لماذا يحتاج الواحد من البشر إلى الآخر؟
ولماذا يصعب كثيرًا - كي لا نقول يستحيل - على الإنسان أن يبقى وحده؟
خلال الأيّام الماضية ازدادت قناعتي بأنّني كوّنت لأكون وحيدة، وأنّني أستطيع أن أمضي أيّامًا طويلة بلا رفقة أحد.
على كلّ حال، يبدو لي أنّ الحاجة إلى الآخر هي محض استغلاليّة، أيّ أنّ الواحد منّا يريد من الآخر أن يبقى إلى جانبه لمصلحة معيّنة، والمصلحة مصلحتان طبعًا: ماديّة ومعنويّة وأحيانًا تختلط الواحدة بالأخرى حتّى يصعب التمييز بينهما. فالحاجة إلى العاطفة مثلاً أو المساعدة أو حتّى الثرثرة هي ما يجعل الواحد من الناس يتّصل بالآخر ليشعر بأنّه ليس وحيدًا.
أتعلم؟ أظنّ أنّ عندي قراءة أخرى لحكاية الخلق! فآدم هو من أخذ الضلع من صدره وخاطبه وظلّ يخاطبه حتّى تحوّل كائنًا آخر. كما فعل "طوم هانكس" بالكرة حين كان على الجزيرة.
الحاجة أمّ الاختراع.
ولذلك نحن نخترع الصورة التي نريدها للناس الذين حولنا لأنّنا كنّا في حاجة إلى هذه الصورة بالذات لا إلى سواها. ولذلك نعمل طيلة علاقتنا بالآخرين على تغييرهم وتعديلهم ونصحهم وإرشادهم ليصيروا على صورتنا ومثالنا.
على كلّ حال الله نفسه فعل ذلك. ولذلك يلحّ عليّ السؤال التالي: ما حاجتك إليّ؟ وما حاجتي إليك؟ لا أصدقاء مشتركين، لا هوايات مشتركة، لا مواضيع نتّفق عليها، لا نشاطات مشتركة، لا أهداف مشتركة، لا تشابه في الشخصيّتين، حتّى المشاعر المتبادلة يختلف توصيفها بيني وبينك. ما الذي يجمعنا إذًا؟
من الواضح أنّ الشعر هو القاسم (أو الجامع) الوحيد الذي كان بيننا، وبعدما زال ذلك القاسم حين جرفك نثر الحياة حاولنا بتهذيب ولياقة أن نستمرّ في تواصل مفتعل إلى حدّ ما، كمن يقف على أطلال صداقة عزيزة يجد نفسه مذنبًا إن تركها وحيدة في صحراء العمر الجافّة ومضى إلى حيث الواحات والمياه والغزلان والناس...
ولا شكّ في أنّ الأمر يتطلّب شجاعة وصراحة للاعتراف بأنّ الأمور لم يعد لها وهجها الأوّل. أنت ستقول الآن: ولكن هذه طبيعة الحياة. وأنا أجيب: الحياة؟ ربّما! ولكن ليس حياتي بالتأكيد.
كنت دائمًا تشبّه حركة العلاقات الإنسانيّة بحركة رقّاص الساعة الذي يمرّ في إيقاعات مختلفة قبل أن يجد إيقاعه المنضبط والصحيح...وأنا أضيف والرتيب والممل والذي لا يفاجئ والذي نتوقّعه. الرقّاص أصابه الجمود في تلك الساعة الجميلة الكبيرة النادرة في ذلك القصر الأنيق القديم البعيد. فما حاجة القصور الخالية من الناس إلى الوقت؟
عندما أصف الأمر بهذه الطريقة أبدو كمن يقسو على نفسه أو على الآخر أو على الصداقة بحدّ ذاتها. الأمر هو مجرّد وصف لا أحكام فيه ولا مقرّرات غير قابلة للطعن. لماذا نهرب من وصف الأمور كما هي أو على الأقلّ كما نظنّ أنّها هي، ليس في الموصوف عيب أو حلية كما علّمونا في دروس القواعد. الموصوف هو هكذا من دون إعلاء لشأنه أو تشويه لحقيقته. وإذا كانت الصداقات تصاب بما يصاب به الأشخاص من تعب وملل وشيخوخة فلماذا لا نقول ذلك؟
أشبّه كتاباتي إليك بالرسائل التي توضع في القناني الزجاجيّة وترمى في البحر على أمل أن تقع بين أيدي من يعرف قيمتها، وأشبّه وجودك الصامت بالصديق الخياليّ الذي يخترعه الأطفال عندما لا يجدون من يتكلّمون معه. يعطونه اسمًا وشكلاً ويضعون على لسانه الكلمات ويطردونه من الغرفة إن أساء التصرّف. المهمّ أن يعرفوا في لاوعيهم أنّه خياليّ وأجمل من أن يكون حقيقة وإلاّ أصيبوا بالشيخوخة المبكرة.
البارحة رسمت نفسي ناطورة المفاتيح وأقمت وحدي في مملكة لا ملك فيها. نزلت أختي وابنتها إلى بيروت، وبقيت مع الفتاتين الصغيرتين اللتين نامتا حتى الظهر، كانت القرية خالية تماما من الناس، إذ نزل الجميع بعد العيد (لكلّ قرية عيد وموسم) إذ صاروا يقلّلون من صعودهم إلى بيوتهم بسبب غلاء البنزين. كان الإصغاء إلى الصمت مثيرًا وأليفًا كالشعور بملامسة جسد اشتقت إليه، وكان الهواء الصباحيّ البارد منعشًا يشعرك بأنّك ترغب في الاستحمام فيه وفي تركه يلامس كلّ جزء من جسمك. وكان الضوء نظيفًا وصافيًا كأنّ العيون التي كان من الممكن أن تلوّثه لم تتكوّن بعد.
Youhanna Demougeot |
هناك تعليق واحد:
السلام عليكم
كل انسان يحتاج الى انسان يكون جنبة وهو مايسمى بالاخر.
كما الاخر احيانا تكون علاقة بين طرفين واجمل علاقة من راى علاقة الام مع طفلها
بوست مميز
مع خالص تحياتى
إرسال تعليق