في اليوم الخامس عشر من نيسان من العام 2009، اختفت شجرة الكينا التي لم تخرج للحظة واحدة من إطار نافذتي الشماليّة. شجرة عتيقة عتيقة كأنّها مغروسة في ذلك الحقل منذ تكوين العالم، عالمي أنا ربّما، ولكن ليس هذا هو المهمّ، المهمّ هو أنّها اختفت.
كانت إلى صباح ذلك اليوم لا تزال تلوّح لي بأعالي أغصانها من فوق حيطان المبنى الذي أخذ يرتفع بيني وبينها، ومع ساعات النهار الأولى، كان العمّال النشيطون قد رفعوا الحاجز الخشبيّ استعدادًا لتدفّق كميّات هائلة من الباطون، ستقف من الآن وصاعدًا سورًا منيعًا بيني وبين شجرتي الكبيرة العتيقة.
الغريب في أمر علاقتي بهذه الشجرة أنّني لم أسع يومًا للاقتراب منها، أو لاكتشاف الأرض حيث زرعت، أو لمعرفة لمن تعود ملكيّتها، كنت مطمئنّة إلى وجودها عالية شامخة خضراء وارفة، تملأ نافذة غرفتي من بعيد بشكلها الذي لم تصغّر حجمه المسافة، فبقيت كبيرة وعالية تلوّح لي وألوح معها...إلى أن كان ذلك اليوم.
الستائر المسدلة طوال النهار والليل على النافذة منذ بدئ العمل في المبنى الحديث، كانت تدفعني للاطمئنان عنها خلسة عن الأعين، غير أنّني في ذلك اليوم رفعت الستائر، لأنّ الجدار الحاجب ساتر أمين يردّ أعين العمّال عن الغرف المواجهة لهم ويمنع عينيّ عن الاستمتاع بمنظر الشجرة، ورصد حركة الهواء وتراقص أغصانها مع إيقاعه المتغيّر المتجدّد.
عندما كان الناس قديمًا يبنون بيوتًا كنّا نقول لهم: الله يعمّر معكم. وكان الجيران يساعدون في العمل في ما كنّا نسمّيه يوم "العونة"، وكانت النعاج تذبح يوم صبّ السقف ليأكل الجميع من ذبيحة البناء، لأنّ البيت الجديد يعني أنّ ثمّة عائلة جديدة ستضاف إلى سجّل العائلات، و"نيّال البيت اللي بيطلع منّو بيت".
أعترف أنّني أجد صعوبة في تهنئة أصحاب الأرض بالمبنى الجديد الذي أقيم على أنقاض ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب، خصوصًا أنّ صاحب الأرض لن يقيم فيه بل بيعت شقق المبنى قبل أن يبدأ العمّال بحفر الأساس ووضع الدعائم. صاحب الأرض لا ذكريات له في الأرض، هو ورثها عن والده الذي ورثها عن والده، غير أنّه لم يعتن بها حين صارت له، ثمّ قطع أشجارها ونقل تربتها وأقام فيها بناء على الطراز الحديث اشترى شققه مغتربون وسائحون يأتون مرّة في السنة ثمّ يتركون المبنى جدرانًا واقفة تحجب عنّي رؤية شجرة الكينا في الجهة المقابلة. فكيف أفرح لصاحب الأرض ببنائه الجديد وهو لم يبنه ليقيم فيه بل ليتاجر بالتراب الذي مشى عليه والده وجدّه، وبالبيوت التي تشبه الفنادق؟ "نيّال البيت اللي بيطلع منّو بيت"، غير أنّ البيوت التي "تطلع" اليوم تشبه كلّ شيء إلاّ البيوت: فلا عائلة تجتمع فيها، ولا حفلات تقام على شرفاتها، ولا ضيوف يقرعون الباب زائرين، ولا صبحيّات نسائيّة تروى فيها حكايات أقرب إلى الخيال. بيوت اليوم: غرفة نوم وحمّام ومطبخ للوجبة سريعة، أي كلّ ما له علاقة بقضاء الحاجات البدائيّة الأساسيّة.
ومن أجل سرير وحمّام ووجبة طعام على عجل، خسرت أنا منظر الشجرة وربح صاحب الأرض الملايين من الدولارات.
قبل أسابيع من الانتخابات النيابيّة في لبنان، قرّرت مجموعة من النساء في إحدى البلدات معارضة أزواجهنّ وعدم انتخاب مرشّح كان باع منزل والديه وليس عنده مكان يستقبل فيه الزائرين. قالت النساء إنّ الذي باع بيت أجداده وأرض آبائه لن يتردّد في بيع البلدة ومصالح الوطن، ولذلك لن ننتخبه ولو كان من العائلة.
غير أنّني أجزم بأنّ المرشّح سيصل إلى المجلس النيابيّ، وبأنّ يومًا قريبًا سيأتي وتُقطع فيه الشجرة التي لم أعد أراها لأنّ صاحب تلك الأرض سيبيع كذلك أرضه لترتفع بناية جديدة يقيم فيها عابرون في أزمنة التجارة.
كانت إلى صباح ذلك اليوم لا تزال تلوّح لي بأعالي أغصانها من فوق حيطان المبنى الذي أخذ يرتفع بيني وبينها، ومع ساعات النهار الأولى، كان العمّال النشيطون قد رفعوا الحاجز الخشبيّ استعدادًا لتدفّق كميّات هائلة من الباطون، ستقف من الآن وصاعدًا سورًا منيعًا بيني وبين شجرتي الكبيرة العتيقة.
الغريب في أمر علاقتي بهذه الشجرة أنّني لم أسع يومًا للاقتراب منها، أو لاكتشاف الأرض حيث زرعت، أو لمعرفة لمن تعود ملكيّتها، كنت مطمئنّة إلى وجودها عالية شامخة خضراء وارفة، تملأ نافذة غرفتي من بعيد بشكلها الذي لم تصغّر حجمه المسافة، فبقيت كبيرة وعالية تلوّح لي وألوح معها...إلى أن كان ذلك اليوم.
الستائر المسدلة طوال النهار والليل على النافذة منذ بدئ العمل في المبنى الحديث، كانت تدفعني للاطمئنان عنها خلسة عن الأعين، غير أنّني في ذلك اليوم رفعت الستائر، لأنّ الجدار الحاجب ساتر أمين يردّ أعين العمّال عن الغرف المواجهة لهم ويمنع عينيّ عن الاستمتاع بمنظر الشجرة، ورصد حركة الهواء وتراقص أغصانها مع إيقاعه المتغيّر المتجدّد.
عندما كان الناس قديمًا يبنون بيوتًا كنّا نقول لهم: الله يعمّر معكم. وكان الجيران يساعدون في العمل في ما كنّا نسمّيه يوم "العونة"، وكانت النعاج تذبح يوم صبّ السقف ليأكل الجميع من ذبيحة البناء، لأنّ البيت الجديد يعني أنّ ثمّة عائلة جديدة ستضاف إلى سجّل العائلات، و"نيّال البيت اللي بيطلع منّو بيت".
أعترف أنّني أجد صعوبة في تهنئة أصحاب الأرض بالمبنى الجديد الذي أقيم على أنقاض ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب، خصوصًا أنّ صاحب الأرض لن يقيم فيه بل بيعت شقق المبنى قبل أن يبدأ العمّال بحفر الأساس ووضع الدعائم. صاحب الأرض لا ذكريات له في الأرض، هو ورثها عن والده الذي ورثها عن والده، غير أنّه لم يعتن بها حين صارت له، ثمّ قطع أشجارها ونقل تربتها وأقام فيها بناء على الطراز الحديث اشترى شققه مغتربون وسائحون يأتون مرّة في السنة ثمّ يتركون المبنى جدرانًا واقفة تحجب عنّي رؤية شجرة الكينا في الجهة المقابلة. فكيف أفرح لصاحب الأرض ببنائه الجديد وهو لم يبنه ليقيم فيه بل ليتاجر بالتراب الذي مشى عليه والده وجدّه، وبالبيوت التي تشبه الفنادق؟ "نيّال البيت اللي بيطلع منّو بيت"، غير أنّ البيوت التي "تطلع" اليوم تشبه كلّ شيء إلاّ البيوت: فلا عائلة تجتمع فيها، ولا حفلات تقام على شرفاتها، ولا ضيوف يقرعون الباب زائرين، ولا صبحيّات نسائيّة تروى فيها حكايات أقرب إلى الخيال. بيوت اليوم: غرفة نوم وحمّام ومطبخ للوجبة سريعة، أي كلّ ما له علاقة بقضاء الحاجات البدائيّة الأساسيّة.
ومن أجل سرير وحمّام ووجبة طعام على عجل، خسرت أنا منظر الشجرة وربح صاحب الأرض الملايين من الدولارات.
قبل أسابيع من الانتخابات النيابيّة في لبنان، قرّرت مجموعة من النساء في إحدى البلدات معارضة أزواجهنّ وعدم انتخاب مرشّح كان باع منزل والديه وليس عنده مكان يستقبل فيه الزائرين. قالت النساء إنّ الذي باع بيت أجداده وأرض آبائه لن يتردّد في بيع البلدة ومصالح الوطن، ولذلك لن ننتخبه ولو كان من العائلة.
غير أنّني أجزم بأنّ المرشّح سيصل إلى المجلس النيابيّ، وبأنّ يومًا قريبًا سيأتي وتُقطع فيه الشجرة التي لم أعد أراها لأنّ صاحب تلك الأرض سيبيع كذلك أرضه لترتفع بناية جديدة يقيم فيها عابرون في أزمنة التجارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق