من سنّة التطوّر أن تزول أنواع لم تستطع مقاومة التغيّرات والتأقلم مع المستجدّات ما يؤدّي إلى اندثارها وانقراضها، وتطال هذه القاعدة الإنسان بكلّ أعضائه ومكوّناته والطبيعة بكلّ كائناتها وعناصرها والأفكار بكلّ اتجاهاتها وتنوّعها. والآداب والفنون التي تعبّر عن الإنسان والطبيعة والأفكار ليست بمنأى عن أن تصل إليها يد التغيير والتبديل. فها نحن نشهد على زوال أنواع أدبيّة كانت إلى زمن غير بعيد من صلب الحياة الفكريّة والنقديّة ومادة للدراسة والتحليل، لعلّ أكثرها وضوحًا اليوم الخطابة والرسالة وأدب الرحلات والمسوّدات.
*******
فمع تطوّر وسائل الإعلام لم تعد ثمّة ضرورة للخطابة الذي حلّت مكانها المؤتمرات الصحافيّة التي يعقدها السياسيّون، ولذلك كان من الطبيعيّ أن تتغيّر لغتها وبنيتها وأن تماشي قدرة الاستيعاب عند الناس والسرعة المطلوبة في العمل الإعلاميّ الحديث. وترافق ذلك مع فقدان ملكة اللغة عند الخطباء الذين لم يعودوا مجبرين على استخدام العربيّة الفصيحة، وإن فعلوا ارتكبوا ما لا يحصى من الأخطاء. وهكذا سيختفي نوع أدبيّ مميّز مع انقراض أرباب المنابر وأسياد الخطابة ولن نجد لاحقًا خطبًا من هذه المرحلة يمكن أن نعلّمها للأجيال الآتية، بل مجموعة مواقف انفعاليّة آنيّة تغيب عنها الجماليّة الفنيّة والهيكليّة المنطقيّة والأهداف المستقبليّة.
******
ومع رسائل الهواتف المحمولة وتلك الإلكترونيّة، صارت المراسلات بين العشّاق أو الأدباء مجرّد كلمات مختصرة وسريعة وعابرة لا تترك أثرًا ولا يحفظها تاريخ. وبعدما كانت حبرًا على ورق يقاوم الزمن وإن بهت لون الحبر واصفرّت الأوراق، صارت كلمات في مهبّ التكنولوجيا، تسهل كتابتها ويسهل تصحيحها ويسهل محوها. ولذلك لن يبقى شيء من ثورات الغضب والرغبة والأفكار. ولن تستطيع فتاة بعد اليوم أن تفتح خزانتها لتأخذ منها علبة صغيرة فيها رسائل قديمة ملفوفة بشريط مخمليّ أحمر تعيدها إلى زمن الحبّ، ولن تكون إلاّ تراثًا كلماتُ الرحابنة في أغنية "لا إنت حبيبي": ردتلو مكاتيبو وردّلي مكاتيبي.
******
أمّا أدب الرحلات فصار ترفًا لا يملك إمكان التنعّم به إلاّ من تسمح له الظروف بالتنقّل بين البلدان مستكشفًا. ومع ذلك فلن يصل فرد إلى إمكانات ماديّة هائلة تملكها وسائل الإعلام المرئيّة التي تستطيع أن تنقل كلّ واحد منّا وهو جالس على مقعده المريح من أعماق المحيطات إلى مجاهل أفريقيا إلى القطب الشماليّ إلى الكواكب والنجوم، وهذا ما لم يستطع تحقيقه أعظم الرحّالة في مختلف العصور. غير أنّ هذا لا ينفي وجود محاولات قليلة تصارع للإبقاء على أدب الرحلات هذا، عبر مقالات متفرّقة يعبّر فيها كاتبوها عن مشاهداتهم في ذلك البلد أو تلك الدولة، إن على الصعيد الحياة اليوميّة البسيطة أو مقاربتها من خلال علمَي النفس والاجتماع. ولكنّنا لا نستطيع وضع هذه المقالات، المتباعدة زمنيًّا في تاريخ نشرها وعدم وجود رؤية تحليليّة واضحة فيها، في خانة أدب الرحلات حتّى ولو جمعها كاتبها في كتاب واحد يحتفظ به للذكرى كما يحتفظ بألبوم الصور أو الأفلام.
******
المسوّدات التي خطّها الأدباء والشعراء والتي تحتفظ بها المكتبات الكبرى نوع آخر إلى زوال بعد تحوّل الكتّاب إلى الكتابة الإلكترونيّة. ولم يعد من مجال بعد الآن لمعرفة مسيرة النصّ من الكتابة الأولى إلى الشكل النهائيّ الذي وصل إلى الناس. وقد يكون النقاش الأدبيّ النقديّ الذي دار مؤخّرًا حول ديوان محمود درويش الذي طبع بعد رحيله، هو آخر الدراسات التي قارنت بين النصّ الأوّل (النصّ الشهيد كما يقال عنه في اللغة الفرنسيّة) وبين النصّ الأخير، متكّئة في ذلك على ما تركه الشاعر الفلسطينيّ بخطّ يده. بعد ذلك، لن نجد سوى النصوص بطبعتها النهائيّة ولن يجد مؤرّخو الأجيال القادمة ما يساعدهم على تتبّع تطوّره وملاحقة المحو والشطب والتصحيح والهوامش والخطّ ونوع الورق وما إلى ذلك من التفاصيل التي كانت إلى حين من صلب عمليّة الكتابة.
******
لا شكّ في أنّ ثمّة أنواعًا أخرى بديلة برزت وتبرز مستفيدة من تلاقي أنواع التعبير كالرقص والموسيقى والمسرح والتصوير، وهي وإن كانت لا تزال في طور التجريب بدأت تجذب جمهورًا من المبدعين والمتلقّين. ولا يزال الوقت مبكرًا للحكم على قيمتها ونتيجتها وتفاعل الناس معها.
*******
فمع تطوّر وسائل الإعلام لم تعد ثمّة ضرورة للخطابة الذي حلّت مكانها المؤتمرات الصحافيّة التي يعقدها السياسيّون، ولذلك كان من الطبيعيّ أن تتغيّر لغتها وبنيتها وأن تماشي قدرة الاستيعاب عند الناس والسرعة المطلوبة في العمل الإعلاميّ الحديث. وترافق ذلك مع فقدان ملكة اللغة عند الخطباء الذين لم يعودوا مجبرين على استخدام العربيّة الفصيحة، وإن فعلوا ارتكبوا ما لا يحصى من الأخطاء. وهكذا سيختفي نوع أدبيّ مميّز مع انقراض أرباب المنابر وأسياد الخطابة ولن نجد لاحقًا خطبًا من هذه المرحلة يمكن أن نعلّمها للأجيال الآتية، بل مجموعة مواقف انفعاليّة آنيّة تغيب عنها الجماليّة الفنيّة والهيكليّة المنطقيّة والأهداف المستقبليّة.
******
ومع رسائل الهواتف المحمولة وتلك الإلكترونيّة، صارت المراسلات بين العشّاق أو الأدباء مجرّد كلمات مختصرة وسريعة وعابرة لا تترك أثرًا ولا يحفظها تاريخ. وبعدما كانت حبرًا على ورق يقاوم الزمن وإن بهت لون الحبر واصفرّت الأوراق، صارت كلمات في مهبّ التكنولوجيا، تسهل كتابتها ويسهل تصحيحها ويسهل محوها. ولذلك لن يبقى شيء من ثورات الغضب والرغبة والأفكار. ولن تستطيع فتاة بعد اليوم أن تفتح خزانتها لتأخذ منها علبة صغيرة فيها رسائل قديمة ملفوفة بشريط مخمليّ أحمر تعيدها إلى زمن الحبّ، ولن تكون إلاّ تراثًا كلماتُ الرحابنة في أغنية "لا إنت حبيبي": ردتلو مكاتيبو وردّلي مكاتيبي.
******
أمّا أدب الرحلات فصار ترفًا لا يملك إمكان التنعّم به إلاّ من تسمح له الظروف بالتنقّل بين البلدان مستكشفًا. ومع ذلك فلن يصل فرد إلى إمكانات ماديّة هائلة تملكها وسائل الإعلام المرئيّة التي تستطيع أن تنقل كلّ واحد منّا وهو جالس على مقعده المريح من أعماق المحيطات إلى مجاهل أفريقيا إلى القطب الشماليّ إلى الكواكب والنجوم، وهذا ما لم يستطع تحقيقه أعظم الرحّالة في مختلف العصور. غير أنّ هذا لا ينفي وجود محاولات قليلة تصارع للإبقاء على أدب الرحلات هذا، عبر مقالات متفرّقة يعبّر فيها كاتبوها عن مشاهداتهم في ذلك البلد أو تلك الدولة، إن على الصعيد الحياة اليوميّة البسيطة أو مقاربتها من خلال علمَي النفس والاجتماع. ولكنّنا لا نستطيع وضع هذه المقالات، المتباعدة زمنيًّا في تاريخ نشرها وعدم وجود رؤية تحليليّة واضحة فيها، في خانة أدب الرحلات حتّى ولو جمعها كاتبها في كتاب واحد يحتفظ به للذكرى كما يحتفظ بألبوم الصور أو الأفلام.
******
المسوّدات التي خطّها الأدباء والشعراء والتي تحتفظ بها المكتبات الكبرى نوع آخر إلى زوال بعد تحوّل الكتّاب إلى الكتابة الإلكترونيّة. ولم يعد من مجال بعد الآن لمعرفة مسيرة النصّ من الكتابة الأولى إلى الشكل النهائيّ الذي وصل إلى الناس. وقد يكون النقاش الأدبيّ النقديّ الذي دار مؤخّرًا حول ديوان محمود درويش الذي طبع بعد رحيله، هو آخر الدراسات التي قارنت بين النصّ الأوّل (النصّ الشهيد كما يقال عنه في اللغة الفرنسيّة) وبين النصّ الأخير، متكّئة في ذلك على ما تركه الشاعر الفلسطينيّ بخطّ يده. بعد ذلك، لن نجد سوى النصوص بطبعتها النهائيّة ولن يجد مؤرّخو الأجيال القادمة ما يساعدهم على تتبّع تطوّره وملاحقة المحو والشطب والتصحيح والهوامش والخطّ ونوع الورق وما إلى ذلك من التفاصيل التي كانت إلى حين من صلب عمليّة الكتابة.
******
لا شكّ في أنّ ثمّة أنواعًا أخرى بديلة برزت وتبرز مستفيدة من تلاقي أنواع التعبير كالرقص والموسيقى والمسرح والتصوير، وهي وإن كانت لا تزال في طور التجريب بدأت تجذب جمهورًا من المبدعين والمتلقّين. ولا يزال الوقت مبكرًا للحكم على قيمتها ونتيجتها وتفاعل الناس معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق