لو كان الأديبان جبران خليل جبران ومي زيادة يعيشان في عصر البريد السريع لما دامت قصّة حبّهما أكثر من يومين، ولما تركا لتاريخ الأدب والعشق رسائل متبادلة في الأدب والفنّ والمجتمع والمرأة والحبّ والزواج، ولانطفأت في بضع ساعات من الحوار الكتابيّ "الشعلة الزرقاء" التي التهبت بينهما.
قصّة هذه العلاقة التي شغلت الناس والنقّاد والدارسين فاختلفوا في تسميتها وتحليل وقائعها وعملوا على جمع الرسائل التي تؤرّخ بدايتها وتطوّرها وانتهاءها، هذه القصّة أقول ما كانت لتدوم لولا المسافة التي تفصل مصر حيث كانت مي زيادة تقيم عن الولايات المتحدة الأميركيّة حيث كان جبران. ففي انتظار وصول الرسالة إلى أحدهما وعودة الجواب كان الوقت يمرّ بطيئًا وثقيلاً فكانت مي بسبب طبيعتها الأنثويّة تملأه أحلام يقظة عن حبّ لا تعرف نهايته، وكان جبران بسبب شغفه يملأه مغامرات نسائيّة وحكايات خرافيّة عن أمجاد العائلة. ولو كان البريد سريعًا كما هو اليوم لاكتشف العاشقان أنّ علاقتهما ليست إلاّ سوء تفاهم واختلافًا في الأمزجة والطبائع والميول، ولما بقي منها كلمة أو ورقة أو كتاب أو حكاية تحرّك الخيال وتداعب العواطف.
جبران ومي لم يلتقيا ولم يعرف أحدهما الآخر إلاّ من خلال الرسائل والصور، ومع ذلك اقتنعا وأقنعا الناس بأنّ ما بينهما أكبر من إعجاب وأكثر أهميّة من تبادل رأي، وراحا يحيكان من الكلمات المنتظرة حكاية يظنّ كلّ واحد منهما أنّ من حقّه أن ينسجها على منواله الخاصّ. وهكذا راح دارسو حياتيهما يحلّلون سبب امتناعهما عن اللقاء، ويعطون للأمر تفسيرات شتّى، غير أنّنا إذا نقلنا الحكاية كلّها من زمنها إلى هذا الزمن وجعلنا حركة الأحداث تتبع إيقاع العصر السريع لاكتشفنا أنّهما ما كانا ليتركا "اللابتوب" أو الهاتف قبل أن يودّع أحدهما الآخر عند نهاية اليوم وهو يقول: وداعًا، كان الحوار ممتعًا ومفيدًا، أتمنى لك كلّ الخير.
وحين ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية نكتشف هشاشة الحكايات وسرعة العطب التي تصاب بهما قصص الحبّ متى انتقلت من مكانها أو زمانها إلى مكان آخر أو زمان آخر. ويبدو كلّ شيء وهميًّا إلى درجة مخيفة تجعل الواحد منّا يشعر بأنّه يحلّق في الفراغ ولا جاذبيّة تشدّه إلى صدرها ولا عاطفة يمكن أن تستمرّ في حياته أكثر من لحظات من التوهّج لتبقى بعدها ذكرى هذا الحبّ التي تصير هي الحبّ بحسب ما عبّر عنه الأخوان رحباني في قصيدة رائعة من قصائدهما يعرفها الناس باسم "لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب".
وهذا أمر حزين يثير الشجن ويبلل العين بدمع الأسى. فهل تكون عواطفنا مجرّد أوهام نجمعها في رؤوسنا لنحارب بها العمر والوحدة؟ ولماذا لا تكون كحبّات الحنطة التي تجمعها النملة لتقاوم بها فصل الشتاء؟ وإذا كانت الأوهام هي التي تمدّنا بالطاقة لنستمرّ أفلا نتخلّى عن الواقع إن كان مريرًا من أجلها؟ وهل حكاية الحبّ تقاس بالمدّة الزمنيّة أم بمقدار التوهّج الذي شعّ منها ولو للحظات؟
كم نحن كائنات هشّة وسريعة العطب، ندّعي الشجاعة والقوّة والحكمة والمعرفة والجمال والثراء وفي لحظة واحدة من الإحباط نكتشف أنّنا قد لا نكون كما ظننا أو كما قيل لنا، وأنّنا لا نملك إلاّ رمادًا لا يدفئ قلوبنا ولا يلوّن أيّامنا ولا يخبّئ جمرًا. ولكي نستمرّ على قيد الحياة نبحث عند سوانا عن حكايات لم نجرؤ على عيشها فنقرأ الكتب ونسمع الموسيقى ونشاهد الأفلام ونزور المتاحف ونسافر من بلد إلى بلد ونجمع التذكارات... ونحاول أن ننسى.
