حين وصلت "ماريّا" ذات السنوات التسع إلى مطار بيروت وشاهدت أقرباءها الذين ينتظرونها أجهشت بالبكاء وارتمت في أحضان إحدى عمّاتها ولم تتركها إلاّ بعد أن أفرغت ما في عينيها من دموع.
الطفلة البريطانيّة/ اللبنانيّة التي تبحث جاهدة عن المفردات العربيّة الصحيحة لتعبّر بواسطتها عن مشاعرها وجدت سهولة في الحديث عن سبب تعلّقها بلبنان الذي لم تزره إلاّ مرّتين. وكان غريبًا أن يكون بعض ما نشكو منه هو ما أعجبها وجعلها تصرخ بنا مؤنّبة: أنتم لا تعرفون ما معنى أن تعيشوا في لبنان! رائحة البنزين، الازدحام، الشمس، الهواء، اللعب أمام باب البيت، عدم إقفال زجاج السيّارة المركونة أمام البيت مباشرة، هي جزء قليل من الأمور التي قالت ماريّا إنّها رائعة وغريبة ولا يوجد مثلها في بريطانيا. فهناك ممنوع على الطفلة أن تلعب على درّاجتها في حديقة المنزل خشية التعرّض للخطف أو الاعتداء، وهناك لا يمكن أن تترك نوافذ السيّارة مفتوحة ولو لثوانٍ لأنّ لصًّا ما سيسرق منها أيّ غرض، وهناك لا شمس ولا هواء عليلاً، ولا روائح غريبة، ولا بيوت مختلفة في الشكل والارتفاع واللون. وهذا ما لم يعد يرضي "ماريّا" التي أعلنت لحظة وصولها إلى بيت جدّيها أنّها لن تعود إلى لندن.
مع هبوط المساء وبرودة نسماته الربيعيّة، نادت الوالدة ابنتها "ماريّا" ودعتها إلى الدخول إلى المنزل لأنّ الشمس غابت والهواء أصبح باردًا، فكان جواب الطفلة السريع: اتركيني! أريد أن أتنفّس (اتركيني بدّي إتنفّس). وأمام إصرار الفتاة على استغلال المزيد من الوقت في اللعب خارج المنزل، أوضحت الأمّ للضيوف أنّها كانت تتوقّع ذلك بسبب الكبت الذي تعانيه ابنتها من جرّاء الحصار الذي تفرضه الحياة في الغربة.
بدا لي وأنا أراقب المشهد أنّ الأمان الشامل الذي تفرضه الدولة وتحميه القوانين في البلاد التي يقصدها المغتربون لم يؤمّن لهم الاستقرار النفسيّ والاطمئنان خلال لحظات أيّامهم وتفاصيلها الدقيقة. وإذا كان من السهل هناك أن ترفع دعوى تطالب بتعويض عن ضرر مهما بدا سخيفًا ولا يستحقّ فلا يعني ذلك أنّ الضرر لن يقع وأنّ الحياة الزهريّة اللون كما تغنّي "إديث بياف" صارت متاحة للجميع. وفي مدينة الضباب الرماديّة لم تجد "ماريّا" حياتها الزهريّة، وصار من الواجب، لكي تستعيد حيويّتها، أن تأتي إلى لبنان في موسم الربيع لتقطف "بخور مريم" و"الأقحوان" و"شقائق النعمان"، وتمشي في شوارع البلدة حاملة شمعة الشعانين المزيّنة في مسيرة طويلة لا تقيّدها شروط شرطة لندن الدقيقة والصارمة.
موعودة "ماريّا" بمشاوير ونزهات ورحلات إلى أكثر من مكان في لبنان: الأرز، بيت الدين، بحمدون، دير ما شربل في عنّايا، جبيل، وسط بيروت، غير أنّها بدت مكتفية باللعب بالطابة أمام بيت جدّها، وبتسلّق الأشجار في الحديقة، أو القفز على السلّم الأخضر الذي يربط الأرض بسطح العليّة حيث بدأت تمتدّ أغصان الدالية، وبمساعدة جدّها في ريّ أصص الورد، ومعاونة جدّتها في جمع الغسيل عن السطح. ولكن بالأكثر بدت آمنة في جوّ عائليّ صاخب يجمع عشرات الأشخاص من أهل البيت والضيوف الذين أتوا لتحيّة العائدين، وبالأحاديث الجديدة على قاموسها اللغويّ البسيط، وهي خليط غامض عناصره الأسئلة والآراء السياسيّة المحتدمة والتعليقات الساخرة. ومع أنّها لم تكن تفهم كلمة واحدة منها إلاّ أنّها شعرت بالحياة والحيويّة مقارنة بالوحدة والانعزال اللذين يحاصرانها في بيتها البريطانيّ الأنيق. وعن ذلك علّقت: يوجد في هذه الغرفة عدد من الناس يوازي ما نراه في منزلنا طوال السنة.
لقد كان في النظرات المستكشفة لتلك الطفلة والانطباعات التي تليها ما يجعلنا نعيد صياغة الوطن بأسلوب مختلف ليس فيه شيء ممّا يصفه به الكبار: فوضى، حرب، أوساخ، حُفر، مصالح، معاهدات، رشاوى، أحزاب، انتخابات. ولعلّ "ماريّا" اللبنانيّة/البريطانيّة في عفويّة ما فعلته وقالته لا تختلف عن أيّ واحد من المغتربين الذين يبحثون عن لبنانهم المفقود حيث ذهبوا.
