عند اللحظة الأولى للولادة نلتقي بالشعر. كلمات بسيطة مفعمة بالمشاعر وممزوجة بموسيقاها الداخليّة الناعمة تصل إلينا ما أن نأخذ النفس الأوّل ونطلق الصوت الأوّل لا بل قبل ذلك بكثير، أي عند لحظة التكوّن. نعم، عند هذه اللحظة بالذات تبدأ علاقتنا بالشعر ونمضي حياتنا كلّها ونحن نبحث عنه في كلّ ما يحيط بنا: في وجوهنا ووجوه من حولنا، في مأكلنا، في ملابسنا، في أثاث بيتنا، في لقاءاتنا بالناس، في خلوتنا مع أنفسنا، في صلواتنا، في الأفلام التي نشاهدها، في الأغنيات التي نسمعها، في الغيوم والبحر والشمس والحبّ والموت وكلّ شأن من شؤون الحياة.
ولذلك فالشعر هو الذي يبقى.
*****
في مكتباتنا الخاصّة نحتفظ بأعداد كبيرة من الكتب، وحين يخطر على بالنا أن نتخلّص من بعضها بسبب ضيق المكان ولنفسح المجال لسواها، لن نفكّر في التخلّي عن ديوان شعر. وحين نفكّر في إعادة قراءة كتاب، لن تطال يدنا إلى كتاب شعر.
الدراسات والأبحاث؟ نعود إليها لعمل ما، لإثبات رأي، لتحليل قضيّة، للتفتيش عن معلومة. أمّا الشعر فأمر آخر.
الروايات؟ نادرًا ما نعيد قراءة رواية، لأنّنا متى وصلنا إلى النهاية، تنطفئ الدهشة أو تخفت، إلاّ في الروايات ذات النَفس الشعري. فنحن نعود إذًا إلى الشعر لا إلى النثر، ولذلك فالشعر أمر آخر.
التاريخ، الجغرافيا، العلوم، الفنون، كلّها موجودة في الشعر، ومن دون الشعر لا قيمة لها.
******
الفيلم الأميركيّ Contactمن بطولة جودي فوستر، قدّم تحيّة للشعر من خلال إظهار عجز العلم عن التعامل مع الجميل والغامض والساحر. ففي الفيلم الذي شاهدته عشرات المرّات بسبب تحيّته للشعر، تكون البطلة عالمة تبحث عن حياة خارج هذا الكوكب، وعندما أقنعت حكومات الدول بأنّ مخلوقات من كوكب آخر اتّصلت بها، جرى إعداد مركبة لرحلة استكشاف بهدف التأكّد من وجود هذه الكائنات. وحين تصل العالمة إلى حيث من المفترض أن يكون "العالم الآخر" وأمام جمال ما رأت، تمتمت في دهشة: كان يجب أن يرسلوا شاعرًا ليصف لهم ما أرى.
فالشعر بمعنى آخر قادر على التعبير عمّا تعجز عنه أيّ لغة تعبيريّة أخرى.
******
لا خلاص لنا إلّا بالشعر. لا حياة لنا إلّا في الشعر. ولذلك يجب أن نحتفل، كما كان العرب يفعلون قديمًا، عندما نكتشف بيننا شاعرًا، أو من يتذوّق الشعر. ولكنّنا عوض ذلك نحتار كيف نهاجمه أو نسخر منه أو ننتقده بشكل لاذع لا يصحّح مسيرة ولا يقوّم أسلوبًا. ففي عصر الصورة غير الشعريّة، بل الفجّة الوقحة المباشرة النثريّة، رائع أن نجد بين الشباب من يرغب في الشعر. رائع أن يكون ثمّة إنسان يؤمن بالكلمة وقدرتها وسحرها وجمالها، ويحاول مرّة بعد مرّة بعد مرّة أن يعبّر بواسطتها عمّا يشعر به ويفكّر فيه. فالشعر ليس الطريق السهل والمناسب للوصول إلى الشهرة أو تحصيل المال أو استلام السلطة، ومع ذلك اختاره أحدهم، وفي هذا العصر بالذات، ليكون وسيلته للتعبير، لا بل راح إلى أبعد من ذلك، ودعانا كلّنا إلى الاحتفال معه بخطوته الأولى على درب الشعر، الشعر نفسه الذي تكوّن مع كلّ واحد منّا لحظة كنّا. ومع ذلك لم نلبّ الدعوة، ولم نقرأ ما كتبه، أو سخرنا ممّا كتبه.
صحيح أنّ النقد البنّاء والعلميّ ضروريّ ومطلوب ولا تستقيم الحركة الشعريّة من دونه، وصحيح أنّ رفوف المكتبات مثقلة بملايين الكتب التي لا تجد من يقرأها، وصحيح أن ليس كلّ ما يكتب يستحقّ أن يحمل صفة الشعر ولن ينال جوائز، ومع ذلك، أجد نفسي حاليًّا منحازة إلى الكتابة والشعر مهما كان المستوى وكيفما كانت اللغة وأيّا تكن القيمة الأدبيّة. فلن يخلو ديوان من جملة شعريّة، ولن يعجز أحدهم عن تحقيق أعجوبة القصيدة، فلذلك دعوا الجميع يكتبون الشعر فذلك أفضل مرّة من الخطب السياسيّة، والاقتتال المذهبيّ، والصراع الطائفيّ، والحوار الإيديولوجيّ، والمناظرات الفكريّة. دعوا الجميع يقولون الشعر ويتذوّقونه لأنّهم بلا شكّ سيصيرون بشرًا حقيقيّين يعرفون الجمال والسلام.
فيا أيّها النقّاد في الصفحات الثقافيّة احتفلوا مع الشعراء ولو بجملة واحدة قبل أن يقضي علينا نثر هذه الحياة.
ولذلك فالشعر هو الذي يبقى.
*****
في مكتباتنا الخاصّة نحتفظ بأعداد كبيرة من الكتب، وحين يخطر على بالنا أن نتخلّص من بعضها بسبب ضيق المكان ولنفسح المجال لسواها، لن نفكّر في التخلّي عن ديوان شعر. وحين نفكّر في إعادة قراءة كتاب، لن تطال يدنا إلى كتاب شعر.
الدراسات والأبحاث؟ نعود إليها لعمل ما، لإثبات رأي، لتحليل قضيّة، للتفتيش عن معلومة. أمّا الشعر فأمر آخر.
الروايات؟ نادرًا ما نعيد قراءة رواية، لأنّنا متى وصلنا إلى النهاية، تنطفئ الدهشة أو تخفت، إلاّ في الروايات ذات النَفس الشعري. فنحن نعود إذًا إلى الشعر لا إلى النثر، ولذلك فالشعر أمر آخر.
التاريخ، الجغرافيا، العلوم، الفنون، كلّها موجودة في الشعر، ومن دون الشعر لا قيمة لها.
******
الفيلم الأميركيّ Contactمن بطولة جودي فوستر، قدّم تحيّة للشعر من خلال إظهار عجز العلم عن التعامل مع الجميل والغامض والساحر. ففي الفيلم الذي شاهدته عشرات المرّات بسبب تحيّته للشعر، تكون البطلة عالمة تبحث عن حياة خارج هذا الكوكب، وعندما أقنعت حكومات الدول بأنّ مخلوقات من كوكب آخر اتّصلت بها، جرى إعداد مركبة لرحلة استكشاف بهدف التأكّد من وجود هذه الكائنات. وحين تصل العالمة إلى حيث من المفترض أن يكون "العالم الآخر" وأمام جمال ما رأت، تمتمت في دهشة: كان يجب أن يرسلوا شاعرًا ليصف لهم ما أرى.
فالشعر بمعنى آخر قادر على التعبير عمّا تعجز عنه أيّ لغة تعبيريّة أخرى.
******
لا خلاص لنا إلّا بالشعر. لا حياة لنا إلّا في الشعر. ولذلك يجب أن نحتفل، كما كان العرب يفعلون قديمًا، عندما نكتشف بيننا شاعرًا، أو من يتذوّق الشعر. ولكنّنا عوض ذلك نحتار كيف نهاجمه أو نسخر منه أو ننتقده بشكل لاذع لا يصحّح مسيرة ولا يقوّم أسلوبًا. ففي عصر الصورة غير الشعريّة، بل الفجّة الوقحة المباشرة النثريّة، رائع أن نجد بين الشباب من يرغب في الشعر. رائع أن يكون ثمّة إنسان يؤمن بالكلمة وقدرتها وسحرها وجمالها، ويحاول مرّة بعد مرّة بعد مرّة أن يعبّر بواسطتها عمّا يشعر به ويفكّر فيه. فالشعر ليس الطريق السهل والمناسب للوصول إلى الشهرة أو تحصيل المال أو استلام السلطة، ومع ذلك اختاره أحدهم، وفي هذا العصر بالذات، ليكون وسيلته للتعبير، لا بل راح إلى أبعد من ذلك، ودعانا كلّنا إلى الاحتفال معه بخطوته الأولى على درب الشعر، الشعر نفسه الذي تكوّن مع كلّ واحد منّا لحظة كنّا. ومع ذلك لم نلبّ الدعوة، ولم نقرأ ما كتبه، أو سخرنا ممّا كتبه.
صحيح أنّ النقد البنّاء والعلميّ ضروريّ ومطلوب ولا تستقيم الحركة الشعريّة من دونه، وصحيح أنّ رفوف المكتبات مثقلة بملايين الكتب التي لا تجد من يقرأها، وصحيح أن ليس كلّ ما يكتب يستحقّ أن يحمل صفة الشعر ولن ينال جوائز، ومع ذلك، أجد نفسي حاليًّا منحازة إلى الكتابة والشعر مهما كان المستوى وكيفما كانت اللغة وأيّا تكن القيمة الأدبيّة. فلن يخلو ديوان من جملة شعريّة، ولن يعجز أحدهم عن تحقيق أعجوبة القصيدة، فلذلك دعوا الجميع يكتبون الشعر فذلك أفضل مرّة من الخطب السياسيّة، والاقتتال المذهبيّ، والصراع الطائفيّ، والحوار الإيديولوجيّ، والمناظرات الفكريّة. دعوا الجميع يقولون الشعر ويتذوّقونه لأنّهم بلا شكّ سيصيرون بشرًا حقيقيّين يعرفون الجمال والسلام.
فيا أيّها النقّاد في الصفحات الثقافيّة احتفلوا مع الشعراء ولو بجملة واحدة قبل أن يقضي علينا نثر هذه الحياة.
هناك تعليق واحد:
عندماأصل لختام نصك افرح. إن انتصارك للشعر وخشيتك من أن يقضي علينا "نثر الحياة" فكرة جديدة بسيطة ولكنها عميقة، فيها فن.
أنت واحدة من قصائد لبنان الحسان يا ريحانية ربنا يعافيك ويبارك فيك ويجلّلك بالمحبة خبز المعرفة.
إرسال تعليق