قصّة هذه العلاقة التي شغلت الناس والنقّاد والدارسين فاختلفوا في تسميتها وتحليل وقائعها وعملوا على جمع الرسائل التي تؤرّخ بدايتها وتطوّرها وانتهاءها، هذه القصّة أقول ما كانت لتدوم لولا المسافة التي تفصل مصر حيث كانت مي زيادة تقيم عن الولايات المتحدة الأميركيّة حيث كان جبران. ففي انتظار وصول الرسالة إلى أحدهما وعودة الجواب كان الوقت يمرّ بطيئًا وثقيلاً فكانت مي بسبب طبيعتها الأنثويّة تملأه أحلام يقظة عن حبّ لا تعرف نهايته، وكان جبران بسبب شغفه يملأه مغامرات نسائيّة وحكايات خرافيّة عن أمجاد العائلة. ولو كان البريد سريعًا كما هو اليوم لاكتشف العاشقان أنّ علاقتهما ليست إلاّ سوء تفاهم واختلافًا في الأمزجة والطبائع والميول، ولما بقي منها كلمة أو ورقة أو كتاب أو حكاية تحرّك الخيال وتداعب العواطف.
جبران ومي لم يلتقيا ولم يعرف أحدهما الآخر إلاّ من خلال الرسائل والصور، ومع ذلك اقتنعا وأقنعا الناس بأنّ ما بينهما أكبر من إعجاب وأكثر أهميّة من تبادل رأي، وراحا يحيكان من الكلمات المنتظرة حكاية يظنّ كلّ واحد منهما أنّ من حقّه أن ينسجها على منواله الخاصّ. وهكذا راح دارسو حياتيهما يحلّلون سبب امتناعهما عن اللقاء، ويعطون للأمر تفسيرات شتّى، غير أنّنا إذا نقلنا الحكاية كلّها من زمنها إلى هذا الزمن وجعلنا حركة الأحداث تتبع إيقاع العصر السريع لاكتشفنا أنّهما ما كانا ليتركا "اللابتوب" أو الهاتف قبل أن يودّع أحدهما الآخر عند نهاية اليوم وهو يقول: وداعًا، كان الحوار ممتعًا ومفيدًا، أتمنى لك كلّ الخير.
وحين ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية نكتشف هشاشة الحكايات وسرعة العطب التي تصاب بهما قصص الحبّ متى انتقلت من مكانها أو زمانها إلى مكان آخر أو زمان آخر. ويبدو كلّ شيء وهميًّا إلى درجة مخيفة تجعل الواحد منّا يشعر بأنّه يحلّق في الفراغ ولا جاذبيّة تشدّه إلى صدرها ولا عاطفة يمكن أن تستمرّ في حياته أكثر من لحظات من التوهّج لتبقى بعدها ذكرى هذا الحبّ التي تصير هي الحبّ بحسب ما عبّر عنه الأخوان رحباني في قصيدة رائعة من قصائدهما يعرفها الناس باسم "لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب".
وهذا أمر حزين يثير الشجن ويبلل العين بدمع الأسى. فهل تكون عواطفنا مجرّد أوهام نجمعها في رؤوسنا لنحارب بها العمر والوحدة؟ ولماذا لا تكون كحبّات الحنطة التي تجمعها النملة لتقاوم بها فصل الشتاء؟ وإذا كانت الأوهام هي التي تمدّنا بالطاقة لنستمرّ أفلا نتخلّى عن الواقع إن كان مريرًا من أجلها؟ وهل حكاية الحبّ تقاس بالمدّة الزمنيّة أم بمقدار التوهّج الذي شعّ منها ولو للحظات؟
كم نحن كائنات هشّة وسريعة العطب، ندّعي الشجاعة والقوّة والحكمة والمعرفة والجمال والثراء وفي لحظة واحدة من الإحباط نكتشف أنّنا قد لا نكون كما ظننا أو كما قيل لنا، وأنّنا لا نملك إلاّ رمادًا لا يدفئ قلوبنا ولا يلوّن أيّامنا ولا يخبّئ جمرًا. ولكي نستمرّ على قيد الحياة نبحث عند سوانا عن حكايات لم نجرؤ على عيشها فنقرأ الكتب ونسمع الموسيقى ونشاهد الأفلام ونزور المتاحف ونسافر من بلد إلى بلد ونجمع التذكارات... ونحاول أن ننسى.
هناك تعليق واحد:
قيل أن ماري زيادة كتبت قبل وفاتها:"هذا قبر فتاة لم يعرف الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الألآم والغصات ، لقد عاشت ، وأحبت ، وتعذبت ،وجاهدت ثم قضت."
رحم الله (مي و جبران)
وسلم الله قلب (ماري ريحان)
.. قرأت كتاب نُعيمة ومقالات شيخ الدباء..لقد أصبت كثيراً.
إرسال تعليق