الطفلة البريطانيّة/ اللبنانيّة التي تبحث جاهدة عن المفردات العربيّة الصحيحة لتعبّر بواسطتها عن مشاعرها وجدت سهولة في الحديث عن سبب تعلّقها بلبنان الذي لم تزره إلاّ مرّتين. وكان غريبًا أن يكون بعض ما نشكو منه هو ما أعجبها وجعلها تصرخ بنا مؤنّبة: أنتم لا تعرفون ما معنى أن تعيشوا في لبنان! رائحة البنزين، الازدحام، الشمس، الهواء، اللعب أمام باب البيت، عدم إقفال زجاج السيّارة المركونة أمام البيت مباشرة، هي جزء قليل من الأمور التي قالت ماريّا إنّها رائعة وغريبة ولا يوجد مثلها في بريطانيا. فهناك ممنوع على الطفلة أن تلعب على درّاجتها في حديقة المنزل خشية التعرّض للخطف أو الاعتداء، وهناك لا يمكن أن تترك نوافذ السيّارة مفتوحة ولو لثوانٍ لأنّ لصًّا ما سيسرق منها أيّ غرض، وهناك لا شمس ولا هواء عليلاً، ولا روائح غريبة، ولا بيوت مختلفة في الشكل والارتفاع واللون. وهذا ما لم يعد يرضي "ماريّا" التي أعلنت لحظة وصولها إلى بيت جدّيها أنّها لن تعود إلى لندن.
مع هبوط المساء وبرودة نسماته الربيعيّة، نادت الوالدة ابنتها "ماريّا" ودعتها إلى الدخول إلى المنزل لأنّ الشمس غابت والهواء أصبح باردًا، فكان جواب الطفلة السريع: اتركيني! أريد أن أتنفّس (اتركيني بدّي إتنفّس). وأمام إصرار الفتاة على استغلال المزيد من الوقت في اللعب خارج المنزل، أوضحت الأمّ للضيوف أنّها كانت تتوقّع ذلك بسبب الكبت الذي تعانيه ابنتها من جرّاء الحصار الذي تفرضه الحياة في الغربة.
بدا لي وأنا أراقب المشهد أنّ الأمان الشامل الذي تفرضه الدولة وتحميه القوانين في البلاد التي يقصدها المغتربون لم يؤمّن لهم الاستقرار النفسيّ والاطمئنان خلال لحظات أيّامهم وتفاصيلها الدقيقة. وإذا كان من السهل هناك أن ترفع دعوى تطالب بتعويض عن ضرر مهما بدا سخيفًا ولا يستحقّ فلا يعني ذلك أنّ الضرر لن يقع وأنّ الحياة الزهريّة اللون كما تغنّي "إديث بياف" صارت متاحة للجميع. وفي مدينة الضباب الرماديّة لم تجد "ماريّا" حياتها الزهريّة، وصار من الواجب، لكي تستعيد حيويّتها، أن تأتي إلى لبنان في موسم الربيع لتقطف "بخور مريم" و"الأقحوان" و"شقائق النعمان"، وتمشي في شوارع البلدة حاملة شمعة الشعانين المزيّنة في مسيرة طويلة لا تقيّدها شروط شرطة لندن الدقيقة والصارمة.
موعودة "ماريّا" بمشاوير ونزهات ورحلات إلى أكثر من مكان في لبنان: الأرز، بيت الدين، بحمدون، دير ما شربل في عنّايا، جبيل، وسط بيروت، غير أنّها بدت مكتفية باللعب بالطابة أمام بيت جدّها، وبتسلّق الأشجار في الحديقة، أو القفز على السلّم الأخضر الذي يربط الأرض بسطح العليّة حيث بدأت تمتدّ أغصان الدالية، وبمساعدة جدّها في ريّ أصص الورد، ومعاونة جدّتها في جمع الغسيل عن السطح. ولكن بالأكثر بدت آمنة في جوّ عائليّ صاخب يجمع عشرات الأشخاص من أهل البيت والضيوف الذين أتوا لتحيّة العائدين، وبالأحاديث الجديدة على قاموسها اللغويّ البسيط، وهي خليط غامض عناصره الأسئلة والآراء السياسيّة المحتدمة والتعليقات الساخرة. ومع أنّها لم تكن تفهم كلمة واحدة منها إلاّ أنّها شعرت بالحياة والحيويّة مقارنة بالوحدة والانعزال اللذين يحاصرانها في بيتها البريطانيّ الأنيق. وعن ذلك علّقت: يوجد في هذه الغرفة عدد من الناس يوازي ما نراه في منزلنا طوال السنة.
لقد كان في النظرات المستكشفة لتلك الطفلة والانطباعات التي تليها ما يجعلنا نعيد صياغة الوطن بأسلوب مختلف ليس فيه شيء ممّا يصفه به الكبار: فوضى، حرب، أوساخ، حُفر، مصالح، معاهدات، رشاوى، أحزاب، انتخابات. ولعلّ "ماريّا" اللبنانيّة/البريطانيّة في عفويّة ما فعلته وقالته لا تختلف عن أيّ واحد من المغتربين الذين يبحثون عن لبنانهم المفقود حيث ذهبوا.
هناك تعليق واحد:
مقال جميل وواقعي.
الحياة هنا مختلفة، تصوري كم لعب أولاد شقيقتي بالرمل و"نطنطوا" على الصخور في لبنان.
في كندا تشتري لهم شقيقتي بعض الرمل من "الهو ديبو"
وكم بكو عندما عادوا
الحياة مجنونة هنا بقدر ما يجن شعبنا لإقتناصها!!!!!!!!!!!
Hanna
إرسال تعليق