور اللصّ والمتسوّل (الحرامي والشحّاد)، فيتباهى الأوّل بأنّه بطل يأخذ بالقوّة ما يملكه الآخرون، ويفتخر الثاني بأنّه سياسيّ بارع يقنع الناس بإعطائه ما في جيوبهم. وإذا سمحنا لأنفسنا بتطبيق هذه الصورة على ما نحن في صدد الكلام عنه، يمكننا أن نستفيد ممّا عبّر عنه في وضوح تام المفكّر علي حرب في كتابه المثير للجدل "أوهام النخبة أو نقد النصّ": كلاهما (أي السلطة والمثقّف) يمارس التسلّط والعنف: التسلّط على الأجساد مقابل التسلّط على العقول، والعنف الماديّ مقابل العنف الرمزيّ الذي يمارسه المثقّفون العقائديّون والملتزمون".
هل هذا ما خطر على بال الشاعرة البريطانيّة المتوّجة على إمارة الشعر، ولذلك اعترفت بأنّها فكّرت مليًّا قبل أن ترضى بحمل هذا اللقب، ولكنّها وافقت لأنّه يعطى لامرأة للمرّة الأولى؟ وهل نكون خبثاء إن قلنا إنّ الشاعر مهما حاول الإنكار يدور حول محور واحد هو "أناه"، ومن طبيعة هذه "الأنا" أن يسيل لعابها أمام ما تقدّمه لها السلطة، وأن تحلم بتاج الإمارة، في الشعر أو في سواه. وإن لم تصدّقوا تذكّروا أبا الطيّب المتنبّي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق